التفسير المنير - ج ١٧

الدكتور وهبة الزحيلي

ولن يستطيعوا الدفاع عن أنفسهم أمام ذبابة إذا أراد أن يأخذ شيئا مما عليها ـ على الأوثان ـ من الطيب والزعفران الذي كانوا يطلون به أصنامهم.

لقد ضعف وعجز الطالب وهو الآلهة ، والمطلوب : وهو الذباب ، أو عابد الصنم والصنم المعبود ، فالطالب : يطلب إلى هذا الصنم بالتقرب إليه ، والصنم : المطلوب إليه.

٦ ـ ما عظّم هؤلاء المشركون الله حق عظمته ، حيث جعلوا هذه الأصنام العاجزة شركاء له ، وهو القادر القهار ، القوي العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع ، ومن يجرأ على مغالبته؟!.

٧ ـ الاختيار المطلق لله عزوجل في اصطفاء الملائكة يتوسطون لإبلاغ الوحي إلى الأنبياء ، وفي اصطفاء الرسل من البشر لتبليغ الرسالة إلى الناس. والمراد بالآية : إن الله اصطفى محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم لتبليغ الرسالة ؛ فليس بعثه محمدا أمرا بدعيا.

إن الله سميع لأقوال عباده ، بصير بمن يختاره من خلقه لرسالته. وهو سبحانه عليم بكل ما قدموا وما خلفوا ، وإليه وحده مرجع الأمور كلها ، فيجازي العباد على أعمالهم.

٢٨١

أوامر التشريع والأحكام

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨))

الإعراب :

(مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ مِلَّةَ) : إما منصوب بفعل مقدر ، أي اتبعوا ملة أبيكم ، وإما منصوب على البدل من موضع الجار والمجرور ، وهو قوله : (فِي الدِّينِ) لأنه منصوب بجعل. وإما منصوب بنزع الخافض وهو الكاف ، أي كملة أبيكم إبراهيم ، أي وسع عليكم في الدين كملة إبراهيم ، وهذا بعيد. ويجوز نصبه على الإغراء أو على الاختصاص. و (إِبْراهِيمَ) : عطف بيان.

(هُوَ سَمَّاكُمُ ... وَفِي هذا هُوَ) : يراد به الله تعالى ، أو يراد به إبراهيم. (وَفِي هذا): أي سماكم المسلمين في هذا القرآن ، وفاعل (سَمَّاكُمُ) ضمير يعود على الله أو على إبراهيم.

البلاغة :

(ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) مجاز مرسل ، من إطلاق الجزء على الكل ، أي صلوا باعتبار الركوع والسجود من أهم أركان الصلاة.

(ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) فيه ذكر العام بعد الخاص للعناية بشأن الخاص ، ثم ذكر الأعم.

المفردات اللغوية :

(ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) أي صلوا. (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) وحّدوه وتعبّدوه بسائر ما تعبدكم به.

(وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) أي افعلوا ما هو خير وأصلح فيما تأتون وتذرون ، كنوافل الطاعات ، وصلة

٢٨٢

الأرحام ، ومكارم الأخلاق. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي افعلوا هذه كلها ، وأنتم راجون الفلاح ، غير متيقنين له. والآية آية سجدة عند الشافعية ، لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضلت سورة الحج بسجدتين ، من لم يسجدهما ، فلا يقرأهما».

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ) أي في سبيله ومن أجله أعداء دينه. (حَقَّ جِهادِهِ) أي جهادا حقا خالصا لوجهه ، وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة ، كقولك : هو حق عالم. وأضيف الجهاد إلى الضمير اتساعا ، أو لأنه مختص بالله. والجهاد : استفراغ الوسع في مجاهدة العدو ، وهو ثلاثة أنواع : مجاهدة العدو الظاهر كالكفار ، ومجاهدة الشيطان ، ومجاهدة النفس والهوى ، وهذه أعظمها ، فقد أخرج البيهقي وغيره عن جابر قال : «قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوم غزاة ، فقال : قدمتم خير مقدم ، قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ، قيل : وما الجهاد الأكبر؟ قال : مجاهدة العبد هواه». وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رجع من غزوة تبوك ، فقال : «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» (١).

