التفسير المنير - ج ١٧

الدكتور وهبة الزحيلي

نعلم أن هؤلاء لا ينطقون ، فكيف تطلب منا سؤالهم إن كانوا ينطقون؟! أي أنهم احتجوا على إبراهيم بما هو الحجة لإبراهيم عليهم بسبب الحيرة التي أدركتهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

لقد طاشت سهام قوم إبراهيم حينما رأوا أصنامهم مكسّرة ، بعد أن رجعوا من عيدهم ، فقالوا على جهة البحث والإنكار : (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ). وهذا أمر متوقع ، قدّره إبراهيم عليه‌السلام.

كما أنه قدر أنهم سيعرفون أنه هو المتهم بالتكسير ، لحملته السابقة بالقول والنكير ، وتسفيه الأحلام والعقول ، وانتقاده اللاذع لعبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ، ودعوته إلى عبادة الله الواحد الأحد الذي يمنح ويمنع ، ويضر وينفع.

ولما بلغ الخبر نمروذ وأشراف قومه ، أرادوا إثبات التهمة عليه بالبينة ، فقالوا : ائتوا به على مرأى ومسمع من الناس ، ليشهدوا عليه بما يقول ، ليكون ذلك حجة عليه.

وفي هذا دليل على أنه ما كان يؤخذ أحد بدعوى أحد ، وهكذا الأمر في شرعنا ، وكل الشرائع.

ولكنهم ما أدركوا أن تلك المواجهة مع إبراهيم عليه‌السلام أمام الناس في غير صالحهم ، فقد كان إبراهيم قوي الحجة ، وأراد تنبيه الأفكار إلى عبث عبادتهم ، وقلة عقلهم ، وكثرة جهلهم ، فسألوه عمن فعل تلك الفعلة ، فأجابهم بأن الفاعل هو كبيرهم ، تعريضا بأن عبادتهم له وتعظيمهم إياه سبب للغيظ والغضب ، مما حمله على تكسيرها ، وتنبيها لهم بأن من لا يتكلم ولا يعلم لا يستحق أن يعبد ، وكان قوله من المعاريض ، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما

٨١

رواه ابن عدي والبيهقي عن عمران بن حصين وهو ضعيف : «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن إبراهيم عليه‌السلام لم يكذب غير ثلاث : ثنتين في ذات الله قوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) وقوله : (إِنِّي سَقِيمٌ). وواحدة في شأن سارة إذ قال : لسارة أختي ، وذلك ليدفع بقوله مكروها».

ثم قال إبراهيم : سلوهم إن نطقوا ، فإنهم يصدقون ، وإن لم يكونوا ينطقون فليس هو الفاعل. ويتضمن هذا الكلام اعترافا بأنه هو الفاعل.

فقد احتج عليهم بأمرين : الأول : قوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) وشأن الكبير حماية الأتباع والصغار ، أو لأنه غضب أن تعبد معه هذه الصغار ، فكسرها.

والثاني : (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) ليقولوا : إنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرون ، فيقول لهم : فلم تعبدونهم؟ فتقوم عليهم الحجة منهم.

ولما ألزمهم بحجته أقروا بأنهم هم الظالمون بعبادة من لا ينطق بكلمة ، ولا يملك لنفسه شيئا ، فكيف ينفع عابديه ، ويدفع عنهم البأس من لا يرد عن رأسه الفأس ، ثم عادوا لجهلهم وعنادهم ، فقالوا : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ).

ـ ٣ ـ

الانتصار الساحق لإبراهيم ـ نجاته من النار

(قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠))

٨٢

البلاغة :

(يَنْفَعُكُمْ يَضُرُّكُمْ) بينهما طباق.

(كُونِي بَرْداً) مجاز مرسل ، من إطلاق المصدر ، وإرادة اسم الفاعل ، أي باردة أو ذات برد.

المفردات اللغوية :

(مِنْ دُونِ اللهِ) أي بدله. (ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً) من رزق وغيره. ولا يضركم شيئا إذا لم تعبدوه. (أُفٍ) هو صوت المتضجر ، ومعناه : نتنا وقبحا ، ويستعمل للدلالة على أن القائل متضجر ، والمراد هنا أن إبراهيم تضجر على إصرارهم على الباطل البيّن. (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) قبح صنعكم ، وأن هذه الأصنام لا تستحق العبادة ، ولا تصلح لها ، وإنما يستحقها الله تعالى.

(قالُوا : حَرِّقُوهُ) أخذوا في المضارّة لما عجزوا عن المحاجة ، أي حرقوا إبراهيم ، فإن النار أهول ما يعاقب به. (وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ) بتحريقه والانتقام لها. (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي إن كنتم ناصريها نصرا مؤزرا. والقائل منهم : رجل من أكراد فارس ، اسمه (هينون) خسف به الأرض ، وقيل : نمروذ. فجمعوا له الحطب الكثير ، وأضرموا فيه النار ، وأوثقوا إبراهيم ، ورموه في منجنيق في النار.

