التفسير المنير - ج ١٧

الدكتور وهبة الزحيلي

أحدهما ـ أن عند الله حدا من الكفر من بلغه عذّبه ، ومن لم يبلغه لم يعذبه.

والثاني ـ أن الله لا يعذب قوما حتى يعلم أن أحدا منهم لا يؤمن. فأما إذا حصل الشرطان : وهو أن يبلغوا ذلك الحد من الكفر ، ويعلم الله أن أحدا منهم لا يؤمن ، فحينئذ يأمر الأنبياء ، فيدعون على أممهم ، فيستجيب الله دعاءهم ، فيعذبهم بعذاب الاستئصال ، وهو المراد من قوله : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) أي من إجابة القوم ، وقوله لنوح : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ). وإذا عذبهم فإنه ينجي المؤمنين ؛ لقوله : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) أي بالعذاب ، نجينا هودا (١).

٤ ـ كثير من أهل القرى أهلكهم الله ، حال استمرارهم على الظلم وهو الكفر ، فتصبح بيوتهم خاوية على عروشها ، أي ساقطة أو خالية من أهلها ، كما تصبح آبارهم معطلة عن وارديها وسقاتها ، وقصورهم المرفوعة البنيان خربة أو خالية من سكانها ، فتحل الوحشة محل الأنس ، والإقفار بعد العمران.

وفي ذلك موعظة وعبرة وتذكرة ، وتحذير من مغبّة المعصية ، وسوء عاقبة المخالفة لأوامر الله تعالى ونواهيه.

٥ ـ قوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) حثّ واضح على الاعتبار بآثار الأمم البائدة التي أهلكها الله بكفرها وظلمها ، فإذا اعتبر الناس بذلك كانوا منتفعين بحق بحواسهم وإدراكاتهم وعقولهم ، وإن لم يعتبروا كانوا معطلين لتلك الطاقات والنعم ، فاستحقوا العقاب.

ومن كان في الدنيا أعمى بقلبه عن الإسلام ، فهو في الآخرة في النار.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٣ / ٤٣

٢٤١

٦ ـ لو عرف الناس حال عذاب الآخرة ، وأن يوم العذاب فيه لشدته كألف سنة من سني الدنيا ، لما استعجلوه ، فإن الله لا يخلف وعده في إنزال العذاب ، قال الزجاج : استعجلوا العذاب فأعلمهم الله أنه لا يفوته شيء ، وقد نزل بهم في الدنيا يوم بدر.

وقال عكرمة : أعلمهم الله إذا استعجلوا بالعذاب في أيام قصيرة ، أنه يأتيهم به في أيام طويلة.

وقال الفرّاء : هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة.

والخلاصة : أن الآية ردّ على المشركين الذين استعجلوا العذاب تكذيبا واستهزاء ، لعدم إيمانهم بيوم القيامة ، وإعلام قاطع بوقوع العذاب.

٧ ـ كثير من أهل القرى أمهلهم الله تعالى مع عتوهم ، ثم أخذهم بالعذاب ، وإلى الله المصير ، أي إليه المرجع والمآب في الحكم والقضاء.

تحديد مهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١))

البلاغة :

يوجد مقابلة بين (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) وبين (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ ...).

المفردات اللغوية :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) أهل مكة وغيرهم. (نَذِيرٌ مُبِينٌ) بيّن الإنذار : وهو التخويف ، وأنا

٢٤٢

أيضا بشير المؤمنين ، واقتصر على الإنذار مع عموم الخطاب بقوله : (لَكُمْ) ومع ذكر الفريقين : المؤمنين والكافرين ؛ لأن صدر الكلام ومساقه للمشركين. وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم زيادة في غيظ أعدائهم المشركين.

(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لما بدر منهم من الذنوب. (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) هو الجنة ، والكريم من كل نوع : ما يجمع فضائله. (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) القرآن بالرد والإبطال والطعن بأنها سحر وشعر وأساطير. (مُعاجِزِينَ) أي مسابقين مغالبين لنا أي يظنون أن يفوتونا بإنكار البعث والعقاب ، وقرئ معجزين أي مثبطين غيرهم عن الإيمان. (الْجَحِيمِ) النار الموقدة.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى استعجال المشركين العذاب تكذيبا له واستهزاء به ؛ لأنهم لا يؤمنون بيوم القيامة ، أردف ذلك بإيضاح وظيفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي الإنذار والتخويف ، وأنه بعث للإنذار ، فاستهزاؤهم بذلك لا يمنعه منه.

