التفسير المنير - ج ١٧

الدكتور وهبة الزحيلي

٥ ـ (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي ولتتيقنوا أن الله سيبعث أهل القبور ، أي يعيدهم بعد ما صاروا في قبورهم رمما ، ويوجدهم مرة أخرى أحياء ، ليوم المحشر والحساب ، والثواب والعقاب.

والخلاصة : أن بيان مراتب خلق الإنسان والحيوان ، والنبات ، دليل على أنه سبحانه قادر على كل الممكنات ، وعالم بكل المعلومات ، مما يثبت كون الإعادة ممكنة ، وأن المعاد مقدور عليه.

فقه الحياة أو الأحكام :

الغاية من التنزيل القراني إثبات ثلاثة أمور أساسية في العقيدة ، وهي توحيد الله ، واتصافه بصفات الكمال ، وتنزيهه عن كل نقص ، وإثبات البعث والحياة الأخروية ، وما فيها من ثواب وعقاب ، وإثبات الوحي والنبوة ورسالات الأنبياء بالمعجزة الخارقة للعادة ، لذا تكرر في القرآن التركيز على هذه الأصول ، وجاءت الآيات هنا للاستدلال على الأمر الثاني.

١ ـ استدل الله سبحانه وتعالى على إمكان حدوث البعث والقيامة وإحياء الموتى بإحياء الإنسان والحيوان والنبات بعد الموت والعدم ، فمن خلق أصل الإنسان من تراب ، ثم من ماء منشؤه الغذاء الناتج من التراب ، ثم رعاه حتى خلقه في أحسن تقويم ، ثم أعاده إلى الضعف ، قادر على إعادة خلقه وإيجاده وتكوينه كما قال : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) [يس ٣٦ / ٨٢].

ولقد أوضحت السنة أطوار الخلق ، جاء في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو الصادق المصدوق : «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الملك ، فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه

١٦١

وأجله وعمله وشقي أو سعيد» وفي رواية : «يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم أربعين يوما علقة ، ثم أربعين يوما مضغة ، ثم يبعث الملك ، فينفخ فيه الروح» أي إن أطوار الجنين الأولى أربعة أشهر ، قال ابن عباس : وفي العشر بعد الأشهر الأربعة ينفخ فيه الروح ، فذلك عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر.

ويلاحظ أن الخلق والتصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقية ، وأن النفخ سبب يخلق الله به الروح والحياة ، وأن الخلق بقدرة الله واختراعه ؛ لقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) [الأعراف ٧ / ١١]. (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) [غافر ٤٠ / ٦٤] وللآية هنا : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ..). وتكون الحياة في المادة المنوية عند التقائها ببويضة المرأة حياة نباتية خلوية.

ولم يختلف العلماء أن نفخ الروح الحركية في الجنين يكون بعد مائة وعشرين يوما ، أي بعد تمام أربعة أشهر ، ودخول الشهر الخامس.

لذا ليست النطفة بشيء يقينا ، كما قال القرطبي ، ولا يتعلق بها حكم إذا ألقتها المرأة إذا لم تجتمع في الرحم ، كما لو كانت في صلب الرجل ، فإذا طرحته علقة ، فقد تحققنا أن النطفة قد استقرت واجتمعت واستحالت إلى أول أحوال وجود الولد ، فيكون وضع العلقة فما فوقها من المضغة وضع حمل ، تبرأ به الرحم ، وتنقضي به العدّة ، ويثبت به لها حكم أم الولد. وهذا مذهب مالك وأصحابه.

وقال الشافعي : لا اعتبار بإسقاط العلقة ، وإنما الاعتبار بظهور الصورة والتخطيط ، أي بإلقاء المضغة المخلقة دون الأربعة أشهر (١). قال ابن زيد : المخلّقة : التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٢ / ٨

١٦٢

وقال مالك رضي‌الله‌عنه : ما طرحته المرأة من مضغة أو علقة أو ما يعلم أنه ولد إذا ضرب بطنها ففيه الغرّة (١). وقال الشافعي رضي‌الله‌عنه : لا شيء فيه حتى يتبين من خلقه شيء. وقال مالك : إذا سقط الجنين فلم يستهلّ صارخا ففيه الغرّة. فإذا استهل صارخا فقال هو والشافعي فيه الدية كاملة.

وذكر القاضي إسماعيل أن عدة المرأة تنقضي بالسقط الموضوع ؛ لأنه حمل ، والله تعالى يقول : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق ٦٥ / ٤]. وقال ابن العربي : ولا يرتبط به شيء من الأحكام ، إلا أن يكون مخلّقا ؛ لقوله تعالى : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ ، وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)(٢).

