التفسير المنير - ج ١٧

الدكتور وهبة الزحيلي

(حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) كناية عن العمل القليل.

المفردات اللغوية :

(يَكْلَؤُكُمْ) يحرسكم ويحفظكم ، والفعل الماضي : كلأ : حفظ ، والمصدر : الكلاءة: الحراسة والحفظ. (مِنَ الرَّحْمنِ) أي من بأسه وعقابه الذي تستحقونه إن أراده بكم. وفي لفظ (الرَّحْمنِ) تنبيه على ألا كالئ غير رحمته العامة. (ذِكْرِ رَبِّهِمْ) أي القرآن. (مُعْرِضُونَ) لا يتفكرون فيه. (مِنْ دُونِنا) من غيرنا ومن عذابنا. (يُصْحَبُونَ) يجأرون من عذابنا ، يقال : صحبك الله أي حفظك.

(أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) من الله ، لا من قبل نفسي. (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ) إنما سماهم الصم لتركهم العمل بما سمعوه من الإنذار كالصم. (نَفْحَةٌ) نصيب قليل أو أدنى شيء ، وأصل النفح : هبوب رائحة الشيء. (يا وَيْلَنا) يا هلاكنا ، و (يا): للتنبيه. (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) بالإشراك وتكذيب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) أي ذوات العدل ، توزن بها صحائف الأعمال. (لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) أي فيه أو لجزاء يوم القيامة. (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) من نقص حسنة أو زيادة سيئة. (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ) أي وإن كان العمل أو الظلم مقدار حبة ، وحبة الخردل مثل في الصغر. (أَتَيْنا بِها) أحضرناها وأتينا بموزونها. (حاسِبِينَ) محصين كل شيء ؛ إذ لا مزيد على علمنا وعدلنا.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى أن الكفار لا يستطيعون أن يكفوا النار عن وجوههم ولا عن ظهورهم ، أتبعه ببيان أنهم في الدنيا أيضا ، فلو لا أن الله تعالى يحرسهم ويحفظهم لما بقوا سالمين.

ثم أردفه ببيان أنهم معرضون لا يتفكرون بالأدلة التي ترشدهم إلى الإيمان وترك عبادة الأصنام ، كما أنهم لا يرون آثار قدرة الله في إتيان الأرض من جوانبها ، بأخذ الواحد بعد الواحد ، وفتح البلاد والقرى حول مكة ، وفي ذلك عبرة ، فيؤمنوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٦١

ثم ذكر وظيفة الرسل التي هي التبليغ والإنذار ، لا الإلزام والقبول ، لكفاية أدلة القرآن على الإيمان. ثم بيّن سبحانه أن جميع ما يتعرض له الكفار في الآخرة لا يكون إلا عدلا ، فهم وإن ظلموا أنفسهم في الدنيا فلن يظلموا في الآخرة ، فموازين الحساب قائمة على العدل والقسط.

التفسير والبيان :

(قُلْ : مَنْ يَكْلَؤُكُمْ ..) أي قل أيها الرسول لأولئك الذين يسخرون منك ويستهزئون : من يحفظكم ويحرسكم ليلا في نومكم ونهارا في عملكم من بأس الله وعذابه إن أتاكم أو أراد إنزاله بكم؟!

وفي تعبير (الرَّحْمنِ) إشارة إلى أن تأخير العذاب عن الكفار والعصاة هو من رحمة الله ونعمته وفضله ، كي يعود الإنسان إلى ربه من نفسه.

(بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) أي بل إن هؤلاء المشركين ، بالرغم من وجود الأدلة الكثيرة العقلية والمذكورة في القرآن الدالة على فضل الله ونعمته بالحفظ والكلاءة ، معرضون عن تلك الأدلة ، ولا يتفكرون فيها ، ولا يعترفون بنعمة الله عليهم وإحسانه إليهم.

وفي ذكر الرب دلالة على أنهم خاضعون لسلطانه ، وأنهم يعيشون في رعايته وتربيته وإمداده بالنعم الوفيرة.

ثم بعد بيان اتصافهم بالإعراض ، وبخهم الله تعالى على عبادتهم آلهة لا تضر ولا تنفع فقال :

(أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا)؟ أي هل لهؤلاء المستهزئين المعرضين عن بيان الله آلهة قادرة تمنعهم وتكلؤهم غيرنا؟

(لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ ، وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) أي إن تلك الآلهة

٦٢

المزعومة لا تتمكن من نصر أنفسهم ، ولا دفع الضر والبلاء عنهم ، ولا هم منا يجأرون أو يمنعون ؛ لأنهم في غاية العجز والضعف ، فكيف ينصرون غيرهم ، ويدفعون الضر عنهم ، أو يجلبون النفع لهم؟!

