التفسير المنير - ج ١٧

الدكتور وهبة الزحيلي

أحشاؤهم ، كما يذاب أو يشوى به جلودهم (مَقامِعُ) مضارب أو سياط حديد يجلدون بها ، جمع مقمعة.

(أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) أي من النار (مِنْ غَمٍ) حزن شديد يلحقهم بها (أُعِيدُوا فِيها) ردوا إليها بالمقامع (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي ويقال لهم : ذوقوا العذاب البالغ نهاية الإحراق ، أو العذاب المحرق.

(مِنْ أَساوِرَ) جمع أسورة ، وهي جمع سوار ، أي فالأساور جمع الجمع ، وهي حلية تلبسها النساء في معاصمها (وَلُؤْلُؤاً) هو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف (حَرِيرٌ) هو المحرم لبسه على الرجال في الدنيا. (وَهُدُوا) أرشدوا (إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) وهو كلمة التوحيد : لا إله إلا الله ، أو هو قولهم : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) [الزمر ٣٩ / ٧٤] أو كلام أهل الجنة مع بعضهم بعضا (صِراطِ الْحَمِيدِ) أي الطريق المحمود ، وهو الإسلام أو طريق الجنة ، أو آداب المعاشرة والاجتماع. والأصح أنه طريق الله الحميد أي المحمود نفسه أو عاقبته وهو الجنة.

سبب النزول :

نزول الآية (١٩):

(هذانِ خَصْمانِ) : أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي ذر قال : نزلت هذه الآية : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) في حمزة وعبيدة وعلي بن أبي طالب ، وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة. أي الفريقين اللذين قاما بالمبارزة في بداية معركة بدر.

وأخرج الحاكم عن علي قال : فينا نزلت هذه الآية ، وفي مبارزتنا يوم بدر : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) إلى قوله : (الْحَرِيقِ).

وأخرج الحاكم من وجه آخر عن علي قال : نزلت في الذين بارزوا يوم بدر : حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة.

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس : أنها نزلت في أهل الكتاب قالوا

١٨١

للمؤمنين : نحن أولى بالله منكم ، وأقدم كتابا ، ونبينا قبل نبيكم ، فقال المؤمنون : نحن أحق بالله ، آمنا بمحمد وبنبيكم ، وبما أنزل الله من كتاب.

المناسبة :

بعد بيان أهل الفرق الستة وقضاء الله بينهم بالعدل ، ذكر هنا تصنيفهم إلى فريقين : فريق الإيمان ، وفريق الكفر ، ثم محاورتهم فيما بينهم في الأهدى طريقا ، ومآل كل من الفريقين إلى الجحيم أو إلى النعيم.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن خصومة فريقين اختصموا في دين الله وذاته وصفاته فيقول : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) أي إن أهل الأديان المختلفة الستة المتقدم بيانهم هم فريقان متميزان : فريق المؤمنين ، وفريق الكافرين الذين هم أتباع الديانات الخمس المتقدمة ، تنازعوا وتجادلوا في شأن ربهم وفي دينه ، وكل منهم يعتقد أنه على حق ، وأن خصمه على الباطل ويبني على أساس ذلك جهاده وسلوكه وفكره.

والحق أن مصير الفريقين واضح ، أما الفريق الأول وهم الكافرون فجزاؤهم : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) أي فالكافرون تحيط بهم النار إحاطة شاملة ، وقد مثّل ذلك بأنه فصلت لهم مقطعات من نار تحيط بهم كإحاطة الثوب بلابسه ، مما يومئ بشدة عذابهم واحتقار شأنهم ، كما قال تعالى : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الأعراف ٧ / ٤١] وقال سبحانه : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ ، وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) [إبراهيم ١٤ / ٥٠].

(يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) أي يصب على رؤوسهم الماء البالغ درجة الغليان الذي يذيب ما في بطونهم من أحشاء ، ويشوي جلودهم ، فيحرق الباطن والظاهر.

١٨٢

روى ابن جرير والترمذي وابن أبي حاتم وعبد بن حميد عن أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الحميم ليصبّ على رؤوسهم ، فينفذ الجمجمة ، حتى يخلص إلى جوفه ، فيسلت ما في جوفه ، حتى يبلغ قدميه ، وهو الصّهر ، ثم يعاد كما كان».

(وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) أي لهم مضارب أو سياط من حديد ، يضربون بها على وجوههم ورؤوسهم وأعضائهم وأجسادهم. أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أن مقمعا من حديد وضع في الأرض ، فاجتمع له الثقلان ، ما أقاموه من الأرض». وأخرج عن أبي سعيد أيضا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت ، ثم عاد كما كان ، ولو أن دلوا من غسّاق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا».

