التفسير المنير - ج ١٧

الدكتور وهبة الزحيلي

مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١))

الإعراب :

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها وَالَّتِي) : منصوب بفعل مقدر ، أي : واذكر التي أحصنت. (آيَةً) منصوب مفعول ثان بجعل. وقال : (آيَةً) ، ولم يقل : آيتين لوجهين: أحدهما ـ لأن التقدير : وجعلناها آية ، وجعلنا ابنها آية ، إلا أنه اكتفى بذكر الثاني عن ذكر الأول. والثاني ـ أن يكون (آيَةً) في تقدير التقديم ، أي وجعلناها آية للعالمين وابنها ، والوجه الأول أوجه.

البلاغة :

(رَغَباً وَرَهَباً) بينهما طباق.

(فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) نسب الروح إليه تعالى تشريفا وتكريما ، مثل (ناقَةُ اللهِ) [الأعراف ٧ / ٧٣ ومواضع أخرى].

المفردات اللغوية :

(وَزَكَرِيَّا) أي واذكر زكريا. (إِذْ نادى) بدل منه ، أي دعا ربه بقوله : (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) أي لا تتركني وحيدا بلا ولد يرثني. (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) الباقي بعد فناء خلقك ، فإن لم ترزقني من يرثني ، فلا أبالي. (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أي نداءه. (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) أي أصلحناها للولادة ، فأتت بالولد بعد عقمها. (إِنَّهُمْ) أي المذكورين من الأنبياء عليهم‌السلام. (يُسارِعُونَ) يبادرون. (فِي الْخَيْراتِ) أي الطاعات. (رَغَباً) في رحمتنا. (وَرَهَباً) من عذابنا. (خاشِعِينَ) متواضعين في عبادتهم.

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ) أي واذكر مريم التي حفظت فرجها من أن ينال بالحلال أو الحرام. (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) أي أحيينا عيسى وأوجدناه في جوفها ، ويجوز أن يراد : وفعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا وهو جبريل عليه‌السلام ، حيث نفخ في جيب درعها (قميصها) فوصل النفخ إلى جوفها. (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) هم الإنس والجن والملائكة حيث ولدته من غير رجل. ولم يقل : آيتين ، كما في قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) [الإسراء ١٧ / ١٢] لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير فحل.

١٢١

المناسبة :

بعد بيان النعم الخاصة بكل نبي ، أبان الله تعالى ما أنعم به على زكريا عليه‌السلام بمنحه الولد ، في حال الكبر هو وزوجته ، وبعد أن مسّه الضر بتفرده ، فدعا ربه أن يرزقه الولد ، وأحب أن يكون معه من يؤنسه ويقويه على أمر دينه ودنياه ، ويقوم مقامه بعد موته.

وكان دعاؤه دعاء مخلص عارف بأن الله تعالى قادر على ذلك ، وإن بلغ هو وزوجته سن اليأس من الولد ، بحسب العادة. قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : كان سنّه مائة ، وسن زوجته تسعا وتسعين.

ثم ذكر تعالى قصة مريم وولادتها عيسى ، لما بين ولادته وولادة يحيى من الغرابة وتشابه المعجزة. وتقدمت القصتان في سورتي آل عمران ومريم.

التفسير والبيان :

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ ...) أي واذكر أيها الرسول خبر زكريا حين طلب أن يهبه الله ولدا ، يكون من بعده نبيا ، فدعا ربه خفية عن قومه قائلا : ربّ لا تتركني وحيدا ، لا ولد لي ولا وارث يقوم بعدي في دعوة الناس إليك ، وأنت الباقي بعد فناء خلقك ، فإن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي ، فإنك خير وارث. وقوله : (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) دعاء وثناء.

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى ، وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) أي فأجبنا نداءه ومطلبه ، ووهبناه ولدا اسمه يحيى ، وأصلحنا له امرأته بإزالة موانع الولادة ، فولدت بعد العقم وفي حال الكبر.

(إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي إن المذكورين من الأنبياء عليهم‌السلام ، ومنهم زكريا وزوجه كانوا يبادرون إلى طاعتنا والتقرب إلينا ، أو إلى

١٢٢

فعل الطاعات ، وعمل القربات ، والمراد أنهم ما استحقوا الإجابة إلى طلباتهم إلا لمبادرتهم أبواب الخير ، ومسارعتهم في تحصيلها ، كما يفعل الراغبون في الأمور الجادة.

(وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) أي ويدعوننا رغبة في رحمتنا وفضلنا ، وخوفا من عذابنا وعقابنا ، وكانوا لنا متواضعين متذللين. والمعنى أنهم ضموا إلى فعل الطاعات والمسارعة فيها أمرين :

أحدهما ـ الفزع إلى الله تعالى ، رغبة في ثوابه ، ورهبة من عقابه.

