التفسير المنير - ج ١٧

الدكتور وهبة الزحيلي

٦ ـ قوله تعالى : (فَكُلُوا مِنْها) يراد منه الإباحة ، مثل قوله : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة ٥ / ٢] وقوله : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) [الجمعة ٦٢ / ١٠] أو يراد منه الندب والاستحباب ، فيستحب للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته ، وأن يتصدق بالأكثر ، مع تجويز الصدقة بالكل وأكل الكل عند المالكية. وذلك خلافا لما كان عليه أهل الجاهلية من التحرج عن الأكل من الهدايا ، فأباح النص الأكل منها أو ندب إليه لقصد مواساة الفقراء.

لكن جواز الأكل من الهدايا ليس عاما في كل هدي ، فإن دم الجزاء لا يجوز لصاحبه الأكل منه اتفاقا ، ودم التطوع يجوز الأكل منه اتفاقا.

أما دم التمتع والقران : فقال الشافعية : إنه دم جبر ، فلا يجوز لصاحبه الأكل منه. ورأى الحنفية أنه دم شكر ، فأباحوا لصاحبه الأكل منه ، عملا بظاهر الآية ، فإنها رتبت قضاء التفث على الذبح والطواف ، ولا دم تترتب عليه هذه الأفعال إلا دم المتعة والقران ، فإن سائر الدماء يجوز ذبحها قبل هذه الأفعال وبعدها ، فدل ذلك على أن المراد في الآية دم المتعة والقران. وثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكل من البدن التي ساقها في حجة الوداع ، وقد كان قارنا على الراجح عندهم. وإذا كان يجوز إطعام الأغنياء منها ، جاز لصاحب الذبيحة أن يأكل منها ، ولو كان غنيا.

ومشهور مذهب مالك رضي‌الله‌عنه أن صاحب الذبيحة لا يأكل من ثلاث من دماء الكفارات : جزاء الصيد ، ونذر المساكين ، وفدية الأذى ، ويأكل مما سوى ذلك إذا بلغ محلّه ، واجبا كان أو تطوعا. وإذا أكل مما منع منه ، يغرم في قول راجح للمالكية قدر ما أكل ؛ لأن التعدي إنما وقع على اللحم ، وفي قول آخر : يغرم هديا كاملا.

٧ ـ قوله تعالى : (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) ظاهره وجوب إطعام الفقراء

٢٠١

من الهدايا ، وبه أخذ الشافعي ، وقال أبو حنيفة : إنه مندوب ؛ لأنها دماء نسك ، فتتحقق القربة فيها بإراقة الدم ، أما إطعام الفقراء فهو مندوب. ويستحب عند أكثر العلماء أن يتصدق من أضحيته وهديه بالثلث ، ويطعم الثلث ، ويأكل هو وأهله الثلث. ولم يثبت هذا التقسيم عند مالك. والمسافر في رأي الجمهور يطالب بالأضحية كما يطالب بها الحاضر ، لعموم الخطاب بها. ولا يطالب بها عند أبي حنيفة. كما لا يطالب عند مالك من المسافرين الحاج بمنى ، فلم ير عليه أضحية.

٨ ـ لا يجوز بيع شيء من الهدايا ، لاقتصار النص على الأكل والطعام ، ولما رواه البخاري ومسلم عن علي رضي‌الله‌عنه قال : «أمرني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أقوم على بدنه ، فقال : اقسم جلودها وجلالها ، ولا تعط الجازر منها شيئا» فلا يجوز بيع شيء منها بالأولى.

٩ ـ قوله : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) دليل على وجوب التحلل الأصغر ، وذلك بالحلق أو التقصير.

١٠ ـ قوله : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) يدل على وجوب الوفاء بالنذر وإخراجه إن كان دما أو هديا أو غيره ، ويدل ذلك على أن النذر لا يجوز أن يأكل منه وفاء بالنذر. وكذلك جزاء الصيد ، وفدية الأذى ؛ لأن المطلوب أن يأتي به كاملا من غير نقص لحم ولا غيره ، فإن أكل من ذلك ، كان عليه هدي كامل.

ولا وفاء بنذر المعصية ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد عن جابر : «لا وفاء لنذر في معصية الله» وقوله فيما رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن عائشة : «من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه».

١١ ـ قوله : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) يدل على لزوم هذا الطواف ، والمراد به طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج. قال الطبري : لا خلاف بين المتأولين في ذلك.

٢٠٢

أما القول بأنه طواف الوداع (الصّدر) فهو بعيد ؛ لأن الطواف الذي يلي قضاء التفث إنما هو طواف الإفاضة ، فلا مناسبة هنا لطواف الوداع.

وللحج ثلاثة أطواف : طواف القدوم ، وطواف الإفاضة ، وطواف الوداع. أما طواف القدوم فهو سنة عند الجمهور ، واجب على الأصح عند المالكية ، وعكسه طواف الوداع : مستحب عند المالكية ، واجب عند الجمهور ، وأما طواف الإفاضة فهو فرض وركن لا يتم الحج إلا به بالاتفاق ، لقوله تعالى : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).