التفسير والبيان :

يأمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول للكفار حين طلبوا منه وقوع العذاب واستعجلوه به : يا أيها المشركون المستعجلون مجيء العذاب إنما أرسلني الله إليكم نذيرا لكم بين يدي عذاب شديد ، وليس إلي من حسابكم شيء ، بل أمركم إلى الله : إن شاء عجل لكم العذاب ، وإن شاء أخره عنكم ، وإن شاء تاب على من يتوب إليه ، وهو الفعال لما يشاء ويريد ويختار ، كما قال : (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [الرعد ١٣ / ٤١].

ومهمتي كما تشمل الإنذار تتضمن التبشير ، وهذا مضمون الأمرين :

١ ـ (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي فالذين آمنت قلوبهم ، وصدقوا إيمانهم بأعمالهم لهم مغفرة لما سلف من سيئاتهم ، وثواب حسن ولو على القليل من حسناتهم ، وجنة عرضها السموات والأرض ، فالرزق الكريم هو الجنة التي وصفها الله سبحانه بقوله : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ

٢٤٣

الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٧١] ووصفها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة : «فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر».

٢ ـ (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي والذين جهدوا في إبطال آياتنا ، وردّ دعوة الدين ، والتكذيب بها ، وثبطوا الناس عن متابعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ظنا منهم أنهم يعجزوننا ويتفلتون من أمرنا وبعثنا لهم وأننا لا نقدر عليهم ، فهم أهل النار الحارة الموجعة ، الشديد عذابها ونكالها ، المقيمون فيها على الدوام ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ ، بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل ١٦ / ٨٨]. وقد شبههم بالصاحب من حيث الدوام.

فقه الحياة أو الأحكام :

يؤخذ من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن وظيفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي الإنذار والتبشير ، إنذار من عصاه بالنار وتبشير من أطاعه بالجنة.

٢ ـ للمؤمنين الذين يعملون الصالحات أي الطاعات والقربات الجنة والمغفرة للذنوب والرضوان.

٣ ـ للكافرين المعاندين الظانين ألا بعث وأن الله لا يقدر عليهم النار المستعرة التي يخلدون فيها على الدوام.

٢٤٤

إحكام الوحي وصونه عن الشياطين

قصة الغرانيق

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧))

الإعراب :

(وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) : الضمير في (قُلُوبِهِمْ) يعود إلى الآلف واللام في قوله : (الْقاسِيَةِ). وهذا يدل على أن الألف واللام في حكم الأسماء ؛ لأن الحروف لا حظّ لها في الضمير البتة ، وتقديره : فويل للذين قست قلوبهم ، ولهذا التقدير عاد الضمير. (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) أي كائن مستقر لله ، وهو ناصب للظرف.

البلاغة :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ) جناس اشتقاق.

٢٤٥

(فَيَنْسَخُ يُحْكِمُ) بينهما طباق. (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) وضع الظاهر موضع المضمر ، والأصل وإنهم قضاء عليهم بالظلم والمعاداة.

(أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) في قوله (عَقِيمٍ) استعارة ، شبه يوم القيامة الذي لا ليل بعده ولا نهار بالمرأة العقيم التي لا تلد ، لانقضاء الزمان ، بعكس ما قبله من الأيام التي تعقبها الليالي ، فهي بمنزلة الولدان لليالي.

المفردات اللغوية :

(رَسُولٍ) هو نبي أمر بالتبليغ ، أو في الأصح من بعثه الله بشريعة مجددة يدعو الناس إليها ، والنبي : أعم من الرسول ، فهو من لم يؤمر بالتبليغ ، أو في الأصح من بعثه الله بتقرير شرع سابق ، كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم‌السلام ، ولذلك شبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علماء أمته بهم ، ويدل عليه أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الأنبياء فقال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، قيل : فكم الرسل منهم؟ قال : ثلاث مائة وثلاثة عشر جما غفيرا.

(تَمَنَّى) قرأ (أُمْنِيَّتِهِ) قراءته ، وألقى الشيطان أي ما ليس من المقروء الموحى به مما يرضاه المرسل إليهم (فَيَنْسَخُ اللهُ) يبطل ويزيل (يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) يثبتها (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوال الناس وبإلقاء الشيطان ما ذكر (حَكِيمٌ) فيما يفعله بهم ، فإنه يفعل ما يشاء.

(فِتْنَةً) أي محنة وابتلاء واختبارا (مَرَضٌ) شك ونفاق (الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) هم الكفار الذي قست قلوبهم عن قبول الحق (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) الكافرين (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) عداوة شديدة وبعد عن الحق ، وخلاف طويل مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين.

