التفسير المنير - ج ١٧

الدكتور وهبة الزحيلي

سُبْحانَهُ) في خزاعة ، حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، وكانوا يعبدونهم طمعا في شفاعتهم لهم.

وبعد التنزيه ذكر الله خمس صفات للملائكة تدل على العبودية ونفي الولادة وهي :

أ ـ المبالغة في طاعة الله ، فهم لا يقولون قولا ولا يفعلون فعلا إلا بأمر الله ، وهذه صفات العبيد ، لا صفات الأولاد.

ب ـ إن الله تعالى يعلم أسرارهم ، وهم لا يعلمون أسراره ، فهو المستحق للعبادة ، لا هم.

ج ـ إنهم لا يشفعون إلا بإذن الله ورضاه ، ومن كان إلها لا يحتاج لإذن أحد.

د ـ إنهم أشد الخلق خوفا من الله ، وذلك من صفات العبيد.

ه ـ الملائكة وإن أكرموا بالعصمة ، فهم كسائر المكلفين مسئولون موجه لهم الوعد والوعيد ، فلا يتصور كونهم آلهة. وهذه الآية تدل على كون الملائكة مكلفين ، وعلى أنهم معصومون ، وعلى أنهم متوعدون.

٨ ـ كما يجزي الله تعالى بالنار كل من ادعى الشركة مع الله ، ودعا إلى عبادة نفسه كإبليس ، فكذلك يجزي الظالمين الواضعين الألوهية والعبادة في غير موضعهما.

٤١

توبيخ آخر للمشركين على عدم تدبر آيات الكون

الدالة على وجود الإله الواحد

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣))

الإعراب :

(رَتْقاً) قال ذلك ، ولم يقل : رتقين ؛ لأنه مصدر ، وتقديره : كانتا ذواتي رتق.

(سُبُلاً) بدل.

(يَسْبَحُونَ) أتى بالواو والنون ، وهي إنما تكون لمن يعقل ؛ لأنه أخبر عنها بفعل من يعقل ، فأجراها مجرى من يعقل ، كقوله تعالى : (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) و (كُلٌ) : مبتدأ ، وجملة : (يَسْبَحُونَ) : خبره ، والجملة منهما حال من (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ).

البلاغة :

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) استفهام معناه التعجب والإنكار.

(كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) بين الرتق والفتق طباق.

(يَهْتَدُونَ) ، (يَسْبَحُونَ) بينهما سجع لطيف.

٤٢

(كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) التنكير للتعميم.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) التفات من المتكلم إلى الغائب بعد قوله : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ) للفت النظر إلى النعم الجليلة والاعتناء بها.

المفردات اللغوية :

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أولم يعلموا. (رَتْقاً) الرتق : السد والضم والالتحام ، والمراد : ذات رتق ، أي ملتزقتين. والمعنى : كانتا شيئا واحدا ، أو حقيقة متحدة. (فَفَتَقْناهُما) أي فصلناهما بالتنويع والتمييز ، فجعلنا السماء سبعا والأرض سبعا. والفتق : الفصل بين الشيئين الملتصقين. (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ) أي وخلقنا من الماء كل حيوان سواء النازل من السماء والنابع من الأرض. (كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) أي صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء ، لا يحيا دونه ، سواء النبات وغيره ، فالماء سبب لحياته. (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) بتوحيدي ، مع ظهور الآيات.

(وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت. (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) أي لئلا تتحرك بهم ، أو كراهة أن تميل بهم وتضطرب. (وَجَعَلْنا فِيها) أي في الرواسي. (فِجاجاً سُبُلاً) أي مسالك وطرقا نافذة واسعة. (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي ليهتدوا بها إلى مصالحهم ومقاصدهم في الأسفار والزراعة.

(سَقْفاً مَحْفُوظاً) أي سقفا للأرض ، مثل سقف البيت ، محفوظا من الوقوع بقدرته ، أو من الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم بمشيئته. (وَهُمْ عَنْ آياتِها) أي عن أحوالها الدالة على وجود الله ووحدته وكمال قدرته وروعة حكمته ، بما اشتملت عليه من الشمس والقمر والنجوم. (مُعْرِضُونَ) لا يتفكرون فيها ، فيعلمون أن خالقها لا شريك له.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) بيان لبعض تلك الآيات. (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) أي كل واحد منهما له مدار مستدير ، والتنوين : بدل من المضاف إليه ، أي كل من الشمس والقمر وتابعهما وهو النجوم. والمراد بالفلك : الجنس ، وهو مدار الشمس والقمر والنجوم. (يَسْبَحُونَ) يسيرون على سطح الفلك بسرعة ، كالسابح في الماء ، وللتشبيه به ، وإنما جمع الفعل باعتبار جنس الطوالع المتكاثرة كل يوم وليلة ، وهو سبب جمعهما بالشموس والأقمار ، وإلا فالشمس واحدة والقمر واحد. وعوملوا معاملة العقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة.