(هُوَ اجْتَباكُمْ) اختاركم لدينه ولنصرته ، وفيه تنبيه على مقتضي الجهاد والداعي إليه.

(حَرَجٍ) ضيق وعسر ومشقة ، بتكليفكم ما يشق عليكم ، بأن سهله عند الضرورات ، كقصر الصلاة الرباعية ، والتيمم ، وأكل الميتة ، والفطر للمريض والمسافر. وفيه إشارة إلى أنه لا عذر لأحد في ترك التكليف ، فهو إما عزيمة ، وإما رخصة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».

(مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) أي شريعته ، وإنما جعل أبا للمسلمين ؛ لأنه أبو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو كالأب لأمته ، من حيث إنه سبب لحياتهم الأبدية ، أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته ، فغلّبوا على غيرهم.

(مِنْ قَبْلُ) أي من قبل القرآن في الكتب المتقدمة. (وَفِي هذا) أي القرآن. (هُوَ سَمَّاكُمُ) الضمير يعود إلى الله ، بدليل قراءة : الله سماكم أو لإبراهيم ، لقوله المتقدم : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ). (لِيَكُونَ الرَّسُولُ) متعلق بسماكم. (شَهِيداً عَلَيْكُمْ) يوم القيامة بأنه بلّغكم ، فيدل على قبول شهادته لنفسه ، اعتمادا على عصمته. (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) بتبليغ الرسل إليهم ، أي تكونوا أنتم شهداء على الناس أن رسلهم بلّغوهم.

(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) أي فتقربوا إلى الله بأنواع الطاعات ، لما خصكم بأنواع الفضل والشرف. (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) أي وثقوا به في مجامع أموركم ، ولا تطلبوا الإعانة والنصرة إلا منه. (هُوَ مَوْلاكُمْ) ناصركم ومتولي أموركم. (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) هو ؛ إذ لا مثل له في الولاية والنصرة ، بل لا مولى ولا ناصر سواه في الحقيقة.

__________________

(١) انظر تخريج الحديث ودرجة ضعفه في كشف الخفا.

٢٨٣

المناسبة :

بعد أن تكلم الله تعالى في الإلهيات ، ثم في النبوات ، أتبعه بالكلام في الشرائع والأحكام من نواح أربع هي :

١ ـ تعيين المأمور : وهم المكلفون : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).

٢ ـ وأقسام المأمور به : وهي أربعة : الصلاة ، وعبادة الله وحده ، وفعل الخير ، والجهاد.

٣ ـ وما يوجب قبول تلك الأوامر : وهو ثلاثة : الاجتباء ، وكون التكاليف والشرائع هي شريعة إبراهيم عليه‌السلام ، وتسميتكم مسلمين في القرآن وسائر الكتب المتقدمة عليه.

٤ ـ تأكيد ذلك التكليف بالأمر بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والاعتصام بالله تعالى ، أي الاستعانة به.

التفسير والبيان :

هذه أوامر تكليفية إلهية يراد بها توثيق الصلة بالله تعالى ، وتهذيب النفس ، وجهاد الأعداء ، وإقامة صرح العدالة الاجتماعية في شرع الله ودينه ، فقال تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا .. تُفْلِحُونَ) أي يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله ، وآمنوا باليوم الآخر صلوا صلاتكم المفروضة المشتملة على الركوع (الانحناء لله عزوجل) والسجود (الخضوع بأشرف أجزاء الإنسان وهو الوجه لله تعالى) واعبدوه بسائر ما تعبدكم به كمناسك الحج والصيام ونحوها ، وتحروا فعل الخير الذي يرضي ربكم ويقربكم منه من أداء نوافل الطاعات ، وصلة الأرحام ، ومكارم الأخلاق ، وهذا يشمل كل فضيلة في الإسلام ، وفعل الخيرات عام للتكاليف جميعها ، يشمل

٢٨٤

ما يصلح علاقة العبد بالرب ، وما يصلح علاقات الناس بعضهم مع بعض. لذا جمعت الآية أسمى درجات التهذيب النفسي والاجتماعي ، فكل ما أمر الله به خير ، لذا قال معللا ذلك الأمر بقوله :

(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لتفلحوا أو افعلوا هذا راجين الفوز والفلاح بما عند الله من الثواب والرضوان. والفلاح : الظفر بنعيم الآخرة.

