التفسير المنير - ج ١٧

الدكتور وهبة الزحيلي

المشتمل على دستور الحياة الإنسانية الفاضلة ، فيه شرفكم وصيتكم وسمعتكم ، كما قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف ٤٣ / ٤٤] أو فيه عظتكم وتذكيركم بمحاسن الأخلاق ومكارم الشيم ، والأخذ بأيديكم إلى عز الدنيا وسعادة الآخرة.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تتدبرون أمركم ، وتقدرون هذه النعمة ، وتتلقونها بالقبول ، وتتفكرون بما اشتمل عليه هذا القرآن من العظات والعبر ، فتأخذوا بما فيه ، وتتجنبوا ما حذره وما نهى عنه.

وفي هذا حث شديد على تدبر أحكام القرآن وتعقل ما جاء فيه من أمور الدنيا والدين والحياة.

فقه الحياة أو الأحكام :

اشتملت الآيات على ما يأتي :

١ ـ الأنبياء والرسل من جنس البشر ، وليسوا من الملائكة ، ليسهل الأخذ عنهم ، ومناقشتهم وتفهم الموحى به إليهم ، فقد ثبت بالتواتر والاستقراء والتتبع أن الرسل كانوا من البشر.

٢ ـ إن سؤال أهل العلم واجب ، وعلى العامة تقليد العلماء ، وقد أجمع علماء الأمة الإسلامية على أن الأعمى لا بدّ له من تقليد غيره ممن يثق به في الاتجاه إلى القبلة إذا أشكلت عليه ، وكذلك كل من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به ، لا بد له من تقليد أحد العلماء. ولا يجوز للعامة الفتيا في الدين ، للجهل بالمعاني التي يرتكز عليها التحليل والتحريم.

٣ ـ لم يجعل الله تعالى الرسل بصفات منافية لطباع البشر ، لا يحتاجون إلى طعام وشراب ، بل هم كغيرهم من البشر يأكلون الطعام ، ويشربون الماء ، ويمشون في الأسواق ، ويتعاطون شؤون الحياة والمكاسب المتعددة.

٢١

٤ ـ يصون الله تعالى حياة الأنبياء ويعصمهم من الناس ، وينجز لهم وعده بإنجائهم ونصرهم وإهلاك مكذبيهم ، وينجي معهم المؤمنين المصدقين برسالاتهم ، ويهلك الله المشركين المكذبين لهم.

٥ ـ إن القرآن الكريم سبب لرفعة شأن العرب ؛ لأنه نزل بلغتهم ، وفيه أحكام الشرع ، وبيان مصير الناس في الآخرة ، وما يلقونه من ثواب وعقاب.

وهو أيضا عظة وعبرة ، يرغب ويبشر ، ويحذر وينفر ، ويأمر وينهى ، ويرشد إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، ويوضح ما فيه سعادة الدارين ، ويرشد البشرية كافة إلى اتباع النظام الأصلح.

٦ ـ يحث القرآن الكريم دائما على تدبر ما جاء فيه من أحكام ، وتفهم ما تضمنه من نظام سديد في الدين والدنيا والآخرة.

الإنذار بعذاب الاستئصال والتذكير بعجائب الخلق

(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩)

٢٢

يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠))

الإعراب :

(فَما زالَتْ تِلْكَ تِلْكَ) مرفوع أو منصوب اسما أو خبرا ، وكذلك (دَعْواهُمْ).

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ .. مَنْ) : مبتدأ ، (وَلَهُ) : خبره. وذهب الأخفش إلى أنه في موضع رفع بالظرف.

(وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ ..) مبتدأ وخبر ، وليس معطوفا على (مَنْ فِي السَّماواتِ). فإن جعل معطوفا كان قوله : (لا يَسْتَكْبِرُونَ) في موضع الحال ، أي غير مستكبرين ، وكذلك (لا يَسْتَحْسِرُونَ) أي غير مستحسرين.

البلاغة :

(حَصِيداً خامِدِينَ) تشبيه بليغ ، أي جعلناهم كالزرع المحصود ، وكالنار الخامدة.

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ) في قوله : (نَقْذِفُ) استعارة تمثيلية ، شبّه الحق بشيء صلب جامد ، والباطل بشيء رخو ، وأستعير لفظ القذف لغلبة الحق على الباطل بطريق التمثيل ، كما يرمي الإنسان شيئا فيتلفه.

المفردات اللغوية :

(وَكَمْ) خبرية تفيد كثرة وقوع ما بعدها ، فهي صيغة تكثير (قَصَمْنا) أهلكنا وأصل القصم : كسر بتفريق الأجزاء وإبانة تلاؤمها ، وهو يدل على غضب عظيم. أما الفصم فلا يدل على تفريق الأجزاء ، فهو كسر من غير إبانة (مِنْ قَرْيَةٍ) أي أهل قرية (كانَتْ ظالِمَةً) كافرة ، وهي صفة لأهلها ، ووصف بها القرية ؛ لأنها أقيمت مقام أهلها (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها) بعد إهلاك أهلها (قَوْماً آخَرِينَ) مكانهم.

(فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) أي أدركوا شدة عذابنا إدراك المشاهد المحسوس ، والضمير عائد لأهل القرية المحذوف ، أي شعر أهل القرية بالإهلاك. والإحساس : الإدراك بالحاسة ، وهو هنا الإدراك بحاسة البصر ، والبأس : الشدة (يَرْكُضُونَ) يهربون مسرعين ، والركض : الفرار والهرب بسرعة ،

٢٣

وأصله : ضرب الدابة وكدّها بالرجل ، ومنه قوله تعالى : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) [ص ٣٨ / ٤٢].

(أُتْرِفْتُمْ) أي نعمتم ، والإتراف : التنعم والتلذذ ، أو إبطار النعمة. (وَمَساكِنِكُمْ) التي كانت لكم (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) أي لتسألوا غدا عن أعمالكم أو تعذبون ، فإن السؤال من مقدمات العذاب (يا وَيْلَنا) يا هلاكنا ، ويا : للتنبيه (ظالِمِينَ) بالكفر (فَما زالَتْ تِلْكَ) الكلمات (دَعْواهُمْ) أي دعوتهم التي يردّدونها ، أي ما زالوا يكررون تلك الكلمة (حَصِيداً) محصودين ، كما يحصد الزرع بالمناجل ، بأن قتلوا بالسيف (خامِدِينَ) ميتين ، كخمود النار إذا طفئت.

(لاعِبِينَ) عابثين ، بل دالين على قدرتنا ومرشدين عبادنا (لَهْواً) ما يلهى به من زوجة أو ولد. والفرق بين اللعب واللهو : أن الأول لا يقصد به هدف صحيح ، والثاني يقصد به الترويح عن النفس (مِنْ لَدُنَّا) من عندنا من الحور العين والملائكة (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) ذلك ، لكنا لم نفعله فلم نرده.

(نَقْذِفُ) نرمي رميا بعيدا (بِالْحَقِ) الإيمان (عَلَى الْباطِلِ) الكفر (فَيَدْمَغُهُ) يذهبه ويقهره ويهلكه ، وأصل الدمغ : كسر الشيء الرخو ، وإصابة الدماغ بالضرب ، وهو مقتل (فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) ذاهب وهالك وزائل (وَلَكُمُ) يا كفار مكة (الْوَيْلُ) العذاب الشديد (مِمَّا تَصِفُونَ) الله به من الزوجة أو الولد.

(وَلَهُ) لله تعالى (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) لا يتعظمون (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) لا يكلون ولا يعيون ولا يتعبون (يُسَبِّحُونَ) ينزهونه ويعظمونه دائما (لا يَفْتُرُونَ) لا يضعفون.

المناسبة :

هذه الآيات مبالغة في زجر الكفار عن عصيانهم وكفرهم ، فبعد أن أبان الله تعالى أنه أهلك المسرفين في تكذيبهم وكفرهم بالله ، ونصر الأنبياء المرسلين عليهم ، وأسقط اعتراضاتهم التي أظهرت إعجاز القرآن ، وأوضحت أن إيراد تلك الاعتراضات كان لحب الدنيا وحب الرياسة فيها ، بالغ تعالى في زجرهم عن ذلك ، فقال :

(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً ، وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) أي كثيرا ما أهلكنا من أهل القرى الذين كانوا ظالمين أنفسهم بالكفر بالله وتكذيب

٢٤

الرسل ، وأوجدنا وأحدثنا بعد إهلاكهم قوما آخرين مكانهم ، كما قال تعالى في آية أخرى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) [الإسراء ١٧ / ١٧] وقال تعالى : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها ، وَهِيَ ظالِمَةٌ ، فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) [الحج ٢٢ / ٤٥].

والمراد بالقرية : مدائن كانت باليمن ، وقال أهل التفسير والأخبار : إنه أراد أهل حضور ، وكان بعث إليهم نبي اسمه شعيب بن ذي مهدم ، وقبر شعيب هذا باليمن بجبل يقال له : ضنن كثير الثلج ، وليس بشعيب صاحب مدين ؛ لأن قصة «حضور» قبل زمن عيسى عليه‌السلام ، وبعد مئات من السنين من زمن سليمان عليه‌السلام ، لكنهم قتلوا نبيهم ، وكانت «حضور» بأرض الحجاز من ناحية الشام (١).

(فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) أي فلما تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة ، كما وعدهم نبيهم ، إذا هم يفرون هاربين منهزمين من قريتهم ، لما أدركتهم مقدمة العذاب.

(لا تَرْكُضُوا ، وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ ...) أي يقال لهم تهكما واستهزاء : لا تركضوا هاربين من نزول العذاب ، وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة التي أبطرتكم والسرور ، والمعيشة الرغيدة ، والمساكن الطيبة ، لعلكم تسألون عما كنتم فيه ، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة ، أو يسألكم الناس : لماذا نزل هذا العذاب؟!