المناسبة :

بعد أن وبخ الله تعالى المشركين الذين عبدوا مع الله آلهة أخرى ، والذين قالوا : اتخذ الله ولدا من الملائكة ، وبخهم على عدم تدبر الآيات الكونية الدالة

٤٣

على وجود الله ، وعلى التوحيد وتنزيهه من الشرك ، وأنه لا يصح لعاقل عبادة الأصنام والأوثان لعجزها وعدم الجدوى من عبادتها.

التفسير والبيان :

أورد الله تعالى في هذه الآيات ستة أدلة تدل على وجود الإله الواحد القادر ذي القدرة التامة والسلطان العظيم في خلق الأشياء وقهر جميع المخلوقات ، وهي ما يلي :

١ ـ فتق السموات عن الأرض :

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) أي أو لم يعلم الجاحدون لألوهية الله ، العابدون معه غيره أن الله هو المستقل بالخلق ، المستبد بالتدبير ، فكيف يليق أن يعبد معه غيره ، أو يشرك به ما سواه ، ألم يعلموا أن السموات والأرض كانتا متصلتين ببعضهما ، تلاصقت أجزاؤهما ، وتراكم بعضها فوق بعض ، ثم فصلناهما ، وجعلنا بين السماء الدنيا والأرض طبقة من الهواء؟!

وهذه هي نظرية السديم عند علماء الفلك الذين يثبتون أن الشمس والكواكب والأرض كانت قطعة واحدة ، وأن الشمس كانت كرة نارية ، وفي أثناء سيرها السريع انفصلت عنها أرضنا والكواكب السيارة الأخرى ، وهي تسعة مرتبة بحسب قربها من الشمس : عطارد ، والزّهرة ، والأرض ، والمرّيخ ، والمشتري ، وزحل ، وأورانوس ، ونبتون ، وبلوتوه. ولكل منها مدار بحسب تأثير الجاذبية ، وهي تجري في الفلك ، وهي تسعة أفلاك دون السموات المطبقة التي يعيش فيها الملائكة. والفلك : استدارة في السماء تدور بالنجوم مع ثبوت السماء ، أو هو مجراها وسرعة سيرها.

وهذا السبق العلمي الذي أعلنه القرآن دليل واضح قاطع على أن القرآن

٤٤

كلام الله ووحيه المنزل على عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم النبي الأمي الذي يستحيل أن يكون عالما بمثل ذلك لولا الوحي الإلهي.

٢ ـ جعل الماء أساس الحياة :

(وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) أي وخلقنا من الماء كل حيوان ، أي فيه حياة ، كقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) [النور ٢٤ / ٤٥] فكل حيوان من النطفة التي هي ماء ، ولا ينبت النبات إلا بالماء.

وهذا موافق لما يراه بعض العلماء : أن كل حيوان خلق أولا في البحر ، ثم انتقل بعض الحيوان إلى البر ، وتطبع بطباع البر مع مرور الزمن.

(أَفَلا يُؤْمِنُونَ) أي ألا يتدبرون هذه الأدلة ، وهم يشاهدون عيانا حدوث المخلوقات شيئا فشيئا ، فيؤمنون بالخالق ، ويتركون منهج الشرك؟!

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

٣ ـ جعل الجبال رواسي الأرض :

(وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) أي وخلقنا في الأرض جبالا لإرساء الأرض بها وتثبيتها ، لئلا تضطرب بالناس وتتحرك ، فلا يحصل لهم قرار عليها ، والرواسي : الجبال ، والراسي : هو الداخل في الأرض.

والأرض تدور حول نفسها وحول الشمس ، وقد أثبت العلماء أن الأرض كانت نارا ملتهبة ، ثم بردت قشرتها ، وصارت صوّانية صلبة ، وذلك منذ حوالي ثلاث مائة مليون سنة بل حوالي خمسة مليارات سنة كما يرى المعاصرون. ويؤكد ذلك وجود حمم النيران التي تخرجها البراكين. ونسبة الجبال إلى الأرض هي بنسبة مليمتر ونصف من المتر.

وهذا دليل ثالث على أن القرآن وحي من عند الله ، لا من عند بشر.

