التفسير المنير - ج ١٧

الدكتور وهبة الزحيلي

٢ ـ (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ، فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) أي وعلمنا داود صناعة الدروع لباسا لكم ، وكانت الدروع قبله صفائح وهو أول من جعلها حلقا ، كما قال تعالى : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ ، وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) [سبأ ٣٤ / ١١] أي لا توسع الحلقة ولا تغلظ المسمار. وذلك لتحميكم وتمنعكم وتحرسكم من شدة الحرب في القتال من جرح وقتل وضرب ، فهل أنتم شاكرون نعم الله عليكم بتعليمه داود ذلك من أجلكم؟ وهذا استفهام معناه الأمر للمبالغة والتقريع ، أي اشكروا الله على هذه الصنعة. والبأس : الحرب.

وفيه دلالة على أن أول من عمل الدرع داود عليه‌السلام ، ثم تعلم الناس منه ، وتوارثوا الصنعة عنه ، فعمّت النعمة كل المحاربين إلى آخر الدهر.

وأما نعم الله على سليمان عليه‌السلام فهي كما قال قتادة : ورّث الله تعالى سليمان من داود ملكه ونبوته ، وزاده أمرين : سخر له الريح والشياطين ، فقال.

١ ـ (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً ..) أي وسخرنا لسليمان الريح العاصفة الشديد السرعة والهبوب ، وجعلناها طائعة منقادة له ، مع كونها في نفسها رخاء أيضا أي لطيفة لينة ، فهي تجري بأمره ، وتخضع لحكمه ، وتنقله إلى أجزاء الأرض المقدسة المباركة ، وهي أرض الشام ، فيخرج مع صحبه في الغداة حيث شاؤوا ، ثم يرجعون في يومهم إلى منزله ، أي أن تلك الريح كانت جامعة بين الأمرين : رخاء في نفسها ، وعاصفة في عملها ، مع طاعتها لسليمان عليه‌السلام وهبوبها على حسب ما يريد.

(وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) أي وكان الله عالما بكل شيء وعالما بتدبيره ، فما آتاه الملك والنبوة ، وما سخر له الريح بأمره إلا لعلمه بما فيه الحكمة والمصلحة

١٠١

والاستحقاق ، فيشكر هو وقومه المنعم عليهم ، ويعرفوا هذه المعجزات الظاهرة.

روي أنه كان له بساط من خشب ، يوضع عليه كل ما يحتاجه من أمور المملكة ، كالخيل والجمال والخيام والجند ، ثم يأمر الريح أن تحمله ، فتدخل تحته ، ثم تحمله وترفعه ، وتسير به وتظله الطير ، لتقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض ، فينزل ، وتوضع آلاته ، كما قال تعالى : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) [ص ٣٨ / ٣٦] وقال : (غُدُوُّها شَهْرٌ ، وَرَواحُها شَهْرٌ) [سبأ ٣٤ / ١٢] (١).

٢ ـ (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) أي وسخرنا له فئة من الشياطين تغوص في أعماق البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان والجواهر ونحوها ، والغوص : النزول تحت الماء.

(وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) أي ويؤدون له عملا غير ذلك كبناء المدن والقصور والمحاريب والتماثيل والقدور الراسيات ونحوها ، كما قال تعالى : (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) [ص ٣٨ / ٣٨] وقال : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ) [سبأ ٣٤ / ١٣] وأما الصناعات فهي مثل الطواحين والقوارير والصابون.

(وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) أي حافظين لأعمالهم ، نحرسه من أن يناله أحدهم بسوء ، وقد جعلنا له سلطة مطلقة عليهم ، إن شاء أطلق ، وإن شاء حبس منهم من يشاء ، ولهذا قال في الآية السابقة : (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ٣ / ١٨٧

١٠٢

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي من الأحكام :

١ ـ الحق والصواب واحد لا يتعدد ، فإن حكم سليمان كان هو الأصوب ، ولكن لا مانع من الخطأ في الاجتهاد ، فمن اجتهد فأصاب فله أجران ، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد ، ولكن لا يجوز الحكم قبل الاجتهاد بالإجماع ، وعلى المجتهد أن يجدد النظر عند وقوع الحادثة ، ولا يعتمد على اجتهاده المتقدم ، لإمكان أن يظهر له ثانيا خلاف ما ظهر له أولا.

فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» وفي السنن الصحاح : «القضاة ثلاثة : قاض في الجنة ، وقاضيان في النار : رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ، ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار ، ورجل علم الحق وقضى بخلافه ، فهو في النار».

وقال الحسن البصري : لولا هذه الآية لرأيت القضاة قد هلكوا ، ولكنه تعالى أثنى على سليمان بصوابه ، وعذر داود باجتهاده.

وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن : ما رواه الإمام أحمد في مسنده والشيخان والنسائي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينما امرأتان معهما ابنان لهما ، إذ جاء الذئب ، فأخذ أحد الابنين ، فتحاكمتا إلى داود ، فقضى به للكبرى ، فخرجتا ، فدعاهما سليمان ، فقال : هاتوا السكين أشقّه بينكما ، فقالت الصغرى : يرحمك الله ، هو ابنها ، لا تشقه ، فقضى به للصغرى».

وأما حكم مسألة رعي الزرع ليلا في شرعنا ، فقال الجصاص : ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم داود وسليمان بما حكما به من ذلك منسوخ ؛ وذلك لأن داود

١٠٣

عليه‌السلام حكم بدفع الغنم إلى صاحب الحرث ، وحكم سليمان له بأولادها وأصوافها ، ولا خلاف بين المسلمين أن من نفشت غنمه في حرث رجل أنه لا يجب عليه تسليم الغنم ، ولا تسليم أولادها وألبانها وأصوافها إليه ، فثبت أن الحكمين جميعا منسوخان بشريعة نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

وأما آراء فقهائنا فهي كما يلي (٢) :

قال مالك وأبو حنيفة والشافعي : لا ضمان على أرباب المواشي فيما أصابت بالنهار. وقال الليث : يضمن أرباب المواشي بالليل والنهار.

وأما ما تتلفه المواشي بالليل فللعلماء فيه رأيان مشهوران :

رأي الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) : وهو ضمان ما تتلفه البهائم ليلا ، عملا بما قضى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ناقة البراء ، وهو أن حفظ البهائم بالليل على أرباب المواشي ، وهذا حديث خاص ، وأما حديث «العجماء جرحها جبار» أي أن فعل البهائم هدر ، فهو عام ، ولا خلاف أن العام يقضي عليه الخاص ، أي أنه يقدم الخاص على العام ، ولأنه لا إشكال في أن من أتلف شيئا فعليه الضمان ، ويكون الضمان بالقيمة ، وإن زادت على قيمة المواشي.

ورأي أبي حنيفة : ألا ضمان لما تتلفه المواشي ، ليلا أو نهارا ، للحديث المتقدم : «العجماء جرحها جبار».

٢ ـ قال ابن العربي : من أراد أن يتخذ ما ينتفع به مما لا يضر بغيره مكّن منه ، مثل النحل والحمام والإوز والدجاج ، وذلك كالماشية. وأما انتفاعه بما

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٢٢٣

(٢) أحكام القرآن لابن العربي : ٣ / ١٢٥٦ وما بعدها ، تفسير الرازي : ٢٢ / ١٩٩ ، تفسير القرطبي : ١١ / ٣١٥.

١٠٤

يتخذه بإضراره بأحد ، فلا سبيل إليه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد وابن ماجة عن ابن عباس : «لا ضرر ولا ضرار» (١).

٣ ـ إنما يكون الأجر للحاكم المخطئ إذا كان عالما بالاجتهاد والسنن والقياس ، وقضاء من مضى من السلف ؛ لأن اجتهاده عبادة ، ولا يؤجر على الخطأ ، بل يوضع عنه الإثم فقط. فأما من لم يكن محلا للاجتهاد ، فهو متكلف لا يعذر بالخطإ في الحكم ، بل يخاف عليه أعظم الوزر ، بدليل الحديث المتقدم : «القضاة ثلاثة» قال ابن المنذر : إنما يؤجر على اجتهاده في طلب الصواب ، لا على الخطأ ، بدليل قوله تعالى : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ).

٤ ـ أكثر الفقهاء قالوا : إن الحق واحد من أقوال المجتهدين ، وليس الحق أو الصواب في جميع أقوالهم ، بدليل قوله تعالى : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) فخص سليمان بالفهم ، ولو كان الكل مصيبا لم يكن لتخصيص سليمان عليه‌السلام بهذا التفهيم فائدة.

٥ ـ هل للأنبياء الاجتهاد؟ اختلف العلماء في جواز الاجتهاد على الأنبياء ، فمنعه قوم ، وجوزه المحققون الأكثرون ؛ لأنه ليس فيه استحالة عقلية ؛ لأنه دليل شرعي ، فلا مانع أن يستدل به الأنبياء ، والله تعالى قال : (فَاعْتَبِرُوا) [الحشر ٥٩ / ٢] وهو أمر للكل بالاعتبار ، وذلك يشمل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولأنه إذا غلب على ظنه أن الحكم في الأصل المقيس عليه معلل بمعنى ، ثم وجد ذلك المعنى في صورة أخرى ، فلا بد وأن يغلب على ظنه أن الفرع كالأصل في الحكم ، ثم إنه لو جاز الاجتهاد للعلماء وهو أرفع درجات العلم ، لثبت لأحد من أمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الفضيلة ما لا يثبت له.

٦ ـ في هذه الآية دليل على جواز رجوع القاضي عما حكم به ، إذا تبين له أن

__________________

(١) أحكام القرآن : ٣ / ١٢٥٨ ، تفسير القرطبي : ١١ / ٣١٨

١٠٥

الحق في غيره ، فقد رجع داود إلى حكم سليمان عليهما‌السلام ، وهذا ثابت أيضا في رسالة عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي‌الله‌عنهما.