(الْعِلْمَ) التوحيد والقرآن أو أهل العلم المجردون عن التعصب والعناد (أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أن القرآن هو الحق النازل من عند الله (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) أي بالقرآن أو بالله (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) تطمئن أو تنقاد وتخشى وتخضع (صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو الطريق القويم وهو دين الإسلام ، أو النظر الصحيح الذي يوصلهم إلى الحق.

(مِرْيَةٍ) شك (مِنْهُ) أي القرآن (السَّاعَةُ) القيامة أو الموت ، أو أشراط الساعة (بَغْتَةً) فجأة (يَوْمٍ عَقِيمٍ) يوم منفرد عن سائر الأيام لشدته ، والمراد به يوم حرب يقتلون فيه ، كيوم بدر ؛ لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كالعقم ، أو لأنه لا خير فيه كالريح العقيم التي لا تأتي بخير ، أو هو يوم القيامة لا ليل بعده.

(الْمُلْكُ) السلطان والتصرف (يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة ، والتنوين فيه ينوب عن الجملة التي دلت عليها الغاية ، أي يوم تزول مريتهم (لِلَّهِ) وحده (يَحْكُمُ) يقضي بين الكافرين

٢٤٦

والمؤمنين (مُهِينٌ) شديد مذل بسبب كفرهم. ويلاحظ أن إدخال الفاء في خبر الذين الثاني: (فَأُولئِكَ) دون الأول : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) تنبيه على أن إثابة المؤمنين بالجنات تفضل من الله تعالى ، وأن عقاب الكفار مسبب عن أعمالهم ، ولذلك قال : (لَهُمْ عَذابٌ) ولم يقل : في عذاب.

سبب النزول :

ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق ، ورجوع كثير من مهاجرة الحبشة إلى مكة ، ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا. وذكروا روايات مختلفة ، كلها من طرق مرسلة ، وليست مسندة من وجه صحيح كما قال ابن كثير (١). منها ما رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن جبير : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلس في ناد من أندية قومه ، كثير أهله ، فتمنى يومئذ ألا يأتيه من الله شيء ، فينفروا عنه يومئذ ، فأنزل الله عليه : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) فقرأ ، حتى إذا بلغ إلى قوله : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشيطان كلمتين : تلك الغرانيق (٢) العلا ، وإن شفاعتهن لترتجى.

فتكلم بها ، ثم مضى بقراءة السورة كلها ، ثم سجد في آخر السورة ، وسجد القوم جميعا معه ، وقال المشركون : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، فسجد وسجدوا ، فأنزل الله عزوجل هذه الآية : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) الآية.

ورفع الوليد بن المغيرة ترابا إلى جبهته وسجد عليه ، وكان شيخا كبيرا ، فلما أمسى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه جبريل ، فعرض عليه السورة ، فلما بلغ الكلمتين قال : ما جئتك بهاتين ، فأوحى الله إليه : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ ، وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً. وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ٢٢٩

(٢) تلك الغرانيق إما الأصنام وإما إشارة إلى الملائكة أي هم الشفعاء ، لا الأصنام ؛ لأن الكفار كانوا يعتقدون أن الأوثان والملائكة بنات الله ، كما حكى الله عنهم.

٢٤٧

تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً. إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ، ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) فما زال مغموما حتى نزلت : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ).

قال ابن العربي وعياض : إن هذه الروايات باطلة لا أصل لها (١). وقال الرازي (٢) : أما أهل التحقيق فقد قالوا : هذه الرواية باطلة موضوعة ، واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول.

أما القرآن فوجوه منها قوله تعالى : (قُلْ : ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) [يونس ١٠ / ١٥] وقوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم ٥٣ / ٤ ـ ٣] وقوله : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) [الحاقة ٦٩ / ٤٤ ـ ٤٦] فلو أنه قرأ عقيب آية النجم المذكورة : تلك الغرانيق العلا ، لكان قد ظهر كذب الله تعالى في الحال ، وذلك لا يقوله مسلم.

وأما السنة : فهي ما روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة : أنه سئل عن هذه القصة ، فقال : هذا وضع من الزنادقة. وقال البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل. وأيضا : فقد روى البخاري في صحيحة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ سورة النجم ، وسجد فيها المسلمون والمشركون ، والإنس والجن ، وليس فيه حديث الغرانيق.

وأما المعقول فمن وجوه : منها : أن من جوز على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعظيم الأوثان ، فقد كفر ؛ لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان.

