التفسير المنير - ج ١٧

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة الأنبياء

مكية ، وهي مائة واثنتا عشرة آية

تسميتها :

سميت سورة الأنبياء لتضمنها الحديث عن جهاد الأنبياء المرسلين مع أقوامهم الوثنيين ، بدءا من قصة أبي الأنبياء إبراهيم عليه‌السلام بإسهاب وتفصيل ، ثم إسحاق ، ويعقوب ، ولوط ، ونوح ، وداود ، وسليمان ، وأيوب ، وإسماعيل ، وإدريس ، وذي الكفل ، وذي النون : يونس ، وزكريا ، وعيسى ، إلى خاتم النبيين محمد صلوات الله وسلامه عليهم ، وذلك بإيجاز يدل على مدى ما تعرضوا له من أهوال وشدائد ، فصبروا عليها ، وضحوا في سبيل الله ، لإسعاد البشرية.

مناسبتها لما قبلها :

تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من ناحيتين :

الأولى :

الإشارة إلى قرب الأجل المسمى للعذاب ، ودنو الأمل المنتظر ، فقال تعالى في آخر سورة طه : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) ثم قال : (قُلْ : كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا) وقال تعالى في مطلع هذه السورة : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ).

٥

والثانية :

التحذير من الاغترار بالدنيا ، والعمل للآخرة ، فقال تعالى في آخر سورة طه : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ..) فإن قرب الساعة يقتض الإعراض عن زهرة الحياة الدنيا ؛ لدنوها من الزوال والفناء ، وختمت سورة الأنبياء بمثل ما بدئت به السورة المتقدمة ، فأبان الله تعالى أنه بالرغم من قرب الساعة والحساب ، فإن الناس غافلون عنها ، ولاهون عن القرآن والاستماع إليه.

فضلها ومزيتها :

ورد في فضل هذه السورة أحاديث صحاح منها :

ما رواه البخاري عن عبدالله بن مسعود قال : «بنو إسرائيل ، والكهف ، ومريم ، وطه ، والأنبياء : هن من العتاق الأول ، وهن من تلادي» أي من قديم ما حفظ من القرآن ، كالمال التّلاد.

ولما نزلت هذه السورة قيل لعامر بن ربيعة رضي‌الله‌عنه : هلا سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها؟ فقال: «نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا».

مشتملاتها :

موضوع السورة بيان أصول العقيدة الإسلامية ومبادئها وهي التوحيد ، والرسالة النبوية ، والبعث والجزاء ، وقد بدأت بوصف أهوال القيامة ، ثم ذكرت قصص جملة من الأنبياء الكرام عليهم‌السلام ، كما تقدم.

كانت البداية مرهبة مرعبة ، منذرة محذّرة بقرب قيام الساعة ، والناس لاهون غافلون عنها وعن خطورة الحساب والعقاب ، معرضون عن سماع القرآن ، مفتونون بلذائذ الحياة الدنيا.

٦

ثم أوضحت السبب في إنكار المشركين في مكة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو أنه بشر مثلهم ، وعجزه عن الإتيان بآيات فذة ومعجزات باهرة مادية ، كما أتى بها الأنبياء السابقون مثل موسى وعيسى ، فرد القرآن عليهم بأن الأنبياء جميعا كانوا بشرا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ، ثم أنذرهم بالإهلاك ، كما أهلك بعض الأمم المتقدمة لتكذيبهم رسلهم ، ولفت أنظارهم إلى عظمة خلق السموات والأرض ، وإلى أن الملائكة طائعون لله ، منقادون لأمره ، ينفّذون ما أمروا به من التعذيب بسرعة لا تعرف التردد والانتظار ، ونعى على من ادعى أنهم بنات الله تعالى.

ثم ناقشهم القرآن في اتخاذهم آلهة من دون الله ، وطالبهم بالدليل على ادعائهم ، وأقام البرهان على وحدانية الله ؛ إذ لو كان في السماء والأرض آلهة إلا الله لفسدتا ، ووصف النشأة الأولى للسموات والأرض ، وأنهما كانتا رتقا ففصلتا ، وأبان أن الجبال أوتاد للأرض حتى لا تميد بأهلها ، وأن الله تعالى خالق الليل والنهار والشمس والقمر ، ثم تكون النهاية الموت والفناء لكل شيء ، حتى للملائكة والأنبياء ، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ، وأوضح أن استعجال الكافرين العذاب غباء وطلب في غير محله ؛ فإن العذاب قريب ، والساعة آتية لا ريب فيها ، وأنها تأتيهم بغتة فتبهتهم ، وأن موازين الحساب دقيقة وفي أتم عدل ، فلا يبخس أحد شيئا من حقه ، ولا يظلم إنسان مثقال حبة من خردل.