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) تهكم بهم وتوبيخ ، فأجابوا :

(قالُوا : يا وَيْلَنا ، إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي إنهم اعترفوا بذنوبهم حين

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١١ / ٢٧٤

٢٥

لا ينفعهم ذلك ، فقالوا : يا هلاكنا ، إنا ظلمنا أنفسنا بكفرنا بربنا. وهذا اعتراف صريح منهم بالكفر الموجب للعذاب.

(فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) أي فما زالوا يرددون تلك المقالة ، وهي الاعتراف بالظلم ، حتى حصدناهم حصدا ، وخمدت حركاتهم ، وسكنت أصواتهم خمودا كالنار التي أصبحت خامدة لا حياة فيها. فقوله : (تِلْكَ) إشارة إلى قولهم: (يا وَيْلَنا ..) إلخ ؛ لأنها دعوى ، كأنه قيل : فما زالت تلك الدعوى دعواهم. والدعوى هنا بمعنى الدعوة أي المطلب ، قال تعالى : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس ١٠ / ١٠] وسميت دعوى ؛ لأنهم كانوا دعوا بالويل فقالوا : (يا وَيْلَنا) والمولول كأنه يدعو الويل ، فيقول : تعال يا ويل ، فهذا وقتك. والحصيد : الزرع المحصود ، أي جعلناهم مثل الحصيد ، تشبيها لهم به في استئصالهم ، كما تقول : جعلناهم رمادا ، أي مثل الرماد ، فهم يشبهون الحصيد والخمود.

وعقابهم هذا حق وعدل جزاء إنكار هم النبوة ، وجعلهم معجزات النبي عبثا ولعبا ، لذا أبان تعالى أنه ما خلق السماء والأرض وما بينهما إلا بالعدل فقال :

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) أي وما أوجدنا السموات والأرضين إلا بالحق ، أي بالعدل والقسط ، لا للهو واللعب ، فإنا خلقناها لفائدة دينية هي أن تكون دليلا على معرفة الخالق لها ، ولمنافع أخرى دنيوية وغيرها ، وليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ، وأنه لم يخلق ذلك عبثا ولعبا.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ، ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص ٣٨ / ٢٧] ثم أكد تعالى نفي اللعب فقال :

٢٦

(لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) أي لو شئنا أن نتخذ ما يلهو كما يتخذ العباد من الزوج والولد ، لاتخذناه مما لدينا من الملائكة والحور العين ، إن كنا نقصد اللهو ونفعل اللعب. واللهو : المرأة بلسان أهل اليمن ، والولد أيضا ؛ لأنه ملازم للمرأة.

وهو كقوله تعالى : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ، لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [الزمر ٣٩ / ٤]. وهذا رد على من اتخذ المسيح أو عزيرا ابنا لله تعالى.

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) أي بل إننا نبين الحق ، فيدحض الباطل ويزيله ، فإذا هو زائل مبدّد ، ذاهب مضمحل. و (بَلْ) هنا إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب ، وتنزيه منه لذاته ، فليس من صفاتنا وحكمتنا اللعب ، وإنما تغليب الجد على اللهو ، ودحض الباطل بالحق ، كأنه قال : سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب ، بل من عادتنا تغليب الجد على اللهو ، ودحض الباطل بالحق.

وقد استعار القذف والدمغ لضياع الباطل وفنائه ، لتصويره بالصورة الحسية المؤثرة التي ترسخ في الأذهان ، وتدل على قوة الحق ، وضعف الباطل ، حتى لكأنه غير موجود.

وإذا كان هذا من شأننا فكيف لا نبين الحق وننذر الناس ، وإلا كنا لاهين لاعبين. فقوله : (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) معناه : ما كنا فاعلين ، مثل (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) [فاطر ٣٥ / ٢٣] أي ما أنت إلا نذير. و (أَنْ) بمعنى الجحد ، وقيل : إنها بمعنى الشرط ، أي إن كنا فاعلين ذلك ولكن لسنا بفاعلين ذلك ؛ لاستحالة أن يكون لنا ولد.

(وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) أي ولكم أيها القائلون : لله ولد ، أو أيها

٢٧

المشركون الظالمون الهلاك والدمار والعذاب الشديد ؛ لوصفكم ربكم بما ليس من صفته ، وتقولكم وافترائكم عليه أنه اتخذ صاحبة أو زوجة ، وولدا ، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وكيف يكون لله شريك خاص ، وهو مالك جميع من في السموات والأرض ، وكيف تتنكرون لطاعته ، وله تعالى جميع المخلوقات ملكا وخلقا وعبيدا؟! الكل ومنهم الملائكة طائعون خاضعون له ، دأبهم الطاعة ليلا ونهارا ، لذا قال :

(وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) أي وجميع من عنده من الملائكة لا يترفعون عن عبادته ، ولا يعيون ولا يتعبون ولا يملون. والعندية هنا ليست مكانية ، وإنما هي عندية مكانة وتشريف. وتخصيص الملائكة بالذكر هنا لإبانة رفعة شأنهم.

(يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ، لا يَفْتُرُونَ) أي يعبدون الله وينزهونه في الليل والنهار ، فهم دائبون في العمل ليلا ونهارا ، مطيعون قصدا وعملا ، قادرون عليه ، لا ينقطعون عن الطاعة ولا يفترون ساعة عنها ، كما قال تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم ٦٦ / ٦].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ الإنذار الشديد الأكيد لأهل الكفر والعصيان الذين أنكروا النبوات بحال أهل القرى الظالمة الكافرة ، حيث دمرها الله تعالى تدميرا شديدا بمن فيها ، لظلمهم ، والظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، وهم وضعوا الكفر موضع الإيمان.

٢ ـ عند دنوّ العذاب تقع الحيرة والاضطراب ، وتحدث محاولات الفرار من

٢٨

القرية ، فيركض أهلها هاربين منها ، والركض : العدو بشدة الوطء ، فتناديهم الملائكة استهزاء: لا تركضوا ولا تفرّوا ، وارجعوا إلى مواطن الترف والنعم التي كانت سبب بطركم ، لعلكم تسألون شيئا من دنياكم ، استهزاء بهم.

ولما قالت لهم الملائكة : (لا تَرْكُضُوا) ونادت : يا لثارات الأنباء! ولم يروا شخصا يكلمهم ، عرفوا أن الله عزوجل هو الذي سلط عليهم عدوهم ، بقتلهم النبي الذي بعث فيهم ، فقالوا : (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) وهذا اعتراف منهم بأنهم ظلموا ، حين لا ينفع الاعتراف.

وما زالوا يقولون : (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) حتى أصبحوا أثرا بعد عين ، وجثثا هامدة لا حراك فيها ، وتم استئصالهم ، وحصدوا بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل ، وصاروا خامدين ميتين.

٣ ـ لما بيّن الله تعالى إهلاك أهل القرية لأجل تكذيبهم ، أتبعه بما يدل على أنه فعل ذلك عدلا منه ، ومجازاة على ما فعلوا ، وهو خلق السموات والأرض بالعدل والقسط : (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) [الدخان ٤٤ / ٣٩] فهو تعالى خلقها لفوائد دينية ودنيوية ، أما الدينية : فليتفكر المتفكرون فيها ، كما قال تعالى : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [آل عمران ٣ / ١٩١] وأما الدنيوية : فلما يتعلق بها من المنافع التي لا تعدّ ولا تحصى.

وبما أن خلق السموات والأرض حق لا لعب فيه ، فإن المعجزات التي ظهرت على يد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي حق أيضا لا لعب فيها ، تقرر صحة نبوته ، وترد على منكريها.

٤ ـ إن خلق السموات والأرض للتنبيه على أن لها خالقا قادرا يجب امتثال أمره ، وأنه يجازي المسيء والمحسن ، وليس خلقها ليظلم بعض الناس بعضا ،

٢٩

ويكفر بعضهم ، ويخالف بعضهم ما أمر به ، ثم يموتوا ولا يجازوا ، فذلك هو اللعب بعينه.

٥ ـ تعالى الله وتقدس وتنزه عن اتخاذ الزوجة والولد ، فذلك من اللهو ، ولو أراد الله أن يتخذ لهوا من زوجة أو ولد لاتخذه من عنده لا من عند الناس.

وهذا رد واضح على من قال : المسيح أو عزير ابن الله ، والأصنام أو الملائكة بنات الله تعالى.

٦ ـ يبين الله تعالى الحق ومنهجه لدحر الباطل وزخارفه ، والحق هنا : القرآن ، والباطل: الشيطان وكذب الكفار ووصفهم الله عزوجل بغير صفاته من الولد وغيره. وللكفار الويل ، أي العذاب في الآخرة بسبب وصفهم الرب بما لا يجوز وصفه وهو اتخاذه سبحانه الولد.

٧ ـ إذا كان كل من في السموات والأرض لله خلقا وملكا ، فكيف يجوز أن يشرك به ما هو عبده وخلقه؟!

وأما الملائكة الذين ذكر المشركون أنهم بنات الله فلا يأنفون عن عبادة الله والتذلل له ، ولا يعيون ولا يتعبون ولا يملون ، وهم دائما في الليل والنهار يصلون ويذكرون الله وينزهونه دائما ، لا يضعفون ولا يسأمون ، يلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النّفس. سئل كعب عن تسبيح الملائكة : أما لهم شغل عن التسبيح ، أما يشغلهم عنه شيء؟ فقال : يا بان أخي ، هل يشغلك شيء عن النّفس؟ إن التسبيح لهم بمنزلة النفس. وقد استدل بهذا من قال : إن الملائكة أفضل من بني آدم (١).