__________________

(١) انظر أحكام القرآن لابن العربي : ٣ / ١٢٨٨ ـ ١٢٩٠ ، تفسير القرطبي : ١٢ / ٨٢

(٢) تفسير الرازي : ٢٣ / ٥٠

٢٤٨

قال الرازي : وأقوى الوجوه : أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الامان عن شرعه ، أي شرع الله ، وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك ، ويبطل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ، فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ، وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة ٥ / ٦٧] فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه. فبهذا عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة.

التفسير والبيان :

تبين من الكلام السابق في سبب النزول أن قصة الغرانيق موضوعة مكذوبة وضعها الزنادقة ، لذا يجب تفسير الآيات على نحو آخر ، خلافا لما عليه كثير من المفسرين. ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة ، بها وقعت الفتنة ، ثم اختلف الناس في صورة هذا الإلقاء ، لكن المقطوع به أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عملا بدلالة الآيات السابقة الدالة على عصمته ، وأنه لا ينطق عن الهوى أنه لم يجار الشيطان فيما ألقاه ، ولم يردد على لسانه ما وسوس به. وأحسن تأويل للآيات كما قال القرطبي : هو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلا ، ويفصّل الآي تفصيلا في قراءته ، كما روى الثقات عنه ، فيمكن ترصّد الشيطان لتلك السكتات ، ودسّه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات ، محاكيا نغمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار ، فظنّوها من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأشاعوها ، ولم يقدح ذلك عند المسلمين ، لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله ، وتحققهم من حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذمّ الأوثان وعيبها ما عرف عنه (١).

وعلى هذا يكون معنى الآية : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ ..) أي وما أرسلنا يا محمد قبلك رسولا ولا نبيا إلا إذا قرأ وتلا كلام الله ، ألقى الشيطان في قراءته

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٢ / ٨٢ ـ ٨٣

٢٤٩

وتلاوته بعض الأقاويل والأباطيل. وقوله (مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) دليل على تغاير الرسول والنبي ، والفرق بينهما كما في الكشاف : أن الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه ، والنبي غير الرسول : من لم ينزل عليه كتاب ، وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله. وقد ذكرت في المفردات التعريف المشهور والأصح للرسول والنبي وعدد الرسل والأنبياء.

(فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) أي فيزيل الله ما وسوس به الشيطان من الكلمات والخرافات التي تعلّق بها بعض الكفار ، ثم يجعل آياته محكمة محصّنة مثبّتة ، لا تقبل التشويه والتزييف أو الزيادة أو النقصان.

وهذا يشبه محاولات بعض القساوسة اليوم دسّ بعض الأكاذيب والشبهات في مبادئ الإسلام وتعاليمه ، وقلب الحقائق ، وتزييف الوقائع ، وتأويل بعض الآيات على وجه غير صحيح ، ثم تتبدد تلك المساعي الخبيثة ، وتدحض تلك المفتريات على يد بعض العلماء الأثبات من المسلمين أو من غيرهم ، وتدفن تلك الآراء المدسوسة في النشرات والكتب المدرسية وغيرها.

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي والله عليم بكل شيء ، وبما أوحى إلى نبيه ، وبما يكون من الأمور والحوادث ، لا تخفى عليه خافية ، حكيم في تقديره وخلقه وأمره وأفعاله ، له الحكمة التامة ، والحجة البالغة ، فيجازي المفتري بافترائه ، ويظهر الحق للمؤمنين ، وتتبدد الظلمة في نفوس المنافقين ، وهذا ما أبانه الله تعالى في موقف الفريقين ، فقال :

١ ـ (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) أي ليجعل ما يوسوس به الشيطان فتنة أي ابتلاء واختبارا للمنافقين الذين في قلوبهم شك وشرك وكفر ونفاق ، وللمشركين أو اليهود المعاندين قساة

٢٥٠

القلوب ، حين فرحوا بإلقاء الشيطان بعض الكلمات ، واعتقدوا أنه صحيح من عند الله ، وإنما كان من الشيطان.

(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي وإن هؤلاء الظالمين أنفسهم من المنافقين والكفار لفي مخالفة وعصيان ، ومشاقة لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعناد بعيد من الحق والصواب.