تعظيم حرمات الله وشعائره

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥))

٢٠٣

الإعراب :

(ذلِكَ) خبر مبتدأ محذوف ، أي الأمر والشأن ذلك المذكور.

(مِنَ الْأَوْثانِ مَنْ) : لتبيين الجنس ؛ لأنه أعم في النهي.

(حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ حُنَفاءَ) : حال من ضمير (فَاجْتَنِبُوا) وهو عامله ، وكذلك (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ).

(مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) القراءة المشهورة جرّ (الْقُلُوبِ) بالإضافة ، وتقرأ برفع (الْقُلُوبِ) بالمصدر ؛ لأن «التقوى» مصدر كالدعوى ، فيرتفع به ما بعده.

البلاغة :

(فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) تأكيد بإعادة الفصل بالفعل ، ويسمى الإطناب ، للعناية بشأن كل منهما على حدة.

(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) تشبيه تمثيلي ؛ لأن وجه الشبه منتزع من متعدد ، وكذا قوله : (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) تشبيه تمثيلي. والعطف فيه إما على قوله : (خَرَّ مِنَ السَّماءِ) أو على «تخطفه الطير».

(وَجَبَتْ جُنُوبُها) جناس ناقص.

المفردات اللغوية :

(ذلِكَ) أي الأمر هكذا ، ويستعمل للفصل بين كلامين ، كقوله تعالى : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) [ص ٣٨ / ٥٥] (وَمَنْ يُعَظِّمْ) التعظيم : العلم بوجوب تكاليف الشرع والعمل بموجبه. (حُرُماتِ اللهِ) جمع حرمة ، والحرمة : الأحكام وسائر ما لا يحل انتهاكه ، عن زيد بن أسلم : الحرمات خمس : الكعبة الحرام ، والمسجد الحرام ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام ، والمشعر الحرام. وقال المتكلمون : ولا تدخل النوافل في حرمات الله تعالى. (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي فالتعظيم خير ثوابا في الآخرة ، للعلم بأنه يجب القيام بمراعاة الحرمات وحفظها.

(وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ) أي أحل أكلها بعد الذبح. (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي إلا المتلو عليكم تحريمه في آية : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة ٥ / ٣] وهو ما حرّم منها لعارض كالموت وغيره ، فلا تحرموا منها غير ما حرّمه الله كالبحيرة والسائبة ، والاستثناء منقطع ، ويجوز أن يكون متصلا (الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ مَنْ) للبيان ، أي الذي هو الأوثان ، كما تجتنب الأنجاس ، وهو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها ، والتنفير عن عبادتها. والرجس : القذر ، أي اجتنبوا عبادة الأوثان.

٢٠٤

والأوثان جمع وثن ، وسمي الصنم وثنا ؛ لأنه ينصب ويركز في مكانه لا يبرح عنه ، وقد يسمى الصنم تمثالا إذا كان على صورة الحيوان التي يحيى بها.

(وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) أي الشرك بالله في تلبيتكم ، أو شهادة الزور ، قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه عن خريم بن فاتك : «عدّت شهادة الزور الإشراك بالله» ثلاث مرات ، وتلا هذه الآية. والزور : الكذب والانحراف. وهو تعميم بعد تخصيص ، فإن عبادة الأوثان رأس الزور ، كأنه لما حث على تعظيم الحرمات ، أتبعه بالنهي عن تعظيم الأوثان والافتراء على الله بأنه حكم بذلك.

(حُنَفاءَ لِلَّهِ) مخلصين لله ، مسلمين ، عادلين عن كل دين سوى دينه ، جمع حنيف: وهو المائل عن الدين الباطل إلى الدين الحق (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) تأكيد لما قبله. (خَرَّ) سقط. (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) أي تأخذه بسرعة ، والخطف : الاختلاس بسرعة. (تَهْوِي) تسقط. (سَحِيقٍ) بعيد ، أي فهو لا يرجى خلاصه ، فإن الشيطان قد طرح به في الضلالة. وأو : للتخيير ، كما في قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ) [البقرة ٢ / ١٩] أو للتنويع ، فإن من المشركين من لا خلاص له أصلا ، ومنهم من يمكن خلاصه بالتوبة ، ولكن على بعد.

(ذلِكَ) خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك المذكور. (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) أي دين الله أو فرائض الحج ومواضع نسكه ، أو الهدايا ؛ لأنها من معالم الحج ، والشعائر : جمع شعيرة أي علامة ، ويراد بها الهدايا ، وتعظيمها أن تختار من النوع الحسن السمين الغالي الثمن. وسميت شعائر لتعليمها بأنها هدي كالزينة أو الجرح البسيط.

(فَإِنَّها) أي فإن تعظيم البدن التي تهدى للحرم بأن تستحسن وتستسمن. (مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب ، فحذفت هذه المضافات. وذكر القلوب ؛ لأنها منشأ التقوى والفجور.

(لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) كركوبها والحمل عليها ما لا يضرها. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي وقت نحرها. (مَحِلُّها) أي مكان حل نحرها. (إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي عنده ، والمراد : الحرم جميعه.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) أي ولكل أهل دين تقدموا (مَنْسَكاً) المراد هنا متعبدا أو قربانا يتقربون به إلى الله تعالى وهو الذبح تقربا إلى الله ، فهو اسم مكان ، والأصل في النسك والمنسك : العبادة مطلقا ، وشاع استعماله في أعمال الحج. (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) عند ذبحها. (فَلَهُ أَسْلِمُوا) انقادوا. (الْمُخْبِتِينَ) المطيعين الخاشعين المتواضعين. (وَجِلَتْ) خافت. (ما أَصابَهُمْ) من البلايا. (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) في أوقاتها. (يُنْفِقُونَ) يتصدقون.

٢٠٥

المناسبة :

الكلام مرتبط بما قبله بنحو واضح ، فبعد أن أمر الله تعالى إبراهيم عليه‌السلام بالنداء للحج ، أبان ثواب تعظيم أحكام الله وشرعه ومنها مناسك الحج ، وإباحة ذبح الأنعام وأكلها إلا ما استثني تحريمه ، ثم أتبعه بالنهي عن تعظيم الأوثان ، والافتراء على الله ، والكذب في أداء الشهادات ، وهلاك من يشرك بالله ، ثم أوضح كون تعظيم الشعائر من علائم التقوى ودعائمها ، وأن محل نحرها هو الحرم المكي ، كما أن لكل أمة أو جماعة مؤمنة ذبائح يتقربون بها إلى الله تعالى.

التفسير والبيان :

(ذلِكَ ، وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ ...) أي ذلك هو المأمور به من الطاعات في أداء المناسك وثوابها الجزيل ، ومن يعظم أحكام الله بالعلم بوجوبها والعمل بموجبها ، بأن يجتنب المعاصي والمحارم ، ويلتزم بالأوامر ، فله على ذلك ثواب جزيل ، والثواب يكون على الأمرين معا : فعل الطاعات ، واجتناب المحظورات أو ترك المحرّمات.

والحرمات : جمع حرمة وهي بمعنى ما حرم الله من كل منهي عنه في الحج من الجدال والجماع والفسوق والصيد ، وتعظيمها يكون باجتنابها. وقيل : الحرمات : جميع التكاليف الشرعية في الحج وغيره ، وقيل : هي مناسك الحج خاصة ، وقيل : إنها حرمات خمس : المسجد الحرام (الكعبة) والبيت الحرام ، والمشعر الحرام ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام. وتعظيمها باجتناب المعاصي ، ومنها الاعتداءات فيها.

وضمير (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) راجع إلى التعظيم المفهوم من (يُعَظِّمْ) أي أن تعظيم هذه الأشياء سبب للمثوبة المضمونة عند الله تعالى ، وعلى هذا لا يكون (خَيْرٌ) أفعل تفضيل.

٢٠٦

(وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي وأبيح لكم أيها الناس ذبح الأنعام وأكلها إلا ما استثني وتلي عليكم في آية المائدة وغيرها ، وهو الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به .. إلخ ولم يحرم عليكم ما حرمه أهل الجاهلية من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. فلا يراد من قوله (يُتْلى) ما ينزل في المستقبل ، كما هو ظاهر الفعل المضارع ، بل المراد : ما سبق نزوله ، ويكون التعبير بالمضارع للتنبيه على أن ذلك المتلو ينبغي استحضاره والالتفات إليه.

والاستثناء متصل إن أريد من المستثنى : المحرم من خصوص الأنعام ، وهو منقطع إن أريد به ما يشمل الدم ولحم الخنزير وغيرهما ، والراجح الأول والجملة معترضة لدفع الإيهام بأن تعظيم الحرمات يقضي باجتناب الأنعام ، كما قضي باجتناب الصيد في الحرم وفي أداء المناسك في الحج والعمرة.

(فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) أي تجنبوا القذر من الأصنام ، وسميت رجسا تقبيحا لها وتنفيرا منها ، وابتعدوا عن عبادة الأوثان ، فذلك رجس ، والمراد من اجتنابها : اجتناب عبادتها وتعظيمها ، وتأكيدا للأمر أوقع الاجتناب على ذاتها. والجملة مرتبطة بقوله : (وَمَنْ يُعَظِّمْ ..) أي إذا كان تعظيم حرمات الله فيه الخير ورضا الله تعالى ، وكان من تعظيمها اجتناب ما نهى الله عنه ، فاجتنبوا الأوثان ، ولا تعظموها ، ولا تذبحوا لها كما كان يفعل أهل الجاهلية.

(وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) أي وابتعدوا عن الكذب والباطل وشهادة الزور ، فذلك كله يدخل تحت عبارة (قَوْلَ الزُّورِ) والأحسن التعميم ، حتى يشمل شهادة الزور ، أخرج أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» ثلاثا ، وتلا هذه الآية.

٢٠٧

وتمسكوا بهذه الأمور حنفاء لله ، أي مخلصين له الدين ، منحرفين عن الباطل ، قصدا إلى الحق ، دون إشراك بالله أحدا. والحنيف : المائل عن الديانات الباطلة إلى الدين الحق.