٧ ـ كان ترتيل داود عليه‌السلام لكتابه الزبور وتسبيحه تتردد أصداؤه في الجبال والطيور ، وكانت هذه تتجاوب معه بالتسبيح ، وتذكر الله معه بلغة خاصة بها ، قال مقاتل : إذا ذكر داود عليه‌السلام ربه ، ذكرت الجبال والطير ربها معه. وقيل : كان داود إذا وجد فترة أي راحة أمر الجبال ، فسبّحت حتى يشتاق ، ولهذا قال : (وَسَخَّرْنا) أي جعلناها بحيث تطيعه إذا أمرها بالتسبيح. وقيل : إن سيرها معه تسبيحها ، والتسبيح مأخوذ من السباحة ؛ بدليل قوله تعالى : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) [سبأ ٣٤ / ١٠]. قال الرازي : والقول الأول (أي قول مقاتل) أقرب ؛ لأنه لا ضرورة في صرف اللفظ عن ظاهره. وتسبيح الجبال والطير فيه دلالة على قدرة الله تعالى ، وعلى تنزهه عما لا يجوز.

٨ ـ كان داود أول من اتخذ الدروع وصنعها ، وتعلمها الناس منه ، وإنما كانت صفائح ، فهو أول من سردها وحلقها ، فأصبحت النعمة عليه نعمة على جميع المحاربين على الدوام أبد الدهر ، لحماية الناس وحراستهم من السلاح في أثناء القتال ، فلزمهم شكر الله تعالى على النعمة.

وذلك يقتضي الشكر ، لذا قال تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) أي على تيسير نعمة الدروع لكم ، وأن تطيعوا رسول الله فيما أمر به. والمراد : اشكروا الله على ما يسر عليكم من هذه الصنعة.

٩ ـ هذه الآية دليل على جواز اتخاذ الصنائع والأسباب ، فالسبب سنة الله في خلقه ، وهي شهادة للعمال وأهل الحرف والصنائع بأن العمل شرف ، واتخاذ الحرفة كرامة ، وقد أخبر الله تعالى عن داود أنه كان يصنع الدروع ، وكان أيضا

١٠٦

يصنع الخوص ، وأخبر نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن داود عليه‌السلام أنه كان يأكل من عمل يده ، وذلك أفضل الكسب. وكان آدم حراثا ، وكان نوح يصنع السفن وكان نجارا ، وكان إدريس ولقمان خياطين ، وطالوت دباغا ، أو سقّاء ، وكل ذلك يدل على أن العمل كان منهج الأنبياء والصالحين ، وطريق المؤمنين الأقوياء. والإسلام دين يحب العمل ويوجبه ، ويكره البطالة والكسل ، ويحارب العاطلين والخاملين إذا كانوا قادرين على العمل ، جاء في الحديث الصحيح الذي يرويه الشيخان والنسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لأن يأخذ أحدكم حبلة ، ثم يغدو إلى الجبل ، فيحتطب ، فيبيع ، فيأكل ، ويتصدق ، خير له من أن يسأل الناس». وبالصنعة يكف الإنسان نفسه عن الناس ، ويدفع بها الضرر والبأس عن نفسه. جاء في حديث آخر رواه الحكيم الترمذي والطبراني والبيهقي عن أبي هريرة ، وهو ضعيف : «إن الله يحب العبد المؤمن المحترف الضعيف المتعفف ، ويبغض السائل الملحف».

١٠ ـ كان من إكرام الله تعالى لسليمان تسخير الريح التي تجري بأمره إلى حيث شاء ، ثم تردّه إلى بلاد الشام المباركة. يروى أنها كانت تجري به وبأصحابه إلى حيث أراد ، ثم تردّه إلى الشام.

ومن إنعام الله عليه تسخير الشياطين له يعملون بصفة غواصين لاستخراج الجواهر من البحر ، كما يعملون له أعمالا أخرى غير الغوص ، من بناء المدن والقصور ، ونحت المحاريب والتماثيل ، وصناعة القدور الراسيات والجفان الواسعة والطواحين والقوارير والصابون ، وغير ذلك مما يسخّرهم فيه ، ويحفظ الله له أعمالهم من أن يفسدوها ، أو أن يهيجوا أحدا من بني آدم في زمان سليمان ، أو أن يهربوا أو يمتنعوا من أمره ، فقد كانوا رهن إشارته ، وطوع إرادته ، لا يجرأ أحد منهم على الاقتراب منه.

١٠٧

القصة السادسة ـ قصة أيوب عليه‌السلام

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤))

الإعراب :

(رَحْمَةً) مفعول لأجله (مِنْ عِنْدِنا) صفة.

البلاغة :

(أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ألطف في السؤال ، حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة ، وذكر ربه بغاية الرحمة ، ولم يصرح بالمطلوب.

(أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فيهما جناس الاشتقاق.