٤٥

٤ ـ إيجاد الطرق مسالك بين الجبال :

(وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي وخلقنا في الأرض بين الجبال طرقا واسعة نافذة ، يسلكها الناس بسهولة من مكان إلى آخر ، أو من قطر أو إقليم إلى آخر ، ليهتدوا بها إلى مقاصدهم ومصالحهم المعيشية في البلاد ، وقيل : ليهتدوا إلى وحدانية الله تعالى بالاستدلال. والفج : الطريق الواسع ، والسبيل : الطريق السالك. وقدمت الفجاج وهي صفة على السبل ، ولم تؤخر ، كما في قوله تعالى : (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) [نوح ٧١ / ٢٠] لتجعل حالا ، والفرق من جهة المعنى أن قوله : (سُبُلاً فِجاجاً) إعلام بأنه جعل فيها طرقا واسعة ، وأما قوله : (فِجاجاً سُبُلاً) فهو إعلام بأنه حين خلقها خلقها على تلك الصفة ، فهذه الآية بيان لما أبهم في الآية الأولى.

وقوله : (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) معناه : لكي يهتدوا ؛ إذ الشك لا يجوز على الله تعالى.

والضمير في قوله : (فِيها) عائد إلى الجبال ، أي وجعلنا في الجبال التي هي رواسي فجاجا سبلا ، أي طرقا واسعة ، وقيل : إنه عائد إلى الأرض ، أي وجعلنا في الأرض فجاجا وهي المسالك والطرق.

ـ جعل السماء سقفا للأرض :

(وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) أي وجعلنا السماء كالسقف على الأرض وكالقبة عليها ، وذلك السقف محفوظ من الوقوع والاضطراب ، ومن الشياطين التي تسترق السمع ، كما قال تعالى : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [الحج ٢٢ / ٦٥] وقال : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) [الروم ٣٠ / ٢٥] وقال : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) [فاطر ٣٥ / ٤١]. وحفظها من الشياطين إما بالملائكة وإما بالنجوم.

٤٦

(وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) أي لا يتفكر المشركون وغيرهم فيما خلق الله في السموات من الأدلة والعبر الدالة على وحدانية الله وعظيم قدرته ، من الشمس والقمر وسائر الكواكب الثابتة والسيارة ، ليتعاقب الليل والنهار ، وتظهر المنافع بالحر والبرد ، وللإرشاد إلى الحساب القويم والترتيب العجيب الدال على الحكمة البالغة. وذلك كقوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها ، وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) [يوسف ١٢ / ١٠٥].

٦ ـ خلق الليل والنهار والشمس والقمر :

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي والله خلق الليل والنهار ، نعمة منه ، ودليلا على عظمة سلطانه ، بواسطة دوران الأرض حول نفسها ، لتتحقق الفائدة المرجوة من كليهما بالظلام والسكون ، والضياء والأنس ، والتفاوت في الطول والقصر أو التساوي بينهما في مدار السنة ، وخلق أيضا الشمس والقمر ، للإضاءة وإمداد الأحياء بحرارة الشمس ، وإفادة بعض المزروعات والثمار بضوء القمر ، وكل من الشمس والقمر والنجوم والأرض يدور في فلكه ، دوران المغزل في الفلكة ، فلا يدور المغزل إلا بالفلكة ، ولا الفلكة إلا بالمغزل ، كذلك الشمس والقمر والنجوم لا تدور إلا بالفلك ، ولا يدور إلا بهن ، كما قال تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [الأنعام ٦ / ٩٦]. وقوله : (يَسْبَحُونَ) بالجمع يشمل النجوم ، فهي وإن لم تكن مذكورة نصا فهي مذكورة ضمنا.

ودوران الشمس والقمر والأرض في الفضاء اللانهائي يثبته أيضا العلم الحديث ، مما يدل على أن هذا القرآن معجز للأبد ، دال على كونه وحيا صادرا منه ، وأنه النعمة الكبرى لبني الإنسان.

٤٧

فقه الحياة أو الأحكام :

الآيات كما لاحظنا تتضمن أدلة كافية على وجود الإله الصانع الواحد الأحد ، المنزه عن الشريك والولد ، وهي أدلة تثير الإعجاب ، وتوحي باتصاف الموجد الخالق بالقدرة التامة ، والسلطان العظيم.

وقد عرفنا أنها أدلة ستة هي :

أولا ـ فتق السموات عن الأرض ، وجعل طبيعة خاصة لكل منهما ، فالأرض بهوائها ومائها تتناسب مع وجود الحياة الإنسانية والحيوانية والنباتية ، ومع ما يتطلبه الاستقرار والثبات عليها ، والسموات تتلاءم مع وجود المجرّات والكواكب والنجوم والشمس والقمر ، لنشر الحرارة ، وإلقاء الضوء ، والسموات سبع ، وكذا الأرض سبع.

