التفسير المنير - ج ١٧

الدكتور وهبة الزحيلي

الأضحية في سائر البلاد. والمنحر : منى لكل حاج ، ومكة لكل معتمر ، ولو نحر الحاج بمكة ، والمعتمر بمنى لم يكن به بأس.

٤ ـ (فَكُلُوا مِنْها) أمر معناه الندب ، قال القرطبي : وكل العلماء قالوا : يستحب أن يأكل الإنسان من هديه ، وفيه أجر وامتثال ؛ إذ كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم ، كما تقدم.

وقال الشافعي : الأكل مستحب ، والإطعام واجب في دماء التطوع ، أما واجبات الدماء فلا يجوز أن يأكل منها شيئا ، كما تقدم.

وعلى هذا يكون ظاهر الأمر في الأكل إما الندب وإما الإباحة. وأما ظاهر الأمر في الإطعام فهو إما الوجوب كما قال الشافعي ، وإما الندب كما قال أبو حنيفة.

٥ ـ يجمع عند الذبح أو النحر بين التسمية ، لقوله تعالى في الآية المتقدمة : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها) وبين التكبير ، لقوله هنا : (لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ). وكان ابن عمر رضي‌الله‌عنهما يجمع بينهما إذا نحر هديه ، فيقول : بسم الله والله أكبر ، وفي الحديث الصحيح عن أنس قال : ضحّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكبشين أملحين (١) أقرنين ، ورأيته يذبحهما بيده ، ورأيته واضعا قدمه على صفاحهما (٢) ، وسمّى وكبّر.

وقد أوجب أبو ثور التسمية ، واستحب بقية العلماء ذلك. وكره المالكية الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند التسمية في الذبح ، وقالوا : لا يذكر هنا إلا الله وحده. وأجازها الشافعي عند الذبح.

__________________

(١) الأملح : الذي بياضه أكثر من سواده.

(٢) الصفاح : الجوانب ، والمراد : الجانب الواحد من وجه الأضحية ، وإنما ثني إشارة إلى أنه فعل ذلك في كل منهما.

٢٢١

وذهب الجمهور إلى أن قول المضحي : اللهم تقبل مني ، جائز ، وكره ذلك أبو حنيفة ، ويرد عليه الحديث الصحيح عن عائشة رضي‌الله‌عنها ، وفيه : «ثم قال : باسم الله ، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد» ثم ضحّى به. وكره مالك قولهم : اللهم منك وإليك ، وقال : هذه بدعة. وأجاز ذلك ابن حبيب من المالكية والحسن البصري ، بدليل ما رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال عند الذبح : «اللهم منك ولك عن محمد وأمته ، باسم الله والله أكبر» ثم ذبح. فلعل الإمام مالك لم يبلغه الخبر.

٦ ـ لن يصل إلى الله لحوم الذبائح ولا دماؤها ، وإنما يصل التقوى من عباده ، فيقبله ويرفعه إليه ويسمعه. وقد امتن الله علينا بتذليل الإبل ، وتمكيننا من تصريفها ، وهي أعظم منا أبدانا ، وأقوى أعضاء ، ليعلم العبد أن الأمور ليست على ما تظهر إلى العبد من التدبير. وإنما هي بحسب ما يدبرها العزيز القدير ، وليعلم الخلق أن الغالب هو الله وحده القاهر فوق عباده.

٧ ـ في الآية : (لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) دلالة على أن التقوى وشكر الله تعالى والإحسان في العمل لله جل شأنه من أهم المطالب الشرعية التي لا يجوز لأحد إغفالها.

ويحسن ذكر حكم الأضحية بإيجاز ، ذهب أبو حنيفة والثوري ، ومالك في قول ضعيف عنه إلى القول بوجوب الأضحية على من ملك نصابا ، وكان في رأي أبي حنيفة مقيما غير مسافر ؛ لما رواه أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعا : «من وجد سعة ، فلم يضحّ ، فلا يقربنّ مصلّانا» (١)، وروى الترمذي عن ابن عمر قال : «أقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر سنين يضحي».

وقال الجمهور ، وذلك على المشهور عند المالكية لغير الحاج بمنى : لا تجب

__________________

(١) لكن فيه غرابة ، واستنكره أحمد بن حنبل.

٢٢٢

الأضحية ، بل هي سنة مستحبة ؛ لما جاء في الحديث : «ليس في المال حق سوى الزكاة» (١) ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضحى عن أمته ، فأسقط ذلك وجوبها عنهم ، وقال : «إنها سنة أبيكم إبراهيم» وقال أبو سريحة : كنت جارا لأبي بكر وعمر ، فكانا لا يضحيان خشية أن يقتدي الناس بهما. وروى الجماعة إلا البخاري عن أم سلمة : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إذا رأيتم هلال ذي الحجة ، وأراد أحدكم أن يضحي ، فليمسك عن شعره وأظفاره» ففيه تعليق الأضحية بالإرادة ، والتعليق بالإرادة ينافي الوجوب. وروى أحمد والحاكم والدارقطني عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ثلاث هنّ علي فرائض ، وهن لكم تطوع : الوتر ، والنحر ، وصلاة الضحى» (٢). وروى الترمذي : «أمرت بالنحر ، وهو لكم سنة».