ثم ضرب للمشرك مثلا في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى بجملة مستأنفة مقررة لوجوب اجتناب الشرك ، فقال : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ ...) أي ومن أشرك مع الله إلها آخر ، وعبد غيره ، فقد خسر خسرانا عظيما وهلك هلاكا مبينا ، وهو في شركه شبيه بمن سقط من جو السماء ، فتخاطفته الطيور ، أي قطعته ومزقته في الهواء ، وأخذ كل منها بقطعة منه ، فتم هلاكه ؛ أي هو كمن عصفت به الريح ، فهوت به في مكان بعيد مهلك ، لا يكون له منه خلاص ولا نجاة. والغرض من هذين التشبيهين التمثيليين تقبيح حال الشرك والتنفير منه.

ثم ذكر الله تعالى سبب تعظيم الشعائر فقال :

(ذلِكَ ، وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ ، فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) أي الأمر ذلك المذكور ، ومن يعظم الهدايا (المواشي التي تذبح هدية للحرم) لأنها من معالم الحج ، بأن يختارها جسيمة سمينة غالية الثمن ، أو من يعظم أوامر الله ومناسك الحج ، ومنها تعظيم الهدايا والبدن باستسمانها واستحسانها ، كما قال ابن عباس ، فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب ، فحذفت هذه المضافات ، ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها ، كما ذكر في الكشاف. فقوله : (فَإِنَّها) عائد إلى حالة المعظم التي يدل عليها فعل (وَمَنْ يُعَظِّمْ) أو التعظيمة الواحدة. قال ابن العربي عن الشعائر : والصحيح أنها البدن.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهدى مائة بدنة ، فيها جمل لأبي جهل ، في أنفه برة من ذهب ، أي حلقة من ذهب. وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمر قال : أهدى عمر نجيبا ، فأعطي بها ثلاث مائة دينار ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال :

٢٠٨

يا رسول الله ، إني أهديت نجيبا ، فأعطيت بها ثلاث مائة دينار ، أفأبيعها وأشتري بثمنها بدنا؟ قال : «لا ، أنحرها إياها». وكان ابن عمر يسوق البدن مجلّلة بالقباطي ـ ثياب مصرية غالية الثمن ـ فيتصدق بلحومها وجلالها.

(لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) أي لكم في البدن منافع دنيوية من لبنها وصوفها وأوبارها وأشعارها وركوبها ، إلى أجل مسمى أي إلى أن تنحر ، ويتصدق بلحومها ، ويؤكل منها.

ويجوز ركوبها ، حتى بعد أن تسمى بدنا أو هديا ؛ لما ثبت في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا يسوق بدنة قال : «اركبها» قال : إنها بدنة ، قال : «اركبها ويحك» في الثانية أو الثالثة.

(ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي ثم مكان حل نحر الهدي ، وانتهاؤه عند البيت العتيق وهو الكعبة ، أي الحرم جميعه ، إذ الحرم كله في حكم البيت الحرام ، كما قال تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة ٥ / ٩٥] وقال : (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح ٤٨ / ٢٥]. وعلى هذا يكون المعطوف بثم في الآية كلاما تاما أريد به بيان المكان الذي تذبح فيه الهدايا بعد ما بين حكم تعظيمها والانتفاع بها إلى الأجل المعين.

وسبب تسميته بالبيت العتيق هو كما أخرج البخاري في تاريخه ، والترمذي والحاكم وابن جرير وغيرهم عن عبد الله بن الزبير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما سماه الله البيت العتيق ؛ لأنه أعتقه من الجبابرة ، فلم يظهر عليه جبار قط».

ثم أخبر الله تعالى عن مشروعية ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله في جميع الملل فقال :

و (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) أي جعلنا لأهل كل دين سلف ذبحا

٢٠٩

يذبحونه تقربا إلى الله تعالى ، وذلك ليس خاصا بأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما هو في كل الملل. والصحيح كما قال ابن العربي أن المنسك : هو ما يرجع إلى العبادة والتقرب.

(لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي شرعنا لهم سنة ذبح الأنعام ، لكي يذكروا اسم الله حين ذبحها ، أي عند الشروع فيه ، ويشكروه على نعمه التي أنعم بها عليهم.

ويؤيده ما ثبت في الصحيحين عن أنس قال : أتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكبشين أملحين أقرنين ، فسمّى وكبّر ، ووضع رجله على صفاحهما.

وروى الإمام أحمد وابن ماجه عن زيد بن أرقم قال : قلت يا رسول الله ، ما هذه الأضاحي؟ قال : «سنة أبيكم إبراهيم» قالوا : ما لنا منها؟ قال : «بكل شعرة حسنة» قال : فالصوف؟ قال : «بكل شعرة من الصوف حسنة».

(فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ، فَلَهُ أَسْلِمُوا ، وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) أي فإن معبودكم واحد ، وإن تنوعت شرائع الأنبياء ، ونسخ بعضها بعضا ، فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، كما قال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء ٢١ / ٢٥]. وقوله : (فَإِلهُكُمْ ..)بمثابة العلة لما قبله من تخصيص اسمه الكريم بالذكر ؛ لأن تفرده تعالى بالألوهية يقتضي ألا يذكر على الذبائح غير اسمه. وإنما قال : (إِلهٌ واحِدٌ) ولم يقل : «فإلهكم واحد» لإفادة أنه تعالى واحد في ذاته وفي ألوهيته.