وثانيا ـ جعل الماء سببا للحياة ، فالله تعالى خلق كل شيء من الماء ، وحفظ حياة كل شيء بالماء ، وأوجد الإنسان من ماء الصلب. روى أبو حاتم البستي في المسند الصحيح له عن أبي هريرة قال : قلت : يا رسول الله ، إذا رأيتك طابت نفسي ، وقرّت عيني ، أنبئني عن كل شيء ؛ قال : «كل شيء خلق من الماء». وما أروع لفت النظر بعد هذه الآية حين قال تعالى : (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) أي أفلا يصدقون بما يشاهدون ، وأن ذلك لم يكن بنفسه ، بل لمكوّن كوّنه ، ومدبر أوجده ، ولا يجوز أن يكون ذلك المكوّن محدثا ، بل لا بدّ من أن يكون أزليا قديما ؛ لأن صفة الألوهية تقتضي عقلا عدم المشابهة للحوادث.

وثالثا ـ خلق الله الجبال رواسي أي جبالا ثوابت ، لتكون مثبتة للأرض ، حتى لا تتحرك بمن عليها ، وليتم القرار والاطمئنان عليها ، أو كراهية أن تميد ، والميد : التحرك والدوران.

٤٨

ورابعا ـ أوجد الله في الأرض وبين هامات الجبال مسالك وطرقا واسعة ، لتكون منافذ يسهل على الناس اختراقها وتجاوزها من مكان لآخر ، ومن قطر إلى قطر أو إقليم إلى إقليم. والفجاج جمع فجّ : وهو الطريق الواسع بين الجبلين ، ثم فسر تلك الفجاج بالسبل ، أي الطرق النافذة السالكة ؛ لأن الفج قد يكون طريقا نافذا مسلوكا ، وقد لا يكون ، ووجود الطرقات للاهتداء بها إلى السير في الأرض نعمة عظمي ، وندرك هذه النعمة إذا لاحظنا ما تنفقه الدولة الحديثة من النفقات الباهظة على تعبيد الطرق وشقها ، لربط الأقاليم والأمصار وأجزاء البلاد بشبكة من الطرق ، تسهل الانتقال بينها والاتصال معها.

وخامسا ـ جعل السماء سقفا للأرض ، محفوظا من الوقوع والسقوط على الأرض ، فلا تمكن الحياة في الأرض بدون هذا السقف ، كما لا يمكن العيش في بيت أو دار بدون سقف ، ولأن حفظ طبقة الهواء بهذا السقف أمر ضروري محتم لحياة الإنسان ، كما أن الحفاظ على هذا السقف من التداعي والسقوط على الأرض أمر أساسي لصون الحياة الإنسانية ، ومنع الضرر عن الناس ، فإذا سقط على الناس بعض الكتل النارية أو الأجرام السماوية ، كان الدمار والهلاك الجزئي ، فكيف إذا سقطت السماء كلها؟!

ومما يدعو إلى الأسف والعجب أن الكفار معرضون عن آيات السماء من الشمس والقمر والنجوم وغيرها. وقد أضاف الله تعالى الآيات في قوله : (وَهُمْ عَنْ آياتِها ...) إلى السماء ؛ لأنها مجعولة فيها ، وفي مواضع أخرى أضاف تعالى الآيات إلى نفسه ؛ لأنه الفاعل لها.

وهذا دليل على أن المشركين غفلوا عن النظر في السموات وآياتها ، من ليلها ونهارها ، وشمسها وقمرها ، وأفلاكها ورياحها وسحابها ، وما فيها من قدرة الله تعالى ؛ إذ لو نظروا واعتبروا ، لعلموا أن لها صانعا قادرا واحدا ، فيستحيل أن يكون له شريك.

٤٩

وسادسا ـ خلق الليل والنهار ، وهذا تذكير بنعمة أخرى على الناس ، فالله جعل لهم الليل ليسكنوا فيه ، والنهار ليتصرفوا فيه وينطلقوا لمعايشهم ، وجعل الشمس آية النهار ، والقمر آية الليل ، لتعلم الشهور والسنون والحساب ، وكل من الشمس والقمر والنجوم والكواكب والليل والنهار يجرون ويسيرون بسرعة في فلك خاص ، كالسابح في الماء.