ثم أخبر تعالى عن مزيد فضله عليهم فقال :

(بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي إن الذي غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال أنّهم متّعوا في الحياة الدنيا ، ونعموا بها ، وطال عليهم العمر فيما هم فيه ، فاعتقدوا أنهم على شيء ، والحقيقة أنهم مع طول الزمان في غفلة ، حتى اغتروا بنعمتنا ، ونسوا شكرها.

والخلاصة : أنه ما حملهم على الإعراض عن آيات الله إلا الاغترار بطول المهلة.

ثم قال تعالى واعظا لهم :

(أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) أي أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه ، وإهلاكه الأمم المكذبة ، والقرى الظالمة ، وإنجائه لعباده المؤمنين ، وفتح البلاد حول مكة ، وتناقص رقعة بلاد أهل الشرك؟!

وبعبارة أخرى : أفلا يرون أنا ننقص أرض الكفر ودار الحرب ، ونحذف جوانبها وأطرافها بتسليط المسلمين عليها ، وتغلبهم على أهلها ، وضمّها إلى دار الإسلام.

والفائدة في قوله : (نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) تصوير ما كان يجريه على أيدي المسلمين ، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تفتح أرض المشركين المعتدين ، وتأتيها غالبة عليها ، ناقصة من أطرافها. ومعنى نقص أطرافها : دخول المسلمين فيها ، واتساع نفوذ الإسلام شيئا فشيئا ، وانحسار أرض الكفار ،

٦٣

بدليل قوله بعدئذ : (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) أي هل نحن الغالبون أم هم؟ فكيف يتوهمون غلبتهم؟ فهم المغلوبون الأخسرون ، وهو استفهام بمعنى التقرير والتقريع.

ويرى بعض علماء العصر أن في الآية دلالة واضحة على نقص أطراف الكرة الأرضية في الشمال والجنوب ، وأنها غير كاملة التكوير والاستدارة ، وذات تفلطح ، وهو ما يعبر عنه بالخط الإهليلجي في القطب الشمالي والجنوبي ، مما يدل على قدرة الله تعالى ، وقوة سلطانه ، وتحكمه في الأرض أثناء دورانها.

وبعد أن كرر تعالى إيراد الأدلة في القرآن على وجود الله وقدرته وتوحيده ، وبالغ في التنبيه عليها ، أتبعه بقوله :

(قُلْ : إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) أي قل أيها النبي : إني إنما أنذركم بالقرآن الذي هو كلام ربكم ، وإنما أنا مبلّغ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب والنكال ، فلا تظنوا أن ذلك من قبلي ، بل الله آتيكم به ، وأمرني بإنذاركم ، وعملي هو مجرد التبليغ لا الإلزام بالقبول ، فإن لم تجيبوا دعوتي ، فعليكم الوبال والنكال ، لا عليّ.

(وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ) أي لا يجدي هذا الوحي من أعمى الله بصيرته ، وختم على سمعه وقلبه ، وما مثلهم حين لم ينتفعوا بما سمعوا من الإنذار ، على كثرته وتتابعه ، إلا مثل الصم الذين لا يسمعون شيئا أصلا ؛ إذ ليس الغرض من الإنذار مجرد السماع ، بل العمل بما يسمع ، والتمسك به ، بالإقدام على فعل الواجب ، والتحرز عن المحرّم ، ومعرفة الحق ، فإذا لم يتحقق هذا الغرض فلا فائدة في السماع. ثم بيّن تعالى أن حالهم سيتغير ، فيصبحون سريعي التأثر بما ينذرون ، ويعترفون بما لا ينتفعون ، فقال :

(وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ : يا وَيْلَنا ، إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أى ولئن مس أو أصاب هؤلاء المكذبين أدنى شيء من عذاب الله يوم القيامة ،

٦٤

ليعترفن بذنوبهم ، وأنهم كانوا ظالمين أنفسهم في الدنيا ، ويظهرون الندامة على ما فرط منهم ، ويتنادون بالويل والهلاك ، ولا فائدة من ذلك. قال الزمخشري في الكشاف : وفي المس والنفحة ثلاث مبالغات : لفظ المس ، وما في النفح من معنى القلة والنزارة ، ولفظ المرة.

ثم بيّن الله تعالى أن جميع ما ينزل بهم في الآخرة لا يكون إلا عدلا ، فقال : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) أي ونضع الموازين العدل التي توزن بها صحائف الأعمال في يوم القيامة ، أو لأهل يوم القيامة ، فلا يلحق نفسا أي ظلم ، فهم إن ظلموا أنفسهم في الدنيا ، فلن يظلموا في الآخرة ، وقوله : (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) تأكيد عدالة الميزان ، وأنه لا ينقص ثواب أي نفس ما تستحقه.

والأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد ، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه. ووصفت الموازين بأنها عادلة ، لأن الميزان قد يكون مستقيما وقد يكون بخلافه.