(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ ...) أي كلما حاولوا الهرب من جهنم بسبب شدة العذاب والغم ، أي الحزن الشديد ، أعيدوا فيها كما كانوا ، ويقال لهم : ذوقوا العذاب المحرق ، وعذاب هذه النار المحرقة. قال الفضيل بن عياض : والله ما طمعوا في الخروج ، إن الأرجل لمقيدة ، وإن الأيدي لموثقة ، ولكن يرفعهم لهبها ، وتردهم مقامعها.

وقوله : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) كقوله : (وَقِيلَ لَهُمْ : ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [السجدة ٣٢ / ٢٠] ومعنى الكلام : أنهم يهانون بالعذاب قولا وعملا.

وبعد بيان سوء حال الكافرين وما هم فيه من العذاب والنكال ، والحريق والأغلال ، ذكر تعالى حسن أهل الجنة ، فقال :

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ..) أي إن الله يدخل المؤمنين الذين يعملون الصالحات أي الطاعات والقربات ، ويتجنبون المنكرات

١٨٣

جنات عالية رفيعة تجري الأنهار من تحت أشجارها وجوانبها وقصورها ، يوجهونها حيث أرادوا.

(يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) أي وحليتهم التي يلبسونها أساور الذهب في أيديهم أو تكون مرصعة باللؤلؤ ، ويؤتون لؤلؤا يزينون به هاماتهم ورؤوسهم ، كما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث المتفق عليه : «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» واللؤلؤ كما تقدم : هو ما يستخرج من البحر من جوف الصّدف.

(وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) أي ويرتدون الحرير الذي كان محرما لباسه على الرجال في الدنيا ، في مقابلة ثياب أهل النار التي فصلت لهم ، ويؤكدها آية أخرى : (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) [فاطر ٣٥ / ٣٣].

(وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) أي أرشدوا إلى القول الطيب ، وهو كلمة التوحيد أو قوله تعالى حين دخول الجنة : (وَقالُوا : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ ، نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) [الزمر ٣٩ / ٧٤]. أو إلى تحية الملائكة لهم بالسلام ، وهذا في مقابل أهل النار الذين يقرعون ويوبخون ويقال لهم : (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ).

(وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) أي وأرشدوا إلى الطريق المحمود أو إلى المكان الذي يحمدون فيه ربهم على نعمه وأفضاله ، أو إلى السلوك الحسن المرضي ربهم في أقوالهم وأفعالهم ، والأصح : إلى طريق الله الحميد أي المحمود نفسه أو عاقبته وهو الجنة.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه حال المؤمنين وحال الكافرين في الآخرة ، أما الكافرون من الفرق الخمس الذين تقدم ذكرهم ، فخيطت وسويت لهم ثياب شاملة من نار ، أي أنها

١٨٤

تحيط بهم إحاطة كاملة ، ويصب على رؤوسهم الماء الحار المغلي بنار جهنم ، يذيب أحشاء بطونهم وشحومها ، ويشوي الجلود أو يحرقها ، فإن الجلود لا تذاب ، فيضم في كل شيء ما يليق به ، ويضربون ويدفعون بمضارب ثقيلة من حديد.

وإذا حاولوا الخروج من النار حين تفور بهم ، فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها ، فتعيدهم خزنة النار إليها بالمقامع ، ويقولون لهم : (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي المحرق. والذوق : مماسّة يحصل معها إدراك الطعم ، والمراد به إدراكهم الألم.

وأما المؤمنون فلهم ألوان عديدة من النعم ، منها أنهم يحلون بأساور الذهب ، ويحلون لؤلؤا يزينون به تيجانهم ، قال القشيري : والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ ، ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤلؤ مصمت ، أي الذي لا يخالطه غيره. قال القرطبي : وهو ظاهر القرآن ونصه.

وجميع ما يلبسونه وينتفعون به من فرشهم ولباسهم وستورهم حرير ، وهو أعلى مما في الدنيا بكثير.

وأرشدوا إلى طيب القول ، قال ابن عباس يريد لا إله إلا الله ، والحمد لله ، كما أرشدوا إلى صراط الله وهو في الدنيا دينه وهو الإسلام ، وفي الآخرة الطيب من القول : وهو الحمد لله ؛ لأنهم يقولون غدا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) [الأعراف ٧ / ٤٣] ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر ٣٥ / ٣٤] ؛ فليس في الجنة لغو ولا كذب ، فما يقولونه فهو طيّب القول. وقد هدوا في الجنة إلى صراط الله وهو الإسلام أو إلى طريق الجنة ، إذ ليس في الجنة شيء من مخالفة أمر الله وقيل : الطيب من القول : ما يأتيهم من الله من البشارات الحسنة.