موت جميع الخلائق ومجيء القيامة أو عذاب النار بغتة

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١))

الإعراب :

(أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) حقّ همزة الاستفهام إذا دخلت على حرف الشرط كما هنا : أن

٥٠

تكون رتبتها قبل جواب الشرط. وفي هذه الآية دليل على أنّ إن إذا دخلت عليها همزة الاستفهام ، لا تبطل عملها ، كقولك : إن تأتني آتك ؛ لدخول الفاء في فهم وفاء (فَهُمُ) لتعلق الشرط بما قبله ، والهمزة لإنكاره ، بعد ما تقرر ذلك.

(فِتْنَةً) مفعول لأجله.

(أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) فيه محذوف تقديره : قائلين : أهذا الذي يذكر آلهتكم ، وهو في موضع الحال ، وحذف القول كثير في كلامهم.

(وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) الجملة في موضع الحال ، أي يتخذونك هزوا ، وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية ، وهي الكفر بالله تعالى.

البلاغة :

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ) التنكير للتعميم.

(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) يوجد طباق بين الشر والخير.

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) مبالغة في وصف الإنسان ، جعل لفرط استعجاله ، كأنه مخلوق من العجل نفسه ، كقول العرب لمن لازم اللعب : هو من لعب.

(الْخالِدُونَ كافِرُونَ تَسْتَعْجِلُونِ يُنْصَرُونَ يُنْظَرُونَ يَسْتَهْزِؤُنَ) بينها سجع لطيف.

المفردات اللغوية :

(الْخُلْدَ) الخلود والبقاء في الدنيا. (فَهُمُ الْخالِدُونَ) في الدنيا؟ لا ، وهذه الجملة محل الاستفهام الإنكاري. (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) في الدنيا ، والذوق هنا : الإدراك ، والمراد من الموت : مقدماته من الآلام الشديدة ، والمدرك : هي النفس المفارقة للبدن. وجملة (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) برهان على ما أنكره من الخلود للنفوس في الدنيا. (وَنَبْلُوكُمْ) نختبركم أي نعاملكم معاملة المختبر. (بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) بالبلايا والنعم ، أو المحبوب والمكروه ، كفقر وغنى ، وسقم وصحة ، وذلّ وعزّ. (فِتْنَةً) أي ابتلاء ، وهو مصدر من غير لفظ الفعل المتقدم ، أي لننظر : أتصبرون وتشكرون أم لا؟ (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) فنجازيكم حسبما يوجد منكم من الصبر والشكر. وفيه إيماء بأن المقصود من هذه الحياة الابتلاء.

(إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) أي ما يتخذونك إلا مهزوءا به ، مسخورا منه. (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ؟) أي يقولون : أهذا الذي يعيب آلهتكم؟ (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) أي إذا ذكر الإله

٥١

الرحمن الواحد. (هُمْ) الثانية تأكيد كفرهم. (كافِرُونَ) به ، إذ قالوا : ما نعرفه ، أي لا يصدقون به أصلا ، فهم أحق منك بأن يتخذوا هزوا ، فإنك محق وهم مبطلون. وقيل : معنى بذكر الرحمن : قولهم ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة. وقيل : بذكر الرحمن : معناه بما أنزل عليك من القرآن.

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) أي أنه لكثرة عجله في أحواله ، كأنه خلق منه ، ومن عجلته : مبادرته إلى الكفر. (سَأُرِيكُمْ آياتِي) أي مواعيدي بالعذاب ، في الدنيا كوقعة بدر ، وفي الآخرة عذاب النار. (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) فيه أو بالإتيان به.

(مَتى هذَا الْوَعْدُ؟) أي بالقيامة. (صادِقِينَ) فيه ، يعنون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه. (لا يَكُفُّونَ) يدفعون. (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يمنعون منها في القيامة. وجواب (لَوْ) : ما قالوا ذلك. (بَلْ تَأْتِيهِمْ) القيامة أو النار. (بَغْتَةً) فجأة. (فَتَبْهَتُهُمْ) أي تحيرهم ، أو تغلبهم. (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) يمهلون لتوبة أو معذرة.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (فَحاقَ) نزل أو أحاط. (بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي العذاب ، وهو وعد للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن ما يفعلونه به يحيق بهم ، كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء ما فعلوا أي جزاءه.

سبب النزول :

نزول الآية (٣٤):

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ ..) نزلت هذه الآية ، لما قال الكفار : إن محمدا سيموت ، قائلين : (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور ٥٢ / ٣٠]. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : نعي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه ، فقال : يا رب ، فمن لأمتي؟ فنزلت : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) الآية.