وتحقيقا لهاتيك الغايات وتأكيدا عليها ، جاءت الأمثال الواقعية تنذر وتذكّر ، من خلال إيراد قصص بعض الأنبياء كموسى وهارون ، وإبراهيم ولوط ، وإسحاق ويعقوب ، ونوح ، وداود وسليمان ، وأيوب وإسماعيل ، وإدريس وذي الكفل ، ويونس وزكريا ويحيى ، وعيسى عليهم‌السلام.

وأثبت القرآن عقب ذلك وحدة مهام الأنبياء وهي الدعوة إلى عبادة الله ، وتطمين المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالجزاء الحسن ، وأن الأمم المعذبة في الدنيا سترجع حتما إلى الله في الدار الآخرة لعذاب آخر.

٧

ومن علائم الساعة انفتاح سد يأجوج ومأجوج.

وفي القيامة عذاب شديد ، وأهوال شديدة يلقاها الكفار ، وأنهم مع أصنامهم حطب جهنم ، وفيها تتبدل الأرض غير الأرض وتطوى السموات كطي الكتب ، ويحظى الصالحون بالنعيم الأبدي ، ويرث الأرض من هو أصلح لعمارتها.

وختمت السورة ببيان كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رحمة للعالمين ، وأنه أوحي إليه بأن الإله واحد لا شريك له ، وأنه يجب الانقياد لحكمه ، وأنه ينذر الناس بعذاب قريب وأن مجيء الساعة واقع محتم ، وأن الإمهال به وتأخير العقوبة امتحان واختبار ، وأن الله يحكم بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أعدائه المشركين ، وأنه المستعان على افتراءاتهم واتهاماتهم.

غفلة الناس عن الحساب يوم القيامة ودليل ذلك

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦))

٨

الإعراب :

(مُحْدَثٍ) صفة (ذِكْرٍ) وأجاز الفرّاء رفعه على النعت حملا على موضع (مِنْ ذِكْرٍ) و (مِنْ) : زائدة ، مثل قوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف ٧ / ٥٩ وغيرها] وأجاز الكسائي نصبه على الحال.

(وَهُمْ يَلْعَبُونَ) جملة اسمية في موضع حال من واو (اسْتَمَعُوهُ).

(لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ لاهِيَةً) : حال من ضمير (يَلْعَبُونَ) و (قُلُوبُهُمْ) : فاعله ، مثل (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) [الأنعام ٦ / ١٤١] لأن اسم الفاعل إذا وقع حالا ارتفع الاسم به كالفعل.

(وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الَّذِينَ) إما مرفوع أو منصوب أو مجرور ، والرفع إما على أنه بدل من واو (أَسَرُّوا) وإما أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هم الذين ظلموا ، وإما أنه مبتدأ خبره محذوف أي يقولون : ما هذا إلا بشر ، وإما فاعل أسروا على لغة «أكلوني البراغيث» والنصب بتقدير : أعني ، والجر على أنه نعت ل «الناس».

(هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ ، وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) الكلام كله في محل نصب بدلا من النجوى ، أي وأسروا هذا الحديث ، ويجوز أن يتعلق بقالوا بمعنى اعتقدوا.

البلاغة :

(وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) التنكير للتعظيم والتهويل.

(السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) صيغة مبالغة.

(بَلْ قالُوا : أَضْغاثُ أَحْلامٍ ، بَلِ افْتَراهُ ، بَلْ هُوَ شاعِرٌ) فيه إضراب ترقي ، يدل على أن قولهم الثاني أفسد من الأول ، والثالث أفسد من الثاني ، وذلك كله دليل الاضطراب والتردد والتحرير في وصف القرآن ، وتزييف الحقائق.