(قُلْنا : يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) أي كوني ذات برد وسلام ، أي ابردي بردا غير ضار ، فلم تحرق منه غير وثاقه ، وذهبت حرارتها ، وبقيت إضاءتها ، وسلم من الموت ببردها. (كَيْداً) أي تحريقا ومكرا في إضراره ، والكيد : المكر الخديعة. (الْأَخْسَرِينَ) في مرادهم ، أي أخسر من كل خاسر ، لما عاد سعيهم برهانا قاطعا على أنهم على الباطل ، وإبراهيم على الحق ، وموجبا لمزيد درجته ، واستحقاقهم أشد العذاب.

التفسير والبيان :

هذا هو الفصل الثالث والخاتمة المدهشة من قصة إبراهيم مع قومه عبدة الأصنام ، فإنه لما أقروا على أنفسهم بأن لا جدوى من عبادة آلهتهم ، وألزمهم إبراهيم الحجة ، اندفع كالسيل الهادر يعلن ضرورة إنها هذه العبادة الخرافية ، التي تقوم على الأوهام ، والتي يترفع عنها العقلاء ، فقال :

٨٣

(قالَ : أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ)؟ أي قال لهم إبراهيم لما اعترفوا بأن تلك الآلهة لا تنطق : أتعبدون بدلا عن الله أشياء لا تنفعكم شيئا إذا علّقتم الأمل بها ، ولا تضركم شيئا إذا عاديتموها أو خفتم منها.

(أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي تبّا لكم وقبحا لآلهتكم ، وهذا التأفف والتضجر لكم ولها لعبادتكم إياها غير الله تعالى.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الذي لا يدين به إلا كل جاهل ظالم فاجر.

ولما تفوق إبراهيم بحجته عليهم ، وظهر الحق واندحر الباطل ، لم يجدوا مناصا إلا اللجوء للأذى والمضارّة :

(قالُوا : حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي قال بعضهم لبعض ، والمشهور أن القائل : نمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح ، وقيل : إنه رجل من الكرد من أعراب فارس : احرقوا إبراهيم بالنار ، وانصروا آلهتكم إن كنتم ناصريها نصرا مؤزرا ، فجمعوا حطبا كثيرا جدا ، ورموا إبراهيم من كفة منجنيق.

(قُلْنا : يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) أي قال الله تعالى المتكفل بحفظ أنبيائه وعصمتهم من أذى الناس : يا نار كوني بردا ، وسلاما على إبراهيم ، أي ابردي بردا غير ضار ، فكانت وسطا لا حامية ولا باردة. قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها. وقال أبو العالية : ولو لم يقل (بَرْداً وَسَلاماً) لكان بردها أشد عليه من حرّها. وبرودتها حدثت بنزع الله عنها طبعها من الحر والإحراق ، مع بقائها على الإضاءة والإشراق والاشتعال كما كانت ، والله على كل شيء قدير.

٨٤

روى البخاري عن ابن عباس أن إبراهيم لما ألقوه في النار قال : «حسبي الله ونعم الوكيل ، وقالها محمد عليهما‌السلام حين قالوا : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ، فَزادَهُمْ إِيماناً ، وَقالُوا : حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)» [آل عمران ٣ / ١٧٣].

وروى الحافظ أبو يعلى عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما ألقي إبراهيمعليه‌السلام في النار قال : اللهم إنك في السماء واحد ، وأنا في الأرض واحد أعبدك».

وعن أبيّ بن كعب رضي‌الله‌عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن إبراهيم حين قيدوه وألقوه في النار قال : لا إله إلا أنت سبحانك ربّ العالمين ، لك الحمد ، ولك الملك لا شريك لك» قال : ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع ، فاستقبله جبريل ، فقال : يا إبراهيم؟ ألك حاجة؟ قال : «أما إليك فلا» فقال جبريل : فاسأل ربك ، فقال : «حسبي من سؤالي علمه بحالي» فقال الله تعالى : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ)(١).

(وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً ، فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) أي وأراد قوم إبراهيم به مكرا وتدبيرا يؤذيه ويقتله ، فجعلناهم المغلوبين الأسفلين ، ونجاه الله من النار.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآيات عبرة لمن اعتبر ، إنها تمثل موقف المجاهد الصابر في سبيل دعوته إلى التوحيد والحق والفضيلة ، وموقف المعادي الجاهل المناصر للباطل والشرك والوثنية.