٢ ـ (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ، فَيُؤْمِنُوا بِهِ ، فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) أي ولكي يعلم أهل العلم النافع الذين يفرقون به بين الحق والباطل ، والمؤمنون بالله ورسوله أن ما أوحيناه إليك هو الحق الثابت الصحيح من ربك الذي أنزله بعلمه وحفظه ، وصانه أن يختلط به غيره ، فيصدقوا به وينقادوا له ، وتخضع له قلوبهم ، وتذل وتخشع له نفوسهم ، وتعمل بأحكامه وآدابه وشريعته ، كما قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت ٤١ / ٤١ ـ ٤٢].

(وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي وإن الله لمرشد المؤمنين بالله ورسوله إلى طريق قويم في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه ، ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه بتأويل سليم للمتشابه في الدين ، وتفصيل واضح للمجمل منه ، وفي الآخرة يهديهم الطريق الصحيح الموصل إلى درجات الجنان ، ويصرفهم عن دركات النيران.

ومصير الفريق الأول ما قال تعالى :

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ... عَقِيمٍ) أي ولا يزال الكفار في شك وريب من هذا القرآن أو من الرسول ، فضمير (مِنْهُ) راجع إلى القرآن أو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لا يزال الكفار في ريب منه أي مما ألقى الشيطان في قلوبهم حين قراءة القرآن عليهم ، حتى تأتيهم الساعة ، أي يوم القيامة أو مقدماتها أو

٢٥١

الموت ، بغتة أي فجأة من غير أن يشعروا ، أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ، أي يوم القيامة أو يوم حرب مدمرة كيوم بدر. وجعل الساعة غاية لكفرهم وأنهم يؤمنون عند أشراط الساعة على وجه الإلجاء. وإنما وصف يوم القيامة بالعقيم لأنه لا يأتي بعده ليل ، ووصف يوم الحرب بالعقيم لأن أولاد النساء يقتلون فيه ، فيصرن كأنهن عقم لم يلدن ، أو لأن المقاتلين يقال لهم : أبناء الحرب ، فإذا قتلوا وصف هذا اليوم بأنه عقيم ، على سبيل المجاز. قال ابن كثير : القول الأول هو الصحيح ، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به ، ولهذا قال : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ، يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ).

والمراد بالآية أن الكفار ما يزالون على كفرهم لا يؤمنون حتى يهلكوا. (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أي السلطان والتصرف يوم القيامة يوم الجزاء والثواب والعقاب لله الواحد القهار ، يقضي بينهم بالحق ، وهو الحكم العدل جل شأنه ، كما قال تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة ١ / ٤] وقال عزوجل : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ ، وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) [الفرقان ٢٥ / ٢٦].

ونتيجة الحكم تظهر ببيان جزاء كل من الفريقين ، فقال تعالى :

(فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي فالذين آمنت قلوبهم وصدقوا بالله ورسوله وبالقرآن ، وعملوا بمقتضى ما علموا من الأعمال الصالحة بإطاعة أوامره تعالى واجتناب نواهيه ، وتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم ، لهم جنات النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا ، فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي والذين كفرت قلوبهم بالحق وجحدته ، وكذبوا بالقرآن وبالرسول ، وخالفوا الرسل ، واستكبروا عن اتباعهم ، فأولئك لهم عند ربهم عذاب مذلّ مخز ، مقابل

٢٥٢

استكبارهم عن الحق ، وإبائهم النظر في آيات القرآن ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر ٤٠ / ٦٠] أي صاغرين.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ هذه تسلية أخرى من الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد قوله المتقدم : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) أي فلا تحزن ولا تتألم لما يردده الكفار على لسان الشيطان ، فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء.

٢ ـ الآية تدل على إحكام الوحي وحفظ كتاب الله تعالى وحراسته من أقاويل الشيطان وأباطيله وخرافاته ، فإنه إذا ألقى شيئا من الكلام في ثنايا آيات القرآن الكريم أو حديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفسه ، فيبطل الله ما ألقى الشيطان ، ويحكم آياته ويثبتها.

فقوله تعالى (تَمَنَّى) و (أُمْنِيَّتِهِ) أي قرأ وتلا ، وقراءته. وروى البخاري عن ابن عباس في ذلك : إذا حدّث ـ أي النبي ـ ألقى الشيطان في حديثه ، فيبطل الله ما يلقي الشيطان. والمعنى : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا حدّث نفسه ، ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيلة ، فيقول : لو سألت الله عزوجل أن يغنّمك ليتسع المسلمون ؛ ويعلم الله عزوجل أن الصلاح في غير ذلك ، فيبطل ما يلقي الشيطان ، أي أن المراد حديث النفس. قال النحاس : وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأعلاه وأجله.