المفردات اللغوية :

(اقْتَرَبَ) قرب أي اقترب زمان الحساب ، والمراد اقتراب الساعة ، وأصله : اقترب حساب الناس ، وإذا اقتربت الساعة فقد اقترب ما يكون فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك. (لِلنَّاسِ) أي جميع المكلفين من الناس. وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : إن المراد بالناس : المشركون ، وهذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه ، بدليل الوصف التالي : (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ

٩

مُعْرِضُونَ) وصفهم بالغفلة مع الإعراض ، والغفلة في الأصل : عدم تذكر الشيء ، والمراد هنا : الترك إهمالا وإعراضا. والإعراض : الإضراب والتولي عن الشيء ، والمراد هنا الإعراض عن التأهب للحساب بالإيمان.

(مِنْ ذِكْرٍ) أي قرآن ينبّه من الغفلة والجهالة (مُحْدَثٍ) أي جديد إنزاله ، منزّل شيئا فشيئا ، أتى به لتكرير التنبيه لأسماعهم كي يتعظوا (يَلْعَبُونَ) يستهزئون ويسخرون (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) غافلة ساهية متشاغلة عن التأمل وتفهم معناه (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) أي أسروا التناجي والكلام ، والمراد : أنهم أخفوا التناجي وبالغوا في الإخفاء (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي أسروا هذا الحديث ، أو قالوا بمعنى اعتقدوا ، والمراد : هل هذا أي محمد إلا بشر مثل الناس ، وكل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة هو ساحر ، ومعجزته سحر ، ولذلك قالوا : (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أي أتتبعون السحر ، وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر؟!

(قالَ : رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي قال لهم محمد : الله يعلم القول كائنا في السماء والأرض ، جهرا كان أو سرا ، فضلا عما أسرّوا به (وَهُوَ السَّمِيعُ) لما أسروه (الْعَلِيمُ) بما قالوا ، فلا يخفى عليه ما تسرون ، ولا ما تضمرون.

(بَلْ) للانتقال من غرض إلى آخر ، ولا تذكر في القرآن إلا على هذا النحو (قالُوا : أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أي إنهم قالوا : إن ما أتى به من القرآن تخاليط أحلام رآها في النوم ، فهم أضربوا عن قولهم : هو سحر إلى أنه أخلاط أحلام (بَلِ افْتَراهُ) أي اختلقه من عنده ، فهم أضربوا ثانية إلى أنه كلام افتراء (بَلْ هُوَ شاعِرٌ) أي ثم أضربوا إلى أنه قول شاعر ، فما أتى به هو شعر ، والانتقال في المواضع الثلاثة للدلالة على التردد والتحير في وصف القرآن (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ ..) أي كناقة صالح ، وعصا موسى ويده ، ومعجزات عيسى كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى.

(ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) أي ما آمن أهل قرية أهلكناها بتكذيب ما أتاها من الآيات التي جاءتهم لما اقترحوها (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) لو جئتهم بها ، وهم أعتى منهم؟ لا. وفيه تنبيه على أن عدم الإتيان بالمقترح للإبقاء عليهم ؛ إذ لو أتى به ، ولم يؤمنوا ، استوجبوا عذاب الاستئصال ، كمن قبلهم.

سبب النزول : نزول الآية (٦):

أخرج ابن جرير عن قتادة قال : قال أهل مكة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن كان ما تقول حقا ، ويسرّك أن تؤمن ، فحوّل لنا الصفا ذهبا ، فأتاه جبريل عليه

١٠

السلام ، فقال : إن شئت كان الذي سألك قومك ، ولكنه إن كان ، ثمّ لم يؤمنوا ، لم ينظروا ، وإن شئت استأنيت بقومك ، قال : بل أستأني بقومي ، فأنزل الله : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها ، أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ).

التفسير والبيان :

ينبه الله تعالى على اقتراب الساعة ودنوها فيقول : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ ..) أي قرب زمان حساب الناس على أعمالهم في الدنيا ، وهو اقتراب الساعة ، ولكن الناس في حياتهم ساهون غافلون ، لاهون معرضون عن التأهب للحساب ، والتفكر بالآخرة ، بالمبادرة إلى الإيمان.

والمراد بالناس في رأي ابن عباس المشركون منكرو البعث ، بدليل قوله تعالى : (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) إلى قوله : (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) وذلك للإشارة إلى أن البعث لا ريب فيه.