المفردات اللغوية :

(وَأَيُّوبَ) أي واذكر أيوب (إِذْ نادى رَبَّهُ) لما ابتلي به من المرض ، وهو بدل مما قبله (أَنِّي) أي بأني (الضُّرُّ) بالضم : الضرر والشدة في النفس من مرض وهزال. وأما الضّرر بالفتح : فهو الأذى في كل شيء ، فالضّر خاص بما في النفس من مرض وهزال ، والضرر : شائع في كل ضرر. (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وصف ربه بغاية الرحمة ، بعد ما ذكر نفسه بما يوجب الرحمة ، واكتفى بذلك عن عرض المطلوب ، لطفا في السؤال.

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أجبنا له نداءه (فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) أي أزلنا ورفعنا ضره بالشفاء من مرضه (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) أي وأعطيناه مثل أهله عددا ، وزيادة مثل آخر ، بأن ولد له ضعف ما كان عنده من زوجته وزيد في شبابها (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا ، وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) أي رحمة على أيوب ، وتذكرة لغيره من العابدين ، ليصبروا كما صبر ، فيثابوا كما أثيب.

١٠٨

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى قصص خمسة من الأنبياء : إبراهيم ، ولوط ، ونوح ، وداود ، وسليمان ، وما تعرضوا له من الابتلاء في سبيل الدعوة إلى الله ، ذكر هنا قصة أيوب وابتلاءه له بأنواع المحن في نفسه وأهله ، والكل قد صبروا على المحن والبلايا ، وشكروا الله على ما أنعم عليهم من رفع البلاء ، والنصر على أقوامهم.

أضواء على قصة أيوب عليه‌السلام :

ورد اسم أيوب عليه‌السلام في القرآن الكريم اربع مرات في سور النساء والأنعام والأنبياء وص. وهو أيوب بن أنوص ، وأمه من ولد لوط عليه‌السلام ، وكان عليه‌السلام روميا من ولد يعقوب بن إسحاق عليهما‌السلام. كان موطنه أرض عوص من جبل سعير أو بلاد أدوم ، قيل : إنه كان قبل موسى ، أو قبل إبراهيم بأكثر من مائة سنة ، قال ابن إسحاق : الصحيح أنه كان من بني إسرائيل ، ولم يصح في نسبه شيء ، إلا أن اسم أبيه : أموص.

آتاه الله النبوة ، وبسط عليه الدنيا ، وكثّر أهله وماله ، فكان له سبعة بنين ، وسبع بنات ، وذلك تعويضا عما ابتلاه الله من محنة في نفسه إذ مرض مدة طويلة هي ثماني عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة أو سبع سنوات ونيف ، على حسب الروايات ، ولكنه مرض غير منفر للناس ؛ لأن الأنبياء متصفون بالسلامة عن الأمراض المنفرة طبعا. وابتلاه الله أيضا في أهله بذهاب ولده ، انهدم عليهم البيت ، فهلكوا. وابتلاه كذلك في ماله بذهابه وفنائه ، وكان رحيما بالمساكين ، ويكفل اليتامى والأرامل ، ويكرم الضعيف.

وقد أكرمه الله تعالى بكفارة يمينه ، كما ذكر في سورة ص ، بأن يأخذ بيده ضغثا ، فيضرب به زوجته ، حتى لا يكون حانثا. وزوجته : هي رحمة بنت أفرايم بن يوسف ، أو ماخر بنت ميشا (منسا) بن يوسف ، أو ليا بنت يعقوب ، على اختلاف الروايات ، ذهبت لحاجة ، فأبطأت ، أو بلغت أيوب

١٠٩

عن الشيطان أن يقول كلمة محظورة فيبرأ ، وأشارت عليه بذلك ، فقالت له : إلى متى هذا البلاء؟ فحلف إن برئ ليضربنها مائة ضربة ، فحلل الله له يمينه وأمره بأن يأخذ ضغثا (وهو حزمة صغيرة من حشيش أو ريحان أو قضبان) ويضربها به ، وذلك رحمة به وبها ، لحسن خدمتها إياه ، ورضاه عنها.

وهي رخصة مقررة في عقوبات الحدود في شريعتنا وفي غيرها أيضا في حالات الضرورة كالمرض والحمل.

التفسير والبيان :

أيوب عليه‌السلام مثل أعلى ومشهور في الصبر على المحنة والبلاء ، حتى صار يضرب به المثل ، فيقال : كصبر أيوب ، وها هي قصته :

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ ..) أي واذكر أيها الرسول للعبرة والعظة والتأسي خبر أيوب الذي أصابه البلاء في ماله وولده وجسده ، حين دعا ربه ، وقد مسّه الضر فقال : رب إني مسني الضر والعناء ، وأنت أرحم الرحماء. وصف نفسه بما يقتضي الرحمة ، ووصف ربه بغاية الرحمة ، ولم يصرح بمطلوبه بطريق التلطف في السؤال ، وإيمانه بأن ربه عليم به. والنداء : الدعاء.