نزول الآية (٣٦):

(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ..) أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي قال : مرّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على أبي جهل وأبي سفيان ، وهما يتحدثان ، فلما رآه أبو جهل ضحك ، وقال لأبي سفيان : هذا نبي بني عبد مناف ، فغضب أبو سفيان ،

٥٢

وقال : أتنكرون أن يكون لبني عبد مناف نبي؟ فسمعنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرجع إلى أبي جهل ، فوقع به ، وخوّفه ، وقال : ما أراك منتهيا حتى يصيبك ما أصاب عمك الوليد بن المغيرة ، وقال لأبي سفيان : أما إنك لم تقل ما قلت إلا حميّة ، فنزلت الآية : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً).

نزول الآية (٣٧):

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) نزلت هذه الآية في استعجالهم العذاب ، روي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث ، وهو القائل : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال ٨ / ٣٢].

المناسبة :

بعد أن أقام الله تعالى أدلة ستة على وجود الخالق المتصف بالوحدانية ، أبان أن مصير الدنيا إلى فناء وزوال ، وأنها خلقت للابتلاء والامتحان ، ولتكون جسرا إلى الآخرة دار الخلود ، وأن مصير الخلائق جميعا إلى الله تعالى للحساب والجزاء ، ثم ذكر أن مجيء القيامة أو العذاب بالنار آت بغتة لا محالة ، فلا يغترن أحد بطول البقاء في الدنيا ، ولا يسخرن برسول من عند الله ، فإنه سيلقى جزاء سخريته واستهزائه ، وهذا زجر واضح شديد التأثير.

التفسير والبيان :

ينفي الحق تعالى الخلود في الدنيا لأحد من المخلوقات ، فيقول : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) أي قضى الله تعالى ألا يخلد في الدنيا بشرا ، فلا أنت يا محمد ولا أحد ممن سبقك أو عصاك أو يأتي بعدك إلا عرضة للموت ، وقد قدّر لك أن تموت كسائر الرسل المتقدمين قبلك.

٥٣

(أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) أي هل إذا متّ أنت أيبقى هؤلاء المشركون بربهم؟ لا ، بل الكل ميتون ، فلا يؤملون أن يعيشوا بعدك.

وهذا رد على المشركين الذين كانوا يتمنون موت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانوا يقدرون أنه سيموت ، فيشمتون بموته ، فنفى الله تعالى عنه الشماتة بهذا.

ونظير الآية قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن ٥٥ / ٢٦ ـ ٢٧].

أخرج البيهقي وغيره عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : دخل أبو بكر على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد مات ، فقبّله وقال : وا نبياه ، وا خليلاه ، وا صفيّاه ، ثم تلا : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) الآية.

واستدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر عليه‌السلام مات ، وليس بحي إلى الآن ؛ لأنه بشر ، سواء كان وليا أو نبيا أو رسولا.

وتأكيدا لبيان موت جميع البشر ، قال تعالى :

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي كل مخلوق إلى الفناء ، وكل نفس ذائقة مرارة الموت قبل مفارقتها الجسد ، جاء في الحديث : «إن للموت لسكرات» (١) فلا يفرح أحد بموت أحد ، ولا يشمت أو يتشفى لوفاته ، فالكل متجرع كأس المنون. والذوق هنا : مجاز عن الإدراك. والمراد بالموت هنا : مقدماته من الآلام العظيمة.

(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) أي نبتليكم ونختبركم بالبلايا والنعم ، أو بالمحبوب والمكروه ، بالشدة والرخاء ، والصحة والسقم ، والغنى والفقر ، والحلال والحرام ، والطاعة والمعصية ، والهدى والضلال ، اختبارا وامتحانا ، لنعلم أتصبرون وتشكرون أم لا؟ وقوله (فِتْنَةً) مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه

__________________

(١) روى ابن ماجه في معناه : «اللهم أعني على سكرات الموت».

٥٤

والمراد من ذلك : أنا نعاملكم معاملة من يختبركم ، لنعرف الصابر في الشدائد ، والشاكر في الرخاء.

(وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) أي ومرجعكم ومصيركم في النهاية إلينا ، أي إلى حكمنا ومحاسبتنا ومجازاتنا ، فنجازيكم بأعمالكم. وفي هذا وعد بالثواب ، ووعيد بالعقاب.

والابتلاء لا يكون إلا بعد التكليف ، والتكليف لا يكون إلا بعد البلوغ والعقل ، فالآية دالة على حصول التكليف ، والتكليف لا يقتصر بالمكلف على ما أمر به ونهي عنه ، بل ابتلاه بأمرين :

أحدهما ـ ما سماه خيرا : وهو نعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور.

والثاني ـ ما سماه شرا : وهو المضارّ الدنيوية من الفقر والآلام وسائر الشدائد النازلة بالمكلفين.