والظاهر أن لفظ الآية يتناول عموم الناس ، وإن كان المشار إليه في ذلك الوقت كفار قريش ، بدليل ما بعد ذلك من الآيات ، فتكون الآية لوقف الأطماع ، والحث على الإقبال على الإيمان ، فمن علم اقتراب الساعة ، بادر إلى التوبة ، ولم يركن إلى الدنيا ، فكل آت قريب ، والموت لا محالة آت ، وموت كل إنسان قيام ساعته ، والقيامة أيضا قريبة بالنسبة إلى ما مضى من الزمان. قال الرازي : يجب أن يكون المراد بالناس من له مدخل في الحساب وهم المكلفون ، دون من لا مدخل له.

روي أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يبني جدارا ، فمرّ به آخر في يوم نزول هذه السورة ، فقال الذي كان يبني الجدار : ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال الآخر : نزل : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ

١١

مُعْرِضُونَ) فنفض يده من البنيان ، وقال : والله ، لا بنيت أبدا وقد اقترب الحساب.

وفي الآية دليل على قرب القيامة ، لذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي عن أنس : «بعثت أنا والساعة كهاتين».

ثم استدل الله تعالى على غفلة الناس ، فقال :

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) أي ما يأتي أولئك الكفار من قريش وأشباههم من قرآن جديد إنزاله ، ينزل سورة سورة ، وآية آية ، على وفق المناسبات والوقائع ، إلا استمعوه وهم لاهون ساخرون مستهزءون ، متشاغلة قلوبهم عن التأمل وتفهم معناه.

وهذا ذم صريح للكفار ، وزجر لأمثالهم عن تعطيل الانتفاع بما يحقق لهم السعادة في الدنيا والآخرة.

وقوله (مُحْدَثٍ) لا يوهم كون القرآن مخلوقا ، فإن الحروف المنطوق بها ، والصوت المسموع حادث بلا شك ، وأما أصل القرآن الذي هو كلام الله تعالى النفسي فهو قديم بقدم الله تعالى وصفاته القدسية.

ثم وصف الله تعالى موقف الكفار عند نزول القرآن فقال :

(وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي وأخفوا التناجي والكلام فيما بينهم ، بل وبالغوا في الإخفاء حتى لا يطلع أحد على تناجيهم ، قائلين :

(هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ؟) أي هل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بشر كغيره من الناس ، أمثالكم في تكوينه وعقله وتفكيره ، فكيف يختص بالرسالة دونكم؟ وهذا ناشئ من اعتقادهم أن الرسول النبي لا يكون إلا ملكا ، وأن كل من ادّعى الرسالة من

١٢

البشر ، وجاء بالمعجزة هو ساحر ، ومعجزته سحر ، فلذلك قالوا على سبيل الإنكار :

(أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ)؟ أي أفتتبعونه ، فتكونون كمن يأتي السحر ، وهو يعلم أنه سحر ، أو أتصدقون بالسحر ، وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر؟!

فهم يستبعدون كون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيا ؛ لأنه بشر مثلهم ، والرسول لا يكون إلا ملكا ، وأما ما أتى به من القرآن فهو سحر.

وإنما أسروا الحديث بينهم في ذلك للتشاور في المخلص ، والتوصل إلى أنجع الطرق لهدم دينه.

فأجابهم تعالى عما افتروه واختلقوه من الكذب بقوله :

(قالَ : رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي قال لهم الرسول بأمر من الله مفتضحا أسرارهم : لا تخفوا ما تقولون ، فإن الله ربي وربكم يعلم ذلك ، لا يخفى عليه خافية من أمر السماء والأرض وما يحدث فيهما من أقوال وأفعال ، وهو الذي أنزل القرآن المشتمل على خبر الأولين والآخرين ، وهو السميع لأقوالكم ، العليم بأحوالكم.

وفي هذا تهديد لهم ووعيد.

وإنما قال : (يَعْلَمُ الْقَوْلَ) ولم يقل : يعلم السر ؛ لقوله المتقدم : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) لأن القول عام يشمل السر والجهر ، وعلمه بالأمرين على سواء ، لا تفاوت فيه ، خلافا لمعلومات الناس ، فكان التعبير شاملا للعلم بالسر وزيادة ، وكان آكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول : يعلم السرّ.