وكان مرضه طويل الأمد ، إلا أنه غير منفر للناس ولا مشوه للجسد ؛ لأن الأنبياء معصومون ، سالمون عن الأمراض المنفرة طبعا. وقد لازمته زوجته ، وظلت تحنو عليه وتقوم بأمره. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد والبخاري والترمذي وابن ماجه عن سعد : «أشد الناس بلاء : الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلبا ، اشتد بلاؤه».

قال الضحاك ومقاتل : بقي في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر ، وسبعة أيام ، وسبع ساعات. قال ابن العربي : وهذا ممكن ، ولكنه لم يصح في مدة إقامته خبر ولا في هذه القصة.

١١٠

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) أي أجبنا دعاءه ، ورفعنا عنه ضره ، وعافيناه.

(وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) أي وعوضناه عما فقد في الدنيا ، فأعطيناه مثل أهله وزيادة مثل آخر ، فقد ولد له من زوجته من الأولاد ضعف ما كان عنده.

(رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا ، وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) أي أعطيناه التعويض عن المال والأهل والولد ، وعافينا جسده ، رحمة منا به ، وتذكيرا للعابدين بالاقتداء به ، والصبر كما صبر ، ليثابوا كما أثيب ، وحتى لا ييأس مؤمن من عفو الله ورحمته وفضله ، ولا يطمع مؤمن في أنه لا يصاب بسوء أو مكروه ، فالدنيا دار ابتلاء وامتحان.

وقال الزمخشري : أي لرحمتنا العابدين ، وأنا نذكرهم بالإحسان ، لا ننساهم ، أو رحمة منا لأيوب وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر ، حتى يثابوا كما أثيب في الدنيا والآخرة.

فقه الحياة أو الأحكام :

ذكر القرطبي سبعة عشر قولا في بيان الضر الذي مس أيوب ، والحق الاقتصار على ظاهر النص القرآني ، وهو أنه أصيب بضرر في نفسه وبدنه وأهله وماله ، فصبر ، ثم عافاه الله تعالى ، وأعطاه خيرا مما فقد ، وأثنى عليه بالصبر : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً ، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص ٣٨ / ٤٤]. والثابت المؤكد أن مرضه لم يكن منفرا. والهدف أن قصته عبرة ، وتعريف أن الدنيا مزرعة الآخرة ، وأن الواجب على الإنسان أن يصبر على ما يناله من البلاء فيها ، ويجتهد في القيام بحق الله تعالى ، وألا يضجر من شيء ، وألا يتسخط ولا يتبرم ، وإنما يصبر على حالتي الضراء والسراء. وقد أجمل الله تعالى هذه العبرة بقوله : (رَحْمَةً

١١١

مِنْ عِنْدِنا ، وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) أي فعلنا ذلك به رحمة من عندنا ، وتذكيرا للعبّاد ؛ لأنهم إذا ذكروا بلاء أيوب ، وصبره عليه ومحنته له ، وهو أفضل أهل زمانه ، صبروا صبر أيوب ، فيكون هذا تنبيها لهم على إدامة العبادة ، واحتمال الضرر. وأما مدة إقامته في البلاء ففيها روايات ، قال القرطبي : الأصح منها ـ والله أعلم ـ ثماني عشرة سنة ؛ رواه ابن شهاب الزهري عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما ذكر ابن المبارك.

القصة السابعة ـ قصة إسماعيل وإدريس وذي الكفل

عليهم‌السلام

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦))

البلاغة :

(الصَّابِرِينَ الصَّالِحِينَ) بينهما جناس ناقص.

المفردات اللغوية :

(وَإِسْماعِيلَ) أي واذكر (وَذَا الْكِفْلِ) يعني إلياس وقيل : يوشع بن نون ، وقيل: زكريا ، سمي بذلك ؛ لأنه كان ذا حظ من الله ، أو تكفل منه ، أو له ضعف عمل أنبياء زمانه وثوابهم. والكفل في اللغة بمعنى النصيب ، والكفالة ، والضعف. قيل : لم يكن نبيا ، والأكثرون أنه نبي وهو ابن أيوب عليه‌السلام ، وهذا ما صرح به الرازي والزمخشري ، خلافا للقرطبي.

قيل : خمسة من الأنبياء ذوو اسمين : إسرائيل ويعقوب ، إلياس وذو الكفل ، عيسى والمسيح ، يونس وذو النون ، محمد وأحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

١١٢

(كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) أي كل هؤلاء من الصابرين على مشاق التكاليف وشدائد النوائب ، أو على طاعة الله وعن معاصيه (وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا) يعني في النبوة ، أو في نعمة الآخرة (إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي الكاملين في الصلاح ، وهم الأنبياء ، فإن صلاحهم معصوم عن كدر الفساد.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى صبر أيوب عليه‌السلام ودعاءه ربه ، أتبعه بذكر هؤلاء الأنبياء ، فإنهم كانوا أيضا من الصابرين على الشدائد والمحن والعبادة. أما إسماعيل عليه‌السلام : فلأنه صبر على الانقياد للذبح ، وصبر على الإقامة ببلد لا زرع فيه ولا ضرع ولا بناء ، وصبر في بناء البيت ، فأكرمه الله بجعل خاتم النبيين من صلبه.