دفاع الله عن المؤمنين وأسباب مشروعية القتال

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١))

__________________

(١) رواه ابن ماجه عن فاطمة بنت قيس ، وهو ضعيف.

(٢) سكت عنه الحاكم ، وفيه راو ضعيف ضعفه النسائي والدارقطني.

٢٢٣

الإعراب :

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا) في موضع جر صفة لقوله (لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) أي أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، الذين أخرجوا. ويكون قوله تعالى : (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) فصلا بين الصفة والموصوف ، مثل : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ ، لَوْ تَعْلَمُونَ ، عَظِيمٌ) [الواقعة ٥٦ / ٧٦] أي : وإنه لقسم عظيم لو تعلمون.

(إِلَّا أَنْ يَقُولُوا : رَبُّنَا اللهُ) في موضع نصب ؛ لأنه استثناء منقطع ، أي لكن لقولهم: ربنا الله.

(بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) بدل بعض من الناس.

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ ..) إما في موضع جر ، صفة أخرى لقوله : (لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) وإما منصوب على البدل من (مِنْ) في قوله تعالى : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ مقدر أي هم.

وقوله : (إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ) شرط وجزاء ، وهما صلة الموصول.

البلاغة :

(خَوَّانٍ كَفُورٍ) صيغة مبالغة على وزن فعّال وفعول.

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) فيه حذف لدلالة السياق عليه ، أي أذن بالقتال للذين يقاتلون.

(إِلَّا أَنْ يَقُولُوا : رَبُّنَا اللهُ) فيه تأكيد المدح بما يشبه الذم ، أي لا ذنب لهم إلا هذا ، على طريقة قول النابغة :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

المفردات اللغوية :

(يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي يبالغ في الدفع مبالغة من يغالب فيه ، وقرئ : يدفع أي غائلة المشركين (خَوَّانٍ) في أمانته وأمانة الله أي كثير الخيانة (كَفُورٍ) لنعمته ، وهم المشركون ، والمعنى : أنه يعاقبهم ، وصيغة المبالغة لبيان واقع المشركين.

(أُذِنَ) رخّص (لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) من قبل المشركين وهم المؤمنون ، أي للمؤمنين أن يقاتلوا ، والمأذون فيه وهو القتال محذوف لدلالته عليه ، وقرئ بالبناء للمعلوم (يُقاتَلُونَ) أي

٢٢٤

عدوهم المشركين. ذكر جماعة من المفسرين : أن هذه أول آية نزلت في الجهاد بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) أي بسبب أنهم ظلموا بظلم الكافرين إياهم (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) وعد لهم بالنصر كما وعدهم بدفع أذى الكفار عنهم.

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) يعني مكة (بِغَيْرِ حَقٍ) أي بغير موجب في الإخراج استحقوا به (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا) أي بقولهم (رَبُّنَا اللهُ) وحده ، وهذا القول حق ، فالإخراج به إخراج بغير حق ، (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) بتسليط المؤمنين منهم على الكافرين (لَهُدِّمَتْ) لخربت باستيلاء المشركين على أهل الملل ، والقراءة بالتشديد للتكثير ، وقرئ بالتخفيف (صَوامِعُ) للرهبان وهي الأديرة ، جمع صومعة (وَبِيَعٌ) كنائس للنصارى ، جمع بيعة (وَصَلَواتٌ) كنائس اليهود ، سميت بها ؛ لأنها يصلى فيها ، وقيل : أصلها : صلوتا بالعبرانية ، فعرّبت (وَمَساجِدُ) معابد للمسلمين ، جمع مسجد ، والأرض كلها جعلت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجدا ، وتربتها طهورا. (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) يذكر في المواضع الأربعة المذكورة ، وتنقطع العبادة بخرابها (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) من ينصر دينه ، وقد أنجز وعده ، بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم ، وأورثهم أرضهم وديارهم (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) القوي : القادر على كل شيء ، ومنه نصرهم ، والعزيز : المنيع في سلطانه وقدرته ، لا يغلبه غالب.

(إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) بنصرهم على عدوهم (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي إليه مرجعها في الآخرة.

سبب النزول :

نزول الآية (٣٨):

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ) : روي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة ، وآذاهم الكفار ، وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة ، أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ، ويغتال ويغدر ويحتال ، فنزلت هذه الآية.