ثم أخبر الله تعالى عن تخبط الكفار ، وتعنتهم وإلحادهم ، وحيرتهم وضلالهم ،

١٣

وترددهم في وصف القرآن ، واختلافهم في ذلك ، فقال :

(بَلْ قالُوا : أَضْغاثُ أَحْلامٍ ، بَلِ افْتَراهُ ، بَلْ هُوَ شاعِرٌ) أي إنهم وصفوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا بأنه ساحر وأن ما يقوله سحر ، ثم أضربوا عن قولهم : هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام رآها في المنام ، ثم إلى أنه كلام مفترى مختلق من عنده ، ثم إلى أنه قول شاعر.

وهذا الاضطراب والتردد والتحير دليل على أن قولهم باطل ، يشوه الحق ، ويزيف الحقائق ، فهم إما جاهلون بحقيقة ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو عارفون الحقيقة ، ولكنهم مكابرون يائسون يأس المهزوم المغلوب ، فقالوا : إنه سحر وكذب.

ولما فرغوا من تعداد هذه الاحتمالات ، وترداد هذه المزاعم قالوا :

(فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) أي إن كان محمد صادقا في أنه رسول من عند الله ، وأن القرآن الموحى به إليه كلام الله ، فليأتنا بآية جلية غير القرآن ، لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات ، كالآيات المنقولة عن الأنبياء السابقين ، مثل ناقة صالح ، وآيات موسى كالعصا واليد ، وعيسى كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، ونحو ذلك من المعجزات الحسية التي تثبت النبوة والرسالة.

وقوله : (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) يدل على أن تلك الآيات مسلّم بها عندهم ، وتحقّق المقصود.

ثم أجابهم تعالى عن هذا السؤال الأخير مفندا كذبهم ، ومشيرا إلى عدم إفادة الآيات المنزلة ، بسبب إمعانهم في الكفر ، فقال :

(ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها ، أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ)؟ أي ما أتينا أهل

١٤

قرية من القرى الذين بعث إليهم الرسل آية على يدي نبيهم ، فآمنوا بها ، بل كذبوا ، فأهلكناهم بذلك ، أفهؤلاء يؤمنون بالآيات لو رأوها دون أولئك؟

والمعنى : أنهم أشد عتوا من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات ، ووعدوا أنهم يؤمنون عند مجيئها ، فلما جاءتهم نكثوا العهد ، وخالفوا ، فأهلكهم الله ، فلو أعطيناهم ما يقترحون لكانوا أشد نكثا ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ ، حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس ١٠ / ٩٦ ـ ٩٧].

والخلاصة : أن عدم تلبية اقتراحاتهم هو في صالحهم ، إذ لو أجابهم تعالى لما طلبوا ، ثم بقوا على كفرهم وعنادهم ، لنزل بهم عذاب الاستئصال ، إلا أن حكمة الله اقتضت تأخير العذاب عنهم إلى الآخرة.

وأما سؤالهم فهو سؤال تعنت ، والله يعلم أنهم لا يؤمنون.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن قيام الساعة أمر محتم لا ريب فيه ، وهو قريب الحصول ، وأما مرور القرون السالفة من عهد البعثة إلى يومنا هذا وإلى ما شاءالله من أزمان ، فلا يدل على طول المدة ؛ لأن هذه القرون قصيرة جدا في عمر الدهر والتاريخ ، فما بقي من الدنيا أقل مما مضى.

٢ ـ الناس مع الأسف وبالرغم من قرب القيامة في غفلة وإعراض ، أما الغفلة : فهي السهو عن الحساب وعن التفكر في العاقبة المحتومة ، مع أن عقولهم تقتضي أنه لا بد من جزاء المحسن والمسيء.

١٥

وأما الإعراض : فهو الإمعان في البعد عن القرآن وترك آياته وعدم الإيمان بالله ، بالرغم من الانتباه من الغفلة والجهالة.

٣ ـ لقد عطل كفار قريش مفاتيح الهداية والانتفاع بنور القرآن ، وهزؤوا وسخروا من آيات الله التي تأخذ بيدهم إلى السعادة الدنيوية والأخروية.

٤ ـ احتج المعتزلة على حدوث القرآن بقوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ..) فقالوا : القرآن ذكر ، والذكر محدث ، فالقرآن محدث.