والثاني ـ الخشوع : وهو المخافة الثابتة في القلب ، أو الخوف اللازم للقلب ، لا يفارقه أبدا.

روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن حكيم قال : خطبنا أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، ثم قال : «أما بعد ، فإني أوصيكم بتقوى الله ، وتثنوا عليه بما هو له أهل ، وتخلطوا الرغبة بالرهبة ، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة ؛ فإن الله عزوجل أثنى على زكريا وأهل بيته ، فقال : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ، وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً ، وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ)».

ثم يذكر الله تعالى قصة مريم وابنها عيسى عليهما‌السلام مقرونة بقصة زكريا وابنه يحيى عليهما‌السلام ، كما هو المعتاد في كلامه تعالى ، فيذكر أولا قصة زكريا ، ثم يتبعها بقصة مريم ؛ لأن تلك مربوطة بهذه ، فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير طاعن في السن ، ومن امرأة عجوز عاقر ، لم تكن تلد في حال شبابها. أما قصة مريم فهي أعجب ، فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر.

حدث هذا الاقتران بين القصتين في سورتي آل عمران ومريم ، وهاهنا في سورة الأنبياء.

١٢٣

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي واذكر نبأ مريم التي منعت نفسها من الرجال ، سواء في الحلال أو الحرام ، كما حكى تعالى عنها : (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) [مريم ١٩ / ٢٠] وكما قال في سورة التحريم : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها ، فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [١٢].

(فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) أي نفخنا الروح في عيسى في بطنها ، أي أحييناه في جوفها. ويلاحظ أن الضمير هنا عائد إلى مريم ، وليس المقصود كما هو الظاهر إحياء مريم ، وإنما إحياء عيسى في جوفها. وأما في سورة التحريم فالضمير عائد إلى فرجها ، أي فنفخنا في فرجها ، وقرئ : فيها أي في مريم أو الحمل. وقوله : (مِنْ رُوحِنا) في السورتين أي من روح خلقناه بلا توسط أصل. وأضيف إلى الله تعالى تشريفا.

(وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) أي وجعلنا أمر مريم وعيسى وهو الحمل من غير أب آية ومعجزة خارجة عن العادة ، دالة على أن الله على كل شيء قدير ، وأنه يخلق ما يشاء ، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له : (كُنْ فَيَكُونُ). ونظير الآية قوله سبحانه : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) [مريم ١٩ / ٢١] ولم يقل : آيتين ؛ لأن معنى الكلام : وجعلنا شأنهما وأمرهما وقصتهما آية للعالمين ، أو أن الآية واحدة وهي الولادة من غير رجل ، وقوله: (لِلْعالَمِينَ) أي الجن والإنس والملائكة.

وهناك آيات أخرى لكل من مريم وعيسى ، مثل إتيان الملائكة لها برزقها : (يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا؟ قالَتْ : هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [آل عمران ٣ / ٣٧]. وأما آيات عيسى فمثل إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله كما جاء في [آل عمران : الآية ٤٩].

١٢٤

فقه الحياة أو الأحكام :

إن في كلّ من قصتي زكريا وابنه يحيى ومريم وابنها عيسى آية خارقة للعادة ، ومعجزة غير معتادة دالة على قدرة الله تعالى الفائقة ، والشاملة لكل شيء.

أما قصة زكريا فقد أكرمه الله تعالى بولادة يحيى بعد دعاء ومناجاة ، وتضرع وإخلاص ، وأدب وتفويض لله تعالى ، وذلك في سن الكبر هو وامرأته ، التي كانت عاقرا لا تلد في وقت الشباب. ووجه الآية الفريدة أن الكبير عادة لا ينجب ، وأن العاقر العقيم لا يلد ، فأزال الله موانع الولادة ، وهيأ القدرة على الإنجاب والإخصاب عند الأب زكريا عليه‌السلام.

وسبب هذه الإجابة لدعاء زكريا أنه كان كغيره من الأنبياء يبادر إلى فعل الطاعات ، وعمل القربات ، وأنه كان يدعو في حال الرخاء وحال الشدة ، وحال الرجاء والرهبة ، وأملا في رحمة الله وفضله ، وخوفا من عذابه وعقابه ؛ لأن الرغبة والرهبة متلازمتان.

وأما قصة مريم الطاهرة البتول فقد أحصنت فرجها إحصانا كليا من الحلال والحرام جميعا ، ولم يقربها رجل ، وتمّ نفخ الروح في جوفها ، وإيجاد عيسى بواسطة جبريل الروح القدس من غير أصل ذكر.