وهذا دليل على استغناء الله تعالى عن طاعة الكفار ؛ لأنه هو المالك لجميع

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١١ / ٢٧٨

٣٠

المخلوقات ، وإنما فائدة الطاعة تعود على الطائعين أنفسهم ، فأجدر بهم أن يطيعوه ، وأولى بهم أن يعبدوه ، بل يجب عليهم طاعته والانقياد لحكمه ؛ لأن كل المكلفين في السماء والأرض عبيده ، وهو الخالق لهم ، والمنعم عليهم بأصناف النعم.

توبيخ المشركين وإثبات الوحدانية

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩))

الإعراب :

(مِنَ الْأَرْضِ) صفة لآلهة ، أو متعلقة بالفعل ، على معنى الابتداء ، وفائدتها التحقير لا التخصيص.

٣١

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ) : (إِلَّا) : في موضع (غير) وهي وصف ل (آلِهَةٌ) وتقديره : غير الله ، ولهذا أعربت إعراب الاسم الواقع بعد (إِلَّا) وهو الرفع. ولا يجوز أن يكون الرفع على البدل ؛ لأن البدل إنما يكون في النفي لا في الإثبات ، وهذا في حكم الإثبات. وذهب الفراء إلى أن (إِلَّا) بمعنى «سوى».

(ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) ذكر غير منون : مضاف إلى (مِنْ) الذي هو مضاف إليه. ويقرأ بتنوين على تقدير محذوف ، أي ذكر ذكر من معي.

(لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) منصوب بيعلمون. وقرأ الحسن (الْحَقَ) بالرفع بتقدير مبتدأ محذوف ، أي هو الحق.

(بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ عِبادٌ) : خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : بل هم عباد مكرمون.

وأجاز الفراء : بل عبادا مكرمين على تقدير : بل خلقهم عبادا مكرمين.

البلاغة :

(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) طباق السلب.

(قُلْ : هاتُوا بُرْهانَكُمْ) تبكيت للخصم.

(أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ) فيهما جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(أَمِ اتَّخَذُوا) أي بل اتخذوا ، للانتقال ، والهمزة لإنكار اتخاذهم (آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) أي آلهة كائنة من الأرض ، كحجر وذهب وفضة (هُمْ يُنْشِرُونَ) أي الآلهة يحيون الموتى من قبورهم ، من أنشره : أي أحياه؟ لا ، فلا يكون إلها إلا من يحيي الموتى ، فالنشر : إحياء الموتى من قبورهم ، والحشر : سوقهم إلى أرض المحشر.

(لَوْ كانَ فِيهِما) أي في السموات والأرض (إِلَّا اللهُ) غيره (لَفَسَدَتا) لبطلتا وخربتا وخرجتا عن نظامهما المشاهد ؛ لما يكون بينهما من الاختلاف والتمانع ، على وفق العادة ، فإنه عند تعدد الحاكم والاتفاق في المراد ، يحدث التنافر في القدرات ، إذ بأي قدرة لهما سيوجد؟! وعند الاختلاف يحدث التمانع في الشيء وعدم وجوده ، مثلا لو اختلفا في تحريك زيد وتسكينه ، فلا يمكن حدوث المرادين لاستحالة الجمع بين الضدين ، ولا يمكن حدوث أحد المرادين لمعارضة الآخر ، وإذا حدث كان أحد الإلهين قادرا والآخر عاجزا ، والعجز نقص ، وهو على الله محال.

٣٢

(فَسُبْحانَ اللهِ) تنزيها لله عما وصفوه به (رَبِّ الْعَرْشِ) خالق الكرسي (عَمَّا يَصِفُونَ) أي تنزيها لله عما يصف الكفار الله به من الشريك له ، وغير ذلك.

(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) لعظمته وقوة سلطانه وتفرده بالألوهية والسلطنة الذاتية (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) عن أفعالهم ؛ لأنهم مملوكون مستعبدون ، والضمير للآلهة المزعومة أو للعباد.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) أي بل اتخذوا من دون الله تعالى أي سواه آلهة ، وفيه استفهام توبيخ ، وكرره استعظاما لكفرهم ، وتبكيتا ، وإظهارا لجهلهم ، والمعنى : أوجدوا آلهة ينشرون الموتى ، فاتخذوهم آلهة ، لما وجدوا فيهم من خواص الألوهية ، أو وجدوا في الكتب الإلهية الأمر بإشراكهم ، فاتخذوهم تنفيذا للأمر ، ثم أبان فساد الأول عقلا ، والثاني نقلا ، فقال :

(قُلْ : هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي أحضروا برهانكم على ذلك من العقل أو النقل ، فإنه لا يصح القول بما لا دليل عليه.

(هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) أي هذا هو القرآن المنزل على من معي أي على أمتي أي عظة لهم (وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) أي والكتب السماوية المنزلة على الأمم قبلي وهي عظة لهم ، وهي التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله ، ليس في واحد منها أن مع الله إلها ، مما قالوا. وإنما فيها الأمر بالتوحيد ، والنهي عن الإشراك. وإضافة الذكر إليهم ؛ لأنه عظتهم.

(لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) أي توحيد الله ، ولا يميزون بين الحق والباطل (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن التوحيد واتباع الرسول من أجل ذلك ، وعن النظر الموصل إليه.