وأما إدريس فكما قال ابن عمر رضي‌الله‌عنهما : «بعث إلى قومه داعيا لهم إلى الله تعالى ، فأبوا ، فأهلكهم الله تعالى ، ورفع إدريس إلى السماء الرابعة» وهو أول من خاط الثياب ولبس المخيط ، وكانوا قبله يلبسون الجلود ، وأول من اتخذ السلاح عدّة للحرب.

وأما ذو الكفل : فإنه صبر على صلاة الليل حتى يصبح ، وعلى صيام النهار فلا يفطر ، ويقضي بين الناس فلا يغضب ، ووفى بذلك وبما ضمن على نفسه.

قيل : إنه كان عبدا صالحا ، كان يصلي لله كل يوم مائة صلاة ، والأكثرون كما ذكرت أنه من الأنبياء عليهم‌السلام ، بدليل اقترانه مع الأنبياء.

التفسير والبيان :

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ ، كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) أي واذكر أيها النبي نبأ إسماعيل بن إبراهيم الخليل ، وإدريس بعد شيث وآدم ، وذي الكفل أي الحظ الكثير ، الذي هو إلياس ومن بني إسرائيل ، وقد عاش في بلاد الشام ، كل

١١٣

واحد من هؤلاء من الصابرين المحتسبين الذين صبروا على البلاء والمحن ، وعلى طاعة الله وعن معاصيه. وقد عرفنا أحوال صبر كل منهم.

(وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا ، إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي وجعلناهم من أهل رحمتنا بالنبوة ، ودخول الجنة ، والظفر برضانا وثوابنا ؛ لأنهم من فئة الكاملي الصلاح ؛ لأنهم أنبياء معصومون ، وصلاحهم لا يعكره فساد.

فقه الحياة أو الأحكام :

هؤلاء الأنبياء الثلاثة : إسماعيل ، وإدريس ، وذو الكفل من الذين صبروا على أمر الله تعالى ، والقيام بطاعته ، واجتناب معاصيه ، فكافأهم الله تعالى بنيل رضاه ، ودخول جنته ؛ لأنهم قوم صالحون ، كاملوا الصلاح والتقوى ، بعيدون عن الفساد بمظاهره المختلفة.

والمراد هو التأسي والاقتداء بهم ، فإنه لم يقصّ الله في قرآنه على الناس نبأ أحد من الأنبياء إلا وكان في ذلك الخير والفائدة ، والعبرة والعظة ، وضرب الأمثال العملية الواقعية للالتزام بأمر الله ، والاستقامة في الدين والحياة.

القصة الثامنة ـ قصة يونس عليه‌السلام

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨))

١١٤

الإعراب :

(وَذَا النُّونِ) منصوب بفعل مقدر ، تقديره : واذكر ذا النون (مُغاضِباً) منصوب على الحال من ضمير (ذَهَبَ) وهو العامل في الحال. (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) وقرئ : نجي المؤمنين قال أكثر النحويين : إن هذه القراءة محمولة على إخفاء النون من (نُنْجِي) فتوهمه الراوي إدغاما. وأجازه آخرون على أنه فعل مبني للمجهول ، على تقدير المصدر ، لدلالة الفعل عليه ، وإقامته مقام الفاعل ، أي : نجّي النجاء المؤمنين ، كقراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع المدني : ليجزي قوما أي ليجزي الجزاء قوما.

المفردات اللغوية :

(وَذَا النُّونِ) أي واذكر صاحب الحوت وهو يونس بن متى (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) لقومه ، و (إِذْ) : بدل مما قبله ، أي ذهب غضبان من قومه ، مما قاسى منهم ، لطول دعوتهم ، وإصرارهم على الكفر ، ذهب قبل أن يؤمر أو يؤذن له في الذهاب. (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي فظن أن لن نضيق عليه ، كما في قوله تعالى : (وَيَقْدِرُ) [الرعد ١٣ / ٢٦ وغيرها] أي ويضيق ، وقوله : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) [الطلاق ٦٥ / ٧] أي ضيق أو ظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة ، من التقدير أي القضاء والحكم. أو أن يكون ذلك من باب التمثيل بمعنى : فكانت حاله ممثلة بحال من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه ، من غير انتظار لأمر الله. هذه تأويلات. ويجوز أن يكون ذلك مجرد وسوسة الشيطان ، ثم يردعه ويرده بالبرهان ، فسمي ظنا للمبالغة ، كما قال تعالى مخاطبا المؤمنين : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) [الأحزاب ٣٣ / ١٠]. والخلاصة : أن الظن هنا ليس حاصلا من يونس عليه‌السلام ؛ لأن من ظن عجز الله تعالى فهو كافر.