ومتى كان الإله واحدا فله أسلموا أي فيجب تخصيصه بالعبادة ، والاستسلام له والانقياد له في جميع الأحكام. وقوله (فَلَهُ أَسْلِمُوا) مرتب بالفاء على الحكم بوحدانية الإله.

وبشر أيها النبي بالثواب الجزيل المخبتين ، أي المتواضعين الخاشعين لله ، من

٢١٠

الخبت وهو المطمئن المنخفض من الأرض. وسر تحول الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو إظهار عظمة الألوهية وقهرها في مقام الأمر والنهي للعباد ، فلما انتهى أمر التكليف ، وجه الخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لتبليغه الناس وعد الله للعاملين المخلصين. وأوصافهم أربعة هي ما يأتي :

١ ـ الخوف والخشوع عند ذكر الله : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي إذا ذكر الله خافت منه قلوبهم.

٢ ـ الصبر على المصائب : (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) أي الذين يصبرون على الآلام والمشقات في طاعة الله تعالى.

٣ ـ إقامة الصلاة : (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) أي الذين يؤدون الصلاة في أوقاتها تامة الأركان والشرائط ، مع الخشوع لله تعالى.

٤ ـ الإنفاق مما رزقهم الله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي وينفقون من بعض ما آتاهم الله من طيب الرزق ، على أهليهم وأقاربهم وفقرائهم ومحاويجهم ، ويحسنون إلى الخلق ، مع محافظتهم على حدود الله تعالى.

وهذه بخلاف صفات المنافقين ، فإنهم بالعكس من هذا كله.

ونظير الآية قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً ، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال ٨ / ٢] وقوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الزمر ٣٩ / ٢٣].

فقه الحياة أو الأحكام :

أفادت الآيات الأحكام التالية :

١ ـ إن تعظيم حرمات الله أي أفعال الحج وغيرها من امتثال الأوامر

٢١١

واجتناب النواهي خير عند الله من التهاون بشيء منها ، وسبب للمثوبة والتكريم عند الله تعالى ، فإن للأوامر حرمة المبادرة إلى الامتثال ، وللنواهي حرمة الانكفاف والانزجار.

٢ ـ إباحة الأكل من لحوم الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم ، إلا المذكور في القرآن من المحرّمات ، وهي الميتة والموقوذة وأخواتها.

٣ ـ يجب اجتناب عبادة الأصنام والأوثان ، فإنها رجس أي شيء قذر ، وهي نجسة نجاسة حكمية. والوثن : التمثال من خشب أو حديد أو ذهب أو فضة ونحوها ، وكانت العرب تنصبها وتعبدها. والنصارى تنصب الصليب وتعبده وتعظمه ، فهو كالتمثال أيضا.

٤ ـ ويجب أيضا اجتناب قول الزور ، والزور : الباطل والكذب ، وهو يشمل خلط أهل الجاهلية في تلبيتهم وقولهم فيها : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، ويشمل أيضا قولهم في البحائر والسوائب : إنها حرام ، وإن تحريمها من الله ، وكذلك يشمل شهادة الزور الباطلة.

ففي الآية وعيد على شهادة الزور ، ولكن ليس في الآية ما يدل على تعزير شاهد الزور ؛ لأنها اقتصرت على تحريم شهادة الزور. وإنما يعزر من قبيل المصلحة والسياسة الشرعية ، التي للحاكم أن يسير على نهجها لحفظ الحقوق العامة ، وردع أهل الفساد. وهذا رأي المالكية وأبي يوسف ومحمد ، جاء في الصحيحين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن أكبر الكبائر : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وشهادة الزور وقول الزور» وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متكئا ، فجلس ، فما زال يكررها ، حتى قلنا : ليته سكت.

٥ ـ يلزم الإخلاص في العبادة لله ، والاستقامة على أمره ، فقوله : (حُنَفاءَ لِلَّهِ) معناه مستقيمين أو مسلمين مائلين إلى الحق ، تاركين الدين الباطل.

٢١٢

٦ ـ المشرك هالك حتما ، خاسر الآخرة ، فهو يوم القيامة بمنزلة من لا يملك لنفسه نفعا ، ولا يدفع عن نفسه ضرا ولا عذابا ، فهو بمنزلة من خرّ من السماء ، فهو لا يقدر أن يدفع شيئا عن نفسه ، ونهايته الهلاك إما بأن تقطعه الطيور بمخالبها ، أو تعصف به الريح ، وتسقطه في مكان قفر بعيد لا نجاة له فيه.

٧ ـ إن تعظيم شعائر الله (وهي الأنعام التي تساق هديا للكعبة ، كما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما ، أو هي جميع مناسك الحج ، والصحيح أنها البدن كما قال ابن العربي) من علائم التقوى ودعائمها. وتعظيمها يكون باختيارها سمينة حسنة غالية الأثمان. والتقوى : هي الخشية التي تبعث على اتباع الأوامر واجتناب النواهي. والإخلاص والتقوى والخشية غاية ما يتمنى المرء أن يدركه في هذه الدنيا ، ليصل به إلى سعادة الآخرة.