٣ ـ إن في إلقاء الشيطان حكمة وهو أن يجعل فتنة أي ابتلاء واختبارا لفئتين هما المنافقون والمشركون ، وهم الظالمون أنفسهم ، والظالمون أي الكافرون لفي خلاف وعصيان ومشاقة لله عزوجل ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٥٣

٤ ـ قال الثعلبي في آية (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً ..) : وفي الآية دليل على أن الأنبياء يجوز عليهم السهو والغلط بوسواس الشيطان ، أو عند شغل القلب حتى يغلط ، ثم ينبّه ويرجع إلى الصحيح ؛ وهو معنى قوله : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ).

ولكن إنما يكون الغلط على حسب ما يغلط أحدنا ، فأما ما ينسب إليه من قولهم : تلك الغرانيق العلا ، فكذب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن فيه تعظيم الأصنام ، ولا يجوز ذلك على الأنبياء ، كما لا يجوز أن يقرأ بعض القرآن ، ثم ينشد شعرا ، ويقول : غلطت وظننته قرآنا.

٥ ـ وحكمة أخرى لإلقاء الشيطان هي أن يعلم المؤمنون أن الذي أحكم من آيات القرآن هو الحق الصحيح الثابت من الله ، فيؤمنوا به ، وتخشع وتسكن قلوبهم ، وإن الله يهدي المؤمنين إلى صراط مستقيم ، أي يثبّتهم على الهداية.

٦ ـ سيظل الكفار في شك من القرآن أو من الدين ؛ وهو الصراط المستقيم ، أو من الرسول ، أو مما ألقى الشيطان على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو لم يقله ، فيقولون : ما باله ذكر الأصنام بخير ، ثم ارتدّ عنها؟ ويستمر الشك إلى وقت مجيء زمن الإيمان القسري أو الملجئ فجأة وهو إما يوم القيامة وإما الموت ، وإما يوم الحرب كبدر ، وذلك يوم عقيم. وقد تبين لدينا أن الراجح في تفسير اليوم العقيم هو يوم القيامة ، قال الضحاك : عذاب يوم لا ليلة له ، وهو يوم القيامة. قال الرازي : وهذا القول أولى ؛ لأنه لا يجوز أن يقول الله تعالى : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ) ويكون المراد يوم بدر ؛ لأن من المعلوم أنهم في مرية بعد يوم بدر. ولا يكون هناك تكرار بينه وبين قوله (السَّاعَةُ) لأن الساعة من مقدمات القيامة ، واليوم العقيم هو ذلك اليوم نفسه ، كما أن في الأول ذكر الساعة ، وفي الثاني ذكر عذاب ذلك اليوم. ويحتمل أن يكون المراد

٢٥٤

بالساعة : وقت موت كل أحد ، وبعذاب يوم عقيم : القيامة (١).

٧ ـ الملك والسلطان لله وحده يوم القيامة ، دون منازع ، فهو الذي يقضي بالمجازاة بين العباد ، ويكون قرار حكمه أن المؤمنين الذين يعملون الصالحات في جنات النعيم ، وأن الكافرين المكذبين بآيات القرآن في عذاب مهين. وقوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) من أقوى ما يدل على أن اليوم العقيم هو يوم القيامة.

وعده الكريم بالنصر والجنة للمهاجرين المقاتلين دفاعا عن النفس

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِن َّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠))

الإعراب :

(وَمَنْ عاقَبَ) : مبتدأ مرفوع ، بمعنى الذي ، وصلته : (عاقَبَ) وخبره : (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ). وليست (مَنْ) هاهنا شرطية ؛ لأنه لا لام فيها ، كما في قوله تعالى : (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأعراف ٧ / ١٨].

المفردات اللغوية :

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي تركوا أوطانهم في طاعة الله من مكة إلى المدينة. (ثُمَّ قُتِلُوا) في الجهاد. (رِزْقاً حَسَناً) هو الجنة. (خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أفضل المعطين ، فإنه يرزق بغير حساب.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٣ / ٥٦

٢٥٥

(مُدْخَلاً) أي إدخالا ، أو موضعا يدخلونه ويرضونه وهو الجنة. (لَعَلِيمٌ) بنياتهم وبأحوالهم. (حَلِيمٌ) عن عقابهم ، فلا يعاجلهم في العقوبة.