والمراد بوضع الموازين : إرصاد الحساب السوي والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والإنصاف ، من غير أن يظلم أحد مثقال ذرة ، أي أن المقصود من الوزن العدل بين الخلائق ، وقد مثل ذلك بوضع الموازين لتوزن بها الموزونات. وفي قول آخر هو الأرجح : المراد أنه تعالى يضع الموازين الحقيقة ، ويزن بها الأعمال. قال الحسن البصري : هو ميزان له كفتان ولسان. فمن رجحت حسناته على سيئاته ، كان من الناجين ، ومن غلبت سيئاته على حسناته ، كان من الهالكين. والقسط : العدل أي ليس في الموازين بخس ولا ظلم كما يكون في وزن الدنيا.

(وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) أي وإن كان العمل أو الظلم مقدار

٦٥

زنة حبة الخردل ، فنجازي عليه الجزاء الأوفى ، حسنا أو سيئا.

(وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) أي وكفى بنا محصين لأعمال العباد ، فلا أحد أعلم بأعمالهم منا ، ولا أحد أضبط ولا أعدل في تقويم الأعمال منا. وفي هذا تحذير شديد ، ووعيد أكيد للكفار والعصاة على تفريطهم أو تقصيرهم فيما يجب عليهم نحو الله تعالى ؛ لأن العالم الذي لا يشتبه عليه شيء ، القادر الذي لا يعجزه شيء ، جدير بأن يكون الناس في أشد الخوف منه.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن من فضل الله ورحمته الكلاءة : الحراسة والحفظ للناس من عذاب الله تعالى بالليل حال النوم ، وفي النهار حال التصرف في الأمور ، ولكن الناس لاهون غافلون عن موعظة القرآن ومواعظ ربهم ومعرفته حق عليهم.

٢ ـ إن الآلهة الذين زعم الكفار أنهم ينصرونهم لا يستطيعون نصر أنفسهم ، فكيف ينصرون عابديهم؟! وكيف يمنعون ويجأرون من عذاب الله تعالى؟!

٣ ـ إن تقلب أهل مكة وأمثالهم في نعيم الدنيا ، وظنهم أن النعمة لا تزول عنهم هو سبب اغترارهم وإعراضهم عن تدبر حجج الله عزوجل ، وكان عليهم التأمل في متابعة انتصارات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغلبته عليهم ، وتمكين الله له من فتح البلاد بلدا بعد بلد ، مما حول مكة.

٤ ـ إن مهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنذار الكفار وتحذير هم بالقرآن الموحى إليه من عند الله ، لا من قبله ، ولكنهم إذا لم ينتفعوا بما سمعوا من الإنذار ، صاروا كالصم الذين لا يسمعون أصلا ، وسيتغير خالهم إذا مسّهم أدنى شيء من عذاب الله ،

٦٦

فعندئذ يسمعون ويعتذرون ويعترفون حين لا ينتفعون ، أي يعترفون بظلم أنفسهم وبكفرهم حين لا ينفعهم الاعتراف.

٥ ـ لا عدل أدق وأضبط وأحكم فوق عدل الله ، فموازينه لأهل يوم القيامة أو في يوم القيامة غاية العدل ، فلا ينقص من إحسان محسن ، ولا يزاد في إساءة مسيء ، وإن كان العمل أو الشيء الذي قدمه المحسن مثقال حبة الخردل ، ومثقال الشيء : ميزانه من مثله ، وكفى بالله مجازيا على ما قدم الناس من خير أو شر ، وكفى به محصيا عادا لأعمال عباده ، وألا أحد أسرع حسابا منه ، والحساب : العد ، والغرض من ذلك التحذير.

والغرض من قوله : (حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) المبالغة في أن الشيء مهما صغر أو كبر غير ضائع عند الله تعالى.

٦ ـ الذي وردت به الأخبار وعليه أكثر العلماء هو أن لكل مكلف ميزانا توزن به أعماله ، فتوضع الحسنات في كفة ، والسيئات في كفة. قال حذيفة رضي‌الله‌عنه : «صاحب الميزان يوم القيامة : جبريل عليه‌السلام».

وقيل عن مجاهد وقتادة والضحاك : ذكر الميزان مثل ، وليس ثمّ ميزان ، وإنما هو العدل.

القصة الأولى ـ قصة موسى عليه‌السلام

مقارنة بين خصائص التوراة وخصائص القرآن

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠))

٦٧

الإعراب :

(وَضِياءً) فيه محذوف تقديره : ذا ضياء ، فحذف المضاف ، وأدخل واو العطف على (ضِياءً) وإن كان في المعنى وصفا دون اللفظ ، كما يدخل على الوصف إذا كان لفظا ، كقوله تعالى : (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) [الأنفال ٨ / ٤٩] وكقولهم : مررت بزيد وصاحبك أي مررت بزيد صاحبك ، فدل هذا وغيره على أن الواو تدخل على الوصف إذا كان لفظا أو كان وصفا في المعنى. وقرئ ضياء بغير واو على أنه حال من الفرقان.

(الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) صفة (لِلْمُتَّقِينَ) أو مدح لهم.

(بِالْغَيْبِ) حال من الفاعل أو المفعول.

المفردات اللغوية :

(الْفُرْقانَ) التوراة الفارقة بين الحق والباطل والحلال والحرام ، وهي أيضا ضياء تنير طرق الهدى ، والذكر ، أي الموعظة التي يوعظ بها ، لما فيها من عبرة. (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) أي يخافون عذابه. (بِالْغَيْبِ) في حال الخفاء عن الناس. (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ) أي من أهوالها. (مُشْفِقُونَ) خائفون.

(وَهذا ذِكْرٌ) أي وهذا القرآن أيضا ذكر أي تذكير وعظة. (مُبارَكٌ) أي كثير الخير غزير النفع. (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي أفتنكرونه ، وهو في غاية الجلاء والوضوح؟ والاستفهام فيه للتوبيخ.

المناسبة :

بعد أن أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لقومه : (إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) أتبعه ببيان أن هذه سنة الله تعالى في أنبيائه ، فقد أنزل الوحي عليهم ليكون ما تضمنه من الشريعة والأحكام سببا لهداية البشر.

وبعد أن أبان تعالى أدلة التوحيد والنبوة والمعاد شرع في التذكير بقصص الأنبياءعليهم‌السلام تسلية لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يناله من قومه ، وتقوية لقلبه على أداء الرسالة والصبر عليها ، وهذه هي القصة الأولى ـ قصة موسى وهارون عليهما‌السلام.

٦٨

التفسير والبيان :

كثيرا ما يقرن الله تعالى بين الحديث عن موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وبين كتابيهما ، ليبين امتداد صلة النبوة وصلة الوحي ، وليشير إلى وجود الشبه الكثير بين التوراة في أصلها الصحيح وبين القرآن الكريم في كمال الشريعة الشاملة للدين والدنيا ، والعقيدة والعبادة ، فقال تعالى :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) أي وو الله لقد أعطينا موسى وهارون كتابا شاملا لأحكام الشريعة ، وهو التوراة الذي هو كتاب فرق الله فيه بين الحق والباطل ، وبين الحلال والحرام ، وهو أيضا منار يستضاء به في ظلمات الحيرة والجهالة للتوصل إلى طريق الهداية والنجاة ، وهو كذلك عظة وتذكير يتعظ به المتقون ربهم وهم ذوو الأوصاف التالية :

١ ـ خشية الله في السر :

(الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي الذين يخافون عذاب ربهم ، فيأتمرون بأمره ، وينتهون بنهيه ، في حال الخفاء والسر والخلوات حيث لا يطلع عليهم أحد من الناس ، قال الرازي : وهذا هو أقرب المعاني.

وقد تكرر في القرآن الكريم التركيز على هذا المعنى ، كما في قوله تعالى : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ ، وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) [ق ٥٠ / ٣٣] وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [الملك ٦٧ / ١٢].

٢ ـ الخوف من يوم القيامة :

(وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) أي وهم من القيامة وأهوالها وسائر ما يحدث فيها من الحساب والسؤال خائفون وجلون. وفي تصدير الضمير وبناء الحكم عليه مبالغة وتعريض.

٦٩

وكما أن هذه خصائص التوراة ، فكذلك خصائص القرآن مثلها فقال تعالى : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ) أي وهذا القرآن العظيم المنزل عليك تذكير وعظة ، ومبارك فيه بكثرة منافعه وغزارة خيره.

(أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)؟ أي فمثل هذا الكتاب مع كثرة منافعه كيف يمكنكم إنكاره؟ وكيف تنكرونه وهو في غاية الجلاء والوضوح؟ وهو أيضا معجز لاشتماله على النظم العجيب والبلاغة البعيدة ، والأدلة العقلية ، وبيان الشرائع ، فكيف تنكرون إنزاله من عند الله ، وأنتم خير من يقدّر روعة الكلام وفصاحة اللسان وإحكام البيان؟!

فقه الحياة أو الأحكام :

اقتصر البيان في قصة موسى وهارون عليهما‌السلام على كتاب التوراة ليقرن الكلام عنه مع الكلام عن القرآن الكريم.

وقد تبين من الآيات أن التوراة فرقان بين الحق والباطل والحلال والحرام والغي والرشاد ، وضياء يستضاء بها لسلوك طريق الهداية والنجاة ، مثل قوله عنها في آية أخرى (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) [المائدة ٥ / ٤٤] وعظة وتذكير للمتقين.

وهي أيضا أوصاف القرآن في آيات أخرى ، فقال تعالى : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ ، وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) [آل عمران ٣ / ٤]. (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ ، لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان ٢٥ / ١]. وقال سبحانه : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) [المائدة : ٥ / ١٥] (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) [الأعراف ٧ / ١٥٧]. وقال جل جلاله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل ١٦ / ٤٤] (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ

٧٠

وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٤٤] وقال تعالى هنا : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ ..).