وإنما سمي ذلك ابتلاء ، والله عالم بما سيكون من أعمال العالمين قبل وجودهم ؛ لأنه في صورة الاختبار.

(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) أي وإذا رآك كفار قريش كأبي جهل وأشباهه ، ما كان همهم إلا السخرية منك ، وما يتخذونك إلا مهزوءا به ، فيستهزءون بك وينتقصونك ، وكان جديرا بهم التفكير في سلوكك وأخلاقك ، وفيما ينزل عليك من وحي فيه عظة وذكرى للعقلاء ، وهم الذين حمى الله نبيهم منهم بقوله : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر ١٥ / ٩٥].

وهم القائلون : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) أي يقولون تعجبا واستنكارا : أهذا الذي يعيب آلهتكم ويسفّه أحلامكم؟!

(وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) أي والحال أنهم كافرون بالله الذي خلقهم

٥٥

وأنعم عليهم ، وإليه مرجعهم ، و (هُمْ) الثانية توكيد كفرهم أي فهم الكافرون ، مبالغة في وصفهم بالكفر. والمراد أنهم كيف يعجبون منك ومن صنيعك بنبذ آلهتهم ووصفها بالسوء ، وهم أشد عجبا ، إذ يكفرون بالله ، ويستهزئون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ، أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً. إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا ، لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها ، وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان ٢٥ / ٤١ ـ ٤٢].

والخلاصة : أنهم يعيبون على النبي ذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء ، مع أنهم كافرون بالرحمن الذي هو المنعم الخالق المحيي المميت ، ولا فعل أقبح من ذلك ، فالهزء والذم يعود عليهم من حيث لا يشعرون ، وهم أحق بالاستهزاء والسخرية ؛ لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه.

وبالرغم من هذا فهم أناس حمقى طائشون متهورون يستعجلون بمجيء العذاب الذي تهددهم به يا محمد ، فقال تعالى :

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) أي خلق عجولا ، أو فطر الإنسان على العجلة ، والمراد نوع الإنسان ، وقيل : إنه شخص معين ، حتى لكأن التعجل جزء من تكوينه وفطرته ، وسجيته وطبعه كما قال تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) في الأمور [الإسراء ١٧ / ١١] ، فاستعجل هؤلاء المشركون عذاب الله وآياته الملجئة إلى الإيمان والإقرار بالعبودية ، وبرسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالمراد بالآيات : أدلة التوحيد وصدق الرسول ، أو الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة ، ولذلك قال : (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) أي أنها ستأتي لا محالة في وقتها ، ثم حكى الله تعالى قولهم :

(وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إنهم يستعجلون أيضا

٥٦

بوقوع العذاب بهم تكذيبا وجحودا ، وكفرا وعنادا ، واستبعادا لحدوثه ، فيقولون على سبيل الاستهزاء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه المؤمنين لجهلهم وغفلتهم : متى وقت حدوث عذاب النار الذي تهددوننا به إن كنتم صادقين في وعدكم وقولكم؟! فقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي يا معشر المؤمنين.

أراد تعالى نهيهم عن الاستعجال وزجرهم ، فقدّم أولا ذمّ الإنسان على إفراط العجلة ، وأنه مطبوع عليها ، ثم نهاهم وزجرهم عن استبطاء الموعود به بقصد إنكار وقوعه وعدم تصوره أصلا ، ثم بيّن مدى حماقتهم بهذا الطلب فقال :

(لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ ..) أي لو تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة ، لما استعجلوا ، ولو علموا أحوال عذاب النار التي تحيط بهم من الأمام والخلف وجميع الجهات ، وحين يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، فلا يستطيعون ردّ النار عن وجوههم ، ولا دفعها عن ظهورهم ، ولا يجدون ناصرا لهم ينصرهم ويمنعهم من العذاب وينقذهم منه كما قال تعالى : (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) [الرعد ١٣ / ٣٤] ، وجواب (لَوْ) محذوف ، أي لو علموا وقت الوعيد ، لما أصروا في البقاء على كفرهم ، ولما استعجلوا هذا العذاب الشديد.

والعلم في قوله تعالى : (لَوْ يَعْلَمُ) بمعنى المعرفة ، فلا يقتضي مفعولا ثانيا ، مثل (لا تَعْلَمُونَهُمُ ، اللهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال ٨ / ٦٠].

وإنما خص الوجوه والظهور ؛ لأن شدة تأثرها بالعذاب أكثر.

ونظير الآية : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر ٣٩ / ١٦] ، وقوله أيضا : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الأعراف ٧ / ٤١] ، وقوله كذلك : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ ، وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) [إبراهيم ١٤ / ٥٠] فالعذاب محيط بهم من جميع جهاتهم.