نزول الآية (٣٩):

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) الآية : أخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه وابن سعد عن ابن عباس قال : خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة ، فقال

٢٢٥

أبو بكر : أخرجوا نبيهم ، إنا لله وإنا إليه راجعون! ليهلكنّ ، فأنزل الله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ، وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى أن الكفار صدوا المؤمنين عن دين الله وعن دخول مكة ، ثم بيّن مناسك الحج وما فيه من منافع الدنيا والآخرة ، أردف ذلك ببيان ما يزيل الصدّ ، ويؤمن معه التمكن من الحج ، وهو دفع الله غائلة المشركين ، والإذن بالقتال مع إيضاح الحكمة منه وأسباب مشروعيته ، كالدفاع عن المقدسات ، وحماية المستضعفين ، وتمكين المؤمنين من عبادة الله تعالى.

التفسير والبيان :

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي إن الله يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه ، شر الأشرار ، وكيد الفجار ، ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم على أعدائهم ، كما قال تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) [غافر ٤٠ / ٥١] وقال : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ، إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ ، قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) [الطلاق ٦٥ / ٣] وقوله : (يُدافِعُ) صيغة مفاعلة إما للمبالغة في الدفع ، أو للدلالة على تكرره فقط ؛ لأن صيغة المفاعلة تدل على تكرر الفعل.

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) أي إنه تعالى لا يحب خائن العهد والميثاق والأمانة ، جاحد النعم الذي لا يعترف بها ، والمراد أن المؤمنين هم أحباء الله ، وأن الله سيعاقب أعداءهم ، فهو تعليل للوعد وللوعيد ؛ لأن نفي المحبة كناية عن البغض الموجب للعقاب. وخيانة الأمانة إما جميع الأمانات ، وإما أمانة الله وهي أوامره ونواهيه.

وهذه الآية إما وعيد ضمنا ، وبيان عاقبة الصادين عن المسجد الحرام الذين

٢٢٦

ذكرهم الله قبل آيات الحج ، فتكون كلاما متصلا بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ) (عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ ..). وإما وعد للمؤمنين الذين تعطشوا إلى رؤية الحرم المقدس بعد منع المشركين لهم ، فتكون كلاما متصلا بما قبله مباشرة ، فإنهم أخرجوا رسول الله من وطنه الذي تعلق قبله به ، حتى إنه نظر إليه حين خروجه من مكة وقال : «والله إنك لأحبّ أرض الله إليّ ، وإنك لأحبّ أرض الله إلى الله ، ولو لا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت».

والظاهر أن الآية وعد من الله عزوجل وبشارة للمؤمنين بنصر الله لهم وتمكينهم من عدوهم ، وفي ضمنه وعيد شديد ، وتهديد للمشركين بقهرهم وخذلانهم ، وفيه تمهيد وتوطئة لمشروعية الجهاد.

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) أي رخّص للمؤمنين المعتدى عليهم بالقتال بسبب ظلم المشركين إياهم ، بإخراجهم من ديارهم وأموالهم ، وإيذاء بعضهم بالضرب والشج ، فكانوا يأتون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين مضروب ومشجوج في رأسه ، ويشتكون إليه ، فيأمرهم بالصبر ، ويقول لهم : «إني لم أومر بقتالهم» حتى هاجر فنزلت هذه الآية في السنة الثانية من الهجرة.

وهي في رأي كثير من السلف كابن عباس وعائشة ومجاهد والضحاك وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل وقتادة والزهري : أول آية نزلت في القتال بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية ، وهو الظاهر ، ويؤيده سبب النزول المتقدم ذكره ، وذكرت الآية بعد الوعد بالمدافعة والنصر.

وأخرج ابن جرير عن أبي العالية : أول آية نزلت في القتال : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ..) [البقرة ٢ / ١٩٠].

وفي الإكليل للحاكم : إن أول آية نزلت فيه : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ ..) [التوبة ٩ / ١١١].

٢٢٧

فعلى القول الأول للأكثرين : يكون المقصود بالآية : (أُذِنَ ..) إباحة القتال ومشروعيته ، والمأذون فيه هو القتال حقيقة ، وحذف لدلالة السياق عليه ، والمراد بهم المهاجرون ، بدليل وصفهم بالإخراج من الديار بغير حق.

وعلى القول الثاني لبعضهم : يكون المراد حكاية الإذن الحاصل من قبل توطئة لبيان أسباب المشروعية.

وعلى قراءة المبني للمجهول (يُقاتَلُونَ) يكون وصفهم بالقتال الواقع عليهم فعلا على حقيقته ، سواء قيل : إنها أول آية نزلت في القتال أم لا ؛ لأن قتال المشركين واضطهادهم لهم ، كان حاصلا على كل حال.

وعلى قراءة المبني للمعلوم يقاتلون إذا قيل : إنها ليست أول آية نزلت في القتال يكون وصفهم بالقتال على حقيقته أيضا ، وأما إذا قيل : إنها أول آية نزلت في الجهاد فيكون وصفهم بالقتال إما على معنى أو على تقدير : إرادة القتال ، أي يريدون قتال المشركين ويحرصون عليه ، وإما على إرادة استحضار ما يكون منهم في المستقبل ، أي ما سيعدون أنفسهم عليه من لقاء المشركين.