فقوله : (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) معناه أمرنا جبريل حتى نفخ في درعها أي قميصها ، فأحدثنا بذلك النفخ (المسيح) في بطنها ، ووصل النفخ إلى جوفها ، وسرت الروح إلى فرجها ، وكان ذلك آية أي علامة وأعجوبة للخلق ، وعلما لنبوة عيسى ، ودلالة على نفوذ قدرتنا فيما نشاء.

وآيات مريم كثيرة كما تقدم :

١٢٥

أحدها ـ ظهور الحمل فيها من غير ذكر.

وثانيها ـ أن رزقها كان يأتيها به الملائكة من الجنة.

وثالثها ورابعها ـ قال الحسن البصري : إنها لم تلتقم ثديا يوما قط ، وتكلمت هي أيضا في صباها ، كما تكلم عيسى عليه‌السلام (١).

وأما آيات عيسى عليه‌السلام فقد تقدم بيانها في سورة آل عمران.

وكل تلك الآيات بإذن الله وأمره ، وليس للبشر فيها قدرة مع قدرة الله تعالى وتدبيره وحكمته.

وحدة الرسالات السماوية والسنّة الإلهية

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧))

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٢ / ٢١٨

١٢٦

الإعراب :

(أُمَّةً واحِدَةً) حال لازمة.

(لا يَرْجِعُونَ) : إما زائدة ، أي وحرام أنهم يرجعون ، أي إلى الدنيا ، وأن واسمها وخبرها خبر المبتدأ : (حَرامٌ). وإما غير زائدة ، ويكون (حَرامٌ) مبتدأ ، وخبره مقدر ، أي : وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون كائن أو محكوم عليه ، فحذف الخبر ، وحذف الخبر أكثر من زيادة «لا» وهو الأوجه عند أبي علي الفارسي والزجاج.

(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ ..) جواب (إِذا) إما مقدر ، تقديره : قالوا : (يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) ، وإما أن يكون الجواب قوله : (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) والواو زائدة ، وهذا مذهب الكوفيين ، وإما أن يكون الجواب قوله : (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا).

البلاغة :

(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) التفات من الخطاب إلى الغيبة كأنه ينقل عنهم ما أفسدوه إلى آخرين للتقبيح ، واستعارة تمثيلية ، مثل اختلافهم في الدين وتفرقهم أحزابا بالجماعة التي تتوزع الشيء أنصباء.

(فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) استعارة ، أستعير الكفران لمنع الثواب ، كما أستعير الشكر لإعطائه.

(يا وَيْلَنا) فيه إيجاز بالحذف ، أي : ويقولون : يا ويلنا.

(فَاعْبُدُونِ) ، (راجِعُونَ) ، (كاتِبُونَ) سجع لطيف.

المفردات اللغوية :

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) الأمة لغة : القوم المجتمعون على أمر ، ثم شاع استعمالها في الدين أو الملة ، أي إن ملة التوحيد أو الإسلام ملتكم ودينكم أيها المخاطبون ، التي يجب عليكم أن تكونوا عليها. (أُمَّةً واحِدَةً) أي ملة واحدة غير مختلفة فيما بين الأنبياء. (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) أي أنا الله لا إله غيري ، فوحدوني واعبدوني لا غير.

(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي جعل بعض المخاطبين أمر دينهم فيما بينهم قطعا ، بمعنى أنهم تفرقوا في الدين ، وتخالفوا فيه ، وجعلوا أمره قطعا موزّعة بقبيح فعلهم ، وهم طوائف اليهود والنصارى. (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) أي كل من الفرق المتجزئة راجعون إلينا فنجازيهم بأعمالهم.

(فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) أي لا جحود ولا إنكار لعمله ، ولا تضييع لثوابه. (وَإِنَّا لَهُ

١٢٧

كاتِبُونَ) أي وإنا لسعيه مثبتون في صحيفة عمله ، لا نضيع شيئا منه بوجه ما ، ونأمر الحفظة بكتبه ، فنجازيه عليه.

(وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ) أي ممتنع على أهلها ، غير متصور منهم. (أَهْلَكْناها) أي حكمنا بإهلاكها أو قدرنا هلاكها ، أو وجدناها هالكة. (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ لا) : زائدة ، أي ممنوع عليهم رجوعهم إلى التوبة أو إلى الدنيا.

(حَتَّى) غاية لامتناع رجوعهم ، أي يستمر عدم الرجوع إلى قيام الساعة وظهور أماراتها وهو فتح سد يأجوج ومأجوج. (إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) أي إذا فتح سدهما ، وذلك قرب يوم القيامة ، وهما اسمان أعجميان لقبيلتين. (وَهُمْ) يعني يأجوج ومأجوج ، أو الناس كلهم. (مِنْ كُلِّ حَدَبٍ) مرتفع من الأرض. (يَنْسِلُونَ) يسرعون أو يخرجون مسرعين ، مأخوذ من نسلان الذئب ، أي إسراعه.

(وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) أي قرب يوم القيامة. (فَإِذا هِيَ) أي القصة ، وإذا : للمفاجاة ، كقوله : (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) [الروم ٣٠ / ٣٦] وهي جواب الشرط السابق وهو (حَتَّى إِذا ...). (شاخِصَةٌ) مرتفعة أجفانها لا تكاد تنظر ، من شدة الهول. (يا وَيْلَنا) أي يقولون : يا هلاكنا ، ويا : للتنبيه. (قَدْ كُنَّا) في الدنيا (فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) اليوم ، لم نعلم أنه حق (بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) أنفسنا بتكذيبنا الرسل ، وإخلال النظر.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن أن دين الإنسانية دين واحد ، فيقول :

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ...) أي إن ملة التوحيد أو ملة الإسلام هي ملة واحدة وشريعة واحدة ، متفق عليها بين جميع الأنبياء والشرائع ، وهي التي يجب أن تكونوا عليها ، فكونوا عليها أمة واحدة غير مختلفة فيما بين الأنبياء ، وأنا الله الذي لا إله غيري فاعبدوني وحدي ، ولا تشركوا معي شيئا آخر ، من ملك أو بشر أو حجر أو شجر أو صنم.

وقال في آية أخرى : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ، وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون ٢٣ / ٥٢]. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد :

١٢٨

«نحن معاشر الأنبياء أولاد علّات (١) ديننا واحد» يعني أن المقصود هو عبادة الله وحده لا شريك له ، بشرائع متنوعة لرسله ، كما قال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة ٥ / ٤٨] فليس الاختلاف في أصول العقيدة والأخلاق والفضيلة والعبادة ، وإنما الاختلاف في الفروع والجزئيات والأشكال بحسب الاختلاف في الأزمنة والعصور.

(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي إن الأمم اختلفت على رسلها ، بين مصدق لهم ومكذب ، وفرقوا أمر دينهم بينهم فرقا شتى ، وهذا بطريق الالتفات إلى الغيبة للتقبيح ، والأصل : وتقطعتم ، كأنه ينقل عنهم ما أفسدوه إلى آخرين ، ويقبّح عندهم فعلهم ، ويقول لهم : ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء. والمعنى : جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا ، كما تتوزع الجماعة الشيء ويقسمونه ، فيصير لهذا نصيب ، ولهذا نصيب ، تمثيلا لاختلافهم فيه ، وصيرورتهم فرقا وأحزابا شتى. وهذا التفرق في أمر الدين الواحد معيب شنيع ، ولهذا قال تعالى متوعدا على فعلهم :

(كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) أي كل فرقة منهم سيرجعون إلينا يوم القيامة ، فنجازي كل واحد بحسب عمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. وطريق الجزاء ومنهاجه هو :

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ ، وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) من : للتبعيض لا للجنس إذ لا قدرة للمكلف أن يأتي بجميع الطاعات كلها ، فرضها ونفلها ، والمعنى : ومن يعمل عملا صالحا موافقا لمنهاج الله تعالى ، وهو بقلبه ولسانه مصدق بربه ورسله ، أو من يعمل شيئا من الطاعات وهو موحد مسلم ، فلا تضييع لسعيه ، ولا بطلان لثواب عمله ، ولا جحود لعمله ،

__________________

(١) أولاد العلّات : أولاد الرجل من نسوة شتى.

١٢٩

أي لا يضيع جزاؤه ولا يغطى ، بل يشكر أي يثاب عليه ، ونوفيه الجزاء الأوفى ، ولا يظلم مثقال ذرة ، وإنا له مثبتون حافظون جميع عمله في صحيفته ، لنجازي عليه ، فلا يضيع عليه منه شيء ، مهما صغر ، كما قال في آيات أخرى منها : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف ١٨ / ٣٠] ومنها : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ ، وَسَعى لَها سَعْيَها ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء ١٧ / ١٩].

والآية دليل على أن أساس القبول والنجاة الجمع بين أن يكون الشخص مؤمنا ، وبين أن يعمل الصالحات ، والإيمان : يشمل العلم والتصديق بالله ورسوله ، والعمل الصالح هو فعل الواجبات وترك المحظورات. والكفران : مثل في حرمان الثواب ، والشكر مثل في إعطائه ، والمراد من الآية (فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) المراد نفي للجنس ، وفيه ترغيب العباد في التمسك بطاعة الله تعالى.

(وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي وممتنع على أهل قرية حكمنا بإهلاكها رجوعهم إلى التوبة أو الحياة الدنيا قبل يوم القيامة. وتكون (لا) زائدة للتأكيد ، وهو كقوله تعالى : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) [يس ٣٦ / ٥٠]. وقوله : (حَرامٌ) مستعار لمنع الوجود بحال ، مثل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) [الأعراف ٧ / ٥٠] أي منعهما.

