التفسير المنير - ج ١٧

الدكتور وهبة الزحيلي

وأحوالهم سارة ، فهم لا يسمعون حسّ النار وحركة لهبها وحريقها الأجساد ، ويتمتعون بنحو دائم فيما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، كما قال تعالى : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ ، وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) [فصلت ٤١ / ٣١]. ولا يحزنهم الفزع الأكبر الذي يصيب غيرهم وهو أهوال يوم القيامة والبعث ، وتستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون لهم : (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) فما أجمل هذا الاستقبال والترحاب الحار الصادق ، وما أحسنه اطمئنانا وإسعادا للنفس!!

٥ ـ الثابت في هذه الآية : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) وغيرها على أن السموات والأرض تتبدل يوم القيامة ، كما قال تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [إبراهيم ١٤ / ٤٨].

٦ ـ والثابت أيضا أن الله تعالى سيحشر الناس من قبورهم ويعيدهم خلقا جديدا أحياء ، كما خلقهم في المرة الأولى يوم بدئوا بالخلق في البطون. روى النسائي عن ابن عباس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلا ـ غير مختونين ـ أوّل الخلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه‌السلام ، ثم قرأ : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ)». وأخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بموعظة فقال : «يا أيها الناس ، إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ، وَعْداً عَلَيْنا ، إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه‌السلام».

٧ ـ المقرر في جميع الكتب السماوية المنزلة أن أرض الجنة في الآخرة ، وكذا الأرض في الدنيا ـ كما يفهم من إطلاق الآية ـ يرثها عباد الله الصالحون. والصالحون للآخرة هم المؤمنون العاملون بطاعة الله ، والصالحون للدنيا : من يصلح لعمارتها والقيام بحقها.

١٤١

٨ ـ إن في هذا القرآن الذي أنزله الله على عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبلاغا لقوم عابدين أي لمنفعة وكفاية للذين عبدوا الله بما شرعه وأحبه ورضيه ، وآثروا طاعته على كل شيء.

نبي الرحمة المهداة

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢))

الإعراب :

(عَلى سَواءٍ) إما منصوب على أنه صفة مصدر محذوف ، وتقديره : آذنتكم إيذانا على سواء ، وإما في موضع نصب على الحال من الفاعل والمفعول في (آذَنْتُكُمْ) وهما التاء والكاف والميم ، مثل قول الشاعر :

«فلئن لقيتك خاليين لتعلمن» فنصب خاليين على الحال من ضمير الفاعل والمفعول في «لقيتك».

البلاغة :

(فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) استفهام يراد به الأمر ، أي أسلموا كما في الآية المتقدمة : (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) أي فاشكروا [الأنبياء ٢١ / ٨٠].

١٤٢

المفردات اللغوية :

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) أي وما أرسلناك يا محمد إلا للرحمة بالعالمين : الإنس والجن ؛ لأن ما بعثت به سبب لإسعادهم ، وموجب لصلاح معاشهم ومعادهم.

(قُلْ : إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي ما يوحى إلى في أمر الإله إلا وحدانيته ، فهو الإله الواحد ؛ لأن المقصود الأصلي من بعثته مقصور على التوحيد ، فكلمة (إِنَّما) الأولى لقصر الحكم على الشيء ، والثانية على العكس. (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) منقادون خاضعون لما يوحى إلي من وحدانية الإله. والاستفهام بمعنى الأمر ، أي أسلموا وأخلصوا العبادة لله تعالى على مقتضى الوحي.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا عن ذلك. (آذَنْتُكُمْ) أعلمتكم ما أمرت به ، وكثر استعماله في الإنذار ، كما قال تعالى : (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة ٢ / ٢٧٩].

(عَلى سَواءٍ) أي مستوين في علمه ، أي أنا وأنتم في العلم بما أعلمتكم به أو في الحرب والمعاداة. (وَإِنْ أَدْرِي) أي ما أدري. (ما تُوعَدُونَ) من العذاب أو من غلبة المسلمين عليكم أو من القيامة والحشر ، فذلك كائن لا محالة ، وإنما يعلمه الله. (إِنَّهُ يَعْلَمُ) إنه تعالى. (الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ) أي ومن الفعل ، منكم ومن غيركم من الطعن في الإسلام. (وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) أي وما أدري لعل تأخير عذابكم استدراج لكم ، وزيادة في الامتحان والاختبار. (لَكُمْ) ليرى كيف صنعكم. (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) وتمتع إلى أجل مقدر تقتضيه مشيئته.

(رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) أي اقض بيني وبين مكذبيّ كأهل مكة بالعدل ، أي بتعجيل العذاب لهم أو النصر عليهم ، فعذبوا ببدر وأحد وحنين والأحزاب أو الخندق ، ونصره الله عليهم. (تَصِفُونَ) أي أن الله هو كثير الرحمة على خلقه ، المطلوب منه المعونة على ما تصفون من الحال بأن الشوكة تكون لهم ، وبكذبكم على الله باتخاذه ولدا ، وعلي بأني ساحر ، وعلى القرآن بأنه شعر.

المناسبة :

بعد بيان قصص الأنبياء المتقدمين عليهم ، وبعد الاعلام بأن القرآن بلاغ ومنفعة وكفاية للعابدين ، أخبر الله تعالى عن سبب بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو أنه رحمة للعالمين في الدين والدنيا ، أما في الدين فبتخليصهم من الجاهلية والضلالة ، وأما في الدنيا فبالتخليص من كثير من الذل والقتال والحروب ، والنصر والعلو ببركة دينه. وأما مجيئه بالسيف أيضا فهو لتأديب من استكبر وعاند ، ولم يتفكر ولم يتدبر ، كما أن الله رحمن رحيم ، وهو أيضا منتقم من العصاة.

١٤٣

التفسير والبيان :

(وَما أَرْسَلْناكَ ..) أي وما أرسلناك يا محمد بشريعة القرآن وهديه وأحكامه إلا لرحمة جميع العالم من الإنس والجن في الدنيا والآخرة ، فمن قبل هذه الرحمة ، وشكر هذه النعمة ، سعد في الدنيا والآخرة ، ومن ردّها وجحدها ، خسر الدنيا والآخرة. وقيل : كونه رحمة للكفار : أنهم أمنوا به من الخسف والمسخ وعذاب الاستئصال.

قال تعالى مبينا خسارة الجاحدين : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً ، وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) [إبراهيم ١٤ / ٢٨ ـ ٢٩].

وقال سبحانه في صفة القرآن : (قُلْ : هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت ٤١ / ٤٤]. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه مسلم عن أبي هريرة : «إني لم أبعث لعانا ، وإنما بعثت رحمة» ورواه الحاكم بلفظ : «إنما أنا رحمة مهداة».

ثم أمر الله رسوله أن يقول للمشركين بما يكون إعذارا وإنذارا في مجاهدتهم : (قُلْ : إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي قل يا محمد لمشركي مكة ولكل إنسان : ما يوحى إلي شيء في شأن الإله إلا أنه إله واحد لا شريك له ، فاعبدوه وحده ، وأسلموا له وانقادوا ، وأطيعوني واتبعوني على ذلك.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا ، فَقُلْ : آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) أي فإن أعرضوا وتركوا ما دعوتهم إليه ، فقل : أعلمتكم أني حرب لكم ، كما أنكم حرب لي ، وأنا بريء منكم ، كما أنتم برآء مني ، كقوله تعالى : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ : لِي عَمَلِي ، وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس ١٠ / ٤١] ، وقوله سبحانه : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً ، فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال ٨ / ٥٨] أي ليكن

١٤٤

علمك وعلمهم بنبذ العهد على السواء ، وهذا معنى الآية هنا (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) أي أعلمتكم ببراءتي منكم ، وبراءتكم مني ، لعلمي بذلك ، وقد استوينا في هذا العلم.

(وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) أي إن ما توعدون من العذاب وغلبة المسلمين عليكم واقع كائن لا محالة ، ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده.

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ ، وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) أي إن الله يعلم الغيب جميعه ، ويعلم ما يظهره العباد وما يسرون ، يعلم ما تجهرون به من الطعن في الإسلام ، وما تضمرونه من الحقد والكيد على المسلمين ، وسيجزيكم على قليل ذلك وكثيره.

(وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي وما أدري لعل تأخير العذاب عنكم ابتلاء واختبار لكم ، وتمتع بلذات الدنيا إلى أجل مسمى ، لينظر كيف تعملون.

(قالَ : رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) أي قال النبي : ربنا افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق والعدل ، فقولك الحق ، وأنت الحق ، ووعدك الحق ، وحكمك بالحق ، ولا تحب إلا الحق. قال قتادة : كانت الأنبياء عليهم‌السلام يقولون : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) [الأعراف ٧ / ٨٩] وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول ذلك. وروى مالك عن زيد بن أسلم : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا شهد غزاة قال : (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ).

(وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أي والله ربنا هو المطلوب منه العون على ما تصفون من الشرك والكفر ، والكذب والباطل ، وهو القول : بأن لله ولدا ، وأني ساحر شاعر ، وأن القرآن شعر ، وعلى ما تطمعون أن تكون الشوكة والغلبة لكم.

١٤٥

والاحتكام إلى الله إنذار وإظهار للحق ، وتوعد للكفار ، وتهديد بالهزيمة والاندحار أمام جند الإيمان وأنصار الحق.