وعلى كل حال يكون المراد بالآية بيان سبب الإذن في القتال وهو دفع الظلم والإيذاء ، فإن المشركين آذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأشد أنواع الإيذاء الأدبية والجسدية ، فإنهم اتهموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون ، ووضعوا التراب على رأسه ، وألقوا سلا جزور على كتفيه وهو ساجد بين يدي ربه ، وأغرت ثقيف سفهاءهم حتى رموه بالحجارة وأدموه واختضب نعلاه بالدم. وآذوا أيضا أتباعه وأنصاره فعذبوهم بالضرب والجلد ، والقتل ، والإلقاء في حر الشمس في بطحاء مكة ، ووضعوا الحجارة على صدورهم ، وحاولوا فتنتهم عن دينهم ، فلم يزدهم التعذيب إلا إصرارا على التمسك بعقيدتهم ، فلا يصدر عنهم إلا القول : أحد أحد.

ولست أبالي حين أقتل مسلما

على أي جنب كان في الله مصرعي

٢٢٨

ثم وعد الله تعالى هؤلاء المعذبين المستضعفين بالنصر فقال :

(وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) أي إن الله وحده هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال ، ولكنه يريد من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته ، وهو حينئذ معهم يؤيدهم بنصره ، وقد فعل ، فأعزهم وأهلك أعداءهم. هذا رأي ابن كثير (١). ويكون المقصود تنبيه المسلمين إلى أن الدنيا دار ابتلاء واختبار ، وأنهم مدعوون للجهاد والكفاح ، وإثبات الكفاءة والذات ، وأن الجزاء مرتبط بالعمل. وذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا وعد بالنصر ، وتأكيد للوعد في الآية المتقدمة بالدفاع عن المؤمنين ، وتصريح بأن الوعد السابق لا يراد منه مجرد تخليصهم من أيدي أعدائهم ، بل نصرهم عليهم.

وإنما تأخر تشريع القتال إلى ما بعد الهجرة وإلى الوقت المناسب ؛ لأن المؤمنين في مكة كانوا قلة ، وكان المشركون أكثر عددا ، فلو أمر المسلمون ـ وهم أقل من العشر ـ بقتال المشركين ، لشق عليهم.

ثم وصف الله تعالى حال هؤلاء المؤمنين بقوله :

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا : رَبُّنَا اللهُ) أي إن هؤلاء المؤمنين المعتدى عليهم هم الذين أخرجهم المشركون من مكة إلى المدينة بغير حق ، وهم محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وما كان لهم من إساءة إلى قومهم ، ولا كان لهم ذنب إلا أنهم عبدوا الله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) [الممتحنة ٦٠ / ١] وقال سبحانه في قصة أصحاب الأخدود : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج ٨٥ / ٨].

هذا أول أسباب المشروعية وهو الطرد من الأوطان بغير حق ، ثم ذكر تعالى

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ٢٢٥

٢٢٩

سببا آخر وهو الدفاع عن حرية العبادة في الأرض ، وحماية الأماكن المقدسة ، فقال :

(وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ ..) هذه هي سنة التدافع من أجل الحفاظ على التوازن بين البشر ، والقتال مشروع لحماية أماكن العبادة ، وإقرار مبدأ حرية العبادة. والمعنى : لو لا أنه تعالى يدفع بقوم عن قوم ، ويكفّ شرور أناس من غيرهم ، ولو لا تشريع القتال دفاعا عن الوجود والحرمات ، لهدّمت مواطن العبادة ، سواء كانت معابد للرهبان أو للنصارى أو لليهود أو للمسلمين ، التي يذكر فيها اسم الله ذكرا كثيرا.

ويلاحظ وجود التنقل في بيان مواضع العبادة من الأقل إلى الأكثر ، ومن الأضيق إلى الأوسع ، فإن المساجد أكثر ارتيادا ، وأصح عبادة وأسلم قصدا. وكذلك قدمت الصوامع والبيع في الكلام على المساجد ؛ لأنها أقدم وجودا. قال بعض العلماء : هذا ترقّ من الأقل إلى الأكثر إلى أن انتهى إلى المساجد ، وهي أكثر عمّارا ، وأكثر عبّادا ، وهم ذوو القصد الصحيح (١).

(وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) أي وليؤيّدنّ الله بنصره الذين يقاتلون في سبيل إعلاء كلمة التوحيد ورفع لواء دينه ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ ، وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) [محمد ٤٧ / ٧ ـ ٨].

وهذا إخبار من الله عزوجل عن مغيبات المستقبل وعما ستكون عليه سيرة المهاجرين رضي‌الله‌عنهم إن مكنهم في الأرض ، وبسط لهم في الدنيا ، وكيف يقومون بأمر الدين (٢).