(فَاعْبُدُونِ) أي وحدوني (وَلَداً) من الملائكة (سُبْحانَهُ) تنزيه له عن ذلك. (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) أي بل هم (عِبادٌ) مخلوقون ، عنده (مُكْرَمُونَ) : مقربون لديه ، والعبودية تنافي الولادة ، فليسوا بأولاد.

(لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) أي لا يتكلمون حتى يأمرهم ، ولا يأتون بقولهم إلا بعد قوله (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) لا يعملون قط ما لم يأمرهم به ، ويعملون بعد أمره (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي يعلم ما عملوا وما هم عاملون ، لا يخفى عليه خافية مما قدموا وأخروا ، وهو كالعلة لما قبله ، والتمهيد لما بعده ، وبذلك يضبطون أنفسهم ، ويراقبون أحوالهم. (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) أن يشفع له ، مهابة منه (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ) أي من عظمته ومهابته تعالى (مُشْفِقُونَ) خائفون مرتعدون.

(وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ) من الملائكة أو من الخلائق (إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) أي غير الله وهو إبليس ، دعا إلى عبادة نفسه ، وأمر بطاعتها (فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) هذا تهديد للمشركين بتهديد مدعي الربوبية (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) المشركين أي من أظلم بالإشراك وادعاء الربوبية.

٣٣

المناسبة :

ما تقدم من أول السورة إلى هنا كان في النبوات ، وما يتعلق بها سؤالا وجوابا ، وأما هذه الآيات فإنها في بيان التوحيد ، ونفي الشريك.

التفسير والبيان :

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) أي بل اتخذ المشركون آلهة من الأرض من دون الله يحيون الموتى من قبورهم ، أي لا يقدرون على شيء من ذلك ، فكيف جعلوها لله ندا وعبدوها معه؟! قال الزمخشري : و (أَمِ) هنا ـ أي مع الاستفهام ـ هي المنقطعة الكائنة بمعنى «بل» الإضرابية ، والهمزة قد آذنت بالإضراب عما قبلها ، والإنكار لما بعدها ، وهو اتخاذهم آلهة ينشرون الموتى.

والمراد بالآية التذكير بخواص الألوهية التي منها إحياء الموتى من قبورهم ، فإن المشركين وإن لم يصرحوا بذلك ، فإنهم بادعائهم الألوهية لها يثبتون تلك الصفة لها. ووصف الآلهة بكونها من الأرض إشارة إلى أنها من الأصنام المعبودة في الأرض. وهذا تهكم بهم وتوبيخ وتجهيل لهم.

ثم أثبت الله تعالى التوحيد ونفي وجود إله غير الله ، فقال :

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) أي لو كان في السموات والأرض آلهة غير الله لخربتا وفسد نظامها ؛ لأنهما إذا اختلفا وقع الاضطراب والخلل والفساد ، وإن اتفقا في التصرف في الكون ، فلا داعي للتعدد ؛ لأنه يؤدي إلى وجود الخلق والأمر والمقدور من خالقين قادرين على مخلوق واحد ، وهذا محال ؛ لأنه يجعل وقوع المقدور والمراد للاثنين ، لا لواحد منهما ، وهذا لا يصح ؛ لأن لكل منهما إرادة مستقلة بالتأثير ، فلا يعقل وقوع مخلوق لخالقين.

وبناء عليه يكون جميع ما في هذا العالم العلوي والسفلي من المخلوقات دليل وحدانية الله تعالى ، لذا قال :

٣٤

(فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تنزه الله تعالى وتقدس عن الذي يفترون ويقولون : إن له ولدا أو شريكا ، وتعالى عما يأفكون علوا كبيرا ، فهو رب العرش المحيط بهذا الكون.

ونظير الآية : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ ، وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ، سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٩١].

وتأكيدا لهذا التنزيه قال تعالى :

(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ، وَهُمْ يُسْئَلُونَ) أي لا يسأل تعالى عن أفعاله ، فهو الحاكم الذي لا معقّب لحكمه ، ولا يعترض عليه أحد ، لعظمته وجلاله وكبريائه ، وعلمه وحكمته ، وعدله ولطفه ، وإنما يسأل خلقه عن أفعالهم ، ما عملوا وما سيعملون ، وهذا كقوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر ١٥ / ٩٢ ـ ٩٣] وقوله سبحانه : (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) [المؤمنون ٢٣ / ٨٨].