وأجابهم أهل السنة بأن المقصود بالإحداث : هو ما يسمع من حروف القرآن وأصواته ، فهذا حادث لا شك. أما القرآن الذي هو كلام الله تعالى فهو قديم بقدم الله سبحانه وصفاته الحسنى.

٥ ـ طعن كفار قريش في نبوة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمرين :

أحدهما ـ أنه بشر مثلهم.

والثاني ـ أن الذي أتى به سحر.

وكلا الطعنين مردود ؛ لأن النبوة تثبت بالمعجزات والدلائل ، لا بالصور ، فكونه بشرا لا يمنع نبوته ، ولو بعث إليهم الملك لما علم كونه نبيا لمجرد صورته ، بل الأولى أن يكون المبعوث إلى البشر بشرا ؛ لأن الإنسان يأنس بأمثاله ، وهو أقرب إلى قبول الشيء من أشباهه.

ثم إن ما أتى به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن وغيره لا تمويه فيه ولا تلبيس ، وليس فيه شيء من ظواهر السحر ، فقد تحداهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن ، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة ، فلو قدروا على المعارضة لأتوا بما يشبه القرآن ، فلما لم يأتوا بمثله ، دل ذلك على كونه معجزة في نفسه.

٦ ـ الحق أن قلوب الكفار ساهية معرضة عن ذكر الله ، متشاغلة عن التأمل

١٦

والتفهم لمعاني القرآن ، وقد تناجوا فيما بينهم بالتكذيب ، وتشاوروا ، فما صدر عن مشاوراتهم أعجب من موقفهم ، فوصفوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه ساحر ، وبأن ما أتى به سحر ، وقالوا : فكيف تجيئون إليه وتتبعونه ، وأنتم تشاهدون أنه إنسان مثلكم؟!

٧ ـ أطلع الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما تناجوا به ، وأعلمهم بأن الله لا يخفى عليه شيء مما يقال في السماء والأرض ، فسواء أسروا القول أم جهروا به ، فإن الله به عليم.

٨ ـ صور القرآن الكريم اضطراب كفار قريش وترددهم وحيرتهم في وصف النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي وصف القرآن بأشد أنواع الاستهجان ، فقالوا : إنه ساحر وما أتى به سحر ، ثم قالوا : إن ما أتى به أخلاط كالأحلام المختلطة ، رآها في المنام ، ثم قالوا : إنه افتراء ، ثم قالوا : إنه شاعر ، فهم متحيرون لا يستقرون على شيء ، قالوا مرة : سحر ومرة أضغاث أحلام ، ومرة افتراء ، ومرة شاعر.

ثم عدلوا عن ذلك إلى المطالبة بالآيات على صدق نبوته كالآيات التي ظهرت على يد موسى كالعصا واليد ، ومثل ناقة صالح ، ومثل إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بوساطة عيسى ، وإنما كان سؤالهم تعنتا ، فقد أعطاهم الله ما فيه الكفاية.

٩ ـ اقتضت حكمة الله ورحمته تأخير العذاب عن الكفار المنكرين للبعث ولبعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ لو أجابهم تعالى إلى مطلبهم ، لعجل لهم عذاب الاستئصال ، كما فعل بأهل القرى المتقدمين مثل قوم صالح وقوم فرعون ، فإنهم ما آمنوا بالآيات ، فاستؤصلوا ، فلو رأى هؤلاء ما اقترحوا لما آمنوا ؛ لما سبق من القضاء في علم الله بأنهم لا يؤمنون أيضا ؛ وإنما تأخر عقابهم لعلمه تعالى بأن في أصلابهم من يؤمن.

١٧

بشرية الرسل وإنجاز الوعد لهم وجعل القرآن عظة

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠))

الإعراب :

(فِيهِ ذِكْرُكُمْ ذِكْرُكُمْ) : مرفوع بالظرف ، ويجوز كونه مبتدأ ، و (فِيهِ) خبره ، والجملة في موضع نصب ؛ لأنها وصف كتاب.

(جَسَداً) على حذف مضاف أي ذوي جسد ، فتوحيد الجسد على حذف مضاف ، أو لإرادة الجنس أو لأنه مصدر في الأصل.

(لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) صفة لجسدا.

البلاغة :

(أَفَلا تَعْقِلُونَ)؟ إنكار توبيخي.