أما في الدنيا فالحرير والذهب محرم استعمالهما حلية على الرجال ، حلال للنساء ، أما الانتفاع بآنية الذهب والفضة كالأكل والشرب فهو حرام مطلقا على

١٨٥

الرجال والنساء. روى النسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من لبس الحرير في الدنيا ، لم يلبسه في الآخرة ، ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة ، ومن شرب في آنية الذهب والفضة ، لم يشرب فيها في الآخرة». ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لباس أهل الجنة وشراب أهل الجنة ، وآنية أهل الجنة».

والحرمان من ذلك : إنما هو في حال عدم وجود التوبة ، بدليل حديث ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من شرب الخمر في الدنيا ، ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة».

فإذا لم تحدث التوبة ، فيحرم مما ذكر عملا بظاهر الحديث ، وإن دخل الجنة ، بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ، وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ، ولم يلبسه هو». وكذلك «من شرب الخمر ولم يتب» و «من استعمل آنية الذهب والفضة» وليس ذلك بعقوبة ؛ لأن الجنة ليست بدار عقوبة ، ولا مؤاخذة فيها بوجه (١).

المنع من المسجد الحرام

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥))

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٢ / ٣٠

١٨٦

الإعراب :

(وَيَصُدُّونَ) الواو : إما واو عطف أو واو حال ، فإن كانت للعطف عطف المضارع على الماضي حملا على المعنى ، على تقدير : إن الكافرين والصادّين. وإن كانت للحال ، كان تقديره : إن الذين كفروا صادّين عن سبيل الله. وخبر (إِنَ) مقدّر ، أي معذّبون. والأصح هو الأول ، قال البيضاوي : لا يريد به حالا ولا استقبالا ، وإنما يريد استمرار الصدّ منهم ، كقولهم : فلان يعطي ويمنع ، ولذلك حسن عطفه على الماضي. وهذا مثل قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) [الرعد ١٣ / ٢٨].

(سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ الْعاكِفُ) : مبتدأ ، (وَالْبادِ) : عطف عليه ، وسواء على قراءة الرفع : خبر مقدم. وعلى قراءة النصب : منصوب على المصدر ، على تقدير : سوّينا ، أو على الحال من هاء (جَعَلْناهُ) وهو عامل فيه ، ورفع (الْعاكِفُ) به.

(بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) حالان مترادفان ، ومفعول (يُرِدْ) : متروك ليتناول كل متناول كما قال الزمخشري ، وهو الأولى كما قال الرازي.

البلاغة :

(الْعاكِفُ) و (الْبادِ) بينهما طباق ، إذ العاكف : المقيم في المدينة ، والباد : المقيم في البادية.

المفردات اللغوية :

(وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي ويمنعون عن دين الله وطاعته. والصد : المنع ، والفعل يفيد استمرار المنع (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) مكة (الَّذِي جَعَلْناهُ) منسكا ومعبدا (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) أي تساوى فيه المقيم الملازم والطارئ من البادية (بِإِلْحادٍ) عدول عن القصد والاستقامة ، والباء زائدة للتأكيد ، أي إلحادا مثل (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون ٢٣ / ٢٠] (بِظُلْمٍ) بغير حق ، أي بسببه ، بأن ارتكب منهيا ، ولو شتم الخادم (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي يتلقى بعض العذاب المؤلم ، وهو جواب الشرط لمن يرد ، ويفهم خبر (إِنَ) من قوله (نُذِقْهُ) أي نذيقهم من عذاب أليم.

سبب النزول :

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب

١٨٧

وأصحابه حين صدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه عام الحديبية عن المسجد الحرام ، وقد كره عليه الصلاة والسلام أن يقاتلهم ، وكان محرما بعمرة ، ثم صالحوه على أن يعود في العام المقبل.

وقوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) : روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : بعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن أنيس مع رجلين : أحدهما مهاجر ، والآخر من الأنصار ، فافتخروا في الأنساب ، فغضب عبد الله بن أنيس ، فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإسلام ، وهرب إلى مكة ، فنزلت فيه : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) الآية.

المناسبة :

بعد بيان مآل الكفار والمؤمنين ، عظم الله تعالى حرمة البيت الحرام ، وعظم كفر المشركين الصادين عن الدخول إليه لأداء المناسك ، مع ادعائهم أنهم حماته.

التفسير والبيان :

إن الذين كفروا بالله ورسوله ، وهم مع كفرهم يصدون عن سبيل الله وعن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في الأمر نفسه ، فهم يمنعونهم من الدخول إليه ، مع أن الله تعالى جعله للناس جميعا لصلاتهم وعبادتهم ، وطوافهم وأداء مناسكهم ، يستوي في شأنه المقيم منهم فيه والطارئ عليه النائي عنه ، من أهل البوادي وغيرهم.

ومن يرد فيه مرادا ما عادلا عن القصد والاستقامة ، ظالما ، أي يهم فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار ، عامدا قاصدا أنه ظلم غير متأول ، وهو التعمد ، نذقه يوم القيامة من العذاب المؤلم.