فإن رأى العرب تمسك اليهود بفرقان موسى ، فهم أجدر بالتمسك بكتابهم فرقان محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أما أوصاف المتقين فهي واحدة قديما وحديثا ، ذكر تعالى منها هنا وصفين : خشية الله تعالى في السر أي وفي العلن ، والخوف من يوم القيامة وأهوالها ، وما يجري فيها من الحساب والسؤال قبل التوبة.

وختمت الآيات ببيان الهدف الجوهري منها : وهو التعجب من إنكار العرب للقرآن ، وهو كلام الله تعالى ، بدليل أنه معجز لا يقدرون على الإتيان بمثله ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد.

القصة الثانية ـ قصة إبراهيم عليه‌السلام

ـ ١ ـ

إنكار عبادة الأصنام والدعوة إلى توحيد الله تعالى

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦)

٧١

وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨))

الإعراب :

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِذْ) : ظرف في موضع نصب يتعلق بآتينا وتقديره : آتينا إبراهيم رشده في وقت قال لأبيه.

(عَلى ذلِكُمْ) متعلق بمحذوف مقدر ، يدل عليه (مِنَ الشَّاهِدِينَ) ويفسره. ولا يجوز تعلقه به ؛ لأنه لا يجوز تقديم الصلة ومعمولها على الموصول.

المفردات اللغوية :

(رُشْدَهُ) الرشد : الاهتداء لوجوه الخير والصلاح في الدين والدنيا ، قال الله تعالى: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) [النساء ٤ / ٦] وقرئ أيضا (رُشْدَهُ).

ومعنى إضافة الرشد لإبراهيم : أنه رشد مثله ، وأنه رشد له شأن. (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل موسى وهارون عليهما‌السلام. (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) أي علمنا منه أنه أهل لما آتيناه ، أو جامع لمحاسن الأوصاف ومكارم الخصال. وفيه إشارة إلى أن فعله تعالى باختيار وحكمة ، وأنه عالم بالجزئيات.

(التَّماثِيلُ) الأصنام ، جمع تمثال : وهو الصنم ، والتمثال : اسم للشيء المصنوع المضاهي خلق الله تعالى ، كإنسان أو حيوان أو شجر ، سمى الأصنام بالتماثيل تحقيرا لشأنها وتصغيرا لها ، مع علم إبراهيم بتعظيمهم وإجلالهم لها. وفرق بعضهم بين الصنم والوثن بأن الصنم : المصنوع من المعدن القابل للتمدد بالنار ، والوثن : المصنوع من الخشب أو غيره.

(عاكِفُونَ) مقيمون على عبادتها. (وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) فاقتدينا بهم. (كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) بعبادتها. (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) بيّن.

(أَجِئْتَنا بِالْحَقِ) أي بالشيء الثابت في الواقع. (اللَّاعِبِينَ) الهازلين. (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ربكم المستحق للعبادة هو مالك السموات والأرض. (فَطَرَهُنَ) خلقهن

٧٢

وأبدعهن على غير مثال سبق. (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ) الذي قلته. (مِنَ الشَّاهِدِينَ) به المتحققين صحته ، والمبرهنين عليه ، فإن الشاهد : من تحقق الشيء وحققه.

(لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) لأجتهدن في كسرها. والكيد في الأصل : الاحتيال في الإضرار ، والمراد هنا : المبالغة في إلحاق الأذى بها. (فَجَعَلَهُمْ) بعد ذهابهم إلى مجتمعهم في يوم عيد لهم. (جُذاذاً) قطعا أو فتاتا ، من الجذ ، أي القطع. (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) للأصنام ، كسر غيره ، واستبقاه ، وجعل الفأس على عنقه. (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ) أي إلى الكبير. (يَرْجِعُونَ) فيروا ما فعل بغيره.

المناسبة :

هذه هي القصة الثانية من قصص الأنبياء في هذه السورة تسلية للرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليتأسى بهم في الصبر والجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الدين الحق ومعاداة المشركين.

التفسير والبيان :

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ ..) أي والله لقد آتينا إبراهيم رشده ، أي هديناه إلى ما فيه الخير والصلاح ، من قبل موسى وهارون أو من قبل النبوة ، ووفقناه إلى توحيد الله ، ومعاداة عبادة الأصنام ؛ لأنها لا تنفع ولا تضر ، ولا تسمع ولا تبصر ، وما هي إلا حجر أو معدن أو خشب صنعها أبوه أمامه بالقدوم ، وكنا عالمين بأنه أهل للنبوة ، وجامع لمحاسن الأخلاق. والرشد : إما النبوة وإما الأهلية للخير والصلاح في الدين والدنيا.

قال القرطبي : وعلى الأول أكثر أهل التفسير.