وتأكيدا لإعداد الذات المؤمنة وتهذيبها ، وصونا للجماعة المؤمنة من كيد أعدائها أمر الله بالجهاد ، فقال :

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) أي وجاهدوا في سبيل نصرة دين الله ، ومن أجل إرضاء الله ، جهادا حقا خالصا لوجهه الكريم ، لا يشوبه رياء ، ولا يثني عنه لوم لائم ، فالجهاد في الله : معناه الجهاد في سبيله ومن أجل دينه ، والأولى أن يحمل الجهاد على المعنى العام الذي يشمل جميع أنواعه.

والجهاد أنواع ثلاثة كما بينا : جهاد النفس والهوى ، وجهاد الشيطان ، وجهاد الكفار المعتدين والمنافقين المرجفين. ويكون الجهاد الأخير بالأموال والألسن والأنفس ، أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن أنس رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» وجهاد اللسان يكون بالحجة والبيان والاعلام ، والجهاد بالنفس بحمل السلاح يكون للمعتدين ، وهو فرض كفاية على المسلمين ، يجزئ فيه قيام بعضهم به متى حققوا المطلوب ، وإلا فعلى حسب رأي الحاكم ولو بالنفير العام.

وجهاد النفس أصل لجهاد العدو الظاهر ، فهو الجهاد الأكبر كما وصفه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث المتقدم ، ولهذا كان فرض عين على كل مسلم. وكذلك جهاد أهل الظلم والبدع فريضة على كل مكلف على قدر طاقته ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما يرويه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن أبي سعيد الخدري رضي الله

٢٨٥

عنه ـ : «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان».

ونظير الآية : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً ، فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ ، وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) [الفرقان ٢٥ / ٥١ ـ ٥٢].

والآية محكمة غير منسوخة بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن ٦٤ / ١٦] فليس المقصود بقوله : (حَقَّ جِهادِهِ) الغاية القصوى التي تتجاوز الوسع وحد الاستطاعة ، وإنما المراد الإخلاص لإعلاء دين الله ، وتأييد شرعه ، والتدرع بالقوة والعزيمة والصبر ، والترفع عن المطامع المادية كالغنيمة أو غيرها من شهوات الدنيا.

وإضافة (حَقَ) إلى «جهاد» في قوله تعالى : (حَقَّ جِهادِهِ) من إضافة الصفة للموصوف ، كما بينا ، وإضافة «جهاد» للضمير في قوله : (جِهادِهِ) يراد بها اختصاص المضاف بالمضاف إليه ، وهو جعل الجهاد مطلوبا لله ومن أجل دينه.

ثم ذكر الله تعالى علة الأمر بالجهاد وهي ثلاثة أنواع :

١ ـ (هُوَ اجْتَباكُمْ) أي لأن الله أيتها الأمة اختاركم من بين سائر الأمم للقيام بهذه المهمة ، وفضلكم وشرفكم ، وخصكم بأكرم رسول ، وأكمل شرع ، ولكنه غير شاق ، لذا قال:

(وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي لم يجعل الدين ضيقا حرجا شاقا ، وإنما جعله سهلا يسيرا ، فلم يكلفكم ما لا تطيقون ، وما ألزمكم بشيء يشق عليكم ، وهذا تأكيد لوجوب الجهاد ، والحفاظ على الدين الذي اختاركم لحمايته. والآية كالجواب عن سؤال يذكر ، وهو أن التكليف والاجتباء تشريف من الله

٢٨٦

للعبد ، لكنه شديد شاق على النفس؟ فأجاب الله تعالى عنه بقوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).

لكن المشقة المرفوعة في التكاليف الشرعية : هي المشقة الزائدة غير المعتادة التي تصل إلى حد الحرج. أما المشقة المعتادة المألوفة فهي غير مرفوعة من التكاليف ، بل لا يتحقق التكليف إلا بها ؛ لأن التكليف هو إلزام ما فيه كلفة ومشقة ، ولا يخلو عنها أي تكليف ، لكنه سهل يسير على النفس ، تطيق تحمله دون انزعاج.