قال مجاهد : (بِظُلْمٍ) : يعمل فيه عملا سيئا. وقال ابن أبي حاتم : وهذا

١٨٨

من خصوصية الحرم أنه يعاقب البادي في الشر إذا كان عازما عليه ، وإن لم يوقعه. وروى ابن أبي حاتم عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «احتكار الطعام بمكة إلحاد». وهذا بعض أمثلة الظلم ، فإن هذا الإلحاد والظلم يجمع جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر ، فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه ، ومن نوى سيئة ، ولم يعملها ، لم يحاسب عليها إلا في مكة.

والخلاصة : أن الآية عامة تشمل كل أنواع المعصية ، ويختص الحرم بعقوبة من همّ فيه بسيئة وإن لم يعملها ، كما أن الله تعالى جعل الحرم مفتوحا ومنسكا لكل الناس ، أي الذين يقع عليهم اسم الناس من غير فرق بين حاضر وباد ، ومقيم وطارئ ، ومكي وآفاقي.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على ما يأتي :

١ ـ حرية العبادة في الحرم المكي لجميع الناس ، من أهل مكة وغيرهم ، وهذا يومئ إلى أن من يمنع الناس من حج بيت الله الحرام ، يكون من الذين كفروا ؛ لأن الله تعالى ذكر فريضة الحج عقب هذه الآية.

٢ ـ كل من يرتكب معصية في مكة عدوانا وظلما ، أو يعزم فيه على الشر ، وإن لم يفعله ، له يوم القيامة عذاب مؤلم شديد الألم أي فيعاقب الإنسان على ما ينويه من المعاصي بمكة ، وإن لم يعمله. قال الإمام أحمد : أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير ، فقال : يا ابن الزبير : إياك والإلحاد في حرم الله ، فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنه سيلحد فيه رجل من قريش لو توزن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت».

وقد استدل الحنفية بالآية على امتناع جواز بيع دور مكة وإجارتها ، قائلين بأن المراد بالمسجد الحرام مكة ، ومستدلين بما رواه ابن ماجه والدارقطني

١٨٩

عن علقمة بن نضلة قال : توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبو بكر وعمر ، وما تدعى رباع مكة إلا السوائب ، من احتاج سكن ، ومن استغنى أسكن. وقال عبد الله بن عمرو ـ فيما رواه عنه عبد الرزاق : لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها ، وقال : «من أكل من أجر بيوت مكة شيئا ، فإنما يأكل نارا». وروى عبد الرزاق أيضا عن ابن جريج قال : كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم.

وذهب الشافعي رحمه‌الله إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر ، لحديث أسامة بن زيد في الصحيحين قال : قلت : يا رسول الله ، أتنزل غدا في دارك بمكة؟ فقال : «وهل ترك لنا عقيل من رباع»؟ وقال فيما رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن أسامة : «لا يرث الكافر المسلم ، ولا المسلم الكافر» وثبت أن عمر بن الخطاب اشترى من صفوان بن أمية دارا بمكة ، فجعلها سجنا بأربعة آلاف درهم.

وتوسط الإمام أحمد فقال : تملك وتورث ، ولا تؤجر ، جمعا بين الأدلة.

ومنشأ الخلاف : كيفية فتح مكة ، هل كان فتحها عنوة؟ فتكون مغنومة ، لكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقسمها وأقرها لأهلها ، ولمن جاء بعدهم ؛ كما فعل عمر رضي‌الله‌عنهبأرض سواد العراق ، فتبقى على ذلك لا تباع ولا تكرى ، ومن سبق إلى موضع كان أولى به. وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والأوزاعي.

أو هل كان فتحها صلحا؟ وإليه ذهب الشافعي ، فتبقى ديارهم بأيديهم ، ويتصرفون في أملاكهم كيف شاؤوا ، واستدل بقوله تعالى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) [الحج ٢٢ / ٤٠] فأضافها إليهم. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة فيما رواه أحمد ومسلم عن أبي هريرة : «من أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان ، فهو آمن».

ويلاحظ أنه لم يؤاخذ الله تعالى أحدا على الهم بالمعصية إلا في المسجد الحرام لقوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) لأنه مكان تطهير النفس والتوبة والنقاء والتخلص من الذنوب بالكلية لله عزوجل.

١٩٠

تعيين مكان البيت الحرام والأمر بالحج إليه

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩))

الإعراب :

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ) اللام : إما زائدة ؛ لأن (بَوَّأْنا) يتعدى إلى مفعولين ، فإبراهيم هو المفعول الأول ، و (مَكانَ) : هو المفعول الثاني ، وإما ألا تكون زائدة ، ويكون (بَوَّأْنا) محمولا على معنى (جعلنا) فكأنه قال : جعلنا لإبراهيم مكان البيت : ظرف ، والمفعول محذوف ، تقديره : بوأنا لإبراهيم مكان البيت منزلا.