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ : ما هذِهِ التَّماثِيلُ ..؟ إِذْ) : إما أن يتعلق بآياتنا أو برشده ، أو بمحذوف ، أي اذكر من أوقات رشده هذا الوقت. أي آتيناه الرشد حين أنكر على قومه عبادة الأصنام من دون الله عزوجل ، فقال : ما هذه التماثيل أي الأصنام التي أنتم مقيمون على عبادتها وتعظيمها؟

٧٣

وفي هذا القول تنبيه إلى ضرورة التأمل في شأنها ، وأنها لا تغني عنهم شيئا ، لكنهم لم يفعلوا ، وأصروا على تقليد الأسلاف دون برهان ، فقالوا :

(قالُوا : وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) أي لا حجة لنا سوى تقليد الآباء واتباع الأسلاف ، وكفى بذلك ضعفا وسذاجة ، فوبخهم إبراهيم عليه‌السلام على ما يفعلون :

(قالَ : لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي قال إبراهيم لأبيه وقومه : لا فرق بينكم وبين آبائكم ، فأنتم وهم في ضلال بيّن واضح ، على غير منهج الحق والطريق المستقيم. وهذا تنبيه إلى أن سوء الرأي لا يغيره تقادم الزمن ، ومضي الأيام.

فتعجبوا من قوله وسألوه :

(قالُوا : أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) أي ما هذا الكلام الصادر عنك ، أتقوله لاعبا هازلا مازحا أم محقا جادّا فيه ، فإنا لم نسمع به قبلك؟

فأجابهم إبراهيم بعد إنكاره عبادة الأصنام بما يبين الحق ، ويرشد إلى الإله المستحق للعبادة :

(قالَ : بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ) أي قال إبراهيم : إني أتكلم بالجد والحق ، لا بالهزل واللعب ، فإن الرب المستحق للعبادة هو مالك السموات والأرض الذي خلقها وكونها وأنشأها من العدم ، على غير مثال سابق ، وهو الخالق لجميع الأشياء ، وهو الرب الذي لا إله غيره.

(وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي وأنا أشهد أنه لا إله غيره ، ولا رب سواه. والخلاصة : أنه أظهر لهم أنه مجدّ في إظهار الحق الذي هو التوحيد بالقول أولا وهو ما قاله ، ثم بالفعل ثانيا. لذا أقسم إبراهيم الخليل قسما أسمعه بعض قومه :

٧٤

(وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) أي وو الله لأجتهدن في كسر أصنامكم ، وفي إلحاق الأذى بها ، بعد أن تذهبوا إلى عيدكم ، وكان لهم مجمع عيد يخرجون إليه كل سنة ، ثم يعودون ، فيسجدون للأصنام.

وقوله : (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) أي منطلقين ذاهبين. وسمع هذا القول رجل منهم ، فحفظه ، ثم أخبر عنه ، وشاع ذلك في جماعة ، وعليه قال تعالى :(قالُوا : سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) [الأنبياء ٢١ / ٦٠].

ولم يخرج إبراهيم معهم معتذرا بأنه سقيم ، وصمم على تنفيذ خطته عمليا ، لعلهم يتركون عبادة الأصنام ، حينما يتأملون أنها لا تستطيع دفع الأذى عن نفسها ، والبرهان العملي أوقع في النفس ، وأدعى إلى التأمل ، وأشد صدمة للذهن.

(فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) أي فلما ذهبوا دخل على الأصنام ، وأمامهم الأكل ، فجعلهم قطعا فتاتا وحطاما ، كسرها كلها إلا الصنم الكبير عندهم لم يكسره كما قال تعالى : (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) [الصافات ٣٧ / ٩٣] لعل هؤلاء الوثنيين يرجعون إلى الكبير الذي يلجأ إليه عادة ، وقد علق إبراهيم الفأس على عنقه ، أو في يده ، فيتبين لهم أنه عاجز لا يستطيع فعل شيء ، وأنهم بعبادة الأصنام مغرورون جاهلون.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يأتي :

١ ـ لا تأتي النبوة لأحد إلا بعد إعداد وصقل وتوافر مقومات ومؤهلات تؤهل لها ، فهذا إبراهيم الخليل عليه‌السلام وفّقه الله لهدايته وللنظر والاستدلال على توحيد الله بآيات الكون من قبل النبوة على الرأي الراجح ، أو من قبل

٧٥

موسى وهارون كما قيل ، وكان الله عالما بأنه أهل لإيتاء الرشد وصالح للنبوة.

٢ ـ كان لإبراهيم موقف جريء رائع من الأصنام وعبدتها ، فقال لأبيه آزر وقومه أي النمروذ ومن اتبعه : ما هذه التماثيل التي أنتم مقيمون على عبادتها؟.