ومظاهر التيسير ودفع الحرج والمشقة عامة شاملة العبادات والمطعومات والمعاملات. ففي العبادات : يجوز قصر الصلاة الرباعية في السفر ، فتصلي ثنتين ، والصلاة أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين ، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة ، كما ورد به الحديث ، وتصلى رجالا وركبانا ، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، وكذا النافلة في السفر تصلى إلى القبلة وغيرها. ويسقط القيام في الصلاة لعذر المرض ، فيصلي المريض جالسا أو مضطجعا أو على جنب أو بالإيماء.

ويجوز في صيام رمضان الإفطار لعذر لكل من المسافر والمريض والشيخ الهرم ، والحامل والمرضع.

وفي المطعومات : يجوز الأكل والشرب من المحرّمات المحظورات للضرورة ، كالميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك.

وفي المعاملات : يجوز بعض التصرفات للحاجة أو للضرورة.

وهكذا تشرع الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات ، لهذا قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد عن جابر : «بعثت بالحنيفية السّمحة» وقال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما أميرين إلى اليمن فيما أخرجه البخاري ومسلم : «بشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا».

٢٨٧

والآيات في هذا المعنى كثيرة ، مثل قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة ٢ / ١٨٥] وقوله سبحانه : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) [البقرة ٢ / ٢٨٦] وقوله عزوجل : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن ٦٤ / ١٦].

٢ ـ (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) أي اتبعوا أو الزموا ملتكم التي هي كملة أبيكم إبراهيمعليه‌السلام في حنيفيتها وسماحتها وبعدها عن الشرك. والمراد بالملة : الأحكام الأصلية الاعتقادية ، فهي واحدة في شريعتنا وشريعة إبراهيم عليه‌السلام ، بل هي واحدة في جميع الشرائع ؛ قال الله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ، وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى ٤٢ / ١٣] وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء ٢١ / ٢٥] وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد : «الأنبياء أولاد علّات» أي أن إيمانهم واحد ، وشرائعهم مختلفة.

وسبب تخصيص إبراهيم عليه‌السلام بالذكر هو التشابه في السماحة والتوحيد بين الملتين ، وكون أكثر العرب من نسل إبراهيم عليه‌السلام ، فهم يحبونه ، والحب مدعاة التمسك بشريعته وشريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي هي شريعة أبيهم إبراهيم عليه‌السلام ، وبما أن إبراهيم هو أبو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان أبا لأمته ؛ لأن أمة الرسول في حكم أولاده.

ونظير الآية قوله عزوجل : (قُلْ : إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [الأنعام ٦ / ١٦١].

٣ ـ (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا) أي إن الله ـ وقيل : إبراهيم ـ ، هو الذي سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة ، وفي القرآن. قال ابن كثير

٢٨٨

مرجحا المعنى الأول بعود الضمير إلى الله : وهذا هو الصواب ؛ لأنه تعالى قال : (هُوَ اجْتَباكُمْ ، وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). وفي قراءة : الله سماكم.

واما دليل من قال بعود الضمير إلى إبراهيم عليه‌السلام : فهو قوله تعالى : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا ، أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة ٢ / ١٢٨].

(لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ ، وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي إنما جعلناكم هكذا أمة وسطا عدولا خيارا مشهودا بعدالتكم عند جميع الأمم ، ليكون الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهيدا عليكم يوم القيامة بتبليغه ما أرسل به إليكم أي أنه قد بلغكم ، ولتكونوا شهداء على الناس في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم.

واللام في قوله : (لِيَكُونَ) إما لام العاقبة ، وهي متعلقة بقوله : (سَمَّاكُمُ) وإما لام التعليل ، وتكون (عَلَى) في قوله : (عَلَيْكُمْ) بمعنى اللام ، مثل قوله تعالى : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة ٥ / ٣] وتكون شهادة الرسول لهم : أن يزكيهم عند الله يوم القيامة ، ويشهد بعدالتكم إذا شهدوا على الأمم السابقة.

والراجح أنه لا داعي لوصف اللام بما ذكر ، ويكون قبول شهادة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأمة علة في الحكم وهو تسميتها أمة مسلمة.