(أَنْ لا تُشْرِكْ بِي) أن : إما مخففة من الثقيلة في موضع نصب ، أي بأنه لا تشرك بي ، وإما مفسّرة بمعنى «أي» وإما زائدة.

(يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ رِجالاً) : حال منصوب من واو (يَأْتُوكَ). و (عَلى كُلِّ ضامِرٍ) : جارّ ومجرور في موضع نصب على الحال ، أي يأتوك رجالا وركبانا. و (يَأْتِينَ) : يعود إلى معنى (كُلِ) وفعل غير العقلاء كفعل المؤنث ، ودلت (كُلِ) على العموم ، فأتى الخبر على المعنى.

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ ذلِكَ) : إما مجرور صفة للبيت العتيق ، وإما مرفوع خبر مبتدأ

١٩١

محذوف ، أي الأمر ذلك ، مثل قوله تعالى : (ذلِكَ ، وَمَنْ عاقَبَ) [الحج ٢٢ / ٦٠] أي الأمر ذلك.

البلاغة :

عميق عتيق سحيق أي في الآية التالية سجع مستحسن في علم البديع.

المفردات اللغوية :

(وَإِذْ بَوَّأْنا) أي واذكر إذ عيناه وبيناه (مَكانَ الْبَيْتِ) أي الكعبة ليبنيه ، وكان قد رفع من زمن الطوفان في عهد نوح (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) من الأوثان والأقذار لمن يطوف به ويصلي فيه (وَالْقائِمِينَ) المقيمين به (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) المصلين ، جمع راكع وساجد.

(وَأَذِّنْ) ناد بالحج ، أي بالدعوة إليه ، فنادى على جبل أبي قبيس : يا أيها الناس ، إن ربكم بنى بيتا ، وأوجب عليكم الحج إليه ، فأجيبوا ربكم. والتفت بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وغربا ، فأجابه كل من كتب له أن يحج من أصلاب الرجال وأرحام الأمهات : لبيك اللهم لبيك. (يَأْتُوكَ رِجالاً) أي راجلين ماشين على الأقدام ، جمع راجل ، كتاجر وتجار وقائم وقيام ، و (يَأْتُوكَ) : جواب الأمر (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) أي وركبانا على كل بعير مهزول ، بأن أتعبه بعد السفر فهزل. والضامر : يطلق على الذكر والأنثى (يَأْتِينَ) اي الضوامر ، أتى به جمعا حملا على المعنى (مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أي طريق بعيد.

(لِيَشْهَدُوا) ليحضروا (مَنافِعَ لَهُمْ) منافع دينية في الآخرة ، ودنيوية بالتجارة (فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) هي عشر ذي الحجة ، أو يوم عرفة أو يوم النحر إلى آخر أيام التشريق ـ أيام عيد الأضحى (بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) الإبل والبقر والغنم التي تنحر في يوم العيد وما بعده من الهدايا والضحايا (فَكُلُوا مِنْها) من لحومها ، أباح ذلك خلافا لما كان عليه أهل الجاهلية من التحرج فيه ، وهذا في المتطوع به ، المستحب ، دون الواجب (الْبائِسَ الْفَقِيرَ) أي الذي أصابه بؤس أي شدة ، والفقير : المحتاج ، والأمر فيه للوجوب.

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) أي يزيلوا أو ساخهم وشعثهم كطول الظفر والشعر ، ونتف الإبط ، والمراد هنا : قص الأشعار وتقليم الأظفار. (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) ما ينذرون به من البر في حجهم ، ومن الهدايا والضحايا. والنذر : كل ما لزم الإنسان أو التزمه. (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي يطوفوا طواف الركن الذي به تمام التحلل أي طواف الإفاضة ، فإنه قرينة قضاء التفث ، وقيل : طواف الوداع. والعتيق : القديم ؛ لأنه أول بيت وضع للناس.

١٩٢

سبب النزول :

نزول الآية (٢٧):

(وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) : أخرج ابن جرير عن مجاهد قال : كانوا لا يركبون ، فأنزل الله : (يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) فأمرهم بالزاد ، ورخص لهم في الركوب والمتجر.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى موقف المشركين من الصد عن المسجد الحرام ، أراد تعالى بيان مكانة البيت الحرام وتوبيخ أولئك المشركين على فعلهم ، فإن أباهم إبراهيم عليه‌السلام هو الذي بناه ، وأمر بتطهيره للطائفين والمصلين ، وأن يدعو الناس إلى الحج ، للحصول على المنافع الدينية والدنيوية.