لقد دبّر قوم إبراهيم له طريقا للخلاص منه ، وأرادوا إحراقه وتعذيبه بأشد أهوال العذاب ، ومعاقبته بالنار ؛ لأنها أشد العقوبات ، وجمعوا الحطب وأوقدوا

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١١ / ٣٠٣

٨٥

النار ، واشتعلت واشتدت ، ثم قيدوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مغلولا. وهذا من أشد وأعتى ما يفعله البشر ، ولكن أين الله؟!

لقد كانت النتيجة مروعة مذهلة مدعاة للعجب والاستغراب ، وفوق حدود التصورات البشرية ، فسلخ الله تعالى من النار خاصية الإحراق ، ونجا إبراهيم وخرج من النار كأنه يخرج من حمام أمام الجموع الغفيرة المشاهدة ، ولم تحرق النار إلا وثاقه في أول ملامستها له ، وتلك معجزة تدعو إلى الإيمان بحق ، وتستدعي التأمل في تدبير البشر ومكرهم ، وفي تدبير الله الأعظم الذي يبدد كل تدبير ، ويحبط كل مسعى شرير ، فنجاه الله من النار ، وجعلهم الأخسرين المغلوبين الأسفلين ؛ لأنهم أرادوا به التحريق ، فخاب مرادهم.

روى ابن أبي حاتم عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن إبراهيم حين ألقي في النار ، لم يكن في الأرض دابة إلا تطفئ النار غير الوزغ (١) ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم».

وقال عطية العوفي : لما ألقي إبراهيم في النار ، جاء ملكهم لينظر إليه ، فطارت شرارة ، فوقعت على إبهامه ، فأحرقته مثل الصوفة.

آمنت بالله وحده لا شريك له ، فهو صاحب القدرة المطلقة ، إذا أراد شيئا قال له : (كُنْ فَيَكُونُ).

__________________

(١) الوزغ : دويبة أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتلها وسماها فويسقة.

٨٦

ـ ٤ ـ

نعم أخرى على إبراهيم وإنجاؤه مع لوط إلى الأرض المباركة

(وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣))

البلاغة :

(فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) عطف الصلاة والزكاة على فعل الخيرات من باب عطف الخاص على العام للتفضيل ؛ فإنهما من فعل الخيرات ، وخصهما بالذكر لفضلهما ورفعة مرتبتهما.

العالمين الصالحين العابدين سجع لطيف.

المفردات اللغوية :

(وَلُوطاً) ابن أخي إبراهيم (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) أي من العراق إلى أرض فلسطين في الشام ، التي بارك الله فيها بكثرة الأنهار والأشجار ، أو لأن أكثر الأنبياء بعثوا فيها ، فانتشرت في العالمين شرائعهم التي هي مبادئ الكمالات والخيرات الدينية والدنيوية. روي أن إبراهيم نزل بفلسطين ، ولوط بالمؤتفكة ، وبينهما مسافة يوم وليلة (وَوَهَبْنا لَهُ) أي لإبراهيم ، وكان قد سأل ولدا ، كما جاء في سورة الصافات (نافِلَةً) عطية ومنحة ، وهي حال من إسحاق ويعقوب ، أو المراد : زيادة على ما سأل وهو إسحاق ، فتختص كلمة (نافِلَةً) بيعقوب ، ولا بأس به للقرينة ، كما قال البيضاوي.

(وَكُلًّا) أي الأربعة : هو وولداه ولوط (جَعَلْنا صالِحِينَ) أنبياء ، ووفقناهم للصلاح ،

٨٧

فصاروا كاملين (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) رؤساء يقتدى بهم في الخير (يَهْدُونَ) الناس إلى ديننا (بِأَمْرِنا) أي بأمرنا لهم بذلك (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) أي أن يحثوا الناس على فعل الخير ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فيتم كمالهم بانضمام العمل إلى العلم.

وأصل الكلام : أن تفعل الخيرات. وحذفت تاء (إِقامَ) تخفيفا ، وهي الإقامة ؛ لقيام المضاف إليه مقامها (عابِدِينَ) موحدين مخلصين في العبادة ، ولذلك قدم الصلة وهي لنا ليفيد الإخلاص في العبادة.

المناسبة :

بعد إنجاء إبراهيم من النار ، ذكر الله تعالى نعما أخرى عليه وعلى لوط ابن أخيه ، وقد قرن مع إبراهيم لما كان بينهما من القرابة والاشتراك في النبوة. ومن تلك النعم : إخراجهما من العراق إلى بلاد الشام الأرض المباركة ، ومنها : جعلهما أئمة يقتدى بهم ، وإنزال الوحي عليهما لفعل الخيرات ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، ومن النعم على إبراهيم هبته من الذرية إسحاق ويعقوب.