فقه الحياة أو الأحكام :

في اختتام سورة الأنبياء بهذه الآيات دلالات ظاهرة وحجة بينة على الحق الأبلج وهي :

١ ـ إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبيين الذي توج الله برسالته رسالات الأنبياء المتقدمين رحمة لجميع الناس ، فمن آمن به ، وصدّق بدعوته ، سعد ، ومن لم يؤمن به سلم في الدنيا مما لحق الأمم من الخسف والمسخ والغرق وعذاب الاستئصال ، وخسر الآخرة خسرانا مبينا.

٢ ـ جميع رسالات الأنبياء ورسالة خاتمهم أيضا لا يوحى فيها شيء في شأن الإله إلا التوحيد والوحدانية ، فلا يجوز الإشراك به ، فهل أنتم أيها البشر قاطبة منقادون لتوحيد الله تعالى ، أي فأسلموا تسلموا.

٣ ـ إن أعرض المشركون والكفار عن رسالة الإسلام فقد تمّ إنذارهم وإعذارهم ، وتمّ إعلامهم ألّا لقاء بين الإيمان والكفر ، وألّا صلح بين المسلمين والكفار ، وأن الحرب والعداوة مستمرة بين الفريقين ، ولكن لا يشترط أن تكون حربا مستعرة وقتالا دائرا ، وإنما ذلك إعلان قاطع عما يكنّ في أصائل قلوب المؤمنين من إنكار قلبي لمختلف ألوان الكفر ، دون مهادنة ولا رضا ، ولا إقرار لأي شيء من أوضاع الكفر الفاسدة.

٤ ـ إن أجل العذاب ويوم القيامة لا يدريه أحد ، لا نبي مرسل ، ولا ملك مقرّب.

٥ ـ الله تعالى عالم الغيب والشهادة ، والسر والجهر ، والباطن والظاهر

١٤٦

يعلم مطاعن الكفار بالإسلام ، ومكائدهم وأحقادهم على المسلمين وشركهم وكفرهم ، وسيجزيهم على ما يصدر منهم من صغير أو كبير.

وربما كان الإمهال بالعذاب اختبارا ليرى ما يصنعون ، والله أعلم بما يفعلون ، وربما كان عدلا وفضلا تأخير العذاب ليتمتع الكفار بلذائذ وشهوات الدنيا ، ثم يحرموا منها في الآخرة.

٦ ـ عقيدة المؤمن الصادق الإيمان لها محوران في أزمات الاحتكاك مع الكفار ، المحور الأول ـ هو تفويض الأمر إلى الله وتوقع الفرج من عنده ، وهذا ما أمر به الله تعالى نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (قالَ : رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين وانصرني عليهم. والمحور الثاني ـ هو الاستعانة بالله القوي الغالب ، وهذا ما ختمت به السورة : (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أي ما تصفونه من الكفر والتكذيب ، والطمع في الغلبة على أهل الإيمان.

٧ ـ يقوم شرع الله ودينه على عقيدة التوحيد الخالص من شوائب الشرك ، وعلى العدل والقسط ، فالله سبحانه يقضي بالحق ، وينصر أهل الحق والإيمان بالله ، ويخذل الظلمة والكفار ، ويدحر الظلم وأهله ، ويعين المظلوم ، وينصر الضعيف ، وينتصف للفقير من الغني ، ويسوي بين الخصمين ، ولو كان أحدهما مسلما والآخر كافرا ، ويدعو إلى الرحمة والإحسان ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وهذه هي أصول الحضارة الصحيحة ، ونواة (الديمقراطية) السديدة ، فلا تعصب فيه ، ولا ظلم ، ولا جهل ، ولا فوضى ، وإنما العلم والمعرفة والوعي منهاج الحياة الإسلامية ، وطريق الدعوة القرآنية ، ومصباح العالم كله.

١٤٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الحج

مدنية ، وهي ثمان وسبعون آية.

تسميتها :

سميت سورة الحج لإعلان فريضة الحج فيها على الناس ، على لسان إبراهيم الخليلعليه‌السلام: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) بعد بناء البيت العتيق ، فأذن ، فبلغ صوته أنحاء الأرض ، وأسمع النطف في الأصلاب والأجنة في الأرحام ، وأجابوا النداء : «لبيك اللهم لبيك».

صلتها بما قبلها :

هناك تناسب وارتباط بين بداية هذه السورة ، وخاتمة السورة السابقة ، فقد ختم الله سورة الأنبياء ببيان اقتراب الساعة ووصف أهوالها في قوله : (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ، فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وافتتح هذه السورة بقوله : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ، يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ).