وقبول شهادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشهادة أمته يوم القيامة فيه تشريف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتشريف لأمته ، فإن الله تعالى يصدّق قوله على أمته في دعوى تبليغه إياها ، ويجعل أمته أهلا للشهادة على سائر الأمم.

وإنما قبلت شهادتهم على الأمم ؛ لأنهم لم يفرقوا بين أحد من الرسل ، وعلموا أخبارهم من القرآن الكريم ، ورد أنه يؤتى بالأمم وأنبيائهم ، فيقال للأنبياء : هل

٢٨٩

بلّغتم أممكم؟ فيقولون : نعم بلغناهم ، فينكرون ، فيؤتى بهذه الأمة ، فيشهدون أنهم قد بلغوا ، فتقول الأمم لهم : من أين عرفتم؟ فيقولون : عرفنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق.

ومقابلة لهذه النعمة العظيمة على الأمة ووجوب شكرها ، طلب الله منها دوام عبادته والاعتصام به ، فقال :

(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) أي فقابلوا هذه النعمة الجليلة بالقيام بشكرها ، فأدّوا حقّ الله عليكم بطاعته فيما افترض وأوجب ، وترك ما حرم ، ومن أهم ذلك إقامة الصلاة أي أداؤها تامة الأركان والشروط بخشوع كامل وخضوع تام لله ، فهي صلة بينكم وبين ربكم ، وإيتاء الزكاة التي هي طهرة للنفس والمال ، وإحسان واجب إلى خلق الله المستحقين ، وهي دليل التعاون والتضامن والإخاء ، واستعينوا بالله والجؤوا إليه في جميع أموركم. والاعتصام بالله : هو الثقة به ، والالتجاء إليه ، والاستعانة بقوته العظمى على دفع كل مكروه ، وهو ناصركم على من يعاديكم. والمولى : هو الحافظ والناصر والمالك والخالق.

(فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) أي نعم المولى المتولي أموركم ، ونعم الناصر ، العظيم النصرة ، الكامل المعونة ، هو أي الله تعالى. وهو المخصوص بالمدح.

فقه الحياة أو الأحكام :

ظاهر هذه الآيات التي ختمت بها سورة الحج أنها جمعت أنواع التكاليف الدينية والاعتقادية والاجتماعية ، وأحاطت بفروع الشريعة ، وعنيت بأمر الصلاة لأنها عماد الدين ، ولم تكتف بطلبها في عموم العبادات.

ودلت على ما يأتي :

٢٩٠

١ ـ وجوب أربعة أمور : هي الصلاة المشتملة على أهم أركانها وهو الركوع والسجود ، وعبادة الله دون غيره ، وفعل الركوع والسجود وسائر الطاعات على وجه العبادة ، وفعل الخير كصلة الرحم ومكارم الأخلاق. وقد اختلف العلماء في قوله : (وَاسْجُدُوا) أهو سجود الصلاة أم سجود التلاوة؟ فقال الشافعية والحنابلة : هذه سجدة تلاوة ؛ لأنه يمكن حمل اللفظ على حقيقته مع عدم صارف يصرفه إلى معنى آخر ، ومعنى السجود : وضع الجبهة على الأرض ، ولما أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عقبة بن عامر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضّلت سورة الحج بسجدتين ، فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما». وأخرج أبو داود وابن ماجه والدارقطني والحاكم عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن ، منها ثلاث في المفصّل ، وفي الحج سجدتان.

وذهب الحنفية والمالكية إلى أن هذه الآية ليست آية سجدة ؛ لأن اقتران السجود بالركوع دليل على أن المراد به سجود الصلاة ، كما في قوله تعالى : (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آل عمران ٣ / ٤٣]. ولما روي عن أبي بن كعب رضي‌الله‌عنه أنه عدّ السجدات التي سمعها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعدّ في الحج سجدة واحدة. وأما حديثا عقبة وعمرو فضعيفان.

ويكون المراد بالآية على هذا الرأي الصلاة المفروضة ، وخص الركوع والسجود تشريفا للصلاة ، وهو ما سرت عليه في التفسير والاستنباط.