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ٢٢٦

(٢) الكشاف : ٢ / ٣٥٠

٢٣٠

(إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي إن الله هو القوي القادر على نصر أهل طاعته المجاهدين في سبيله ، وهو المنيع الذي لا يقهر ، ولا يغلبه غالب ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات ٣٧ / ١٧١ ـ ١٧٣]. وقوله سبحانه : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ، إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة ٥٨ / ٢١].

ثم وصف الله تعالى المهاجرين المؤمنين الجديرين بالنصر فقال :

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ ..) أي إن هؤلاء المهاجرين الذين بوأهم الله السلطة على الناس ، وأعطاهم النفوذ بين العالم إن مكنهم من الأرض وأعطاهم السلطة ، فإنهم يأتون بالأمور الأربعة : وهي إقامة الصلاة المفروضة على الوجه الأكمل ، وإيتاء الزكاة الواجبة ، والأمر بالمعروف (وهو ما أمر به شرعا وحسن عقلا) والنهي عن المنكر (وهو ما حظر شرعا وقبح عقلا) فدعوا إلى توحيد الله وإطاعته ، ونهوا عن الشرك وقاوموا أهله. وهذه الآية كقوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) [النور ٢٤ / ٥٥].

(وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي إن مرجع الأمور إلى حكمه تعالى وتقديره في الثواب والعقاب على ما عملوا ، كقوله تعالى : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف ٧ / ١٢٨] وفيه تأكيد لما وعد تعالى من نصر أوليائه وإعلاء كلمتهم.

فمن تأمل النصر على الأعداء من اليهود وغيرهم ، فليعمل بهذه الأوصاف الأربعة التي التزمها المهاجرون والمجاهدون الأولون.

ومجمل الآيات أنه إنما أحللت لهم القتال ؛ لأنهم ظلموا ، ولم يكن لهم ذنب مع الناس إلا أن يعبدوا الله ، وأنهم إذا ظهروا في الأرض أقاموا الصلاة.

٢٣١

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات الكريمات إلى غرر الأحكام التالية :

١ ـ وعد الله سبحانه وتعالى في الآية الأولى بالمدافعة عن المؤمنين ، وبحفظهم وصونهم من شر الأشرار وكيد الفجار ، وبنصرهم على أعدائهم ، ثم نهى نهيا صريحا عن الخيانة والغدر وكفران النعم.

٢ ـ أباح الله تعالى القتال لمن يصلح له لدفع أذى الكفار واعتدائهم ، ودفاعا عن النفس وحق الحياة العزيزة الكريمة. قال الضحّاك : استأذن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قتال الكفار إذ آذوهم بمكة ، فأنزل الله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) ، فلما هاجر نزلت : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) وهذا ـ كما يقول العلماء القدامى ـ ناسخ لكل ما في القرآن من إعراض وترك وصفح ، وهي أول آية نزلت في القتال.

وكانت قريش قد اضطهدت المسلمين حتى فتنوهم عن دينهم ، ونفوهم عن بلادهم ، فهم بين مفتون في دينه ، ومعذّب ، وبين هارب في البلاد مغرّب ، فمنهم من فرّ إلى أرض الحبشة ، ومنهم من خرج إلى المدينة ، ومنهم من صبر على الأذى (١). والخلاصة : لقد أذنوا بالقتال بسبب كونهم مظلومين ، وكان مشركو مكة يؤذونهم أذى شديدا ، وكانوا يأتون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه ، فيقول لهم : اصبروا ، فإني لم أومر بقتال ، حتى هاجر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية (٢).

وفي هذه الآية دليل على أن الإباحة من الشرع ، خلافا للمعتزلة ؛ لأن قوله : (أُذِنَ) معناه أبيح ، وهو لفظ موضوع في اللغة لإباحة كل ممنوع.

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ٣ / ١٢٨٥

(٢) تفسير الرازي : ٢٣ / ٣٩

٢٣٢

٣ ـ إن من مظاهر ظلم المشركين للمؤمنين هو إخراجهم من أوطانهم ، لا لشيء ، لكن لقولهم : ربنا الله وحده ، فإن أهل الأوثان أخرجوهم من ديارهم بتوحيدهم.

وفي هذه الآية دليل على جواز نسبة الفعل الموجود من الملجأ المكره إلى الذي ألجأه وأكرهه ؛ لأن الله تعالى نسب الإخراج إلى الكفار ، كما في آية : (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [التوبة ٩ / ٤٠].

٤ ـ ومن أسباب مشروعية القتال : الدفاع عن الحرمات وأماكن العبادات ، فلو لا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء ، لاستولى أهل الشرك على نواصي الأمور ، وأشاعوا الفوضى ، ودمروا مواضع العبادات ، وتغلبوا على الحق في كل أمة.

وهذا يدل على أن الجهاد أمر قديم في الأمم ، وبه صلحت الشرائع ، وارتفعت به راية التوحيد ، وظهرت بوادر الصلاح ، ونواة التقدم والحضارة ، وأرسيت معالم حرية الدين ، وبرزت معالم الأخلاق القويمة والتهذيب البشري.