وفي السورة المتقدمة بيان قصص أكثر من عشرة من الأنبياء تدور على ما قاموا به من إثبات توحيد الله ، ونبذ الشرك ، والإيمان بالبعث ، وفي هذه السورة استدلال بخلق الإنسان بأطواره المتعددة وبإبداع السموات والأرض على قدرة الله على إحياء البشر للبعث ، وعلى وجوده تعالى ووحدانيته ، ثم تنبيه الأفكار على الالتفات لأحوال أهل القرى الظالمة التي أهلكها الله ، والاتعاظ بها بسبب تكذيبهم الرسل.

١٤٨

مشتملاتها :

بالرغم من أن هذه السورة مدنية تضمنت الكلام عن فرضية الحج ومناسكه ، وعن مشروعية القتال ومقومات النصر ، فإنها تحدثت عن أمور مشابهة لموضوعات السور المكية من الإيمان بالله عزوجل وتوحيده ، والبعث والاستدلال عليه ، والجزاء على الأعمال.

افتتحت السورة بما يهز المشاعر ، وينشر الرعب والخوف من أهوال الساعة ، وشدائد يوم القيامة.

ثم انتقلت إلى بيان أدلة البعث ، وإتيان القيامة ، وبيان بعض مشاهدها من جعل الأبرار في دار النعيم ، وزجّ الكفار في نار الجحيم ، وإعلان خسارة المنافقين المضطربين الذين لا يعرف لهم قرار ولا اتجاه. ثم أبانت حرمة المسجد الحرام ، وفرضية الحج ومنافعه ، وحرماته وشعائره ، ومناسكه وذبائحه ، وأردفت ذلك بالحديث المقنع عن أسباب فرضية القتال ، ومقومات النصر على الأعداء ، مع تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما ناله من أذى قومه ، وتكذيبهم له ، والتعريف بحال أهل القرى الظالمة التي أهلكها الله ، وجعل العاقبة للمتقين ، وتحديد مهمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي الإنذار مكذبي القرآن بالنار ، وتبشير المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالجنة والنعيم ، وإظهار مدى فضل الله على المهاجرين وإثابتهم.

واقتضت الحكمة بعدئذ الكلام عن أدلة القدرة الإلهية من خلق الليل والنهار ، والسماء والأرض ، والإحياء والإماتة ، والعلم الشامل لجميع مكنونات الكون ، وتفرد الله تعالى بالحساب والفصل والحكم بين الناس. ثم بيان مدى تبرم الكفار بآيات الله ، وإظهار الغضب على وجوههم ، وتحديهم بأن معبوداتهم من الأصنام وغيرها لا تستطيع خلق ذبابة ، فضلا عن خلق الإنسان ، وأن منشأ

١٤٩

شركهم إقفار قلوبهم من تقدير الله حق قدره ، علما بأن الله يرسل رسلا من الملائكة ومن البشر لتبليغ الرسالة الإلهية على أتم وجه.

ثم عاد الكلام إلى بيان أحكام التشريع من أمر المؤمنين بفرائض جوهرية ثلاث : هي إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والجهاد في سبيل الله حق الجهاد ، وأردف ذلك بالتذكير بسماحة الإسلام ، وأن الدين يسر لا عسر ، ثم أمرهم بالاعتصام بدين الله والقرآن والإسلام ، وبيان أن الرسول شهيد على أمته يوم القيامة ، وأن أمته تشهد على الأمم المتقدمة بتبليغ أنبيائهم لهم دعوة الله وتشريعه ، وتلك مزية سامية لهذه الأمة.

فضلها :

قال العزيزي : وهي من أعاجيب السور ، نزلت ليلا ونهارا ، سفرا وحضرا ، مكيا ومدنيا ، سلميا وحربيا ، محكما ومتشابها.

الأمر بتقوى الله تعالى

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤))

١٥٠

الإعراب :

(يَوْمَ تَرَوْنَها يَوْمَ) منصوب بتذهل. (عَمَّا أَرْضَعَتْ) ما : موصولة أو مصدرية.

(أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) في موضع رفع على أنه نائب فاعل ، وهاء (أَنَّهُ) ضمير الشأن. والحديث. و (مَنْ) : إما بمعنى الذي ، و (تَوَلَّاهُ) : صلته ، وهو وصلته مبتدأ ، وقوله : (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) خبره ، ودخلت الفاء ؛ لأن الموصول يتضمن معنى الشرط والجزاء. ومن وصلته وخبره : خبر «أن» الأولى. وإما أن تكون (مَنْ) شرطية ، و (تَوَلَّاهُ) : مجزوم بها ، وجواب الشرط : (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ). ومن الشرطية وجوابها خبر «أن» الأولى. وأما فتح «أن» الثانية فهو على أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : فشأنه أنه يضله ، أي فشأنه الإضلال.