ثم كرر تعالى الإنكار على المشركين استفظاعا لشأنهم ، واستعظاما لكفرهم فقال : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ : هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي أيصح بعد هذه الأدلة أن يتخذوا آلهة دون الله ، ويصفوا الله بأن له شريكا؟ فإن وصفتم الله تعالى بأن له شريكا ، فهاتوا برهانكم على ذلك ، إما من العقل وإما من الوحي ، فإنكم لا تجدون كتابا من كتب الأولين كالتوراة والإنجيل إلا وفيه تقرير توحيد الله وتنزيهه عن الشركاء ، كما أن العقل كما تقدم يرفض وجود إلهين ، وأشار فيما يأتي إلى الدليل النقلي فقال :

(هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) أي هذا الوحي الوارد في معنى توحيد الله ونفي الشركاء عنه ، ورد علي ، كما ورد على جميع الأنبياء ، فهو ذكر

٣٥

أي عظة للذين معي أي أمتي ، وعظة للذين من قبلي أي أمم الأنبياء السابقين عليهم‌السلام. وبذلك اتفق القرآن وجميع الكتب السماوية السابقة على الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك ، وهذا تبكيت للمشركين يتضمن نقيض مدّعاهم.

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) أي بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعرفون الحق ، ويعرضون عنه ، ولا يميزون بين الحق والباطل ، فلا تنفع فيهم الأدلة والبراهين.

(فَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي فهم لجهلهم معرضون عن قبول الحق وعن النظر المؤدي إليه. وهذا دليل على أن الجهل أو عدم العلم هو أصل الشر والفساد كله ، وأنه يترتب على عدم العلم الإعراض عن استماع الحق وطلبه.

وتأكيدا لمضمون الكتب والرسالات السماوية بالتوحيد ونبذ الشرك قال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ..) أي لم نرسل رسولا سابقا من عهد آدم عليه‌السلام إلى قومه إلا أوحينا إليه ألا معبود إلا الله ، فاعبدوه مخلصين له العبادة ، وخصوه بالألوهية ، فرسالات جميع الأنبياء قائمة على التوحيد ، وكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٤٥] وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل ١٦ / ٣٦].

والخلاصة : أنه لا دليل للمشركين على ما زعموا ، فلا برهان لهم ، وحجتهم داحضة ؛ لأن الفطرة تشهد بتوحيد الله ، وكذلك العقل السليم ، ورسالات جميع الأنبياء متحدة في دفع الشرك وإقرار التوحيد.

وبعد التنزيه عن الشريك ، نفى تعالى اتخاذ الولد فقال :

٣٦

(وَقالُوا : اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) أي وقال بعض العرب وهم بطون من خزاعة وجهينة وبني سلمة : الملائكة بنات الله ، فرد الله عليهم بقوله :

(سُبْحانَهُ) أي تنزيها له عن الولد ، فإن الولد يشبه أباه في شيء ، ويخالفه في أشياء ، فلو كان لله ولد لأشبهه من بعض الوجوه ، وخالفه من وجوه أخرى ، فيقع التركيب في ذات الله تعالى ، والله سبحانه منزه عن مشابهة الحوادث ، ولا مجانسة بين الخالق والمخلوق.

ولما نزه سبحانه نفسه عن الولد ، أخبر عن الملائكة بقوله :

(بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) أي ليس الملائكة بنات الله ، بل هم عباد مخلوقون له ، مقربون لديه ، والعبودية تنافي الولادة ، إلا أنهم مفضلون على سائر العباد. ومن خصائصهم أنهم :

١ ـ (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) أي لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم ، ولا يخالفونه فيما أمرهم به ، بل يبادرون إلى فعله ، وهو تعالى عالم محيط علمه بهم ، فلا يخفى عليه منهم خافية ، كما قال :

٢ ـ (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي يعلم ما تقدم منهم من عمل ، وما هم عاملون في المستقبل ، أي كما أن قولهم تابع لقول الله ، فعملهم أيضا مبني على أمره ، لا يعملون عملا ما لم يؤمروا به ، وجميع ما يأتون ويذرون في علم الله واطلاعه ، وهو مجازيهم عليه ، فلا يزالون يراقبونه في جميع أحوالهم ، ويضبطون أنفسهم عن أي مخالفة لأمره.

٣ ـ (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) أي لا يجسرون أن يشفعوا إلا لمن ارتضاه الله ، وأهّله للشفاعة ، فلا تعلقوا الآمال على شفاعتهم بغير رضا الله تعالى.

٣٧

٤ ـ (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) أي إنهم مع هذا كله من خوف الله ورهبته خائفون حذرون مراقبون ربهم.

وبعد أن وصف كرامتهم عليه وقرب منزلتهم عنده ، ووصفهم بتلك الأفعال السنية ، فاجأ من أشرك منهم بالوعيد الشديد ، وأنذرهم بعذاب جهنم ، فقال :

(وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ : إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ ، فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) أي ومن يدّعي منهم على سبيل الافتراض أنه إله من دون الله ، أي مع الله ، كإبليس حيث ادعى الألوهية ، ودعا إلى عبادة نفسه ، فجزاؤه جهنم على ما ادّعى. وأما الملائكة فلم يقل أحد منهم : إني إله غير الله.

(كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي مثل ذلك الجزاء نجزي كل من ظلم نفسه ، وقال ذلك ، وهم المشركون. قال ابن كثير : وهذا شرط ، والشرط لا يلزم وقوعه ، كقوله : (قُلْ : إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ ، فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) [الزخرف ٤٣ / ٨١]. وقوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ، وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الزمر ٣٩ / ٦٥].