٢ ـ إن في مراحل خلق الإنسان المذكورة لدليلا واضحا وبيانا قاطعا يدل على كمال قدرة الله تعالى.

وفي رعاية الله للإنسان بولادته طفلا ، ثم اكتمال جسده وعقله وقوته في سن الشباب نعمة تستحق الشكر والتقدير وعرفان حق الخالق.

ثم في الرد إلى الشيخوخة والهرم دون خرف أو مع الخرف عبرة وعظة تدل على إطلاق تصرف الله في خلقه ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه النسائي عن سعد ـ يدعو فيقول : «اللهم إني أعوذ بك من البخل ، وأعوذ بك من الجبن ، وأعوذ بك أن أردّ إلى أرذل العمر ، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر».

٣ ـ وهناك دليل أقوى على البعث وهو خلق النبات من الأرض الميتة إذا أنزل الله عليها الماء ، فتخرج منه الزروع والثمار ذات المنظر أو اللون الحسن ، وذات الرائحة العبقة ، والطعم الشهي.

__________________

(١) الغرة : دية الجنين ، وهي ما بلغ عوضه نصف عشر الدية ، أي خمسين دينارا.

(٢) أحكام القرآن : ٣ / ١٢٦١

١٦٣

٤ ـ إن خلق الإنسان والنبات حاصل بالله ، وهو السبب في حصوله ، ولو لاه لم يتصور وجوده ، فإن الله هو الحق ، أي الثابت الموجود ، وأنه قادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور ، وأنه حكيم لا يخلف ميعاده ، وقد وعد الساعة والبعث ، فلا بد أن يفي بما وعد ، وأنه عالم بكل شيء ، وقادر على جمع ذرأت الإنسان المتفرقة في أنحاء الأرض أو قيعان البحار أو أجواف الحيوانات ، أو في أي مكان.

أحوال الناس

الجدال بالباطل والإيمان المضطرب وجزاء المؤمنين الصالحين

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤))

١٦٤

الإعراب :

(ثانِيَ عِطْفِهِ) حال من ضمير. (يُجادِلُ) عائد على (مِنَ) والإضافة في تقدير أو نية الانفصال ، أي ثانيا عطفه ، ولذلك لم يكتسب التعريف بالإضافة.

(يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ) من : فيه أربعة أوجه :

الأول ـ أنه منصوب ب (يَدْعُوا) واللام في غير موضعها ، أي يدعو من لضرّه أقرب من نفعه ، فقدمت اللام إلى (من) و (ضَرُّهُ) : مبتدأ ، و (أَقْرَبُ) : خبره. وهذا قول الكوفيين.

والثاني ـ أن مفعول (يَدْعُوا) محذوف ، واللام في موضعها ، أي يدعو إليها أي (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) فمن : مبتدأ ، وخبره : (أَقْرَبُ) والجملة صلة (من). و (لَبِئْسَ الْمَوْلى) : خبر ثان ل : (من). وهو قول المبرّد.

والثالث ـ أن (يَدْعُوا) بمعنى يقول ، وما بعده : مبتدأ وخبر ، أي يقول لمن ضرّه عندكم أقرب من نفعه هو إلهي ، فخبر المبتدأ محذوف ، أي يقول الكافر : الصنم الذي تعدونه من جملة الضرر : إلهي.

والرابع ـ أن (يَدْعُوا) تكرار للأول ، لطول الكلام ، مثل (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ ... فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) [آل عمران ٣ / ١٨٨].

البلاغة :

(ثانِيَ عِطْفِهِ) كناية عن التكبر والخيلاء.

(بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) مجاز مرسل ، علاقته السببية ؛ لأن اليد هي التي تفعل الخير أو الشر.

(مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) استعارة تمثيلية ، شبه المنافقين وما هم فيه من اضطراب في دينهم بمن يقف على طرف هاوية يريد العبادة.

(فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) مقابلة بديعة.

(يَضُرُّهُ) و (يَنْفَعُهُ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(هُدىً) هو النظر الصحيح الموصل إلى المعرفة. (كِتابٍ مُنِيرٍ) الوحي المظهر للحق.