البلاغة :

(وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) تشبيه بليغ ، حذف فيه أداة التشبيه والشبه ، أي كالسكارى من شدة الهول.

(شَيْطانٍ مَرِيدٍ) استعارة ، استعار لفظ الشيطان لكل طاغية عات متمرد على الله.

(يُضِلُّهُ) و (يَهْدِيهِ) بينهما طباق.

(وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) أسلوب تهكم.

المفردات اللغوية :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي يا أهل مكة وغيركم. (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) احذروا عقابه ، بأن تطيعوه. (زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) تحريكها للأشياء ، على الإسناد المجازي ، والزلزلة : الحركة الشديدة للأرض ، وقيل : تكون هذه الزلزلة حقيقة ، ثم يكون بعدها طلوع الشمس من مغربها ، وإضافتها إلى الساعة ؛ لأنها من أشراطها. (شَيْءٌ عَظِيمٌ) هائل ، مزعج للناس ، وهو نوع من العقاب. وقد علل أمر الناس بالتقوى بفظاعة الساعة ، ليتصوروها بعقولهم ، ويعلموا أن الأمان منها بالتدرع بلباس التقوى.

(يَوْمَ تَرَوْنَها) الضمير للزلزلة. (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) أي تذهل كل مرضعة (وهي الأنثى حال الإرضاع) عن رضيعها وتنساه ، أي تذهلها الزلزلة ، والذهول : الذهاب عن الأمر بدهشة بسبب ما يطرأ من هم أو وجع أو غيره ، والمقصود تصوير هولها والدلالة على ترك التعلق بأحب الأشياء. (حَمْلَها) جنينها. (سُكارى) كأنهم سكارى من شدة الخوف. (وَما هُمْ بِسُكارى) على الحقيقة. (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) أي يرهقهم هوله ويذهب عقولهم وتمييزهم ، فهم يخافونه.

١٥١

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) فيقولون : الملائكة بنات الله ، والقرآن أساطير الأولين ، وينكرون البعث وإحياء من صار ترابا. (وَيَتَّبِعُ) في جداله وعامة أحواله. (كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) متمرد عات ، متجرد للفساد.

(كُتِبَ عَلَيْهِ) قضي على الشيطان. (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) اتبعه. (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) أي كتب عليه إضلال من يتولاه ؛ لأنه جبل عليه. (وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) أي يدعوه إلى النار ، ويحمله على ما يؤدي إليه.

نزول الآيتين (١ ـ ٢):

روي أن هاتين الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بني المصطلق ، فقرأهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على الناس ، فلم ير باكيا أكثر من تلك الليلة ، وأصبح الناس بين باك وجالس حزين متفكر.

نزول الآية (٣):

(وَمِنَ النَّاسِ) : أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) قال : نزلت في النضر بن الحارث.

التفسير والبيان :

يأمر الله تعالى عباده بتقواه ، ويخبرهم عما يستقبلون من أهوال القيامة وزلازلها وأحوال الآخرة ، فيقول :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ، إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) أي يا أيها البشر قاطبة ، احذروا عقاب ربكم ، بطاعته وعدم عصيانه ، فإن زلزلة القيامة أو حركتها الشديدة حين قيامها قبل قيام الناس من قبورهم شيء عظيم الهول ، خطير الوقع. وذلك بدليل قوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها ، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) [الزلزلة ٩٩ / ٢ ـ ١] وقوله : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ ، فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) [الحاقة : ٦٩ / ١٤ ـ ١٥]

١٥٢

وقوله : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ، وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا ، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) [الواقعة ٥٦ / ٤ ـ ٦].

وأوصاف ذلك اليوم هي :

١ ـ (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) يوم تذهل الزلزلة كل مرضعة عن وليدها الرضيع. والذهول : الغفلة عن الشيء مع دهشة ، والمرضعة : التي هي في حال الإرضاع ، ملقمة ثديها الصبي. والمرضع : المستعدة للإرضاع أو التي من شأنها أن ترضع ، وإن لم تباشر الإرضاع ، في حال وصفها به ، وقوله : (عَمَّا أَرْضَعَتْ) أي إرضاعها أو عن الطفل الذي ترضعه.

٢ ـ (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) أي وتسقط الحامل جنينها من بطنها من شدة الهول والخوف والفزع.

قال الحسن البصري : تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام ، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام.

٣ ـ (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى ..) أي وترى الناس كالسكارى من الخوف ، وهم في الحقيقة والواقع غير سكارى من الشراب ، ولكن شدة العذاب أفقدتهم عقولهم وتمييزهم.

ومع هذا التحذير الشديد ينكر بعض الناس البعث ويجادل في المغيبات بغير علم ، فيقول تعالى :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي وبعض الناس من يجادل في صفات الله وأفعاله ، وقدرته على البعث وغيره بغير علم صحيح ، ولا عقل رشيد ، ويتبع في جداله بالباطل خطوات كل شيطان متمرد عات ، فهو لا يجادل بالحق ، وإنما يجادل بالباطل.