التفسير والبيان :

(وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) أي ومن نعم الله تعالى على إبراهيم : أنه ولوط عليهما‌السلام نجاهما إلى الأرض المباركة ، بالهجرة من العراق إلى بلاد الشام الأرض المقدسة ، والتي بارك الله فيها بكثرة ما بعث فيها من الأنبياء ، وانتشرت شرائعهم بين العالمين ، كما بارك فيها بخصوبة أراضيها وكثرة أشجارها وأنهارها ، فاجتمع فيها خير الدنيا والآخرة. ويقال : هي أرض المحشر والمنشر ، وبها ينزل عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، وبها يهلك المسيح الدجال.

وكانت هجرة إبراهيم من كوثى من بلدة «فدان آرام» بالعراق ، ومعه لوط وسارّة ، فرارا من الشرك والوثنية ، والتماسا لمقر التوحيد وعبادة الله ، فنزل حرّان ، ثم رحل إلى مصر ، ثم رجع إلى الشام ، فنزل بفلسطين ، وأقام لوط في قرى المؤتفكة التي تبعد عن فلسطين مسيرة يوم وليلة.

٨٨

ثم ذكر تعالى نعما أخرى على إبراهيم بعد نعمتي النجاة من النار والهجرة إلى الأرض المباركة فقال :

١ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) أي ومنحنا إبراهيم من الذرية المباركة إسحاق ويعقوب ، أو أعطيناه إسحاق إجابة لدعائه ، إذ قال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات ٣٧ / ١٠٠] وزدناه يعقوب نافلة زائدة على ما سأل ، كالصلاة النافلة التي هي زيادة على الفرض. وعلى التفسير الأول : تكون النافلة (أي العطية والمنحة) إسحاق ويعقوب ، وعلى التفسير الثاني : النافلة يعقوب خاصة.

٢ ـ (وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ) أي وكلا من الأربعة : لوط وإبراهيم وولديه ، أو : وكلا من إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، جعلنا الجميع أهل خير وصلاح ، يطيعون ربهم ، ويتجنبون محارمه ، أو جعلناهم أنبياء مرسلين ، والأول أقرب لشموله الكل.

ووصفهم بالصلاح يدل على أن الأنبياء معصومون.

٣ ـ (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أي وصيرناهم قادة وأئمة يقتدى بهم ، يدعون إلى دين الله بإذنه ، وإلى الخيرات بأمره. وفيه دلالة على أن من صلح للقدوة في دين الله موفق مهدي للدين الحق وطريق الاستقامة ، وليس له أن يخل بمقتضى الهداية ويتثاقل عنها.

٤ ـ (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) أي وأنزلنا عليهم أن يفعلوا الخيرات وهي الأعمال الصالحات من فعل الطاعات وترك المحرّمات. وهذا يدل على أنه سبحانه خصهم بشرف النبوة ، وذلك من أعظم النعم على الأب إبراهيم عليه‌السلام.

٥ ، ٦ ـ (وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) أي وأوحينا إليهم أن يقيموا الصلاة

٨٩

ويؤتوا الزكاة المفروضتين ، وهذا من عطف الخاص على العام ؛ لأن الصلاة والزكاة من الخيرات ، وخصهما بالذكر من سائر العبادات لسمو مرتبتهما وخطورتهما ؛ لأن الصلاة أشرف العبادات البدنية ، وشرعت لذكر الله تعالى ، والزكاة أشرف العبادات المالية ، وشرعت لدفع حاجة الفقراء ، وفي كلتا العبادتين تعظيم أمر الله تعالى.

وبعد تعداد هذه النعم ووصفهم بالصلاح أولا ، ثم بالإمامة ، ثم بالنبوة والوحي ، أبان اشتغالهم بالعبودية والعبادة لله تعالى ، فقال : (وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) أي وكانوا لجناب الله خاشعين خاضعين ، طائعين فاعلين ما يأمرون به الناس. وفي هذا دلالة على أنهم كانوا أوفياء لإحسان الله ونعمه عليهم ، فلما أكرمهم الله بالإنعام وتفضل عليهم بالإحسان ، كانوا أوفياء له بالعبودية وهو الطاعة والعبادة.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى بيان ما تفضل الله به من النعم الوفيرة على إبراهيم عليه‌السلام بعد نجاته من النار ، وهي ما يلي :

١ ـ النجاة من أرض الكفر والوثنية إلى أرض الإيمان والتوحيد ، وذلك بهجرة إبراهيم

الخليل مع ابن أخيه لوط من بلاد العراق إلى أرض الشام المباركة ببعثة أكثر الأنبياء فيها ، وبكثرة الخيرات الزراعية ، فهي معادن الأنبياء ، وكثيرة الخصب والنمو ، ووافرة الثمار والأنهار العذبة.

٢ ـ هبة الذرية الطيبة له ، فقد وهبه الله إسحاق إجابة لدعائه ، وزاده يعقوب من غير دعاء ، فكان ذلك نافلة ، أي زيادة على ما سأل.