١٦٥

(ثانِيَ عِطْفِهِ) متكبرا عن الإيمان ، معرضا عن القرآن كفرا وتعظما ، ولاويا عنقه ، والعطف : الجانب عن يمين أو شمال. (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي عن دينه ، وليضل : علة للجدال. (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) عذاب وهوان وذل ، فقتل يوم بدر أي أبو جهل المجادل. (عَذابَ الْحَرِيقِ) أي الإحراق بالنار. (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) عبر بهما دون غيرهما ؛ لأن أكثر الأفعال تزاول بهما ، وهو وارد بطريق الالتفات ، أو إرادة القول ، أي يقال له يوم القيامة : ذلك الخزي والتعذيب بسبب ما اقترفته من الكفر والمعاصي. (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي ليس بذي ظلم لأحد ، فيعذبهم بغير ذنب ، وإنما هو مجازيهم على أعمالهم ، والمبالغة في (ظلام) لكثرة العبيد.

(عَلى حَرْفٍ) أي على طرف من الدين لا ثبات له فيه ، وهذا تشبيه حال المنافقين بحال من يقف على حرف جبل في عدم ثباته ، أو كالذي يكون على طرف الجيش ، فإن أحس بظفر قرّ ، وإلا فرّ ، فهو على شك وضعف في العبادة. (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ) صحة وسلامة في نفسه وماله. (فِتْنَةٌ) محنة ، وسقم في نفسه وماله. (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) أي رجع إلى الكفر وارتد. (خَسِرَ الدُّنْيا) ضيعها بفوات ما أمله منها ، وبذهاب عصمته لارتداده. (وَالْآخِرَةَ) بالكفر وحبوط عمله. (الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) البيّن ، إذ لا خسران مثله.

(يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ) أي يقول ، واللام زائدة : إن من ضرره بعبادته أقرب من نفعه ، إن نفع بتخيله ، هو إلهي. والضرر : هو استحقاق القتل في الدنيا والعذاب في الآخرة ، والنفع : هو الشفاعة والتوسل بها إلى الله تعالى. (لَبِئْسَ الْمَوْلى) الناصر أي لبئس هو الناصر. (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) الصاحب هو والمعاشر.

(وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من الفروض والنوافل. (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) من إثابة الموحد الصالح ، وإكرام من يطيعه ، وعقاب المشرك ، وإهانة من يعصيه.

سبب النزول :

نزول الآية (٨):

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ) نزلت في أبي جهل ، أنذره الله بالخزي (الذل والهوان) في الدنيا ، فقتل يوم بدر ، أو نزلت في النضر بن الحارث الذي قتل أيضا يوم بدر ، ومعظم المفسرين على هذا كالآية الأولى.

١٦٦

نزول الآية (١١):

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ) : أخرج البخاري عن ابن عباس قال : كان الرجل يقدم المدينة ، فيسلم ، فإن ولدت امرأته غلاما ، ونتجت خيله قال : هذا دين صالح ؛ وإن لم تلد امرأته ولدا ذكرا ، ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء ، فأنزل الله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ).

وأخرج ابن مردويه من طريق عطية عن ابن مسعود قال : أسلم رجل من اليهود ، فذهب بصره وماله وولده ، فتشاءم بالإسلام ، فقال : لم أصب من ديني هذا خيرا ، ذهب بصري ومالي ، ومات ولدي ، فنزلت : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) الآية.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى في الآية المتقدمة : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) [٣] حال الأتباع الجهال المقلّدين الذين يتبعون أهل الكفر والمعاصي والشياطين ، ذكر هنا حال المتبوعين ، الدعاة إلى الكفر والضلال ، رؤساء الشر والابتداع.

وبعد بيان حال هؤلاء المجادلين في توحيد الله بلا حجة ولا برهان صحيح ، أبان تعالى حال المنافقين مضطربي الإيمان ، الذين لم تستقر عقيدتهم ، من جماعة الأعراب القادمين إلى المدينة بقصد المنفعة المادية.

وبعد كشف حال عبادة المنافقين وحال معبوديهم من الأصنام والأوثان ، أوضح الله تعالى صفة عبادة المؤمنين وصفة معبودهم ، فعبادة الأولين خطأ غير صواب ، ومعبودهم لا يضر ولا ينفع ، أما عبادة المؤمنين فهي حق وحقيقة ، ومعبودهم يعطيهم أعظم المنافع وهو الجنة.

١٦٧

التفسير والبيان :

تضمنت هذه الآيات أحوال ثلاث فئات من الناس ، بعد بيان حال فئة هم الضلّال الجهال المقلدون في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ).

أما الفئة الأولى هنا فهم الدعاة إلى الضلال رؤساء الكفر والبدع ، فقال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي وبعض الناس من يجادل في توحيد الله وأفعاله وصفاته ، بلا عقل صحيح ، ولا نقل صريح ، بل بمجرد الرأي والهوى.

(ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي أنه يجادل وهو مستكبر عن الحق وقبوله إذا دعي إليه ، كما قال تعالى حكاية عن قول لقمان لابنه : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) [لقمان ٣١ / ١٨] أي تميله عنهم استكبارا عليهم ، وهدفه أو عاقبته صدّ الناس المؤمنين عن دين الله الذي فيه خيرهم. واللام في قوله : (لِيُضِلَ) إما لام العاقبة ؛ لأنه لا يقصد ذلك ، أي ليصير مآله ممن يضل عن سبيل الله ، وإما لام التعليل ، قال الزمخشري : تعليل للمجادلة ، ولما أدّى جداله إلى الضلال ، جعل كأنه غرضه.

ثم ذكر تعالى عقابه ، فقال :

(لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ ، وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) أي أن عقابه في الدنيا هو الخزي أي الهوان والذل ، وقد قتل يوم بدر ، وعقابه في الآخرة الزجّ به في عذاب النار المحرقة أو الإحراق في النار.

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ ، وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي والسبب فيما مني به من خزي الدنيا وعذاب الآخرة هو ما قدّم من الكفر والمعاصي ، وقد فعل

١٦٨

الله به ذلك عدلا في معاقبته الفجار وإثابته الصالحين ؛ لأن الله لا يظلم عباده. أو يقال له هذا تقريعا وتوبيخا ، كقوله تعالى : (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ ، ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ، ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ، إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) [الدخان ٤٤ / ٤٧ ـ ٥٠]. ونظير آية العدل : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا ، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم ٥٣ / ٣١].

والخلاصة : أن هذا العقاب حق وعدل بسبب جرم الكفر والإثم الفاحش.

وأما الفئة الثانية أهل الضلالة الأشقياء : فهم أهل الشك والنفاق والمصلحة والمنفعة المادية ، وهم : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ..) أي وبعض الناس يعبد الله على شك وطرف من الدين لا في القلب ، كمن يقف على حافة واد ، أو على طرف الجيش ليفر عند الإحساس بالهزيمة ، فهو مضطرب الإيمان ، غير مطمئن القلب ، غير واثق بهذا الدين ، ولا صادق النية ، ولا مخلص في العبادة ، وهم صنف من المنافقين.

(فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ..) أي فإن أصابه خير مادي من غنيمة ومال ، وزيادة نتاج في الولد ونسل الحيوان ، رضي عن هذا الدين. واطمأن إليه. وإن أصابه مرض أو لم تلد امرأته ، ولا ماشيته ، أي أحس بنقص في المال أو الأنفس ، أو هلاك أو جدب في الثمرات والغلات ، ارتد ورجع كافرا ، وهذا هو النفاق بعينه.

(خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ، ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) أي ضيع الدنيا والآخرة ، فلا هو حصل من الدنيا على شيء من عز وكرامة وغنيمة ، ولا استفاد من ثواب الآخرة ، لأنه كفر بالله العظيم ، فهو فيها في غاية الشقاء والإهانة ، وذلك هو الخسران البيّن الذي لا خسران مثله ، أو هي الخسارة العظيمة والصفقة الخاسرة.

١٦٩

وتأكيدا لعظم تلك الخسارة قال تعالى :

(يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) أي يعبد من غير الله آلهة من الأصنام والأنداد ، يستغيث بها ، ويستنصرها ، ويسترزقها ، وهي لا تضره إن لم يعبدها ، ولا تنفعه في الآخرة إن عبدها.

(ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) أي ذلك الارتداد ، وعبادة تلك الأصنام ، هو الضلال الموغل في الضلالة ، البعيد جدا عن طريق الصواب.

ثم زاد الأمر تأكيدا فقال :

(يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ ، لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) أي يدعو (تكرارا للأول) لمن ضرره في الدنيا قبل الآخرة أقرب من نفعه فيها ، وأما في الآخرة فضرره محقق متيقن ، لبئس الناصر هو ، ولبئس الصاحب هو. أو يقول الكافر حينما يتحقق من تضرره بعبادته هذا المعبود الخاسر الذي أدخله النار : لبئس هذا المولى والناصر ، ولبئس هذا العشير والصاحب.

وأما الفئة الثالثة : وهم الأبرار السعداء فهم الذين آمنوا بقلوبهم ، وصدقوا إيمانهم بأفعالهم، كما قال تعالى :

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ..) أي إن الله تعالى يكافئ المؤمنين الصادقي الإيمان ، الذين عملوا الصالحات ، أي الطاعات والقربات ، وتركوا المنكرات ، بإدخالهم روضات الجنات التي تجري من تحت أشجارها الأنهار.

(إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) بإكرام أهل الطاعة وإثابتهم ، وإهانة أهل المعصية وحرمانهم من فضله ، يفعل وفق مراده ومشيئته المطلقة ، فلا رادّ لقضائه ، ولا معقّب لحكمه ، يدخل المؤمنين الجنة ، ويدخل الكافرين النار.

١٧٠

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ تكرر نزول الآيات في النضر بن الحارث ، فهو في جداله في الآية المتقدمة [٣] يريد إنكار البعث ، وفي هذه الآية [٨] يريد إنكار النبوة وإنكار نزول القرآن من جهة الله. وقد قيل : نزلت فيه بضع عشرة آية. وكان من قوله : إن الملائكة بنات الله ، وهذا جدال في الله تعالى. ووصف هنا بأنه أعرض عن القرآن والحق ، ولوى عنقه مرحا وتعظما وتكبرا ، وكانت عاقبته أنه يجادل فيضل عن دين الله تعالى.

وعقابه في الدنيا الهوان والذل مما يجري له من الذكر القبيح على ألسنة المؤمنين إلى يوم القيامة ، وقتل يوم بدر ، ويغشى في الآخرة نار جهنم ، جزاء وفاقا للكفر والمعصية ، ولا يظلم ربك أحدا. وفيه دليل على أن الله لا يعذب الأطفال بكفر آبائهم.

ودليل أيضا على أن العقاب بسبب عمل الإنسان وفعله ، فإذا عاقبه بغير فعله كان ذلك محض الظلم. وهو على خلاف النص.

٢ ـ يجب أن يكون الإيمان في القلب كالجبال الراسيات ، لا يتأثر بحدوث ضرر ، ولا بزوال نفع ، أما المنافقون الماديون الذين ينتظرون حدوث النفع المادي من مال أو غنيمة ، ويستاءون بما يتعرضون له من نقص في المال والثمرات ، فهم الذين خسروا الدنيا ، فلا حظ لهم في غنيمة ولا ثناء ، وخسروا الآخرة بأن لا ثواب لهم فيها ، بل لهم العقاب الدائم بسبب ردتهم ورجوعهم إلى الكفر.

والراجع إلى الكفر يعبد الصنم الذي لا ينفع ولا يضر ، ويدعو من ضرره أدنى من نفعه في الآخرة ؛ لأنه بعبادته دخل النار ، ولم ير منه نفعا أصلا. أو

١٧١

يقول الكافر : لمن ضره أقرب من نفعه في قول المسلمين : هو معبودي وإلهي ، لبئس المولى في التناصر ، ولبئس المعاشر والصاحب والخليل.

٣ ـ يثيب الله من يشاء ، ويعذب من يشاء ، فللمؤمنين الجنة بحكم وعده الصدق وبفضله ، وللكافرين النار بما سبق من عدله ، لا أن فعل الرب معلل بفعل العبد.

٤ ـ ما أروع هذه المقارنة والموازنة في الآيات بين حال المشركين وحال المنافقين ، وحال المؤمنين في الآخرة! فالعاقل هو الذي ينحاز آليا لصف الإيمان ليبرأ في عالم الآخرة ، والجاهل الغبي أو المعاند أو المتلاعب هو الذي يبقى في عكر العقيدة ومفاسدها وخبائثها ، فيتلقى جزاءه عدلا ، ولا ظلم في الحساب.

حال اليائس من نصرة الرسول وإنزال الآيات البينات

(مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦))

الإعراب :

(آياتٍ بَيِّناتٍ) حال منصوب ، و (بَيِّناتٍ) صفة ، أي ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله آيات واضحات.

(وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي ..) معطوف على هاء : (أَنْزَلْناهُ).

١٧٢

المفردات اللغوية :

(أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ) أي أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة ، فمن كان يظن خلاف ذلك ويتوقعه من غيظه (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ) أي فليمدد حبلا إلى سقف بيته يشده فيه وفي عنقه ، ثم ليختنق به ، بأن يقطع أنفاسه من الأرض ، والمراد : فليستقص في إزالة غيظه أو جزعه ، بأن يفعل كل ما يفعله الممتلئ غضبا أو غيظا ، حتى يمد حبلا إلى سماء بيته ، فيختنق. وليس هذا دعوة إلى الانتحار ، وإنما كما يقول المثل العامي : اشرب البحر ، للدلالة على عدم الفائدة من الفعل.

(فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) أي فليتصور في نفسه ، هل يذهبن كيده في عدم نصرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غيظه ، والمعنى : فليختنق غيظا منها ، فلا بد منها.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ) أي مثل إنزالنا الآية السابقة (أَنْزَلْناهُ) أي القرآن الباقي (آياتٍ بَيِّناتٍ) ظاهرات واضحات (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) هداه ، أي ولأن الله يهدي به أو يثبّت على الهدى من يريد هدايته أو ثباته ، أنزله كذلك مبينا.

المناسبة :

بعد بيان حال المشركين المجادلين بالباطل ، والمنافقين ، والمؤمنين ، بيّن الله تعالى حال أمرين : هما نصرته رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدنيا والآخرة ؛ لييأس المجادلون ، وإنزاله القرآن آيات واضحات ترشد إلى الحق والصواب.

التفسير والبيان :

من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدنيا والآخرة ، فليمدد بحبل إلى سقف بيته ، ثم ليختنق به ، ثم ليتأمل ويتصور في نفسه : هل يذهب فعله الذي فعله غيظه من نصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ كلا.

وسمي الاختناق قطعا ؛ لأن المختنق يقطع حياته ، وسمي فعله وهو نصب المشنقة كيدا استهزاء ؛ لأنه لم يكد به محسوده ، وإنما كاد به نفسه ، أو لأنه كالكيد ، حيث لم يقدر على غيره.

١٧٣

وقال أبو جعفر النحاس : من أحسن ما قيل في هذه الآية أن المعنى : من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه ، فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء ، ثم ليقطع النصر إن تهيأ له ، ثم لينظر هل يذهبن كيده وحيلته ما يغيظه من نصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟. والفائدة في الكلام أنه إذا لم يتهيأ له الكيد والحيلة بأن يفعل مثل هذا ، لم يصل إلى قطع النصر.

وعلى كلا المعنيين ، إن الله ناصر دينه وكتابه ورسوله لا محالة ، فليفعل أهل الغيظ ما شاؤوا.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ) أي ومثل ذلك الإنزال للآية المتقدمة أنزلنا القرآن كله آيات واضحات الدلالة على معانيها ، ليتعظ بها المعتبر.

(وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) أي ولأن الله يهدي به ويوفق الذين يعلم أنهم يؤمنون ، ومستعدون للإيمان بما أنزل ، ويريد الله هدايتهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية الأولى على حسم الموقف بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين معاديه ، فالله تعالى لا محالة ناصر رسوله ، ومؤيد دينه وكتابه ودعوته ، ومحبط مكائد الأعادي ، وقاطع أطماعهم ، ورادّ كيدهم في نحورهم ، فلا أمل لهم بعدئذ في إحباط دعوة الإسلام ، كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف ٦١ / ٩] وقال سبحانه : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) [غافر ٤٠ / ٥١].

والله تعالى أيضا مؤيد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوحيه ، وبما أنزله عليه من الآيات البينات الواضحات ، ليفهمها الناس ، أي القرآن ، وكذلك (أَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) قال القرطبي : علق وجود الهداية بإرادته ، فهو الهادي لا هادي سواه.

١٧٤

وقال الزمخشري والبيضاوي : ولأن الله يهدي به الذين يعلم أنهم مؤمنون ، أو يثبّت الذين آمنوا على الهدى.

الفصل الإلهي بين الأمم وخضوع كل ما في الكون لعزة الله

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨))

الإعراب :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا .. وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) الخبر : إما محذوف ، وإما قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) لأنها فيها معنى الجزاء ، فحمل الخبر على المعنى.

(وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) إما معطوف على (مَنْ) في قوله تعالى : (يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ) لأن السجود بمعنى الانقياد ، وكل مخلوق منقاد تحت قدرة الله تعالى ، وإما مبتدأ وخبره : إما (مِنَ النَّاسِ) أي من الناس الذين هم الناس على الحقيقة ، وهم الصالحون المتقون ، وإما محذوف ، وهو مثاب ، أي وكثير من الناس ثبت له الثواب ، دل عليه خبر مقابله وهو قوله : (حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ).

البلاغة :

(وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) بينهما طباق.