وفي الآية حث على التقوى ، وبعث للهمم على الاهتمام بأمرها.

٨ ـ يجوز الانتفاع بالبدن بالركوب والحلب وأخذ الصوف وغيرها ، إلى وقت الذبح ، فقد فسر الشافعية الأجل المسمى في الآية بوقت نحر الهدي. وقالوا : إنما يجوز الانتفاع للحاجة ، ولو لم يكن هناك اضطرار. ولا يجوز لغير حاجة ، والأولى أن يتصدق بمنافعها ، ولكن لا يضمن شيئا من منافع الهدي إلا إذا أدى الركوب إلى الإنقاص البين لقيمتها ، ودليلهم حديث أنس المتقدم المتفق عليه بين أحمد والشيخين : «اركبها ولو كانت بدنة» وحديث جابر فيما رواه أبو داود : «اركبوا الهدي المعروف حتى تجدوا ظهرا».

وفسر الحنفية الأجل المسمى في الآية بوقت تعيينها وتسميتها هديا. ولا يجوز الانتفاع بها بعد السوق إلا في حالة الاضطرار ، ودليلهم ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر أنه سئل عن ركوب الهدي ، فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا» فالجواز خاص بحالة الضرورة ، فهو مقيد والمقيد يقضي على المطلق في حديث

٢١٣

أنس ، فإن لم تكن ضرورة وجب ضمان ما ينتفع به ؛ لأنه ضار حقا للفقراء ، فعليه أن يعوضهم مقدار قيمته.

والمشهور من مذهب المالكية أنه يكره الانتفاع بالبدن بركوبها ووبرها ، ولو كان لبنها فاضلا عن حاجة أولادها. وهذا قريب من مذهب الحنفية.

وذهب بعض العلماء إلى وجوب ركوب البدنة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اركبها». وقد أخذ أحمد وإسحاق وأهل الظاهر بظاهر هذا الحديث. وهذا يغاير فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه لم يركب هديه ولم يركبه غيره.

٩ ـ إن شعائر الحج كلها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي ينتهي إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق. وأما ذبح البدن والهدي فلا يصح إلا في الحرم ؛ لأنه تعالى جعل محلها إلى البيت العتيق ، قال عطاء : ينتهي إلى مكة.

١٠ ـ الإخبار بجعل نسك الذبح لكل الأمم فيه تحريك النفوس إلى المسارعة إلى هذا البر ، والاهتمام بهذه القربة ، وفيه إشعار بأن أهل الجاهلية الذين كانوا يذبحون لأصنامهم ، ويخلطون في التسمية على ذبائحهم ، إنما كانوا يفعلون ذلك من عند أنفسهم ، واتباعا لمحض شهواتهم وأهوائهم ، فإن شرائع الله كلها قد اتفقت على أن التقرب إنما يكون لله وحده ، وباسمه وحده ؛ إذ ليس للناس إلا إله واحد.

١١ ـ الإله الواحد هو الرازق والمشرع والمكلّف بالتكاليف الدينية ، فتجب إطاعته ، والانقياد لحكمه ، وأن يكون الذبح له ، وأن يذكر اسمه عند الذبح ، وأن يخلص الذبح له لا لغيره أو مع غيره ؛ لأنه رازق ذلك. وظاهر الآية : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) وجوب ذكر اسم الله على الذبيحة ، ووجوب اعتقاد أن الله واحد ، ووجوب الإسلام بمعنى الإخلاص لله في العمل.

٢١٤

١٢ ـ للمخبتين المتواضعين الخاشعين من المؤمنين البشارة بالثواب الجزيل. وأوصافهم في الآية أربعة كما تقدم : وهي الخوف والخشوع عند ذكر الله لقوة يقينهم ومراعاتهم لربهم وكأنهم بين يديه ، والصبر على المصائب ومشاق الطاعات ، وإقامة الصلاة أهم التكاليف البدنية ، والإنفاق مما رزقهم الله من فضله ، وهذا يشمل الزكاة المفروضة التي هي أهم التكاليف المالية ، وصدقة التطوع.

والخوف عند ذكر الله يحصل عند استحضار وعيد الله وعذابه ، وفي حال أخرى يطمئن المؤمن الصادق بوعد الله ، كما قال : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ، أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد ١٣ / ٢٨] فإذا ذكر وعد الله واستحضر رحمته وسعة عفوه ، اطمأن قلبه ، وسكن روعه ، فلا يكون هناك تعارض بين الآيتين.

ويؤخذ من الآية أن التقوى والخشية والصبر على المكاره ، والمحافظة على الصلاة ، والرحمة بالفقراء والإحسان إليهم من أعظم موجبات نيل رضا الله تعالى.