(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) أي يستمر عدم رجوع القوم المهلكين إلى قيام الساعة وظهور أماراتها وهو فتح سد يأجوج ومأجوج ، وهما قبيلتان أو الناس جميعا ، وإتيان الناس مسرعين من كل مرتفع من الأرض. ويكون المقصود من الآية الردّ على المشركين الذين ينكرون البعث والجزاء.

١٣٠

(وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ، فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وقرب يوم القيامة إذا حصلت هذه الأهوال والزلازل والبلايا ، وإذا حدث ذلك أو وقع ترى أبصار الكافرين مرتفعة الأجفان ، مثبتة الحدق ، جامدة لا تتحرك ، لا تكاد تنظر من هول وشدة ما يشاهدونه من الأمور العظام.

(يا وَيْلَنا ، قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا ، بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) أي يقولون : يا هلاكنا ، والويل : الهلاك ، قد كنا في الدنيا غافلين لاهين ، لم نعلم أن هذا هو الحق ، وأن البعث والرجوع إلى الله للحساب والجزاء ثابت قائم ، بل إننا في الواقع ظالمون لأنفسنا بتعريضها للعذاب ، وهذا اعتراف صريح بظلمهم لأنفسهم ، حيث لا ينفعهم ذلك.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على وحدة الرسالات السماوية في أصولها ، وعلى تفرق الناس في أمر الدين ، وعلى وحدة السنن الإلهية في إثابة المؤمن الصالح العمل ، وتعذيب الكافر المسيء ، وعلى إثبات البعث والجزاء وما يشتمل عليه من شدائد وأهوال.

أما وحدة الرسالات السماوية : فالأنبياء كلهم متفقون على التوحيد ، لذا وجب اتفاق البشر قاطبة على أن الإله واحد لا شريك له ، وعلى وجوب إفراده بالعبادة. أما المشركون فقد خالفوا كل الأنبياء.

وأما الاختلاف في الدين بين مصدق ومكذب : فهو ظاهرة شائعة ، لذا نعى الله تعالى التفرق في أمر الدين ، سواء المسلمين أو اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين ، وذمهم لمخالفتهم الحق ، وندد بغير المسلمين اتخاذهم آلهة من دون الله ، فيكون المراد بقوله : (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) جميع الخلق ، بأن جعلوا أمرهم في أديانهم قطعا ، وتقسموه بينهم ، فمن موحّد ، ومن يهودي ، ومن نصراني ، ومن عابد ملك أو صنم. والكل من هؤلاء الفرق المختلفة راجع إلى حكم الله فيجازيهم.

١٣١

روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة ، فهلكت سبعون وخلصت فرقة ، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة ، فتهلك إحدى وسبعون فرقة ، وتخلص فرقة واحدة ، قالوا : يا رسول الله ، من تلك الفرقة الناجية؟ قال : الجماعة ، الجماعة ، الجماعة» فتبين بهذا الخبر أن المراد بقوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) الجماعة المتمسكة بما بينه الله تعالى في هذه السورة من التوحيد والنبوات ، وأن في قول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الناجية : إنها الجماعة ، إشارة إلى أمة الإيمان. ولكن المراد بقوله : «ستفترق أمتي» أي في حال ما ، وليس فيه دلالة على افتراقها في سائر الأحوال ، لا يجوز أن يزيد أو ينقص (١).

والقاعدة الثابتة أن من يعمل شيئا من الطاعات ، فرضا أو نفلا ، وهو موحد مسلم ، مصدق بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا جحود ولا كفران لعمله ، ولا يضيع جزاؤه ، والكفر ضدّ الإيمان ، وهو أيضا جحود النعمة ، وهو ضد الشكر ، والله حافظ لعمله ، كما قال تعالى : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) [آل عمران ٣ / ١٩٦] أي كل ذلك محفوظ ليجازى به. وفي هذا ترغيب الناس بطاعة الله تعالى.

ومن القواعد والسنن الثابتة الجارية على منهاج واحد أنه ممتنع على أهل قرية أهلكهم الله أن يرجعوا بعد الهلاك إلى الدنيا ، وهذا على أن (لا) زائدة. والراجح عند أبي علي الفارسي والزجاج أن (لا) غير زائدة ، إذ لا فائدة في أن المراد : وحرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا إلى الدنيا ، وإنما في الكلام إضمار ، أي وحرام على قرية حكمنا باستئصالها أو بالختم على قلوبها أن يتقبل منهم ؛ لأنهم لا يرجعون ، أي لا يتوبون. وهذا هو الأولى عندي.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٢ / ٢١٩ ، والحديث رواه أصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة ، ولفظه : «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة».