٢ ـ وجوب عبادة الرب تعالى ، أي امتثال أوامره.

٣ ـ الندب إلى فعل الخير فيما عدا الواجبات التي صح وجوبها شرعا.

٤ ـ وجوب الجهاد بأنواعه الثلاثة : جهاد الهوى والنفس وجهاد الشيطان ومطاردة وساوسه ، وجهاد أهل الظلم والبدع ، وهي كلها فرض عين على كل فرد

٢٩١

مسلم. روى الترمذي وابن حبان عن فضالة بن عبيد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المجاهد : من جاهد نفسه لله عزوجل». وروى أحمد وابن ماجه والطبراني والبيهقي عن أبي أمامة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» وقد ذكرت حديث : «من رأى منكم منكرا ...».

وجهاد الكفار والمنافقين بالحجة والبيان ، وبالسيف والسنان واجب أيضا ، وهو فرض كفاية على جماعة المسلمين ، يجزي فيه قيام بعضهم إذا تحقق المقصود ، وطرد العدو ، وتم دفعه عن بقية المسلمين وأموالهم وأعراضهم وبلادهم ، فإن لم يتحقق ذلك كان فرض عين على كل واحد من القادرين على القتال. وهذا حينما كان الاعتماد على العنصر البشري في الحروب أمرا ضروريا وأساسيا ، أما اليوم حيث تطورت وسائل القتال ، فلا يصح حشد المسلمين في جبهة واحدة مثلا لحصادهم بقنبلة واحدة أو بغيرها من الوسائل الحربية الفتاكة الحديثة ، وإنما ينظر الحاكم فيما يحقق المصلحة ، وتقتضيه الحاجة ، بعد الأخذ بوسائل الإعداد الحديثة المكافئة لما هو موجود عند الأعداء.

٥ ـ علة التكليف بالتكاليف السابقة ثلاثة أمور :

أ ـ الاجتباء أي الاصطفاء والاختيار للدفاع عن الدين والتزام أمره ، وهذا تأكيد للأمر بالمجاهدة ، أي وجب عليكم أن تجاهدوا ؛ لأن الله اختاركم له. وزيادة في التأكيد والترغيب رفع الله الحرج ، أي الضيق والعسر عن الناس في المطالب الشرعية ، وهذا عام في كثير من الأحكام ، وهو مما خص الله به هذه الأمة. قال قتادة : أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم يعطها إلا نبي : كان يقال للنبي : اذهب فلا حرج عليك ، وقيل لهذه الأمة : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). والنبي شهيد على أمته ، وقيل لهذه الأمة : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة ٢ / ١٤٣]. ويقال للنبي : سل تعطه ، وقيل لهذه الأمة :

٢٩٢

(ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر ٤٠ / ٦٠].

فرفع الحرج من الأسس التي قام عليها التشريع الإسلامي ، قال العلماء : رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع ، واما السلابة والسّرّاق وأصحاب الحدود ، فعليهم الحرج ، وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين.

ب ـ كون ملتنا كملة أبينا إبراهيم عليه‌السلام ، وهو أبو العرب قاطبة.

ج ـ تسمية الله لنا بالمسلمين في الكتب المتقدمة وفي القرآن.

٦ ـ تقبل شهادة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأمة بتبليغه إياهم أحكام شرع الله ، وقبول شهادته علة لعدالة الحكم وهو التسمية بالمسلمين ، وكذلك قبول شهادة أمته على الأمم الأخرى ان رسلهم قد بلغتهم علة في تسميتها مسلمة كذلك ، وقبول الشهادتين تشريف للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأمته.

٧ ـ إن قبول شهادة الأمة المسلمة على الأمم الأخرى نعمة عظمي تستوجب الشكر بأداء الفرائض واجتناب النواهي المحظورات ، ومن أهم ذلك إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله ، أي الثقة به ، والاستعانة بقوته الجبارة على دفع السوء ؛ لأنه مالكنا وخالقنا ، وحافظنا وحامينا ، وناصرنا على أعدائنا.