(ذلِكَ) أي الأمر ذلك ، أو ذلك الذي قصصناه عليك. (وَمَنْ عاقَبَ) جازى من المؤمنين. أي جازى الظالم بمثل ظلمه. (بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) ظلما من المشركين ، أي قاتلهم كما قاتلوه في الشهر الحرام ، ولم يزد في الاقتصاص. وإنما سمي الابتداء بالعقاب الذي هو الجزاء عقابا للازدواج والمشاكلة ، أو لأنه سببه. (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) منهم ، أي ظلم بإخراجه من منزله.

(لَعَفُوٌّ) عن المؤمنين. (غَفُورٌ) لهم عن قتالهم في الشهر الحرام. وفيه تعريض بالحث على العفو والمغفرة ، فإنه تعالى مع كمال قدرته يعفو ويغفر ، فغيره بذلك أولى ، وفيه أيضا تنبيه على أنه قادر على العقوبة ؛ إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده.

سبب النزول :

نزول الآية (٦٠):

(ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ ..) : أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن مقاتل أنها نزلت في سرية بعثها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلقوا المشركين لليلتين من المحرم ، فقال المشركون بعضهم لبعض : قاتلوا أصحاب محمد ، فإنهم يحرمون القتال في الشهر الحرام ، فناشدهم الصحابة ، وذكروهم بالله أن لا يتعرضوا لقتالهم ، فإنهم لا يستحلون القتال في الشهر الحرام ، فأبى المشركون ذلك ، وقاتلوهم ، وبغوا عليهم ، فقاتلهم المسلمون ، ونصروا عليهم ، فنزلت هذه الآية.

وروى مجاهد أيضا أنها نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة ، فتبعهم المشركون فقاتلوهم.

وظاهر الكلام للعموم.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى أن الملك له يوم القيامة ، وأنه يحكم بين عباده المؤمنين والكافرين ، وأنه يدخل المؤمنين الجنات ، أتبعه بذكر وعده الكريم للمهاجرين

٢٥٦

المجاهدين ، وأفردهم بالذكر تفخيما لشأنهم. ثم ذكر وعدا كريما آخر لمن قاتل مبغيا عليه دفاعا عن نفسه ، بأن اضطر إلى الهجرة ومفارقة الوطن ، وابتدئ بالقتال.

التفسير والبيان :

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ... خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي والذين خرجوا مهاجرين في سبيل الله ، وتركوا أوطانهم وديارهم ابتغاء مرضاة الله ، وطلبا لما عنده ، ثم قتلوا في الجهاد ، أو ماتوا حتف أنفهم من غير قتال على فرشهم ، فقد حصلوا على الأجر الجزيل ، والثناء الجميل ، وليمنحنهم الله الجنة ، وليرزقنهم من فضله منها ، إن الله خير المعطين الرازقين ، يعطي من يشاء بغير حساب ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ، ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ ، فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [النساء ٤ / ١٠٠].

وهذا الرزق الحسن كما قال تعالى :

(لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ ، وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) أي ليدخلن هؤلاء المهاجرين المجاهدين في سبيله موضعا كريما يرضونه وهو الجنة ، كما قال تعالى : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) [الواقعة ٥٦ / ٨٨ ـ ٨٩] أي يحصل له الراحة والرزق وجنة النعيم. وإن الله لعليم بمن يهاجر ويجاهد في سبيله ، وبمن يستحق ذلك ، فهو عليم بالنيات والمقاصد والأحوال ، وحليم أي يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب بهجرتهم إليه وتوكلهم عليه ، ولا يعاجل هؤلاء المكذبين بالعقوبة ، ليترك لهم الفرصة للتوبة والإنابة والإيمان بالله تعالى.

(ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ) .. (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) أي ذلك الأمر الذي قصصنا عليك من إنجاز الوعد للمهاجرين الذين قتلوا أو ماتوا ، ومن قوتل ظلما ، وجازى من المؤمنين من اعتدى عليه من المشركين ، ثم بغي عليه بإلجائه إلى الهجرة ومفارقة

٢٥٧

الوطن ، وابتدائه بالقتال ، لينصرنه الله نصرا مؤزرا ، (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) أي إن الله ليصفح عن المؤمنين ويغفر لهم خطأهم إذا تركوا ما هو الأجدر بهم وهو العفو والمغفرة عن المسيء. وفيه حث على العفو عن الجاني ، كما قال تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ ، إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى ٤٢ / ٤٣] وقال : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [الشورى ٤٢ / ٤٠] وقال : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة ٢ / ٢٣٧] وفيه دلالة على أنه سبحانه بذكر العفو والمغفرة قادر على العقوبة ؛ لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده ، كما بينا.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على مزية صنفين من الناس : المهاجرين ، والمقاتلين دفاعا عن أنفسهم.