التفسير والبيان :

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ ..) أي واذكر يا محمد للناس وقت أن جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة ، أي مرجعا يرجع إليه للعبادة ، وأرشده إليه وأذن له في بنائه. والمراد بذكر الوقت ذكر ما وقع فيه من حادث عظيم ، ليتذكر المشركون ، ويقلعوا عن عبادة الأوثان إلى عبادة الله الواحد الديان.

وفي هذا تقريع وتوبيخ لمن أشرك بالله في بقعة أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له.

وفيه دليل على أن إبراهيم عليه‌السلام هو أول من بنى البيت العتيق ، وأنه لم يبن قبله بعد رفعه وطمس معالمه في أثناء طوفان نوح عليه‌السلام ، كما ثبت في الصحيحين عن أبي ذرّ قلت : يا رسول الله ، أي مسجد وضع أول؟ قال : «المسجد الحرام» قلت : ثم أي؟ قال : «بيت المقدس» قلت : كم بينهما؟

١٩٣

قال : «أربعون سنة». وقد قال الله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً) الآيتين [آل عمران ٣ / ٩٦ ـ ٩٧] وقال تعالى : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة ٢ / ١٢٥].

(أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ ..) أي وقلنا له : ابنه على اسمي وحدي ، ولا تشرك بي شيئا من خلقي في العبادة ، وطهّر بيتي من الشرك والأوثان والأصنام والأقذار أن تطرح حوله ، واجعله خالصا لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له ، فالطائف به يخص العبادة بالله تعالى ، لا يفعل ببقعة من الأرض سواها ، والقائم في الصلاة أو الدعاء لله ، والراكع الساجد لله تعالى فيها. وقد قرن الطواف بالصلاة ؛ لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت ، فالطواف عنده ، والصلاة إليه ، فالقائمون : هم المصلون ، وذكر تعالى من أركان الصلاة أعظمها وهو القيام والركوع والسجود.

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ ..) أي ناد في الناس بالحج ، داعيا لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه ، يأتوك راجلين ماشين ، وراكبين على كل بعير ضامر مهزول ، من كل طريق بعيد. والأذان والتأذين : الاعلام برفع الصوت على نحو ما يكون للصلاة. والمراد هنا : النداء في الناس بأن الله قد كتب عليهم الحج ودعاهم إلى أدائه.

روي أنه لما أمر إبراهيم عليه‌السلام بالأذان للحج قال : يا ربّ ، وما يبلغ صوتي؟ قال : أذّن وعليّ الإبلاغ ، فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس وصاح : يا أيها الناس ، إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ، ليثيبكم به الجنة ، ويجيركم من عذاب النار ، فحجّوا ، فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، لبّيك اللهم لبّيك (١). وهذا معجزة خارقة للعادة ، فهو سبحانه قادر على إيصال صوت إبراهيم إلى من يشاء في أنحاء الأرض والسماء.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٢ / ٣٨ ، وسيأتي تخريج الرواية.

١٩٤

وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن إبراهيم حيث قال في دعائه : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) [إبراهيم ١٤ / ٣٧]. فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحنّ إلى رؤية الكعبة والطواف ، والناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار.

وقد يستدل بقوله : (رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) على أن الحج ماشيا لمن قدر عليه أفضل من الحج راكبا ؛ لأنه قدّمهم في الذّكر ، فدل على الاهتمام بهم ، وقوة هممهم ، وشدة عزمهم. قال ابن عباس : ما آسى على شيء فاتني ، إلا أني وددت أني كنت حججت ماشيا ؛ لأن الله يقول : (يَأْتُوكَ رِجالاً)(١).

والذي عليه أكثر العلماء أن الحج راكبا أفضل ، اقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه حجّ راكبا ، مع كمال قوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإنما قال : (يَأْتُوكَ) مع أن الإتيان للبيت الحرام ، إشارة إلى أنه الداعي والقدوة لهم بعد ، وفيه تشريف إبراهيم.

ثم أبان تعالى سبب النداء إلى الحج وحكمته فقال :

(لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ ، وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ ..) أي أدعهم إلى الحج ليحضروا منافع لهم دينية بأن يحظوا برضوان الله ، ودنيوية بما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارات ، وما يكون في ذلك الاجتماع العظيم من التعارف. وهذا دليل على جواز الاتجار في الحج.

وليذكروا اسم الله أي حمده وشكره والثناء عليه بالتكبير والتسبيح ، على ما رزقهم من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم ، وذلك في أيام معلومات هي أيام النحر الثلاثة أو الأربعة وهو قول الصاحبين ومالك ، وقيل : عشر ذي

__________________

(١) رواه ابن سعد وابن أبي شيبة والبيهقي وجماعة عنه.