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ الإنكار الشديد على من اتخذ آلهة أخرى مع الله ، وتوبيخ المشركين على اتخاذهم آلهة ليس لها خواص الألوهية ، ومنها الإحياء بعد الإماتة وهو النشر.

٢ ـ إن تعدد الآلهة سبب مؤد لفساد نظام العالم والكون من السموات والأرض ، وتخريبها وهلاك من فيهما بوقوع التنازع والاختلاف الواقع بين الشركاء عادة ، لذا نزّه الله تعالى نفسه ، وأمر العباد أن ينزهوه عن أن يكون له شريك أو ولد.

٣٨

وقد استدل الرازي بأدلة أخرى عقلية ونقلية على وحدانية الله تعالى ، وهي اثنان وعشرون دليلا ، أربعة عشر منها عقلية ، وثمانية نقلية سمعية ، وأقوى الأدلة العقلية : أنه لو فرضنا وجود إلهين ، لافتقر أحدهما إلى الآخر ؛ لأنه يصبح مركبا من ذاته ومما يشاركه به الآخر ، وكل مركب هو مفتقر إلى جزئه ، وكل مفتقر إلى غيره ممكن ، والإله واجب الوجود لذاته غير ممكن لذاته ، فإذن ليس واجب الوجود إلا الواحد ، وكل ما عداه مفتقر إليه ، وكل مفتقر إلى غيره فهو محدث ، فكل ما سوى الله تعالى محدث.

ومن الأدلة النقلية هذه الآية : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) وهو كقوله : (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) [المؤمنون ٢٣ / ٩١] وقد صرح الله تعالى بكلمة : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في سبعة وثلاثين موضعا من القرآن ، وصرح بالوحدانية في موضعين فقط ، وهما قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [البقرة ٢ / ١٦٣] وقوله : (قُلْ : هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص ١١٢ / ١] (١).

٣ ـ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، أي لا يسأله الخلق عن قضائه في خلقه ، وهو يسأل الخلق عن عملهم ؛ لأنهم عبيد. وهذا يدل على أن من يسأل غدا عن أعماله ، كالمسيح والملائكة لا يصلح للألوهية ، وعلى كون المكلفين مسئولون عن أفعالهم.

روي عن علي رضي‌الله‌عنه أن رجلا قال له : يا أمير المؤمنين : أيحب ربنا أن يعصى؟ قال : أفيعصى ربّنا قهرا؟ قال ـ أي الرجل ـ : أرأيت إن منعني الهدى ، ومنحني الردى أأحسن إليّ أم أساء؟ قال : إن منعك حقك فقد أساء ، وإن منعك فضله ، فهو فضله يؤتيه من يشاء ، ثم تلا : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ، وَهُمْ يُسْئَلُونَ).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٢ / ١٥٢ ـ ١٥٤

٣٩

وعن ابن عباس قال : لما بعث الله عزوجل موسى وكلّمه ، وأنزل عليه التوراة ، قال : اللهم إنك رب عظيم ، لو شئت أن تطاع لأطعت ، ولو شئت ألا تعصى ما عصيت ، وأنت تحب أن تطاع ، وأنت في ذلك تعصى ، فكيف هذا يا ربّ؟ فأوحى الله إليه : إني لا أسأل عما أفعل ، وهم يسألون.

٤ ـ أعاد الله تعالى في الآيات التعجب من اتخاذ الآلهة من دون الله ، مبالغة في التوبيخ ، على وصفهم المتقدم في الإنشاء والإحياء ، فتكون (أَمِ) بمعنى هل ، أي هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من دون الله؟ فليأتوا بالبرهان على ذلك.

وقيل : إن التعجب الأول : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) احتجاج من حيث المعقول ؛ لأنه قال : (هُمْ يُنْشِرُونَ) أي يحيون الموتى. والثاني (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) احتجاج بالمنقول ، أي هاتوا برهانكم من الكتب السماوية ، ففي أي كتاب نزل هذا؟ في القرآن ، أم في الكتب المنزلة على سائر الأنبياء؟!

٥ ـ إن الجهل هو المصدر الأصيل في فساد عقائد المشركين : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ).

٦ ـ جميع الرسل والأنبياء أوحى الله إليهم أنه لا إله إلا الله ، فأدلة العقل شاهدة أنه لا شريك له ، والنقل عن جميع الأنبياء موجود ، والدليل إما معقول وإما منقول. قال قتادة : لم يرسل نبي إلا بالتوحيد ، والشرائع مختلفة في التوراة والإنجيل والقرآن ، وكل ذلك على الإخلاص والتوحيد. أي إن دعوة الرسل جميعا جاءت لبيان التوحيد.

٧ ـ ردّ الله تعالى على بعض العرب الذين كانوا يقولون : الملائكة بنات الله بتنزيه نفسه عن اتخاذ الولد ، قيل : نزلت آية (وَقالُوا : اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً

٤٠