١٧٥

المفردات اللغوية :

(وَالَّذِينَ هادُوا) هم اليهود (وَالصَّابِئِينَ) هم فرقة بين اليهود والنصارى ، أو قوم يعبدون الملائكة ، ويقرءون الزبور (وَالْمَجُوسَ) أتباع المتنبئ ، قوم يعبدون الشمس والقمر والنار ويقولون : إن هناك إلهين اثنين للخير والشر وهما النور والظلمة. (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) عبدة الأصنام والأوثان (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) يقضي بينهم لإظهار المحق من المبطل ، فيدخل المؤمنين الجنة ، ويدخل غيرهم النار (عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من عملهم (شَهِيدٌ) عالم به علم مشاهدة ، مراقب لما يتعلق به.

(يَسْجُدُ لَهُ) يخضع له بما يراد منه ، وهو السجود بالتسخير والانقياد لإرادته تعالى ، وهناك سجود بالاختيار خاص بالإنسان. (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة ، فهو فاعل فعل مضمر ، أو هو مبتدأ دل عليه قسيمه المقابل له بعده ، وخبره : حق له الثواب ، وهم المؤمنون بما هو أكثر من الخضوع في سجود الصلاة (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) أي وكثير منهم ثبت له العذاب ، وهم الكافرون ؛ لأنهم أبوا السجود والخضوع لله بشرط الإيمان (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) أي ومن يجعله شقيا لما علم منه من اكتساب الشقاوة فما له أحد يكرمه ويسعده (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) من الإهانة والإكرام.

المناسبة :

هناك ارتباط عام وارتباط خاص بين هذه الآيات وما قبلها ، أما الارتباط العام : فبعد أن ذكر تعالى أحوال المشركين والمنافقين والمؤمنين ، أبان هنا أن الله يقضي بينهم جميعا ليبين المحق من المبطل ، وأما الارتباط الخاص ، فبعد أن ذكر تعالى في الآية السابقة (أَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) أتبعه في الآية الأولى ببيان من يهديه ومن لا يهديه.

ثم أردفه في الآية الثانية ببيان أنه ما كان ينبغي لأهل الأديان المختلفة أن يختلفوا ؛ لأن جميع العوالم خاضعة لسلطانه وقدرته ، وساجدة لعظمته طوعا أو كرها.

١٧٦

التفسير والبيان :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا ...) إن الله تعالى يقضي بين أهل الأديان المختلفة من المؤمنين بالله ورسله ، واليهود ، والنصارى ، والمجوس ، والمشركين الذين يعبدون مع الله غيره ، ويحكم بينهم بالعدل ، فيدخل من آمن به الجنة ، ومن كفر به النار ، فإنه تعالى شهيد على أعمالهم ، حفيظ لأقوالهم وأفعالهم ، عليم بسرائرهم ، وما تكنّ ضمائرهم.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ ...) أي ألم تعلم أن الله تعالى يخضع ويسجد لعظمته كل شيء طوعا وكرها ، وسجود كل شيء بما يختص به ، فيسجد له من في السموات : وهو الملائكة ، ومن في الأرض وهم الإنس والجن ، والشمس والقمر والنجوم من العوالم العلوية ، والشجر والدوابّ (الحيوانات كلها) من العالم السفلي ، وكثير من الناس حقّ له الثواب أو يسجد لله طوعا مختارا متعبدا بذلك ، أي ثبت وتقرر ، وكثير حق عليه العقاب ، ممن امتنع وأبى واستكبر. وقد نص على هذه الأشياء ؛ لأنها قد عبدت من دون الله ، فأبان تعالى أنها تسجد لخالقها ، وأنها مربوبة مسخرة منقادة لله تعالى.

ومن يهنه الله فيشقيه ، أو من يهنه بالشقاء والكفر لسوء استعداده للإيمان ، لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه ، ولا يسعده أحد ؛ لأن الأمر بيده تعالى ، يوفق من يشاء ويخذل من يريد.

إن الله تعالى يفعل في عباده ما يشاء من الإهانة والإكرام ، لا رادّ لقضائه ، ولا معقّب لحكمه.

ونظير الآية كثير ، مثل : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ ، عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ ، سُجَّداً لِلَّهِ ، وَهُمْ داخِرُونَ) [النحل ١٦ / ٤٨].

١٧٧

ومثل (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء ١٧ / ٤٤].

وأما إطلاق المشيئة لله تعالى فيوضحه ما رواه ابن أبي حاتم عن علي : أنه قيل لعلي : «إن هاهنا رجلا يتكلم في المشيئة ، فقال له علي : يا عبد الله ، خلقك الله كما يشاء ، أو كما شئت؟ قال : بل كما شاء ، قال : فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال : بل إذا شاء ، قال : فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال : بل إذا شاء ، قال : فيدخلك حيث شئت أو حيث شاء؟ قال : بل حيث يشاء ، قال : والله ، لو قلت غير ذلك ، لضربت الذي فيه عيناك بالسيف» (١).