٥ ـ تضمنت هذه الآية المنع من هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نيرانهم ، لكن لا يتركون أن يحدثوا ما لم يكن ، ولا يزيدون في البنيان لا سعة ولا ارتفاعا ، ولا ينبغي للمسلمين أن يدخلوها ولا يصلوا فيها ، ومتى أحدثوا زيادة وجب نقضها. وجاز أن ينقض المسجد ليعاد بنيانه ؛ وقد فعله عثمان رضي‌الله‌عنه بمسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٦ ـ إن الله تعالى القوي القادر ، العزيز المنيع الجليل الشريف ينصر في حكمه وشرعه من ينصر دينه ونبيه ، والله لا يقهره قاهر ، ولا يغلبه غالب ، بل كل شيء ذليل لديه ، فقير إليه ، ومن كان القوي العزيز ناصره فهو المنصور ، وعدوه هو المقهور.

٧ ـ إن المسلمين في جهادهم دعاة بناء ومجد وحضارة ، وإصلاح وتقويم ، فهم

٢٣٣

إن كانت السلطة لهم في الدنيا لازموا أوصافا أربعة : هي إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والأمر بالمعروف الذي هو خير ، والنهي عن المنكر الذي هو شر محض.

قال سهيل بن عبد الله : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على السلطان وعلى العلماء الذين يأتونه. وليس على الناس أن يأمروا السلطان ؛ لأن ذلك لازم له ، واجب عليه ، ولا يأمروا العلماء ، فإن الحجة قد وجبت عليهم.

٨ ـ في قوله سبحانه : (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) دلالة على أن الذي تقدم ذكره من سلطنتهم وملكهم كائن لا محالة ، وأن الأمور ترجع إلى الله تعالى بالعاقبة ، فإنه سبحانه هو الذي لا يزول ملكه أبدا.

الاعتبار بهلاك الأمم السابقة

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨))

٢٣٤

الإعراب :

(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) : الكاف في موضع نصب بفعل مقدر يفسره الظاهر ، وتقديره : وكأين من قرية أهلكتها ، وهذا إذا جعلت أهلكتها خبرا. فإن جعلتها صفة ل (قَرْيَةٍ) لم يجز أن تكون مفسرة لفعل مقدر ؛ لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف.

(وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) معطوف بالجر على قوله (قَرْيَةٍ) وتقديره : وكم من بئر معطلة ، وقيل : هو معطوف على (عُرُوشِها).

المفردات اللغوية :

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ ..) تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن قومه إن كذبوه فهو ليس وحده منفردا في التكذيب ، فإن هؤلاء قد كذبوا رسلهم قبل قومه. (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) تأنيث قوم باعتبار المعنى. (وَعادٌ) قوم هود. (وَثَمُودُ) قوم صالح. (وَأَصْحابُ مَدْيَنَ) قوم شعيب. (وَكُذِّبَ مُوسى) كذبه القبط ، لا قومه بنو إسرائيل ، لذا غيّر فيه النظم ، وبني الفعل للمفعول ؛ لأن قومه لم يكذبوه ، وإنما كذبه القبط ، ولأن تكذيبه كان أشنع. (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) أمهلتهم بتأخير العقاب لهم. (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) بالعذاب أي أهلكتهم. (نَكِيرِ) إنكاري عليهم ، بتغيير النعمة محنة ، والحياة هلاكا ، والعمارة خرابا. والاستفهام ب (فَكَيْفَ) للتقرير ، أي هو واقع موقعه ، ويراد به التعجب.

(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) أي كم من قرية أهلكتها ، أي بإهلاك أهلها. (وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي أهلها بكفرهم. (خاوِيَةٌ) ساقطة. (عَلى عُرُوشِها) سقوفها ، أي ساقطة حيطانها على سقوفها أو خالية. (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) أي وكم من بئر معطلة ، أي متروكة بموت أهلها عطفا على (قَرْيَةٍ). (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) رفيع أي مرفوع حال ، بموت أهله ، أو مجصص مبني بالشّيد أي الجصّ ، أخليناه عن ساكنيه ، وذلك يقوي أن معنى (خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) خالية مع بقاء عروشها.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي كفار مكة ، وهو حثّ لهم أن يسافروا ، ليروا مصارع المهلكين ، فيعتبروا. (يَعْقِلُونَ بِها) أي يدركون ما يجب أن يعقل ، وما حصل لهم من الاستبصار والاستدلال بما نزل بالمكذبين قبلهم. (أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) ما يجب أن يسمع من الوحي ، والتذكير بحال من يشاهد آثارهم. (فَإِنَّها) الضمير عائد للقصة أو مبهم يفسره الإبصار ، أي أن الضمير ضمير الشأن والقصة ، وهو يجيء مذكرا ومؤنثا. (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) أي تعمى عن الاعتبار ، أي ليس الخلل في مشاعرهم ، وإنما في سوء استعمال عقولهم باتباع الهوى والانهماك في التقليد. وذكر الصدور للتأكيد.