التسمية عند ذبح البدن والأكل والإطعام منها

(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧))

٢١٥

الإعراب :

(وَالْبُدْنَ) منصوب بفعل مقدر ، تقديره : وجعلنا البدن ، جعلناها لكم فيها خير. و (خَيْرٌ) مرفوع بالظرف ارتفاع الفاعل بفعله ، تقديره : كائنا لكم فيها خير. و (صَوافَ) حال من هاء وألف (عَلَيْها) وهو ممنوع من الصرف ؛ لأنه جمع بعد ألفه حرفان ، أي مصطفّة.

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها) قرئ ينال بالياء والتاء ، فمن قرأ بالتذكير أراد معنى الجمع ، ومن قرأ بالتاء بالتأنيث أراد معنى الجماعة ، والفصل بين الفعل والفاعل بالمفعول يقوي التذكير ويزيده حسنا.

البلاغة :

(الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) بينهما طباق ؛ لأن القانع : المتعفف ، والمعتر : السائل.

(الْمُحْسِنِينَ الْمُخْبِتِينَ) ـ في الآية السابقة ـ سجع مستحسن.

المفردات اللغوية :

(وَالْبُدْنَ) جمع بدنة ، وهي الإبل خاصة ، ذكرا أو أنثى ، لعظم بدنها ، مثل ثمرة وثمر وثمر ، ويشاركها البقرة في الحكم لا في الاسم ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه الجماعة عن جابر : «البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة». (شَعائِرِ اللهِ) أعلام دينه. (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) نفع في الدنيا ، وأجر في العقبى ، أي لكم فيها منافع دينية ودنيوية. (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها) عند نحرها أو ذبحها ، بأن تقولوا : الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، اللهم منك وإليك. (صَوافَ) قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن ، جمع صافّة وقرئ صوافن من صفن الفرس : إذا قام على ثلاث وطرف سنبك الرابعة ؛ لأن البدنة تعقل إحدى يديها وتقوم على ثلاث وقرئ أيضا صوافيا بالتنوين وصوافي أي خوالص لوجه الله.

(وَجَبَتْ جُنُوبُها) سقطت على الأرض بعد النحر ، وهو وقت الأكل منها ، وهو كناية عن الموت. (فَكُلُوا مِنْها) إن شئتم. (وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) أي المتعفف الذي يقنع بما يعطى ولا يسأل ولا يتعرض ، والمعتر : السائل أو المتعرض. (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ) أي مثل ما وصفنا من نحرها قياما ، سخرناها لكم مع عظمها وقوتها ، بأن تنحر وتأخذوها منقادة.

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) أي لا يرفعان إليه. (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) أي يرفع إليه منكم العمل الصالح الخالص له ، مع الإيمان. (هَداكُمْ) أرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه. (الْمُحْسِنِينَ) الموحدين المخلصين لله.

٢١٦

سبب النزول :

نزول الآية (٣٧):

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج قال : كان أهل الجاهلية يضمخون البيت بلحوم الإبل ودمائها ، فقال أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فنحن أحق أن نضمخ ، فأنزل الله : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها) الآية.

المناسبة :

بعد الترغيب والحث على التقرب إلى الله بالأنعام كلها ، خص الله تعالى الإبل ، لعظمها وكثرة منافعها.

التفسير والبيان :

يمتن الله تعالى على عباده بأن جعل البدن قربة عظيمة تهدى إلى بيته الحرام ، بل هي أفضل ما يهدى إليه ، فقال :

(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) أي جعلنا لكم الإبل ومثلها البقر من علائم دين الله ، وأدلة طاعته ، ففي ذبحها في الحرم ثواب كبير في الآخرة ، ونفع عظيم بلحومها للفقراء في الدنيا ، وبالركوب عليها ، وأخذ لبنها.

والبدن تطلق في رأي أبي حنيفة وآخرين من التابعين والصحابة على الإبل والبقر ، روى مسلم عن جابر رضي‌الله‌عنه أنه قال : كنا ننحر البدنة عن سبعة ، فقيل : والبقرة؟ قال : وهل هي إلا من البدن. وقال ابن عمر رضي‌الله‌عنهما : لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر.

ومذهب الشافعية : أنه لا تطلق البدن في الحقيقة إلا على الإبل ، وإطلاقها على البقر مجاز ، فلو نذر بدنة لا تجزئه بقرة ، وبدليل قوله تعالى : (صَوافَ) و (وَجَبَتْ جُنُوبُها) فنحر الحيوان قائما لم يعهد إلا في الإبل خاصة ، ويؤيده

٢١٧

ما رواه أبو داود وغيره عن جابر رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة» فإن العطف يقتضي المغايرة. وأما قول جابر وابن عمر المتقدم فيحمل على أنهما أرادا اتحاد الحكم فيهما. وهذا هو الظاهر والأصح لغة.

(فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) أي فاذكروا اسم الله على البدن عند نحرها وكونها قائمات صافات الأيدي والأرجل ، بأن تقولوا : بسم الله والله أكبر ، اللهم منك وإليك.

(فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها ، فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) أي إذا سقطت على الأرض وزهقت روحها أو ماتت ، فيباح لكم الأكل منها ، وعليكم الإطعام منها للفقراء ، سواء المتعفف عن السؤال ، والسائل المتعرض ، أي كلوا وأطعموا ، وقوله : (فَكُلُوا مِنْها) أمر إباحة ، وقال مالك : يستحب ذلك ، وقال بعض العلماء : يجب ، والظاهر أنه لا يجب الأكل منها ، فإن السلف متفقون على أنه لا يجب الأكل من شيء من الهدايا ، وإنما ذلك لرفع التحرج عن الأكل من الهدايا الذي كان عليه أهل الجاهلية ، فالمراد : إباحة الأكل أو الندب.

وأما قوله : (وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) فظاهره كما تقدم وجوب إطعام الفقراء من الهدي ، وبه أخذ الشافعي ، فأوجب إطعام الفقراء منها ، وذهب أبو حنيفة إلى أن الإطعام مندوب ؛ لأنها دماء نسك ، فتتحقق القربة منها بإراقة الدم ، أما إطعام الفقراء فهو باق على حكمه العام وهو الندب.

(كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي من أجل هذا المذكور من الخير في ذبح الأنعام والأكل منها وإطعام الفقراء أو مثل هذا التسخير ، ذللناها لكم ، مع عظمتها وقوتها ، وجعلناها منقادة لكم ، خاضعة لرغباتكم ومشيئتكم بالركوب والحلب والذبح ، لكي تشكروا الله على نعمه ، بالتقرب إليه ، والإخلاص في

٢١٨

العمل. والخلاصة : أنها نعمة جليلة تستحق الشكر والحمد ، فقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تعليل لما قبله. وكلمة «لعل» ليست للرجاء الذي هو توقع الأمر المحبوب ؛ لأنه مستحيل على الله تعالى ؛ لأنه ينبئ عن الجهل بعواقب الأمور ، فتكون للتعليل بمعنى «كي». ونظير الآية قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً ، فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ ، فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ. وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ ، أَفَلا يَشْكُرُونَ) [يس ٣٦ / ٧١ ـ ٧٣].

ثم ذكر الله تعالى الهدف من ذبح الأنعام فقال :

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها ..) أي إنما شرع الله لكم نحر هذه الهدايا والضحايا ، لتذكروه عند ذبحها ، ولن يصل إلى الله شيء من لحومها ولا من دمائها ، ولكن يصله التقوى والإخلاص ، وترفع إليه الأعمال الصالحة. وكان أهل الجاهلية إذا ذبحوها لآلهتهم ، وضعوا عليها من لحوم قرابينهم ، ونضحوا عليها من دمائها ، وأراد المسلمون أن يفعلوا مثلهم ، فنزلت الآية : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها ..)

ثم كرر تعالى ذكر تسخير الأنعام وتذليلها للناس ؛ لأن في الإعادة تذكيرا بالنعمة ، الذي يبعث على شكرها ، والثناء على الله من أجلها ، والقيام بما يجب لعظمته وكبريائه ، فقال :

(كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) أي من أجل هذا سخر لكم البدن وذللها ، أو هكذا سخرها ، لتعظموا الله وتشكروه على ما أرشدكم إليه لدينه وشرعه ، وما يحبه ويرضاه ، ونهاكم عما يكره ، ويأبى مما هو ضارّ غير نافع.

ثم وعد المهديين الراشدين بقوله :

٢١٩

(وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) أي وبشر يا محمد بالجنة المحسنين في عملهم ، القائمين بحدود الله ، المتبعين ما شرع لهم ، الطائعين أوامره ، المصدقين رسوله فيما أبلغهم ، وجاءهم به من عند ربه عزوجل.

فقه الحياة أو الأحكام :

يؤخذ من الآيات ما يأتي :

١ ـ يدل الاقتصار على البدن مع جواز نحر الهدي من بقية الأنعام على أن البدن في الهدايا أفضل من غيرها من البقر والغنم ، ولقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ، وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ، وَلَا الْهَدْيَ ، وَلَا الْقَلائِدَ ، وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) [المائدة ٥ /٢].

وأما إطلاق البدنة على البعير ، فمتفق عليه ، وأما إطلاقها على البقرة ففيه قولان تقدما : قول لأبي حنيفة أنها تطلق ، وقول للشافعي أنها لا تطلق ، والأصح أنها لا تطلق عليها لغة ، وإنما تطلق عليها شرعا ، بدليل الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن جابر بن عبد الله قال : «أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نشترك في الأضاحي : البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة».

٢ ـ يندب نحر الإبل وهي قائمة معقولة إحدى القوائم ؛ لقوله تعالى : (صَوافَ) ولا يجوز أن يؤكل منها بعد نحرها حتى تفارقها الحياة.

٣ ـ قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) أمر ، ومقتضاه الوجوب ، وقد أخذ بظاهره بعض الأئمة ، فأوجبوا التسمية على الذبيحة ، والأصح أنها مندوبة ، والأمر مؤول على الندب ، أو على الشكر والثناء.

ولا يجوز نحر الهدايا والأضاحي قبل الفجر من يوم النحر بالإجماع ، فإذا طلع الفجر حلّ النحر بمنى ، وليس على الحجاج انتظار نحر إمامهم ؛ بخلاف

٢٢٠