(فَنادى فِي الظُّلُماتِ) أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة ، أو ظلمات بطن الحوت والبحر والليل (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) أي بأنه لا إله إلا أنت (سُبْحانَكَ) تنزيها لك من أن يعجزك شيء (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) لنفسي بالمبادرة إلى المهاجرة من غير إذن. جاء في الحديث الذي أخرجه البيهقي عن سعد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له».

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) أي أجبنا له دعاءه بتلك الكلمات ، بأن قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات مكث فيها في بطنه ، وقيل : ثلاثة أيام. (مِنَ الْغَمِ): أي من غمه بسبب كونه في بطن الحوت ، وبسبب خطيئته (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) أي وكما أنجينا يونس عليه‌السلام من كرب الحبس إذا دعانا ، كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا.

١١٥

المناسبة :

هذه قصة يونس عليه‌السلام ، تبين مدى فضل الله وإنعامه عليه ، كما أنعم على الأنبياء المتقدمين الذين ذكر قصصهم ، وأجاب دعاءهم بعد الكرب والشدة ، ومقاساة الأهوال ، والصبر على العناء.

التفسير والبيان :

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) أي واذكر أيها الرسول قصة يونس بن متى عليه‌السلام حين بعثه الله إلى أهل قرية نينوى (من أرض الموصل) وكان اسم ملكها «حزقيا» فدعاهم إلى الله تعالى وإلى توحيده وطاعته ، فأبوا عليه ، وتمادوا على كفرهم ، فخرج من بينهم مغاضبا لهم ، وأوعدهم بالعذاب بعد ثلاث.

فلما تحققوا منه ذلك ، وعلموا أن النبي لا يكذب ، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم ، وفرقوا بين الأمهات وأولادها ، ثم تضرعوا إلى الله عزوجل ، ورغت الإبل وفصلانها ، وخارت البقر وأولادها ، وثغت الغنم وسخالها ، فرفع الله عنهم العذاب ، كما قال تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ ، فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ ، لَمَّا آمَنُوا ، كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [يونس ١٠ / ٩٨].

وأما يونس عليه‌السلام : فإنه ذهب ، فركب مع قوم في سفينة ، فاضطربت بهم وخافوا أن يغرقوا ، فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم في البحر ، للتخفيف ، فوقعت القرعة على يونس ، فأبوا أن يلقوه ، ثم أعادوها ، فوقعت القرعة عليه أيضا فأبوا ، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضا ، كما قال تعالى : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) [الصافات ٣٧ / ١٤١] أي وقعت عليه القرعة.

فقام يونس عليه‌السلام ، وتجرد من ثيابه ، ثم ألقى نفسه في البحر ،

١١٦

فأرسل الله سبحانه إليه من البحر حوتا يشق البحار ، فالتقمه (١).

وقوله : (ذَا النُّونِ) أي الحوت ، صحت الإضافة إليه بهذه النسبة. وقوله : (مُغاضِباً) أي غضبان من قومه ، لتكذيبهم إياه ، وكراهيته خلف ما أوعدهم به من العذاب بعد ثلاث ، لكنه لم يأتهم ، لتوبتهم التي لم يعلم بها ، لا كراهية لحكم الله ، أو مغاضبا ربه ، وإلا كان مرتكبا كبيرة لا تليق بالشخص العادي فضلا عن النبي ، فهو مغاضب من أجل ربه ، بدليل وصف نفسه أنه من الظالمين ، وهذا رأي أكثر المفسرين.

(أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي نضيق عليه في بطن الحوت ، ونقضي عليه بالعقوبة ، من القدر والتقدير أي القضاء والحكم ، كما في قوله تعالى : (فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) [القمر ٥٤ / ١٢] أي قدّر ، وكان خروجه يشبه حالة الآبق.

(فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ) أي فدعا ربه في أعماق الظلمات المتكاثفة أو من تحت الظلمات الثلاث : ظلمة بطن الحوت ، وظلمة البحر ، وظلمة الليل : تنزيها لك يا رب ، أنت الإله وحدك لا شريك لك ، تفعل ما تشاء ، وتحكم ما تريد ، لا يعجزك شيء في الأرض ولا في السماء.

(إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) نفسي بالخروج دون أمر أو إذن منك ، وهذا خلاف الأولى للأنبياء ، بدليل قوله تعالى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ، وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) [القلم ٦٨ / ٤٨].

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أي فأجبنا له دعاءه الذي أظهر به الندم والتوبة.

(وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ ، وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) أي وأخرجناه من بطن

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ١٩١

١١٧

الحوت وتلك الظلمات ، وكما أنجيناه من الكرب والشدة ، ننجي أيضا المؤمنين الصادقين إذا استغاثوا بنا ، وطلبوا رحمتنا.