١٣٢

ويظل المنع من رجوعهم إلى فتح سد يأجوج ومأجوج ، وهم الناس جميعا ، أو هم يأجوج ومأجوج ، وهو الأظهر في رأي القرطبي ، وإلى خروج الناس من قبورهم مقبلين من كل حدب (مرتفع من الأرض) ، وذلك يحصل عند قيام الساعة (القيامة) وهذا دليل على إثبات النشر والحشر.

ثم أثبت الله تعالى البعث والجزاء بقوله : (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) وما يتعرض له الكفار من أهوال وشدائد تشخص منها أبصارهم ، أي ترتفع من هول القيامة لا تكاد تطرف ، ويقولون : يا ويلنا ويا هلاكنا إنا كنا ظالمين بمعصيتنا ، ووضعنا العبادة في غير موضعها.

أحوال الكافرين والمؤمنين في الآخرة وحال السماء فيها

(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦))

١٣٣

الإعراب :

(كَطَيِّ السِّجِلِ) الكاف في موضع نصب ؛ لأنها صفة مصدر محذوف ، أي نطوي السماء طيّا كطي السجل ، فحذف الموصوف وأقام صفته مقامه ، والمصدر مضاف إلى المفعول إذا كان بمعنى المكتوب فيه وهو الصحيفة ، أي كما يطوى السجل. وللكتاب : أي للكتابة ، كقوله تعالى : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) [آل عمران ٣ / ٤٨].

(وَعْداً عَلَيْنا) منصوب بوعدنا المقدر قبله ، وهو مؤكد لمضمون ما قبله.

البلاغة :

(نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) فيه تشبيه مرسل مفصل ، أي نطوي السماء طيا مثل طيّ الصحيفة على ما كتب فيها.

المفردات اللغوية :

(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي إنكم أيها الكفار والمشركون وما تعبدونه من الأوثان من غير الله (حَصَبُ جَهَنَّمَ) ما يرمى به إليها من حطب ووقود. (وارِدُونَ) داخلون فيها. (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً) لو كان هؤلاء الأوثان آلهة كما زعمتم. (ما وَرَدُوها) دخلوها ؛ لأن المؤاخذ المعذّب لا يكون إلها. (وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) كل من العابدينوالمعبودين خالدون دائمون في جهنم.

(لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) أي للعابدين في جهنم أنين وتنفس شديد يخرج من أقصى الجوف. (لا يَسْمَعُونَ) شيئا لشدة غليانها. (الْحُسْنى) المنزلة الحسنى أو الكلمة الحسنى التي تبشر بثوابهم الحسن على أعمالهم. (حَسِيسَها) صوتها الذي يحس من حركتها. (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ) من النعيم. (خالِدُونَ) دائمون في غاية التنعم ، وتقديم الظرف للاختصاص والاهتمام به. (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) النفخة الثانية أو الأخيرة ؛ لقوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [النمل ٢٧ / ٨٧] وقيل : هو الانصراف إلى النار وهو أن يؤمر بالعبد إلى النار ، وقيل : حين يطبق على النار ، أو حين يذبح الموت على صورة كبش أملح. (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) تستقبلهم الملائكة مهنئين عند خروجهم من القبور. (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أي ويقولون لهم : هذا اليوم الذي كنتم توعدون به في الدنيا.

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) أي اذكر يوم الطي : وهو ضد النشر. (السِّجِلِ) الصحيفة المكتوب فيها. (لِلْكُتُبِ) للكتابة فيها. (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ) أي من عدم. (نُعِيدُهُ) بعد إعدامه. (وَعْداً) منصوب ب (نُعِيدُهُ) ، أو بفعل مقدر تأكيدا ل (نُعِيدُهُ) أي وعدناه وعدا. (عَلَيْنا) أي علينا إنجازه. (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) ما وعدنا ذلك لا محالة.

١٣٤

(الزَّبُورِ) كتاب داود. (الذِّكْرِ) أي التوراة ، أو جنس الكتب المنزلة ، أو اللوح المحفوظ. (أَنَّ الْأَرْضَ) أرض الجنة. (عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) أي عامة المؤمنين أو كل صالح.

(إِنَّ فِي هذا) القرآن أو ما ذكرناه من الأخبار والمواعظ والمواعيد. (لَبَلاغاً) كفاية في دخول الجنة. (لِقَوْمٍ عابِدِينَ) أي همهم العبادة دون العادة.

سبب النزول :

نزول الآية (١٠١):

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) : أخرج الحاكم عن ابن عباس قال : لما نزلت : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ، أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) قال ابن الزّبعرى : عبد الشمس والقمر والملائكة وعزير ، فكل هؤلاء في النار مع آلهتنا ، فنزلت : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) ونزلت : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ، وَقالُوا : أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٥٧ ـ ٥٨].