آمنت بالله

انتهى الجزء السابع عشر

٢٩٣

فهرس

الجزء السابع عشر

 الموضوع

 الصفحة

سورة الأنبياء..................................................................... ٥

تسميتها ومناسبتها لما قبلها........................................................ ٥

فضلها ومزيتها ومشتملاتها......................................................... ٦

غفلة الناس عن الحساب يوم القيامة ودليل ذلك...................................... ٨

بشرية الرسل وإنجاز الوعد لهم وجعل القرآن عظة.................................... ١٨

الإنذار بعذاب الاستئصال والتذكير بعجائب الخلق.................................. ٢٢

توبيخ المشركين وإثبات الوحدانية.................................................. ٣١

توبيخ آخر المشركين على عدم تدبر آيات الكون الدالة على وجود الإله الواحد......... ٤٢

موت جميع الخلائق ومجيء القيامة أو عذاب النار بغتة................................ ٥٠

حرامة الله وحفظه للإنسان وعدل الحساب......................................... ٦٠

القصة الأولى ـ قصة موسى عليه‌السلام.................................................. ٦٧

مقارنة بين خصائص التوراة وخضائص القرآن....................................... ٦٧

القصة الثانية ـ قصة إبراهيم عليه‌السلام................................................. ٧١

١ ـ إنكار عبادة الأصنام والدعوة إلى توحيد الله تعالى............................. ٧١

٢ ـ النقاش الحاد بين إبراهيم وقومه بعد كارثه تكسر الأصنام....................... ٧٧

٣ ـ الانتصار الساحق لإبراهيم ـ نجاته من النار................................... ٨٢

٤ ـ نعم أخرى على إبراهيم وإنجاؤه مع لوط إلى الأرض المباركة..................... ٨٧

٢٩٤

القصة الثالثة ـ قصة لوط عليه‌السلام................................................... ٩١

القصة الرابعة ـ قصة نوح عليه‌السلام.................................................... ٩٤

القصة الخامسة ـ قصة داود وسليمان عليهما‌السلام....................................... ٩٦

القصة السادسة ـ قصة أيوب عليه‌السلام.............................................. ١٠٨

القصة السابعة ـ قصة إسماعيل وإدريس وذي الكفل عليهم‌السلام.......................... ١١٢

القصة الثامنة ـ قصة يونس عليه السلام.......................................... ١١٤

وحدة الرسالات السماوية والسنة الإلهية.......................................... ١٢٦

أحوال الكافرين والمؤمنين في الآخرة وحال السماء فيها.............................. ١٣٣

نبي الرحمة المهداة.............................................................. ١٤٢

سورة الحج................................................................... ١٤٨

تسميتها وصلتها بما قبلها....................................................... ١٤٨

مشتملاتها................................................................... ١٤٩

الأمر بتقوى الله تعالى.......................................................... ١٥٠

الاستدلال بخلق الإنسان والنبات على البعث..................................... ١٥٥

أحوال الناس ـ الجدال بالباطل والإيمان المضطرب وجزاء المؤمنين الصالحين.............. ١٦٤

الفصل الإلهي بين الأمم وخضوع كل م في الكون لعزة الله.......................... ١٧٥

جزاء الكافرين والمؤمنين........................................................ ١٧٩

المنع من المسجد الحرام......................................................... ١٨٦

تعيين مكان البيت الحرام والأمر بالحج إليه........................................ ١٩١

تعظيم حرمات الله وشعائره..................................................... ٢٠٣

التسمية عند ذبح البدن والأكل والإطعام منها.................................... ٢١٥

٢٩٥

دفاع الله عن المؤمنين وأسباب مشروعية القتال.................................... ٢٢٣

الاعتبار بهلاك الأمم السابقة................................................... ٢٣٤

تحديد مهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم......................................................... ٢٤٢

إحكام الوحي وصونه عن الشياطين ـ قصة الغرانيق................................. ٢٤٥

وعده الكرين للمهاجرين والمقاتلين دفاعاً عن النفس................................ ٢٥٥

من دلائل قدرة الله تعالى....................................................... ٢٥٩

لكل أمة شريعة ومنهاج ملائمان................................................ ٣٦٨

بعض أباطيل المشركين وتحديهم بخلق ذبابة........................................ ٢٧٣

أوامر التشريع والأحكام........................................................ ٢٨٣

٢٩٦