أما المهاجرون : فهم الذين تركوا ديارهم وأوطانهم وأموالهم ، وفارقوا مكة إلى المدينة ، حبا في طاعة الله تعالى ، وابتغاء رضوانه ، فلهم من الله الفضل العظيم ، والعطاء العميم ، والرزق الحسن وهو الجنة ، سواء قتلوا في الجهاد أو ماتوا من غير قتال. وأكد تعالى ذلك بقوله : (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) أي الجنان. والله عليم بنياتهم ، حليم عن عقابهم.

أما من قتل في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر ، فإنه شهيد حي عند ربه يرزق ، كما قال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً ، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران ٣ / ١٦٩].

وأما من توفي في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر فقد تضمنت هذه الآية الكريمة إجراء الرزق عليه ، وعظيم إحسان الله إليه.

روي عن أنس أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المقتول في سبيل الله ، والمتوفى في سبيل الله بغير قتل ، هما في الأجر شريكان» (١).

__________________

(١) روى النسائي حديثا في معناه عن العرباض بن سارية.

٢٥٨

وأما المقاتلون المدافعون عن أنفسهم : فإن الله وعدهم بالنصر في الدنيا ، لبغي الكفار عليهم ، وإن الله عفا عن المؤمنين ذنوبهم وقتالهم في الشهر الحرام ، وستر ذلك عليهم.

وسمي جزاء العقوبة عقوبة في قوله تعالى : (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) لاستواء الفعلين في الصورة ، مثل : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى ٤٢ / ٤٠] ومثل : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة ٢ / ١٩٤].

من دلائل قدرة الله تعالى

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦))

٢٥٩

الإعراب :

(فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ) تصبح : مرفوع لا منصوب ، محمول على معنى (أَلَمْ تَرَ) ومعناه : انتبه يا ابن آدم! أنزل الله من السماء ماء ، ولو صرح بقوله : انتبه ، لم يجز فيه إلا الرفع ، فكذلك ما هو بمعناه.

البلاغة :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ..) الآية : امتنان بتعداد النعم ، والاستفهام للتقرير.

(يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بينهما طباق.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) صيغة مبالغة أي مبالغ في الجحود.

المفردات اللغوية :

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ) أي ذلك النصر بسبب أنه قادر على أن يدخل كلا من الليل والنهار في الآخر ، بأن يزيد به ، وقادر على تغليب بعض الأمور على بعض. (سَمِيعٌ بَصِيرٌ) يسمع أقوال عباده المؤمنين والكفار ، بصير بما يصدر عنهم من أفعال.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي ذلك الوصف بكمال القدرة والعلم ، والنصر أيضا ، بسبب أن الله هو الثابت في نفسه ، الواجب لذاته وحده ، فإن وجوب وجوده ، ووحدته يقتضيان أن يكون مبدأ لكل ما يوجد سواه ، عالما بذاته وبما عداه ، أو الثابت الألوهية ، ولا يصلح لها إلا من كان قادرا عالما. (مِنْ دُونِهِ) إلها من الأصنام. (هُوَ الْباطِلُ) الزائل ، المعدوم في حد ذاته ، أو باطل الألوهية. (الْعَلِيُ) العالي على الأشياء بقدرته. (الْكَبِيرُ) عن أن يكون له شريك ، ولا شيء أعلى منه شأنا ، وأكبر منه سلطانا ، وهو الذي يصغر كل شيء سواه.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي ألم تعلم أن الله أنزل مطرا من السماء وهو استفهام تقرير ، ولذلك رفع (فَتُصْبِحُ ..) عطف على (أَنْزَلَ) إذ لو نصب جوابا للاستفهام ، لدل على نفي الاخضرار ، كما في قولك : ألم تر أني جئتك فتكرمني ، فإن نصبت فأنت ناف لتكريمه ، وإن رفعته فأنت مثبت للتكريم ، والمقصود إثباته. وإنما عدل ب (فَتُصْبِحُ) المضارع عن صيغة الماضي ، للدلالة على بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان. (لَطِيفٌ) بعباده يصل علمه أو لطفه إلى كل ما جل ودق ومنه إخراج النبات. (خَبِيرٌ) بالتدابير الظاهرة والباطنة ، وبما في قلوب العباد ، ومنه قلقهم عند تأخير المطر.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا. (الْغَنِيُ) في ذاته عن كل شيء. (الْحَمِيدُ) المستوجب للحمد بصفاته وأفعاله.

٢٦٠