المناسبة :

بعد بيان أحوال أهل النار وأهل الجنة ، واقتراب الساعة ، ذكر الله تعالى حال العابدين والمعبودين من دون الله ، وأنهم سيكونون وقود جهنم ، باستثناء أهل السعادة أو البشرى بالثواب.

التفسير والبيان :

(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ..) إنكم أيها المشركون بالله من عبدة الأصنام والأوثان وما تعبدون من غير الله ، وقود جهنم ، أنتم جميعا داخلون فيها ، كما قال تعالى : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [البقرة ٢ / ٢٤].

ويشمل ما يعبدون من دون الله الأصنام وإبليس وأعوانه ؛ لأنهم بطاعتهم

١٣٥

لهم ، واتباعهم خطواتهم في حكم عبدتهم. ولا تشمل هذه الآية عزيرا والمسيح والملائكة ؛ لأن قوله : (إِنَّكُمْ) خطاب مشافهة مع مشركي قريش ، وهم كانوا يعبدون الأصنام فقط ، ولأنه تعالى لم يقل : (ومن تعبدون) بل قال : (وَما تَعْبُدُونَ) وكلمة (ما) لا تتناول العقلاء ، فسقط سؤال ابن الزبعرى ، كما أبان الرازي (١). وأما قوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) [الشمس ٩١ / ٥] وقوله : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) [الكافرون ١٠٩ / ٢] فهو محمول على الشيء ، ونظيره هاهنا أن يقال : إنكم والشيء الذي تعبدون من دون الله ، لكن لفظ الشيء لا يفيد العموم ، فلا يرد سؤال ابن الزبعرى.

ويتضح سبب النزول المتقدم ودخول الشياطين في المعبودين بما يأتي :

روى محمد بن إسحاق في سيرته : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل المسجد ، وصناديد قريش في الحطيم (٢) ، وحول الكعبة ثلاث مائة وستون صنما ، فجلس إليهم ، فعرض له النضر بن الحارث ، فكلمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أفحمه ، ثم تلا عليهم : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) الآية ، فأقبل عبد الله بن الزّبعرى ، فرآهم يتهامسون ، فقال فيم خوضكم؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله ، فقال عبد الله : أما والله ، لو وجدته لخصمته ، فدعوه ، فقال ابن الزّبعرى : أأنت قلت ذلك؟ قال : نعم ، قال : قد خصمتك وربّ الكعبة ، أليس اليهود عبدوا عزيرا ، والنصارى عبدوا المسيح ، وبنو مليح عبدوا الملائكة؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) الآية ، يعني عزيرا والمسيح والملائكة عليهم‌السلام.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٢ / ٢٢٣

(٢) الحطيم : جدار حجر الكعبة أي حجر إسماعيل من ناحية الشمال.

١٣٦

وأما سبب إدخال المعبودين في النار : فهو كما أبان الزمخشري (١) ليزداد العابدون بهم غمّا وحسرة ، وليكونوا أبغض شيء لديهم بعد أن اتخذوهم في الدنيا شفعاء لهم في الآخرة.

ثم ذكر تعالى دليل كون المعبودين غير آلهة فقال :

(لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها) أي لو كان هؤلاء الأصنام وأشباههم آلهة صحيحة تنفع وتضر كما يظن العابدون ما دخلوا النار ، إذ لو كانت تنفع وتضر لأبعدت الضر عن نفسها ، فهي جديرة بالهجرة والإهانة.

(وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) أي وكل من هؤلاء الآلهة المعبودين دائمون في عذاب النار ، لا مخرج لهم منها.

(لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) أي ولهم في النار من شدة العذاب وشدة الكرب والغم أنين وتنفس شديد يخرج من أقصى الجوف ، كما قال تعالى : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) [هود ١٠ / ١٠٦] وهم لا يسمعون فيها ما يسرهم أو ينفعهم ، بل يسمعون صوت من يتولى تعذيبهم من الزبانية.

وبعد بيان أحوال أهل النار ، ذكر الله تعالى أحوال السعداء من المؤمنين فقال : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) أي إن الذين سبقت لهم من الله السعادة ، وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا ، فهم مبعدون عن دخول النار ، وهم في الجملة : أهل السعادة أو البشرى بالثواب ، أو التوفيق للطاعة ، كما قال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس ١٠ / ٢٦]. يروى أن عليا رضي‌الله‌عنه قرأ هذه الآية ، ثم قال : أنا منهم ، وأبو بكر ،

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٣٣٨

١٣٧

وعمر ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وسعيد ، وعبد الرحمن بن عوف ، ثم أقيمت الصلاة ، فقام يجرّ رداءه ، وهو يقول : (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها).