١٩٥

الحجة وهو رأي أبي حنيفة والشافعي. وإذا كان ذكر اسم الله بمعنى الحمد والشكر فتكون (عَلى) للتعليل ، ورأى الزمخشري أن ذكر اسم الله كناية عن الذبح والنحر ؛ لأن أهل الإسلام لا ينفكّون عن ذكر اسمه إذا ذبحوا أو نحروا ، وتكون (عَلى) للاستعلاء. وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرّب به إلى الله أن يذكر اسمه. واختير هذا الأسلوب ليشير إلى أن ذكر الله وحده دون شرك هو المقصود الأعظم وتوسيط الرزق للحث على الشكر والتقرب بتلك القربة والتهوين عليهم في الإنفاق.

ثم أمر الله تعالى بالأكل من تلك الذبائح أمر إباحة فقال :

(فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) أي فاذكروا اسم الله على الذبائح ، وكلوا من لحومها ، وأطعموا البائس الذي أصابه بؤس أي شدة ، الفقير المحتاج.

والأمر بالأكل من الذبائح كما ذكر ؛ لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من نسائكهم. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون ندبا ، لما فيه من مساواة الفقراء ومواساتهم وإظهار التواضع ، ومن هنا استحب الفقهاء أن يأكل الموسع من أضحيته مقدار الثلث. وثبت أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نحر هديه ، أمر من كل بدنة ببضعة (قطعة من اللحم) فتطبخ ، فأكل من لحمها ، وحسا من مرقها. ومذهب الشافعي أن الأكل مستحب ، والإطعام واجب ، فإن أطعمها جميعها جاز وأجزأ. وقوله : (فَكُلُوا) التفات إليهم بالخطاب ليؤكد لهم إباحة الأكل من تلك الذبائح.

ثم أمر تعالى بالنظافة وإيفاء النذر والطواف ، فقال :

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ، وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ، وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) هذه أوامر بواجبات ثلاثة على سبيل الإيجاب ، أي ليزيلوا الأوساخ من على أجسادهم بقص الأظفار وحلق الأشعار ونحوه من الأغسال ، وليوفوا نذورهم التي نذروها

١٩٦

تقربا إلى الله تعالى من أعمال البر ، والنذر : كل ما لزم الإنسان أو التزمه ، وليطوفوا طواف الركن أو الإفاضة ، وقيل : طواف الوداع ، بالبيت العتيق أي القديم ، فهو أقدم بيت للعبادة.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن بناء الكعبة المشرفة أو البيت الحرام على يد إبراهيم الخليل عليه‌السلام بأمر من الله تعالى له هدفان :

الأول ـ إعلان وحدانية الله تعالى وإظهار التوحيد الخالص من شوائب الشرك.

الثاني ـ تطهير البيت من جميع الأصنام والأوثان والأقذار وكل مظاهر الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء ، كما قال تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج ٢٢ / ٣٠].

والأصح أن الخطاب في ذلك وما يأتي لإبراهيم ، وليس لمحمد عليهما الصلاة والسلام.

٢ ـ قوله : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) إعلام بفريضة الحج. وهذا يدل على أن الحج كان مفروضا في زمن إبراهيم عليه‌السلام ، فإن كانت الفرضية باقية لم تنسخ في عهد نبي بعده ، كانت الأوامر به في شريعتنا مؤكدة لتلك الفرضية. وإن نسخت تلك الفرضية ، كان وجوب الحج علينا بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران ٣ / ٩٧]. وذلك في عام الوفود في السنة التاسعة.

وأما آية : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة ٢ / ١٩٦] النازلة في السنة

١٩٧

السادسة ، فليست صريحة في الإيجاب ؛ إذ يحتمل أن المراد وجوب إتمامهما بعد الشروع فيهما ، فيكون الشروع فيهما ليس واجبا.

وأما إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حج حجتين قبل الهجرة فهما نافلتان على ملة أبينا إبراهيم عليه‌السلام ، ثم حج بعد الهجرة حجة الوداع في السنة العاشرة ، وهي حجة الإسلام.

وأما إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبادر بالحج سنة تسع عام الفرضية ؛ لأن الوقت حينئذ كان زمن النسيء (تأخير أزمان الشهور) ولم يكن الزمن الحقيقي قد استقر حتى تعود عشر ذي الحجة إلى مركزها الصحيح من السنة ، وقد علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها ستعود إلى مركزها الحقيقي في السنة العاشرة ، فتأخر إليها كي يقع حجة في الوقت الحقيقي الذي فرض الله على الناس الحج فيه. وليس على أبي بكر الذي حج في السنة التاسعة ولا على غيره حرج في حجهم ما دام أمر الزمان مختلطا.

ونداء إبراهيم بالحج على جبل أبي قبيس وإسماع صوته إلى الآفاق معجزة ، فالله قادر على إيصال صوت إبراهيم إلى من يشاء في أي مكان. أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : لما فرغ إبراهيم عليه‌السلام من بناء البيت قال : ربّ قد فرغت ، فقال : أذّن في الناس بالحج ، قال : يا رب ، وما يبلغ صوتي؟ قال : تعال أذّن ، وعلي البلاغ ، قال : ربّ كيف أقول؟ قال : قل : «يا أيها الناس ، كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق» فسمعه أهل السماء والأرض ، ألا ترى أنهم يجيبون من أقصى البلاد ، يلبّون.