فأجابوه بأنهم يعبدونها تقليدا للأسلاف ، فيرد عليهم بأنهم وآباءهم في خسران مبين بعبادتها ؛ إذ هي جمادات لا تنفع ولا تضر ولا تعلم.

وكأنهم لم يصدقوا قوله ، فسألوه : هل جئتنا بحق فيما تقول أم أنت لاعب مازح؟

فكان إبراهيم صارما مجدا في إظهار الحق الذي هو التوحيد قولا وفعلا ، أما القول فقال : (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ) أي خلقهن وأبدعهن. (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي إنني شاهد على أنه رب السموات والأرض ، والشاهد يبين الحكم ، وأنا أبين بالدليل ما أقول.

وأما الفعل : فإنه كسر الأصنام وكان عددها سبعين ، فعل واثق بالله تعالى ، موطّن نفسه على تحمل المكروه في سبيل رفع لواء الدين الحق ، وإعلاء راية التوحيد لله. وترك كبير الأصنام وعظيم الآلهة في الخلق ، فإنه لم يكسره. قال السدي ومجاهد : ترك الصنم الأكبر ، وعلّق الفأس الذي كسر به الأصنام في عنقه ؛ ليحتج به عليهم.

وهذا هو معنى قوله : (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) أي إلى الصنم الأكبر يرجعون في تكسيرها ، كما يرجع إلى العالم أو الزعيم في حل المشكلات ، فيقولون له : ما لهؤلاء مكسورة ، ومالك صحيحا ، والفأس على عاتقك؟. وحينئذ يتبين لهم أنه عاجز لا ينفع ولا يضر ، ويظهر لهم أنهم في عبادته على جهل عظيم.

وذكر القرطبي والرازي وجها آخر في تفسير ذلك : وهو لعلهم إلى إبراهيم

٧٦

ودينه يرجعون إذا قامت الحجة عليهم ، أو يرجعون إلى توحيد الله عند تحققهم عجز آلهتهم.

ـ ٢ ـ

النقاش الحاد بين إبراهيم وقومه بعد كارثة تكسير الأصنام

(قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥))

الإعراب :

(مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ مَنْ) : مبتدأ ، و (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) : خبره.

(يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ : إِبْراهِيمُ) الفعلان هنا صفتان لفتى ، أو أن (يَذْكُرُهُمْ) : ثاني مفعولي سمع. و (يُقالُ) : فعل مبني للمجهول ، و (إِبْراهِيمُ) : قيل : هو خبر مبتدأ محذوف (أي هو إبراهيم) أو منادى مفرد (أي يا إبراهيم) قال الزمخشري : والصحيح أنه فاعل (أي نائب فاعل) يقال ؛ لأن المراد الاسم ، لا المسمى.

(عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) في محل الحال بمعنى معاينا مشاهدا ، أي بمرأى منهم ومنظر ، أو هو على حذف مضاف ، تقديره : على رؤية أعين الناس ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه. والاستعلاء في (عَلى) في الرأي الأول وارد على طريق المثل ، أي يثبت إتيانه في الأعين ، ويتمكن فيها ثبات الراكب على المركوب وتمكنه منه.

٧٧

(كَبِيرُهُمْ هذا) مبتدأ وخبر.

البلاغة :

(ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) استعارة ، شبه رجوعهم عن الحق إلى الباطل بانقلاب الشخص حتى يصبح أسفله أعلاه بطريق الاستعارة.

المفردات اللغوية :

(قالُوا) أي بعد رجوعهم من مجتمعهم في يوم العيد ، ورؤيتهم ما فعل. (قالُوا) الثانية : أي بعضهم لبعض. (يَذْكُرُهُمْ) أي يعيبهم ويسبهم. (عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) أي معاينا ظاهرا بمرأى منهم ، بحيث تتمكن صورته في أعينهم تمكن الراكب على المركوب. (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) عليه بفعله أو قوله ، أو يحضرون عقوبتنا له.

(قالُوا) بعد إتيانه (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا) حين أحضروه. (قالَ : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) أسند الفعل إليه تجوّزا وتعريضا لهم بأن الصنم المعلوم عجزه عن الفعل لا يكون إلها ، وإنما هو متسبب لما حصل ، والقصد تبكيتهم وإلزامهم الحجة وحملهم على ترك الوثنية ، أو للاستهزاء بهم ، ولهذا قال : (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) أي اسألوا هذه الأصنام عن الفاعل الذي كسرها إن كانوا يقدرون على النطق. وما روي في الصحيحين وعند أحمد عن أبي هريرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات» تسمية للمعاريض كذبا ، لما شابهت صورتها صورته. وجملة (فَسْئَلُوهُمْ ...) فيه تقديم جواب الشرط.

(فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) أي راجعوا عقولهم ، وفكروا وتدبروا (فَقالُوا) لأنفسهم (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) بعبادتكم من لا ينطق. (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) انقلبوا إلى المجادلة بعد ما استقاموا ، وعادوا إلى جهلهم ، وردوا إلى كفرهم ، وقالوا لإبراهيم : والله (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) أي فكيف تأمرنا بسؤالهم. وقوله : (ثُمَّ نُكِسُوا ..) شبّه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء مستعليا على أعلاه.