٣ ـ جعل الله كلا من إبراهيم وإسحاق ويعقوب صالحا عاملا بطاعة الله ،

٩٠

ورأى البيضاوي إضافة رابع وهو لوط. قال القرطبي : وجعلهم صالحين إنما يتحقق بخلق الصلاح والطاعة لهم ، وبخلق القدرة على الطاعة ، ثم ما يكتسبه العبد ، فهو مخلوق لله تعالى.

٤ ـ جعلهم رؤساء يقتدى بهم في الخيرات وأعمال الطاعات ، يعملون بأمر الله وبما أنزله عليهم من الوحي والأمر والنهي ، ويهدون الناس إلى دين الله الحق بأمر الله لهم ، ويدعونهم إلى التوحيد.

٥ ـ الإيحاء لهم بأن يفعلوا الطاعات.

٦ ـ أمرهم بإقامة الصلاة المفروضة التي هي أشرف العبادات البدنية.

٧ ـ الوحي لهم أيضا بإيتاء الزكاة الواجبة التي هي أشرف العبادات المالية. وكانوا مشتغلين بالعبودية ، مطيعين لأوامر الله تعالى ، كأنه سبحانه وتعالى لما وفي بعهد الربوبية في الإحسان والإنعام ، فهم أيضا وفّوا بعهد العبودية ، وهو الاشتغال بالطاعة والعبادة.

القصة الثالثة ـ قصة لوط عليه‌السلام

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥))

الإعراب :

(وَلُوطاً) منصوب بفعل مقدر ، تقديره : وآتينا لوطا آتيناه ، وقيل : تقديره : واذكر لوطا.

٩١

البلاغة :

(وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) مجاز مرسل علاقته المحلية ، أي أدخلناه في الجنة ؛ لأنها مكان تنزل الرحمات.

المفردات اللغوية :

(وَلُوطاً) هو ابن أخي إبراهيم الخليل عليهما‌السلام ، كما عرفنا (حُكْماً) حكمة ، أو نبوة ، أو فصلا بين الخصوم (وَعِلْماً) بما ينبغي علمه للأنبياء (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ) هي قرية سدوم التي بعث إليها لوط عليه‌السلام (الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ) أي يعمل أهلها ، وصفها بصفة أهلها (الْخَبائِثَ) أي الأعمال الخبيثة من اللواط وغيره كالرمي بالبندق واللعب بالطيور (قَوْمَ سَوْءٍ) مصدر ساء نقيض سرّ ، وقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) كالتعليل لما سبق (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) بأن أنجيناه من قومه ، وجعلناه في أهل رحمتنا أو في جنتنا (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) الذين سبقت لهم منا الحسنى.

المناسبة :

بعد بيان ما أنعم الله تعالى به على إبراهيم عليه‌السلام ، ذكر نعمه على لوط عليه‌السلام ، لما بينهما من القرابة والاشتراك في النبوة. ولوط : هو لوط بن هاران بن آزر ، كان قد آمن بإبراهيم عليه‌السلام واتبعه وهاجر معه ، كما قال تعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ، وَقالَ : إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) [العنكبوت ٢٩ / ٢٦].

التفسير والبيان :

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) أي آتى الله لوطا النبوة والحكمة (وهي ما يجب فعله) والحكم : وهو حسن الفصل في الخصومات بين الناس ، وكذلك آتاه علما بما ينبغي للأنبياء وهو كل ما يتعلق بالعقيدة والعبادة وطاعة الله تعالى ، وبعثه إلى «سدوم» وتوابعها وهي سبع قرى ، فخالفوه وكذبوه ، فأهلكهم الله ، ودمر عليهم ، كما أخبر في مواضع من القرآن العزيز. وهاتان نعمتان على لوط ، والنعمة الثالثة هي :

٩٢

(وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) أي ونجاه الله من عذابه الذي عذّب به أهل القرية «سدوم» الذين كانوا يرتكبون خبائث الأعمال ، وأخطرها اللواط. وسبب ذلك أنهم كما قال تعالى :

(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) أي إنهم كانوا جماعة سوء وقبح ، خارجين عن طاعة الله ، مرتكبين معاصيه ، والفسوق : الخروج.

والنعمة الرابعة هي : (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) أي وجعلناه من أهل رحمتنا أو في جنتنا ، كما جاء في الحديث الصحيح : «قال الله عزوجل للجنة : أنت رحمتي ، أرحم بك من أشاء من عبادي» وقيل : الرحمة : هي النبوة ، أو الثواب. والسبب هو كما قال :

(إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي من الذين يعملون الصالحات ، ويؤدون الطاعات ، بفعل الأوامر ، واجتناب النواهي.

فقه الحياة أو الأحكام :

أنعم الله تعالى على لوط عليه‌السلام بأربع نعم وهي :

١ ـ إيتاؤه الحكم : أي النبوة ، والحكمة : وهي ما يجب فعله.