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية الأولى على أن الله تعالى يقضي بالعدل بين أهل الأديان المختلفة ، وهم المؤمنون بالله وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واليهود : وهم المنتسبون إلى ملة موسى عليه‌السلام ، والصابئون : وهم قوم يعبدون النجوم ، والنصارى : وهم المنتسبون إلى ملة عيسى ، والمجوس : وهم عبدة النيران القائلون بأن للعالم أصلين : نور وظلمة ، والمشركون : وهم العرب ونحوهم عبدة الأوثان. هذه الفرق الست : خمسة منها للشيطان ، وواحدة منها للرحمن. وإنه تعالى يقضي ويحكم بينهم ، فللكافرين النار ، وللمؤمنين الجنة ، إن الله تعالى شهيد على أعمال خلقه وحركاتهم وأقوالهم.

ودلت الآية الثانية على أن القلب والعقل يرى أن جميع ما في العوالم العلوية والسفلية من الكواكب والجمادات والنباتات والإنسان والحيوان يسجد لله تعالى سجود تذلل وانقياد لتدبير الله عزوجل في جميع الأحوال من ضعف وقوة ، وصحة وسقم ، وحسن وقبح ، وسجود خضوع لعظمته وسلطانه وجبروته.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ٢١١

١٧٨

روى مسلم عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قرأ ابن آدم السجدة ، اعتزل الشيطان يبكي ، يقول : يا ويله ، أمر ابن آدم بالسجود ، فسجد ، فله الجنة ، وأمرت بالسجود فأبيت ، فلي النار».

ومن أهانه الله بالشقاء والكفر لسوء استعداده لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه ، والذين حق عليهم العذاب ، ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم ، فيكون مكرما لهم.

وإن الله تعالى هو الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب. والمراد من بيان إطلاق المشيئة لله أن مصير الكافرين إلى النار فلا اعتراض لأحد عليه.

جزاء الكافرين والمؤمنين

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤))

١٧٩

الإعراب :

(يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ) : حال من ضمير (لَهُمْ) أو خبر ثان.

(يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) : (ما) : نائب فاعل ، (وَالْجُلُودُ) : معطوف عليه ، وهاء (بِهِ) عائدة على (الْحَمِيمُ). والجملة : حال من (الْحَمِيمُ) أو من ضمير «هم».

(مِنْ غَمٍ) في موضع نصب ؛ لأنه بدل من قوله : (مِنْها) أي : كلما أرادوا أن يخرجوا من غم أعيدوا فيها.

(وَذُوقُوا عَذابَ) على حذف القول ، أي : ويقال لهم : ذوقوا عذاب الحريق ، وهذا كثير في كلام العرب.

(مِنْ أَساوِرَ) صفة مفعول محذوف.

(وَلُؤْلُؤاً) إما منصوب بتقدير فعل ، أي ويعطون لؤلؤا ، لدلالة (يُحَلَّوْنَ) عليه في أول الكلام. وإما معطوف على موضع الجار والمجرور من قوله : (مِنْ أَساوِرَ) كأن يقال : مررت بزيد وعمرا. وعلى قراءة الجر يكون معطوفا على (أَساوِرَ) أو على الذهب بأن يرصع اللؤلؤ بالذهب.

البلاغة :

(اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) أي في دين ربهم ، فهو على حذف مضاف. وقوله : (هذانِ) للفظ ، و (اخْتَصَمُوا) للمعنى.

(قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) استعارة عن إحاطة النار بهم كإحاطة الثوب بلابسه.

المفردات اللغوية :

(هذانِ خَصْمانِ) الخصم : من يعارض غيره في الرأي. وقد وصف به الفريق أو الفوج ، فكأنه قيل : هذان فوجان أو فريقان مختصمان متنازعان ، وقوله : (هذانِ) للفظ ، و (اخْتَصَمُوا) للمعنى ، والمراد بهما : المؤمنون والكافرون. والخصم : يطلق على الواحد والجماعة. (اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) أي في دينه أو في ذاته وصفاته (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ) أي قدّرت لهم ثياب يلبسونها ، والمراد : نيران تحيط بهم إحاطة الثياب (الْحَمِيمُ) الماء البالغ نهاية الحرارة (يُصْهَرُ بِهِ) يذاب (ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) أي يؤثر من فرط حرارته في باطنهم تأثيره في ظاهرهم ، فيذاب به

١٨٠