٣ ـ قوله : (يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) وعد بإجابة الناس إلى حج البيت ما بين راجل وراكب. وفيه دليل على جواز كل من المشي والركوب إلى الحج ، ولا خلاف في ذلك ، وإنما الخلاف في الأفضل منهما :

١٩٨

فرأى بعض المالكية أن المشي أفضل ، لما فيه من المشقة على النفس ، ولحديث ابن ماجه في سننه عن أبي سعيد الخدري قال : حجّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة

، ولقول ابن عباس المتقدم.

وذهب جمهور الفقهاء منهم الإمام مالك إلى أن الركوب أفضل ، اقتداء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكثرة النفقة ، ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب. وأما مجرد تقديم (رِجالاً) على الركبان فلا يدل على الأفضلية ، لأن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب ، ولجواز أن يكون تقديم الرجال على الركبان ، للإشارة إلى مسارعة الناس في الامتثال ، حتى إن الماشي ليكاد يسبق الراكب.

وترفع الأيدي عند رؤية البيت الحرام في مذهب أحمد وجماعة ؛ لما روى ابن عباس رضي‌الله‌عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ترفع الأيدي في سبعة مواطن : افتتاح الصلاة ، واستقبال البيت ، والصّفا والمروة ، والموقفين (١) ، والجمرتين».

٤ ـ دلّ قوله : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) على جواز التجارة في الحج ؛ قال مجاهد : المنافع : التجارة وما يرضي الله من أمر الدنيا والآخرة. ونص الفقهاء على جواز التجارة للحجاج من غير كراهة إذا لم تكن هي المقصودة من السفر ، بدليل قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة ٢ / ١٩٨] والفضل : التجارة بلا خلاف.

وكلمة (مَنافِعَ) تدل على حكمة الحج ، وأنه شرع لما فيه من منافع عظيمة في الدين والدنيا ، فمناسك الحج من أعظم مظاهر الخشية والإخلاص لله في الذكر والدعاء والعبادة ، وهي تدل على التجرد من مفاتن الدنيا وزينتها ، وتبعث على عدم التعلق بشهواتها وزخارفها. كما أنها بواعث على الرحمة والإحسان ، والعدل

__________________

(١) موقف عرفات والمشعر الحرام.

١٩٩

والمساواة ، والتعاون ، إذ يتعاون الناس في أسفارهم ، ويتراحمون ، ويتعارفون في هذا المؤتمر الأكبر ، ويكونون متساوين لا فرق بين حاكم ومحكوم ، ولا بين غني وفقير. ثم إنه كان وما يزال الحج محققا لمنافع معيشية لأهل الحجاز.

٥ ـ يرى المالكية أن ذبح الهدي لا يجوز ليلا ، للآية : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) لأن الله جعل ظرف النحر هو الأيام لا الليالي. والحق أن اليوم يطلق على النهار ، وعلى مجموع النهار والليل. وغير المالكية يرون كراهة الذبح ليلا ، لاحتمال الخطأ فيه بسبب الظلمة.

والأيام المعلومة في رأي الإمام مالك وأبي يوسف ومحمد : هي أيام النحر ، وهي العيد واليومان بعده. وفي رأي أبي حنيفة والشافعي : هي عشر ذي الحجة ، وهي معلومات ؛ لأن شأن المسلمين الحرص على معرفتها.

وأيام النحر عند الحنفية والمالكية ثلاثة أيام : العاشر ويومان بعده ، وعند الشافعي : إنها أربعة : العاشر وما بعده. والرأي الأول مروي عن جمع من الصحابة. والثاني بدليل ما روى البيهقي عن جبير بن مطعم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «وكلّ أيام التشريق ذبح» وهي ثلاثة بعد يوم النحر ، لكن الإمام أحمد ضعّف هذا الحديث.

ووقت الذبح بعد النحر في رأي مالك : بعد صلاة الإمام وذبحه ، وعند أبي حنيفة : بعد الفراغ من الصلاة دون ذبح ، وفي رأي الشافعي : بعد دخول وقت الصلاة ومقدار خطبتين. قال ابن عبد البر : لا أعلم خلافا بين العلماء في أن من ذبح قبل الصلاة ، وكان من أهل المصر أنه غير مضحّ ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب : «من ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم».

وأما أهل البوادي ومن لا إمام له : فمشهور مذهب مالك أنه يتحرى ذبح الإمام أو أقرب الأئمة إليه. وقال الحنيفة : يجزيهم من بعد الفجر.

٢٠٠