وأوضاع نعيمهم هي :

١ ـ (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) أي لا يسمعون صوت النار ، وحريقها في الأجساد ، ولا يصيبهم شررها.

٢ ـ (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) أي وهم ماكثون أبدا فيما يشتهونه من نعيم الجنة ولذائذها. والشهوة : طلب النفس اللذة.

٣ ـ (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) لا يخيفهم هول النفخة الثانية أو الأخيرة بعد قيامهم من قبورهم للحساب ، كما قال تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [النمل ٢٧ / ٨٧]. وقيل بغير ذلك كما تقدم في بيان المفردات. والأصح : أنه أهوال يوم القيامة والبعث.

٤ ـ (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ : هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أي وتستقبلهم الملائكة تقول لهم وتبشرهم يوم معادهم إذا خرجوا من قبورهم : هذا يومكم الذي وعدتم به في الدنيا ، يوم المسرة والكرامة والمثوبة والحسنى.

وذلك التلقي والاستقبال هو كما قال تعالى :

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) أي لا يحزنهم الفزع الأكبر يوم نطوي السماء ، أو تتلقاهم الملائكة يوم نطوي السماء يوم القيامة كما يطوى السجل ، أي الصحيفة للكتابة فيه ، وهذا موقف آخر فيه روع وخوف وحيرة ، كما قال تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر ٣٩ / ٦٧].

(كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ، وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) أي أن هذا الطي

١٣٨

كائن لا محالة يوم يعيد الله الخلائق بالبعث خلقا جديدا ، كما بدأهم في المرة الأولى ، وهو القادر على إعادتهم ، وذلك وعد الله الذي لا يخلف ، والله تعالى فاعله حتما ، فهو واجب الوقوع ، ولا بدّ من تحققه ؛ لأنه قادر عليه. وقوله : (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) أي قادرين على أن نفعل ذلك.

ونظير الآية : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام ٦ / ٩٤] ، وقوله : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الكهف ١٨ / ٤٨].

ثم أخبر الله تعالى عما قضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدنيا والآخرة ، ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة ، فقال :

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ ..) أي ولقد قضينا قضاء محتما في كتاب الزبور بعد التوراة أو القرآن أن وراثة الأرض في الدنيا والآخرة لا تكون إلا للعباد الصالحين وهم المؤمنون العاملون بطاعة الله تعالى.

والذّكر : التوراة ، وقال ابن عباس : القرآن ، وقيل : إنه أم الكتاب يعني اللوح المحفوظ ، فهو اسم لجنس ما أنزل على الأنبياء من الكتب.

والأرض : إما أرض الجنة ، كما قال تعالى : (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) [الزمر ٣٩ / ٧٤]. وإما أرض الدنيا ، وأهلها الصالحون لعمارتها ، كما قال تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) [النور ٢٤ / ٥٥] ، وقال سبحانه : (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ : اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا ، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ ، يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف ٧ / ١٢٨]. وإما الأرض المقدسة يرثها الصالحون ، كما قال تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) [الأعراف ٧ / ١٣٧].

١٣٩

(إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) أي إن في هذا المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة البلاغ أي الكفاية والمنفعة لقوم عابدين : وهم الذين عبدوا الله بما شرعه وأحبّه ورضيه ، وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان وشهوات أنفسهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن المشركين بالله والآلهة التي عبدوها من دون الله من الأصنام والأوثان والشياطين وقود جهنم ، هم جميعا داخلون فيها ، إظهارا لعدم فائدة عبادتها ، وزيادة لعابديها في الغم والحسرة ، وإيجاد الكراهية الشديدة لها ، وإمعانا في السخرية منهم ومن عبادتهم ، وإقامة الحجة القاطعة على قدرة الله الشاملة لكل شيء.

وقد استدل الأصوليون بقوله تعالى : (وَما تَعْبُدُونَ) على القول بالعموم وأن له صيغا مخصوصة بدليل الاستثناء منها.

٢ ـ الدليل على إبطال صفة الألوهية لتلك الآلهة المزعومة أنه لو كانت الأصنام وأمثالها آلهة لما ورد عابدوها النار ، ولما خلدوا هم والمعبودون فيها.

٣ ـ أحوال المعذبين النفسية في النار غريبة وشديدة ، فلهؤلاء الذين وردوا النار من الكفار والشياطين زفير : وهو صوت المغموم الذي يخرج من القلب ، ولا يسمعون ما يسرهم ، بل ما يسوؤهم من أصوات الزبانية الذين يتولون تعذيبهم.

٤ ـ إن أهل السعادة والتوفيق للطاعة والبشرى بالثواب مبعدون عن دخول النار.

١٤٠