١٥٣

قيل كما بينا : نزلت في النضر بن الحارث ، وكان جدلا ، يقول : الملائكة بنات الله ، والقرآن أساطير الأولين ، والله غير قادر على إحياء من بلي وصار ترابا.

والآية كما قال في الكشاف عامة في كل من تعاطى الجدال ، فيما لا يجوز على الله ، وما لا يجوز من الصفات والأفعال ، ولا يرجع إلى علم ، ولا يتّبع حجة ولا برهانا صحيحا ، فهو يخبط خبط عشواء ، غير فارق بين الحق والباطل. والآية بمفهومها تدل على جواز المجادلة الحقة ، وهي المجادلة مع العلم ، المرادة بقوله تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل ١٦ / ١٢٥]. أما المجادلة الباطلة فهي المراد من قوله تعالى : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) [الزخرف ٤٣ / ٥٨].

(كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ..) أي قضي على من اتبع الشيطان ، وجعله وليا ناصرا له أن يوقعه في الضلال ، وأن ولايته له لم تثمر إلا الإضلال عن طريق الجنة ، والهداية إلى النار ، وإيصاله إلى جهنم. والمقصود أن اتباع الشيطان يؤدي إلى الضلال في الدنيا ، وإلى عذاب النار في الآخرة ، وكأنه تعالى قال : قضي على من يتبع الشيطان أن الشيطان يضله عن الجنة ، ويهديه إلى النار ، وهذا وعيد لمتبع الشيطان.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ وجوب التحلي بالتقوى وهي التزام الأوامر الإلهية ، واجتناب النواهي ، لاتقاء أهوال يوم القيامة ذات الخطر الشديد.

٢ ـ إن وقع الساعة وتأثير القيامة على النفس شديد الأثر ، حتى لتكون زلزلتها مذهلة (شاغلة) الأم الحنون عن طفلها الرضيع ، ومسقطة الجنين من

١٥٤

بطن أمه ، وجاعلة الناس كأنهم سكارى من شدة الخوف ، وما هم في الحقيقة سكارى من الشراب.

٣ ـ إن المشرك بالله هو الذي يجادل بالباطل وبغير علم صحيح في صفات الله وأفعاله ، وقدرته على البعث ، والإحياء بعد الإماتة ، وهو في جداله يتبع كل شيطان متمرد ، ومن يتبع الشياطين ويتولاهم فإنهم يوقعونه في الحيرة والضلال في النار ، ويأخذون بيده إلى عذاب جهنم في الآخرة. وهذا يدل على تحريم المجادلة الباطلة القائمة على الجهل ، وعلى الزجر من الله تعالى على اتباع خطوات الشيطان.

أما المجادلة بالحق وهي القائمة على العلم ، فهي جائزة غير ممنوعة.

الاستدلال بخلق الإنسان والنبات على البعث

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧))

١٥٥

الإعراب :

(بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً شَيْئاً) : منصوب بالمصدر قبله ، على قول البصريين ؛ لأنه الأقرب ، وب (يَعْلَمَ) على قول الكوفيين ؛ لأنه الأول.

(ذلِكَ بِأَنَّ ..) ذا : إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : الأمر كذلك ، وإما منصوب على تقدير فعل ، تقديره : فعل الله ذلك بأنه الحق. وقال البيضاوي : وهو مبتدأ ، وخبره : (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ).

البلاغة :

(مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) بينهما طباق السلب.

(اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) استعارة تبعية ، شبه الأرض بنائم ، ثم يتحرك بنزول المطر عليه.

المفردات اللغوية :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي يا أهل مكة وأمثالكم. (رَيْبٍ) شك. (مِنَ الْبَعْثِ) من إمكانه وكونه مقدورا. (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ) أي فانظروا في بدء خلقكم وأصلكم آدم ، فإنه يزيح ريبكم. (مِنْ تُرابٍ) أي خلق آدم منه ، وخلق الأغذية التي يتكون منها المني. (نُطْفَةٍ) مني : وهو ما يخرج عند اللذة من صلب الرجل ، سمي نطفة لقلته ، مأخوذ من النّطف : أي الصب أو القطر. (عَلَقَةٍ) قطعة من دم جامد. (مُضْغَةٍ) قطعة من اللحم ، قدر ما يمضغ. (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) مصوّرة معالم الخلقة أو غير مصوّرة ، أو مسوّاة لا نقص فيها ولا عيب ، أي تامة الخلق ، وغير مسوّاة. (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) بهذا التدرج في الخلقة كمال قدرتنا وحكمتنا ، لتستدلوا بها في ابتداء الخلق على إعادته. (وَنُقِرُّ) أي نبقي ، وهو كلام مستأنف. (ما نَشاءُ) أن نقرّه. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو وقت الوضع ، وأدناه بعد ستة أشهر ، وغالبة تسعة أشهر ، وأقصاه في رأي أهل الخبرة سنة. (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) عطفا على (لِنُبَيِّنَ) ، أي نخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا. و (طِفْلاً) : حال أجريت على تأويل كل واحد ، أو الدلالة على اسم الجنس فيكون للواحد والجمع. (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) أي ثم نعمركم لتبلغوا الكمال في القوة والعقل وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين سنة ، والأشد : كمال القوة والعقل والتمييز ، وهو جمع شدة ، كالأنعام جمع نعمة ، وقال الزمخشري : هو من ألفاظ المجموع التي لم يستعمل لها واحد ، كالأسدة والقتود والأباطيل وغير ذلك.

(وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) يموت قبل بلوغ الأشد. (أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أدناه وأردؤه من الهرم والخرف. (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولة من سخافة العقل وقلة الفهم ، فينسى ما علمه ، وينكر من عرفه. قال عكرمة : من قرأ القرآن لم يصر بهذه الحالة.

١٥٦

والآية استدلال ثان على إمكان البعث بما يعتري الإنسان في أطواره من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة ، فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره.

(هامِدَةً) يابسة ميتة لا نبات فيها. (اهْتَزَّتْ) تحركت بالنبات. (وَرَبَتْ) ارتفعت وزادت وانتفخت بالماء والنبات. (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي أنبتت من كل صنف حسن رائق. و (مِنَ) : زائدة (ذلِكَ) أي المذكور من بدء خلق الإنسان إلى آخر إحياء الأرض. (بِأَنَّ اللهَ) بسبب أن الله. (هُوَ الْحَقُ) الثابت في نفسه ، الدائم الذي يحق ثبوته ، أي لأن الله هو الحق. (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) أي أنه يقدر على إحيائها ، وإلا لما أحيى النطفة والأرض الميتة (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لأن قدرته لذاته ، فمن قدر على إحياء بعض الأموات لزم اقتداره على إحياء كلها. (لا رَيْبَ فِيها) لا شك. (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) بمقتضى وعده الذي لا يقبل الخلف.

المناسبة :

بعد أن حكى الله تعالى عن المشركين الجدل بغير علم في قضية البعث والحشر والنشر ، وذمّهم على ذلك ، أورد تعالى الأدلة على إثبات البعث بخلق الإنسان ، وخلق النبات ، فقال هنا عن الأول : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) الآية ، وقال في آيات أخرى : (قُلْ : يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس ٣٦ / ٧٩]. (فَسَيَقُولُونَ : مَنْ يُعِيدُنا ، قُلِ : الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الإسراء ١٧ / ٥١] وقال عن الثاني : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ..).

التفسير والبيان :

بعد أن ذكر الله تعالى موقف المنكر للبعث ، ذكر الدليل على قدرته على المعاد بما يشاهد من بدئه الخلق ، فقال :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) أي يا أيها البشر المنكرون للبعث ، إن كنتم في شك من إمكان البعث ومجيئه ، يوم القيامة ، فانظروا إلى بدء خلقكم ، فمن قدر على البدء قدر على الإعادة بدليل المراحل والأدوار السبعة التي يمر بها الإنسان وهي :

١٥٧

١ ـ (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) أي خلقنا أصلكم آدم من التراب ، وخلقنا الأغذية التي يتكون منها المني من النبات المتولد من الماء والتراب.

٢ ـ (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي ثم صار التوالد المعتاد بواسطة المني المتولد من الغذاء الناشئ من التراب.

٣ ـ (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) أي ثم تتحول بإذن الله النطفة بعد أربعين يوما إلى قطعة دم مكثف أو جامد ، أو علقة حمراء.

٤ ـ (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) ثم تصبح العلقة قطعة لحم ، وتلك القطعة إما أن تتم منها أحوال الخلق ، فتصير تامة الصورة والحواس والتخطيط لمعالم الجسد ، وإما ألا تتم ، وتسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط أو بعده ، أو تبقى ناقصة الصور والحواس والتخطيطات وتتم ولادتها ، قال الرازي : فيجب أن تحمل (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) على من سيصير إنسانا ؛ لأنه تعالى قال في أول الآية : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ) وذلك يبعد حمل قوله : (غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) على السقط.

والخلاصة : أن المخلقة هي القطعة المسوّاة التي لا نقص فيها ولا عيب أي التامة الخلقة ، وغير المخلقة : هي القطعة غير المسوّاة التي فيها عيب.

(لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) أي خلقناكم على هذا النحو من التدرج لنبين لكم كمال قدرتنا وحكمتنا ، لتستدلوا بها على إمكان البعث ، فإن من قدر على خلق البشر من تراب أولا ، ثم من نطفة ثانيا ـ ولا تناسب بين الماء والتراب ـ وقدر على أن يجعل النطفة علقة ـ وبينهما تباين ظاهر ـ ثم يجعل العلقة مضغة ، والمضغة عظاما ، قدر على إعادة ما بدأه ، بل هذا أهون ، كما قال الزمخشري رحمه‌الله تعالى.

١٥٨

٥ ـ (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أي ثم نخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا ضعافا في البدن والعقل والحواس ، ثم ينمو كل طفل ويعطيه الله القوة شيئا فشيئا.

٦ ـ (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) ثم تتكامل قواكم البدنية والعقلية ، حتى تصلوا إلى حد الكمال في عنفوان الشباب.

٧ ـ (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ...) أي ومنكم من يموت قبل بلوغ الأشد أو في حال الشباب والقوة ، ومنكم من يعيش حتى يصل إلى سن الشيخوخة والهرم ، وضعف القوة والعقل والفهم ، والخرف ، حتى يعود إلى ما كان عليه حال الطفولة ، ضعيفا ، سخيف العقل ، قليل الفهم ، ينسى ما كان يعلمه ، كما قال تعالى : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) [يس ٣٦ / ٦٨]. والخلاصة : أن تدرج الخلق في مراحله المذكورة ، وطروء الموت وعوارض الأحوال على الإنسان دليل قاطع على وجود الخالق القادر المهيمن ، الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ، وهو أهون عليه في القياس والعقل ، كما قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً ، يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الروم ٣٠ / ٥٤].

ثم ذكر الله تعالى الدليل الثاني على إمكان البعث بخلق النبات المشابه لخلق الإنسان فقال :

(وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ...) أي وإذا تأملت أيها الإنسان ترى الأرض (١) ميتة يابسة لا نبات فيها ولا زرع ، فإذا أنزلنا عليها ماء المطر أو غيره ، تحركت بالنبات وحييت بعد موتها ، وازدادت وارتفعت وانتفخت بالماء والنبات ، ثم

__________________

(١) خاطب تعالى الناس أولا بصيغة الجمع ، فقال : فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ ثم خاطب بصيغة الواحد ، للتنويع فقال : وَتَرَى الْأَرْضَ فانفصل اللفظ عن اللفظ ، ولكن المعنى متصل ، للاحتجاج به على منكري البعث.

١٥٩

أنبتت من كل صنف من النبات والزرع ، ذي منظر حسن وبهاء ورونق وطيب ريح ، لاختلاف ألوان الثمار والزروع ، وطعومها ، وروائحها ، وأشكالها ، ومنافعها ، فمن قدر على إحياء الأرض الميتة الهامدة التي لا ينبت فيها شيء ، قادر على إحياء الموتى. ونتائج ما ذكر هي الأمور الخمسة التالية :

١ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي ذلك المذكور الذي بينته لكم من خلق الإنسان والحيوان والنبات ، وانتقال كل مخلوق من حال إلى حال ، بسبب أن الله هو الحق الموجود الثابت الذي لا شك فيه ، ولا يحول ولا يزول ، الخالق المدبر الفعال لما يشاء. وأما ما عداه من جميع المخلوقات فضعيف عاجز لا يقدر على فعل شيء مما ذكر. وهذا دال على وجود الصانع المتفرد بالخلق.

٢ ـ (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) أي وبأنه الإله القادر على إحياء الموتى ، كما أحيى الإنسان والحيوان والنبات ، فأنبت من الأرض الميتة ما فيه الحياة ، وهذا تنبيه على أن من لم يعجزه إيجاد هذه الأشياء ، فكيف يعجزه إعادة الأموات؟! (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى ، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصلت ٤١ / ٣٩].

٣ ـ (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي وبأنه تعالى القادر على كل شيء ، فمن كان قادرا على ما ذكر وعلى جميع الممكنات ، فهو قادر على إعادة الأجساد بعد الفناء ، وعالم بكل المعلومات : (قُلْ : يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس ٣٦ / ٧٩].

٤ ـ (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) أي ولتعلموا أن من قدر على إحياء الموتى أو إعادتهم أحياء قادر على الإتيان بيوم القيامة ، فالساعة كائنة لا شك فيها ولا مرية ، كما وعدكم بها. فقوله : (وَأَنَّ السَّاعَةَ) معطوف على قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) من حيث اللفظ ، وليس عطفا في المعنى ، فلا بد من إضمار فعل يتضمنه ، أي وليعلموا أن الساعة آتية.

١٦٠