المفردات اللغوية :

(أَهْلَ الذِّكْرِ) هم هنا أهل الكتاب العلماء بالتوراة والإنجيل (جَسَداً) الجسد هو الجسم ، إلا أنه لا يطلق على غير الإنسان (خالِدِينَ) باقين دائمين في الحياة الدنيا (صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) أي نصرناهم على أعدائهم وأنجيناهم ، والمراد : صدقناهم في الوعد (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ) يعني المؤمنين المصدقين لهم ، ومن في إبقائه حكمة كمن سيؤمن هو أو أحد من ذريته ، ولذلك حمى الله العرب من عذاب الاستئصال (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) في الكفر والمعاصي ، المكذبين.

١٨

(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ) يا قريش (كِتاباً) يعني القرآن (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي فيه سمعتكم وصيتكم ، لقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف ٤٣ / ٤٤] أو فيه موعظتكم (أَفَلا تَعْقِلُونَ) تتدبرون ما فيه من المواعظ والعبر ، فتؤمنوا به.

المناسبة :

هذه الآيات جواب لقول كفار قريش : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) وهو أن سنة الله تعالى في الرسل قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إرسال رجال من البشر أنبياء ، فلا يكون الرسول إلا بشرا ، خلافا لما ينكرون ، فلا يصح اعتراضهم في كون محمد بشرا.

التفسير والبيان :

يرد الله تعالى على من أنكر بعثة الرسل من البشر بقوله : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ ...) أي إن جميع الرسل الذين تقدموا كانوا رجالا من البشر ، ولم يكن فيهم أحد من الملائكة ، كما قال تعالى في آية أخرى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [يوسف ١٢ / ١٠٩] وقوله سبحانه : (قُلْ : ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف ٤٦ / ٩] وقوله حكاية عمن تقدم من الأمم الذين قالوا : (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا)؟ [التغابن ٦٤ / ٦].

(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم في شك من كون جميع الرسل بشرا ، فاسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف : هل كان الرسل الذين أتوهم بشرا أو ملائكة؟ فالله يأمرهم أن يسألوا علماء الكتب السابقة عن حال الرسل المتقدمة ، لتزول عنهم الشبهة ، وليعلموا أن رسل الله الموحى إليهم كانوا بشرا ، ولم

يكونوا ملائكة كما اعتقدوا.

وإنما أحالهم على أولئك ؛ لأن المشركين كانوا يشاورونهم في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويثقون بقولهم ، ويلتقون معهم في معاداته ؛ قال الله تعالى : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ

١٩

الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) [آل عمران ٣ / ١٨٦].

وإنما كانوا بشرا ليتمكن الناس من تلقي الوحي عنهم ، والأخذ بيسر بما نزل عليهم. وهذا نص صريح في بشرية الرسل وفي كونهم رجالا لا نساء.

(وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ ، وَما كانُوا خالِدِينَ) أي وما جعلنا الأنبياء ذوي جسد غير طاعمين كالملائكة ، بل كانوا أجسادا يأكلون الطعام ، وما كانوا مخلّدين باقين في الدنيا ، ونظير الآية : (وَقالُوا : ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان ٢٥ / ٧] وقوله : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان ٢٥ / ٢٠].

وهذا نفي لما اعتقدوا أن من صفات الرسل الترفع عن الحاجة إلى الطعام ، فهم كانوا بشرا يأكلون الطعام ، ويتصفون بكل الصفات الإنسانية ، ويطرأ عليهم الحزن والسرور ، والمرض ، والنوم واليقظة ، والحياة والموت ، فلا خلود لهم في الدنيا ، كما قال تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) [الأنبياء ٢١ / ٣٤].

(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ ...) أي إننا نصون حياة الرسل وكراماتهم ، ونصدقهم في الوعد الذي نعدهم به من النصر على أعدائهم ، وإهلاك الظالمين ، وننجيهم ومن نشاء من أتباعهم المؤمنين بهم ، ونهلك المكذبين لهم ، المسرفين على أنفسهم بالكفر والمعاصي ، المكذبين بما جاءت به الرسل.

وبعد إثبات بشرية الرسل للرد على المشركين الذين اعتقدوا بأن الرسالة من خواص الملائكة ، نبّه تعالى على شرف القرآن وفضله ونفعه للناس ، وحرض على معرفة قدره ، فقال :

(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي لقد أعطيناكم هذا القرآن العظيم

٢٠