٢ ـ تعليمه العلم النافع : وهو المعرفة بأمر الدين ، وما يقع به الحكم بين الخصوم.

٣ ـ إنجاؤه من العذاب الذي حل بالقرى التي أرسل إليها ، لارتكاب أهلها خبائث الأعمال ، وأهمها اللواط ، ولأنهم قوم سوء فاسقين ، أي خارجين عن طاعة الله تعالى.

٤ ـ إدخاله في جنان الخلد التي هي متنزل الرحمات الإلهية ؛ لأنه من القوم الصالحين الذين آمنوا بالله ، وأطاعوا ربهم ، وائتمروا بأمره ، وانتهوا عن نهيه.

٩٣

القصة الرابعة ـ قصة نوح عليه‌السلام

(وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧))

المفردات اللغوية :

(وَنُوحاً) أي واذكر نوحا (إِذْ نادى) إذ دعا على قومه بالهلاك ، بقوله : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح ٧١ / ٢٦] وهو بدل مما قبله. (مِنْ قَبْلُ) من قبل المذكورين : إبراهيم ولوط (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) دعاءه (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ) في السفينة (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) أي من الطوفان والغرق ، وأذى قومه ، والكرب : الغم الشديد (وَنَصَرْناهُ) جعلناه منتصرا (كَذَّبُوا بِآياتِنا) الدالة على رسالته (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) لاجتماع الأمرين : تكذيب الحق ، والانهماك في الشر ، ولم يجتمعا في قوم إلا وأهلكهم الله.

المناسبة :

بعد بيان قصة إبراهيم أبي الأنبياء ولوط قريبه ، ذكر الله تعالى قصة نوح أب البشر الثاني ؛ لأن جميع الباقين بعد الطوفان من ذريته عليه‌السلام. وكل من إبراهيم ونوح من الرسل أولي العزم.

التفسير والبيان :

(وَنُوحاً ..) أي واذكر أيها النبي وقت أن نادى نوح ربه بأن دعا على قومه لما كذبوه : (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) [القمر ٥٤ / ١٠] (وَقالَ نُوحٌ : رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح ٧١ / ٢٦] وذلك من قبلك وقبل إبراهيم ولوط ، فاستجبنا له دعاءه ونجيناه والذين آمنوا به من أهله ، كما قال

٩٤

تعالى : (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود ١١ / ٤٠] نجيناهم من الغرق والشدة والأذى. فقوله (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هؤلاء المذكورين. والكرب : الطوفان والغم الشديد والعذاب النازل بالكفار ، وتكذيب قومه إياه وما لقي منهم من الأذى.

وذلك بعد أن لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله عزوجل ، فلم يؤمن به منهم إلا القليل.

(وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي وجعلناه منتصرا على القوم الذين كذبوا بأدلتنا الدالة على رسالته. وفي لغة هذيل : اللهم انصرهم منه ، أي اجعلهم منتصرين منه.

(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) أي إن سبب إهلاكهم أنهم قوم سوء لأجل تكذيبهم لنبيهم ، فكان جزاؤهم أن أهلكهم الله جميعا صغارا وكبارا ، ولم يبق منهم أحد ، كما دعا عليهم نبيهم ، بعد أن أصروا على كفرهم ، وتصدوا لإيذائه ، وتواصوا قرنا بعد قرن ، وجيلا بعد جيل على مخالفته وعصيان أمره.

فقه الحياة أو الأحكام :

إن في عذاب الاستئصال للأمة أو القوم جميعا عبرة وعظة بالغة ، فهؤلاء قوم نوح الذين عكفوا على عبادة الأوثان ، وأصروا على الكفر ، وتمردوا على دعوة نوح ورسالته ، قد أهلكهم الله عامة بالطوفان الذي عمّ السهول والجبال.

والسبب هو تكذيبهم لنبيهم وإيذاؤهم له ، بالرغم من الصبر عليهم قرابة عشرة قرون (٩٥٠) عاما ، وهي مدة طويلة جدا.

وكان النصر حليف نوح عليه‌السلام ، فنجاه الله والمؤمنين الذين آمنوا به ، وعددهم قليل.

٩٥

فلله الأمر والحكمة ، وبيده مقاليد السموات والأرض ، ولا يصدر عنه إلا الخير والعدل ، ولا يظلم أحدا من عباده ، فلو علم الله فيهم خيرا لما عذبهم وأهلكهم ، وسيلقون أيضا في الآخرة عذاب النار.

وقد أجمع المحققون ـ كما ذكر الرازي ـ على أن دعاء نوح على قومه كان بأمر الله تعالى ، وإلا كان ذلك مبالغة في الإضرار ، وسببا لنقصان حال الأنبياء.