التفسير والبيان :

هذا هو الفصل الثاني من قصة إبراهيم ، الذي يصور مرحلة الغليان والغيظ والحقد عند عبدة الأصنام بعد تكسيرها وتحطيمها ، وهي كارثة بالنسبة إليهم تتطلب معرفة الفاعل للثأر منه ، وحكاية ذلك :

٧٨

(قالُوا : مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا)؟ أي قال عبدة الأوثان قوم إبراهيم ، النمروذ وأتباعه ، على سبيل الوعيد والتوبيخ ، حين رجعوا وشاهدوا تحطيم آلهتهم : من الذي كسر هذه الآلهة؟ وتعبيرهم بالآلهة تشنيع وتهويل ، ومبالغة في التعنيف.

(إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي إن هذا الفاعل في صنيعه هذا لمن الذين ظلموا أنفسهم وعرّض نفسه للإهانة والعقاب ، إما لجرأته على الآلهة ، وإما لإفراطه في كسرها وتماديه في الاستهانة بها.

(قالُوا : سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ : إِبْراهِيمُ) قال بعضهم الذي سمع قوله المتقدم: (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) : سمعنا شابا يعيبهم ويتوعدهم يسمى إبراهيم ، فهو الذي فعل بهم هذا. قال ابن عباس : ما بعث الله نبيا إلا شابا ، ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب ، وتلا هذه الآية : (قالُوا : سَمِعْنا فَتًى ..).

وظاهر الآية يدل على أن القائلين جماعة لا واحد ، فقد كان يناقشهم ويقول : (ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) فغلب على أذهانهم أنه الفاعل.

(قالُوا : فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) أي قال نمروذ وأشراف قومه : إذن فأتوا به على مرأى ومسمع من الناس في الملأ الأكبر ، بحضرة الناس كلهم ، حتى يروه ويشهدوا عليه ، فلا يأخذوه بغير بينة ، أو حتى يبصروا ما يصنع به فيكون عبرة. وكان هذا هو مقصود إبراهيم عليه‌السلام أن يبين في هذا المحفل العظيم كثرة جهلهم ، وقلة عقلهم في عبادة هذه الأصنام التي لا تمنع عن نفسها ضرا ولا تنصر أحدا.

(قالُوا : أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ)؟ أي فلما أتوا به ـ وهذا كلام محذوف مفهوم ـ قالوا له : أأنت الذي كسرت هذه الأصنام؟ فأجابهم :

٧٩

(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) أي بل الذي فعل هذا هو الصنم الأكبر ، الذي لم يكسره.

وقد نسب الفعل إلى هذا الصنم الأكبر ، لما رأى شدة تعظيمهم له ، باعتباره المتسبب أو الباعث على الفعل ، أي الاستهانة والتحطيم ، والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى المتسبب فيه. أو أنه أقرّ بفعله بأسلوب تعريضي لإلزامهم الحجة وتبكيتهم ، كما يقول الصانع الحاذق الشهير أو الخطاط المشهور لمن يسأله عن هذه الصنعة الرائعة أو الخط الجميل : بل أنت صنعت ذلك أو بل أنت كتبت ذلك ، والقصد بهذا الجواب تقرير السائل على سؤاله مع الاستهزاء به ، لا نفيه عن صاحبه وإثباته للسائل.

(فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) أي فاسألوا هذه الأصنام عمن كسرها إن كانوا آلهة ينطقون.

وفي ذلك الجواب لفت أنظارهم وتنبيه أذهانهم إلى عقم عبادة الأصنام ، فيبادروا من تلقاء أنفسهم للاعتراف بعدم جدواها وأنها أحجار صماء لا تنطق ، وجمادات لا تتكلم ، فكيف تستحق العبادة؟! وقد أثر الجواب في أفكار هم بدليل قوله الآتي : (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) أي فرجع قوم إبراهيم حينئذ على أنفسهم بالملامة ، ونسبوا إلى أنفسهم التقصير في عدم الاحتراز وعدم حراسة آلهتهم ، ما داموا لا ينطقون ، وقالوا :

(فَقالُوا : إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) أي قال بعضهم لبعض : إنكم أنتم الظالمون في ترككم لها مهملة لا حافظ عندها. أو أنتم الظالمون أنفسكم بعبادة ما لا ينطق.

(ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ ، لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) أي ثم أطرقوا في الأرض للتأمل والتفكير ، أو عادوا إلى المجادلة بالباطل لإبراهيم وانقلبوا عن حال الاستقامة ، واحتجوا على إبراهيم حينما أدركتهم الحيرة بقولهم : إنك تعلم ونحن

٨٠