روى البيهقي وغيره عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «دعوة ذي النون في بطن الحوت : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ ، سُبْحانَكَ ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط ، إلا استجاب له» فهو قد بدأ بالتوحيد ، ثم بالتنزيه والتسبيح والثناء ، ثم بالاستغفار والإقرار على نفسه بالظلم أي الذنب.

وروى ابن أبي حاتم عن أنس يرفع الحديث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن يونس النبيعليه‌السلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات ، وهو في بطن الحوت قال : اللهم ، لا إله إلا أنت ، سبحانك ، إني كنت من الظالمين فأقبلت هذه الدعوة تحت العرش ، فقالت الملائكة : يا رب ، صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة ، فقال : أما تعرفون ذاك؟ قالوا : لا ، يا رب ، ومن هو؟ قال : عبدي يونس ، قالوا : عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبّل ، ودعوة مجابة ، قالوا : يا رب ، أولا ترحم ما كان يصنع في الرخاء ، فتنجيه من البلاء؟ قال: بلى ، فأمر الحوت ، فطرحه في العراء.

فقه الحياة أو الأحكام :

أحوال الأنبياء عجائب وغرائب ومعجزات خاصة يظهرها الله على أيديهم ، لا تقاس عليها إطلاقا أحوال البشر العاديين. وقصة يونس من هذه العجائب الفريدة.

فقد ذهب يونس عليه‌السلام مغاضبا من أجل الله ، والمؤمن يغضب لله عزوجل إذا عصي ، وكانت هذه المغاضبة صغيرة في رأي القرطبي ، ولم يغضب على الله ، ولكن غضب لله ، إذ رفع العذاب عنهم.

١١٨

فلا يجوز على نبي الله أن يغاضب ربه ؛ لأن ذلك صفة الجاهل كون الله مالكا للأمر والنهي ، والجاهل بالله لا يكون مؤمنا ، فضلا على أن يكون نبيا ، وإنما خرج مغاضبا من أجل ربه ، أي غضب على قومه من أجل كفرهم بربه.

لكن كان الأولى له أن يصابر وينتظر الإذن من الله تعالى في الهجرة عن قومه ، لهذا قال تعالى : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) [القلم ٦٨ / ٤٨] كأن الله تعالى أراد لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل المنازل وأعلاها.

وقال القشيري : والأظهر أن هذه المغاضبة كانت بعد إرسال الله تعالى إياه (أي يونس) وبعد رفع العذاب عن القوم بعد ما أظلهم ؛ فإنه كره رفع العذاب عنهم.

وظن يونس عليه‌السلام عند ذهابه أن لا يضيق الله عليه بالحبس ، أو ألا يقضي عليه بالعقوبة ، من القدر الذي هو القضاء والحكم ، وورد القدر بمعنى التضييق كما في الآيتين المتقدمتين : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) [الرعد ١٣ / ٢٦] أي يضيق ، وقوله : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) [الطلاق ٦٥ / ٧]. وورد بمعنى التقدير وهو الحكم ، وليس القدرة والاستطاعة ، كما في قوله تعالى : (فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) [القمر ٥٤ / ١٢].

ثم أدرك يونس وهو في ظلمات الليل والبحر وبطن الحوت أنه ظلم نفسه في الخروج من غير أن يؤذن له ، أو في ترك الصبر على قومه ، وليس في ذلك من الله عقوبة ؛ لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا ، وإنما كان ذلك تمحيصا وتعليما ، وقد يؤدب من لا يستحق العقاب كالصبيان ، فتضرع إلى الله وجأر إليه بالدعاء المتقدم : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ ، سُبْحانَكَ ..) فأكرمه الله تعالى ، وحماه من أن يهضم الحوت جسده ، وإنما جعله له سجنا فقط ، ثم أمر الحوت بإلقائه ، فطرحه على ساحل البحر.

١١٩

جاء في الخبر : في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه ، كما أجابه ، وينجّيه كما أنجاه.

ومن فضل الله ورحمته أن هذا الإنجاء لمن استغاث بالله واستعان به ليس خاصا بيونسعليه‌السلام ، وإنما هو شامل لكل المؤمنين إذا استغاثوا بالله ، وطلبوا رحمته ، فإن الله تعالى يخلصهم من همهم بما سبق من عملهم. وذلك قوله تعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات ٣٧ / ١٤٤].

وهذا من حفظ الله لعبده يونس رعى له حق تعبده ، وحفظ له ما أسلف من الطاعة.

والله يجيب دعاء الداعين في أي مكان ، لذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تفضلوني على يونس بن متى فإني لم أكن ، وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه ، وهو في قعر البحر في بطن الحوت» (١). وهذا دليل على أن الباري سبحانه وتعالى ليس في جهة معينة.

القصة التاسعة والعاشرة ـ قصة زكريا ويحيى عليهما‌السلام

مع قصة مريم

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها

__________________

(١) روى البخارى ومسلم وابو داود عن ابن عباس الحديث بلفظ آخر.

١٢٠