القصة الخامسة ـ قصة داود وسليمان عليهما‌السلام

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢))

الإعراب :

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ) أي واذكر داود وسليمان.

(وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) الضمير في (لِحُكْمِهِمْ) راجع إلى داود وسليمان ، على طريقة إقامة الجمع مقام التثنية. أو أن المراد بالضمير الحاكمان والمتحاكمان وهم جماعة.

٩٦

(يُسَبِّحْنَ) الجملة حال ، أو استئناف لبيان وجه التسخير معه متعلق بيسبحن أو بسخرنا.

(وَالطَّيْرَ) منصوب معطوف على (الْجِبالَ) ، أو لأنه مفعول معه.

(لِتُحْصِنَكُمْ) أي الصنعة ، وقرئ بالياء أي ليحصنكم الله وقرئ بالنون ، أي : لنحصنكم نحن.

المفردات اللغوية :

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ) أي واذكر قصتهما (إِذْ يَحْكُمانِ) بدل مما قبله (الْحَرْثِ) الزرع ، وقيل : كرم تدلت عناقيده (نَفَشَتْ) رعت ليلا بلا راع ، بأن انفلتت من حظيرتها ، والنفش : الرعي ليلا. (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) أي حاضرين ، وفيه استعمال ضمير الجمع لاثنين أو كنا شاهدين عالمين حكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما. وكان حكم داود : أن يتملك صاحب الزرع الأغنام ، وحكم سليمان : تبادل المتحاكمين الشيء المملوك لمدة سنة ، فينتفع صاحب الزرع بدرّ الغنم ونسلها وصوفها إلى أن يعود الحرث كما كان بإصلاح صاحب الغنم ، ثم يردها إلى صاحبها.

(فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) الضمير يعود للفتوى الصادرة. وكان حكم داود وسليمان باجتهاد ، ثم رجع داود إلى حكم سليمان (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) أي آتينا كلا منهما حكما أي نبوة ، وعلما بأمور الدين.

(يُسَبِّحْنَ) يقدسن الله معه ، إما بلسان الحال ، أو بصوت يتمثل له ، أو بخلق الله فيها صوتا بلغة معينة. (وَالطَّيْرَ) أي وكذلك سخرنا الطير له للتسبيح معه ، بأمره به في وقت الراحة (وَكُنَّا فاعِلِينَ) أي تسخير التسبيح معه ، فكنا فاعلين لأمثاله ، فليس ببدع منا ، وإن كان عجبا عندكم أي مجاوبة الجبال والطير لسيدها داود (صَنْعَةَ لَبُوسٍ) المراد هنا الدروع ؛ لأنها تلبس ، وهو أول من صنعها ، وكان قبلها صفائح. واللبوس في الأصل : السلاح بأنواعه (لَكُمْ) متعلق بقوله (وَعَلَّمْناهُ) أو متعلق بصفة للبوس. (لِتُحْصِنَكُمْ) لتحميكم وتمنعكم وتصونكم الصنعة (مِنْ بَأْسِكُمْ) بدل اشتمال بإعادة الجار ، وبأسكم : حربكم مع أعدائكم ، البأس : الحرب (فَهَلْ أَنْتُمْ) يا أهل مكة (شاكِرُونَ) نعمتي ، بتصديق الرسول ، فإن شكركم لي يكون بذلك. وقوله (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ)؟ أمر في صورة الاستفهام للمبالغة والتقريع.

(وَلِسُلَيْمانَ) أي وسخرنا له (الرِّيحَ عاصِفَةً) الريح العاصف : هي الشديدة الهبوب. وكانت رخاء أي لينة خفيفة في نفسها طيبة ، كما جاء في آية أخرى ، فقد جمعت بين الوصفين ، فهي لينة طيبة ، وتسرع في جريها كالعاصف (إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) هي الشام

٩٧

(وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) أي نعلم بكل شيء ، فنجزيه على ما تقتضيه الحكمة ، وقد علم الله تعالى بأن ما يعطيه سليمان يدعوه للخضوع لربه.

(وَمِنَ الشَّياطِينِ) أي وسخرنا له (مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) أي يدخلون في البحر ، فيخرجون منه الجواهر لسليمان ، والغوص : النزول إلى أعماق البحار لاستخراج اللؤلؤ. (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) أي سوى الغوص أو غيره ، كبناء المدن والقصور واختراع الصائع الغريبة ، كقوله تعالى : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ) [سبأ ٣٤ / ١٣]. (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) أن يزيغوا عن أمره ، أو يفسدوا ما عملوا ؛ لأنهم كانوا إذا فرغوا من عمل أفسدوه إن لم يشتغلوا بغيره.