٢٣٥

قال ابن عباس ومقاتل : لما نزلت : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) قال ابن أم مكتوم : يا رسول الله ، أنا في الدنيا أعمى ، أفأكون في الآخرة أعمى؟ فنزلت : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) المتوعد به. (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) بإنزال العذاب ، لامتناع الخلف في خبره ، فيصيبهم ما أوعدهم به ولو بعد حين ، ولكنه صبور لا يعجل بالعقوبة. (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ) من أيام الآخرة بسبب العذاب. (كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) في الدنيا ، وهو بيان لتناهي صبره وتأنيه.

نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث ، لقوله : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الأعراف ٧ / ٧٠] وقيل : نزلت في أبي جهل بن هشام ، لقوله : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال ٨ / ٣٢].

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي من أهل قرية ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب. (أَمْلَيْتُ لَها) أمهلتها كما أمهلتكم. (وَهِيَ ظالِمَةٌ) مثلكم. (ثُمَّ أَخَذْتُها) بالعذاب أي أخذت أهلها. (الْمَصِيرُ) المرجع ، أي وإلى حكمي مرجع الجميع.

المناسبة :

بعد أن بين الله تعالى أن المشركين الكفار أخرجوا المؤمنين من ديارهم بغير حق ، وأذن في مقاتلتهم ، وضمن للرسول والمؤمنين النصرة عليهم ، أردفه بما يجري مجرى التسلية للرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصبر على ما هم عليه من إيذائه وإيذاء المؤمنين بالتكذيب وغيره ، ممن خالفه من قومه.

التفسير والبيان :

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ .. نَكِيرِ) أي إن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون ، فلست فريدا في هذا ولا بدعا من الرسل ، وإنما هي سنة الأمم الغابرة ، فقد كذبت قبلهم قوم نوح ، وعاد قوم هود ، وثمود قوم صالح ، وقوم إبراهيم ولوط ، وأصحاب مدين قوم شعيب ، وكذب القبط الذين أرسل إليهم موسى ، مع ما جاءهم به أنبياؤهم من الآيات البينات والدلائل الواضحات ، فأنظرت

٢٣٦

العذاب عن الكافرين وأخرتهم إلى الوقت المعلوم عندي ، ثم أخذتهم بالعذاب والعقوبة وأهلكتهم ، فانظر كيف كان إنكاري عليهم بتدميرهم ومعاقبتي لهم؟!

ويلاحظ أنه لم يقل : وقوم موسى ؛ لأن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل ، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط ، وفرعون وقومه.

وما جرى على المثيل يجري على مثيله ، فإني سأفعل بالمكذبين من قومك مثلما فعلت بأمثالهم ، وإن أمهلتهم ، فإني منجز وعدي فيهم : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) [البروج ٨٥ / ١٢] فلا تتعجل العذاب.

ذكر بعض السلف أنه كان بين قول فرعون لقومه : أنا ربكم الأعلى ، وبين إهلاك الله أربعون سنة. وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله ليملي للظالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى ، وَهِيَ ظالِمَةٌ ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).

هذه هي سنة التكذيب ، وأما العقاب فهو كما قال تعالى :

(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ ... قَصْرٍ مَشِيدٍ) أي كم من قرية أهلكتها ، وهي ظالمة أي مكذبة لرسلها ، والمراد أهلها ، فأصبحت ديارهم ساقطة حيطانها على سقوفها ، أي قد قربت منازلها ، وتعطلت حواضرها ، أو أصبحت خالية من أهلها مع بقاء عروشها على حالها وسلامتها.

وكم من بئر معطلة أي لا يستقى منها ، ولا يردها أحد بعد كثرة وارديها ، والازدحام عليها ، وكم من قصر مشيد دمّر أو بقي بعد فناء أهله؟! والمشيد : المجصص : المبيض بالجص ، أو المرفوع البنيان.

والمعنى الإجمالي للآية : كم قرية أهلكناها ، وكم بئر عطلناها عن سقاتها ، وقصر مشيد أخليناه عن ساكنيه ، فترك ذلك ، لدلالة (مُعَطَّلَةٍ) عليه؟!

٢٣٧

وذلك كما قال تعالى : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً) [الأنبياء ٢١ / ١١].

ثم لفت أنظارهم إلى ضرورة العبرة بما حدث وشاهدوا فقال : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها ، أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) هذا حثّ على السفر ، والاتعاظ بالفكر ، والتأمل بالبصيرة ، أي هلا يسافر هؤلاء في البلاد ، فيتأملوا بما حدث من مصارع القوم ، وينظروا بأعينهم ما وقع ، ويشاهدوا آثارهم ، ويفكروا بعقولهم في النتائج ، ويسمعوا الأخبار بآذانهم ، ليقفوا على الحقائق ويطلعوا على الأسباب ، ويدركوا الأسرار ، فيعتبروا بما شاهدوا ورأوا ، ويقلعوا عما هم فيه من شرك وتكذيب لرسول الله ، وينيبوا إلى ربهم الذي خلقهم ، وأقام لهم الأدلة والبراهين في الكون على وجوده ووحدانيته.

(فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) أي ولكنهم لم يفكروا ولم يعتبروا ولم ينظروا ، لا لأنهم قوم عمي البصر ، وإنما هم عمي البصائر ، فليس العمى عمى البصر ، وإنما العمى عمى البصيرة ، وإن كانت أبصارهم سليمة ، فإنهم عطلوا قدراتهم الفكرية وعقولهم ، فلم يتفحصوا حقائق الأمور ، ولم ينفذوا إلى العبر.

ذكر الرازي أن الآية تدل على أن العقل هو العلم ، وأن محل العلم هو القلب ؛ لأن المقصود من قوله : (قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) العلم ، وقوله : (يَعْقِلُونَ بِها) كالدلالة على أن القلب آلة لهذا التعقل (١). وأضاف العقل إلى القلب ؛ لأنه محله ، كما أن السمع محله الأذن.

وبعد أن أبان تعالى ما هم عليه من التكذيب ، ذكر أنهم قوم طائشون ، حمقى ، يستهزئون بحلول العذاب ، فقال :

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٣ / ٤٥

٢٣٨

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) أي يتعجل وقوع العذاب الذي تنذرهم به هؤلاء الكفار الملحدون المكذبون بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر ، كما قال تعالى : (وَإِذْ قالُوا : اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال ٨ / ٣٢] وقال سبحانه : (وَقالُوا : رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) [ص ٣٨ / ١٦].

(وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) أي والعذاب آت حالّ لا بد منه ، فإن الله لا يخلف وعده الذي وعدهم به ، وهو إقامة الساعة ، والانتقام من أعدائه ، والإكرام لأوليائه ، وما وعده إياهم ليصيبنهم ولو بعد حين.

(وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أي إن الله تعالى حليم لا يعجل ، ومن حلمه واستقصاره المدد الطوال أن يوما واحدا عنده كألف سنة مما تعدون ، أي إن يوما من أيام العذاب عند ربك ، التي تحل بهم في الآخرة يعادل لشدة عذابه ألف سنة من أيام الدنيا ، فأين هم من عذاب ربك؟ وإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حكمه ، لعلمه بأنه على الانتقام قادر ، وأنه لا يفوته شيء ، وإن أجّل وأنظر وأملى.

وهذه الآية كقوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [السجدة ٣٢ / ٥].

والخلاصة : أنهم لو عرفوا حال عذاب الآخرة ، وأنه بهذا الوصف لما استعجلوه ، فاقتضت حكمته الإمهال.

وتأكيدا للإنظار والإمهال ، وإن طال الأمد ، قال تعالى :

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها ، وَهِيَ ظالِمَةٌ ، ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي وكثيرا من القرى أملى الله لها ، وأخّر عنها العذاب وإهلاكها ، مع أنها مستمرة في

٢٣٩

ظلمها وهو الكفر والمعصية ، فاغتروا بذلك التأخير ، ثم أخذتها بأن أنزلت العذاب بها ، أي بأهلها ، فتأخير العذاب من باب الإمهال ، لا الإهمال ، كما جاء في الحديث الصحيح : «إن الله ليملي للظالم ، حتى إذا أخذه ، لم يفلته».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن نجاح النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رسالته متوقف أولا على الصبر على أذى قومه ، لذا علمه ربه دروس الصبر ، فكانت هذه الآيات تسلية له وتعزية ، فقد كان قبله أنبياء كذّبوا ، ذكر الله سبعة منهم ، فصبروا إلى أن أهلك الله المكذبين ، فما عليه إلا أن يقتدي بهم ويصبر.

٢ ـ من حكمته تعالى وحلمه أنه كان يؤخر العقوبة عن أولئك الكفار المكذبين رسلهم ، الملحدين الجاحدين ربهم ، ثم يعاقبهم ، فتكون عقوبتهم عبرة للمعتبر ، مدعاة للنظر والتأمل : كيف كان تغييره ما كانوا فيه من النعم بالعذاب والهلاك.

وكذلك يفعل بالمكذبين من قريش ؛ إذ ما جرى على النظير يجري على نظيره عقلا وعادة وعدلا.

٣ ـ تدل هذه الآية (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) على أنه سبحانه يفعل بقوم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كل ما فعل بالأقوام الآخرين الغابرين إلا عذاب الاستئصال ، فإنه لا يفعله بقوم محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن كان قد مكّنهم من قتل أعدائهم وثبّتهم.

قال الحسن البصري : السبب في تأخر عذاب الاستئصال عن هذه الأمة أن ذلك العذاب مشروط بأمرين :

٢٤٠