المناسبة :

هذه القصة كسابقاتها أيضا فيها تعداد النعم العظمى على داود وسليمان عليهما‌السلام ، فذكر فيها أولا النعمة المشتركة بينهما وهي تزيينهما بالعلم والفهم كما قال تعالى : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) مما يدل على شرف العلم ، لتقديم ذكره على سائر النعم الأخرى. ثم ذكر ما اختص به كل منهما من النعم ، أما داود فخص بنعمة تسخير الجبال والطير للتسبيح معه ، وبصناعة الدروع. وأما سليمان فاختص بنعمة تسخير الريح ، وتسخير الشياطين للغوص في أعماق البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان ، ولأعمال أخرى كبناء المدن والقصور وصناعة الأشياء الغريبة من قدور ومحاريب وتماثيل.

التفسير والبيان :

ذكر الله تعالى قصة الحكم بين المزارع والراعي ، ثم ذكر النعم الجليلة المختصة بكل من داود وسليمان.

أما قصة الحكم كما قال أكثر المفسرين وكما ذكر الرازي : فهي أن راعي غنم رعت غنمه زرع فلاح ليلا ، فاحتكما إلى داود عليه‌السلام ، فحكم بالغنم لصاحب الحرث (الزرع) فقال سليمان ـ وهو ابن إحدى عشرة سنة ـ : غير هذا أرفق بهما ، وأمر بتسليم الغنم إلى أهل الحرث ، فينتفعون بألبانها وأولادها وأشعارها ، وتسليم

٩٨

الحرث إلى أرباب الغنم ، يتعهدونه بالمطلوب ، حتى يعود إلى ما كان ، ثم يترادّان. وكان حكمهما باجتهاد.

والحكم في شرعنا في رأي الإمام الشافعي : وجوب ضمان المتلف بالليل ، إذ المعتاد ضبط الدواب ليلا ، وكذلك قضى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخلت ناقة البراء حائطا (بستانا) وأفسدته ، فقال : «على أهل الأموال حفظها بالنهار ، وعلى أهل الماشية حفظها بالليل»(١).

وفي رأي الإمام أبي حنيفة : لا ضمان إلا أن يكون معها حافظ حارس ؛ لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جرح العجماء جبار» (٢) أي أن ما تتلفه البهيمة هدر لا ضمان فيه.

أما النص القرآني في هذا الحكم فهو :

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ ..) أي واذكر أيها الرسول قصة داود وسليمان حينما حكما في زرع رعته ليلا غنم لآخرين ، وكان الله عليما شاهدا بما حكم به داود وسليمان ، لا تخفى عليه خافية.

ولكنه تعالى أفهم سليمان القضية والحكومة والفتوى الصحيحة الراجحة فكان رأيه هو الأصوب ، مع أنه سبحانه آتى كلا من داود وسليمان النبوة وحسن الفصل في الخصومات والعلم والفهم والإدراك السليم للأمور ، مما يدل على إقرار الحكمين في الجملة ، وعلى أن خطأ المجتهد لا يقدح فيه ، وإن كان الصواب واحدا ، وهو ما قضى به سليمان ، ودل قوله : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) على إظهار ما تفضل الله عليه به في صغره.

__________________

(١) رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن حرام بن سعد بن محيّصة.

(٢) نص الحديث «العجماء جرحها جبار» رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن أبي هريرةرضي‌الله‌عنه.

٩٩

قال ابن العربي : لم يرد إذ جمعها في القول اجتماعهما في الحكم ، فإن حاكمين على حكم واحد لا يجوز ، وإنما حكم كل واحد منهما على انفراد بحكم ، وكان سليمان هو الفاهم لها (١).

أما نعم الله على داود عليه‌السلام فهي :

١ ـ (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ، وَكُنَّا فاعِلِينَ) أي وسخر أي ذلل الله الجبال والطيور مسبحات مقدّسات الله مع داود لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور ، وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه ، وترد عليه الجبال تسبيحا ، فيكون ذلك أكثر تأثيرا في مشاعره وعواطفه ، فيستديم في التسبيح ، وقد وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صوت أبي موسى الأشعري حين استمع لقراءته القرآن فقال فيما رواه أحمد والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة ، والنسائي عن عائشة : «لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود».

وقدمت الجبال على الطير ؛ لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة الإلهية ، وأروع في الإعجاز ؛ لأنها جماد ، والطير حيوان إلا أنه غير ناطق.

ونطق الجبال والطير بأن يخلق الله فيها الكلام ، كما خلقه في الشجرة حين كلم موسى عليه‌السلام ، فإذا ذكر داود ربه ذكرت الجبال والطير ربها معه ، لذا قال تعالى :

(وَكُنَّا فاعِلِينَ) أي قادرين على أن نفعل هذا ، وإن كان عجبا عندكم.

ونظير الآية : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء ١٧ / ٤٤].

__________________

(١) أحكام القرآن : ٣ / ١١٥٤

١٠٠