٥٧

ثم أبان الله تعالى كما هو المعتاد في قرآنه أن وقت مجيء العذاب مجهول فقال : (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها ، وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي بل إن الساعة تأتيهم فجأة ، فتحيرهم وتغلبهم ، فلا يجدون حيلة لردها ، ولا هم يمهلون ويؤجلون لتوبة أو معذرة ، لفوات الوقت. وهذا تذكير بإمهاله إياهم ، وإعطائهم فرصة واسعة للتذكر والإيمان ، والعدول عن الكفر والضلال ، فلا يمهلون بعد طول الإمهال.

والسبب في عدم العلم بمجيء الساعة هو جعل العبد أشد حذرا ، وأقرب إلى تدارك الأخطاء ، فلا يتكل ولا يتوانى لحين حدوث العذاب.

ورجوع الضمير المؤنث في قوله : (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً) هو إلى النار ، أو إلى الوعد ؛ لأنه في معنى النار ، أو إلى الحين ؛ لأنه في معنى الساعة (القيامة).

ثم سلا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن استهزائهم به وتكذيبهم له ، فقال :

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ..) أي إن لك في الأنبياء عليهم‌السلام أسوة ، فقد استهزئ برسل كثيرين من قبلك ، فنزل بالساخرين المستهزئين العذاب جزاء ما فعلوا ، وسينزل أيضا بمن استهزأ بك العذاب والبلاء جزاء استهزائهم ، كما حدث بأسلافهم من الأمم المكذبة لرسلها ، ذلك العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه ، كما قال تعالى :

(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ، فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا ، وَأُوذُوا ، حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا ، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ ، وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الإنعام ٦ / ٣٤].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ لا خلود لأحد من المخلوقات في دار الدنيا ، وكل من عليها فان ، وكل

٥٨

نفس ذائقة الموت ، فإن مات النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أفهم الخالدون إن مات؟!

٢ ـ الدنيا دار ابتلاء واختبار ، والاختبار كما يكون بالشر يكون بالخير ، فيختبر الناس بالشدة والرخاء ، والحلال والحرام ، وينظر كيف شكرهم وصبرهم ، ثم يكون المرجع والمآل إلى الله تعالى للجزاء بالأعمال.

والابتلاء لا يكون إلا بعد التكليف ، فتدل الآية على حصول التكليف ، ولا يقتصر الابتلاء على المأمور به والمنهي عنه ، وإنما يشمل ما سماه خيرا وهو نعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور ، وما سماه شرا وهو المضار الدنيوية من الفقر والآلام وسائر الشدائد النازلة بالمكلفين ، والعبد يتردد بين هاتين الحالتين ، لكي يشكر على المنح والنعم ، ويصبر في المحن.

٣ ـ العموم في قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) من قبيل العموم المخصوص ، فإنه تعالى نفس ؛ لقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه‌السلام : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ، وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة ٥ / ١١٦] مع أن الموت لا يجوز عليه ، وكذا الجمادات لها نفوس ، وهي لا تموت. والعام المخصوص حجة ، فيبقى معمولا به فيما عدا هذه الأشياء.

٤ ـ الكفار المستهزئون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يعيب اتخاذ الأصنام آلهة أحق وأجدر بالاستهزاء والسخرية لكفرهم بالإله الحق الخالق المنعم المتفضل على الناس بأصناف النعم الكثيرة.

٥ ـ ركّب الإنسان على العجلة ، فخلق عجولا ، وصار طبع الإنسان العجلة ، ولكن في العجلة أحيانا حماقة وطيش وجهل وغفلة ، كما في حال استعجال المشركين نزول العذاب الموعود.

٦ ـ إن مجيء الساعة أو وقت العذاب بالنار محقق ، ولكنه يأتي فجأة ، فلا يبقى مجال لتوبة واعتذار.

٥٩

٧ ـ إن الاستهزاء بالرسل ديدن الكفار قديما وحديثا ، فلا بد من الصبر ، وسيلقى المستهزئون جزاء استهزائهم.

حراسة الله وحفظه للإنسان وعدل الحساب

(قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧))

الإعراب :

(وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِثْقالَ) : خبر (كانَ) الناقصة ، واسمها مضمر فيها ، وتقديره : وإن كان الظلم مثقال حبة. وقرئ بالرفع على أن تجعل (كانَ) التامّة ، فيكون مرفوعا على أنه فاعل.

البلاغة :

(وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ) استعارة ، استعار الصمّ للكفار ، لأنهم كالبهائم لا يسمعون النداء إلى الإيمان سماع تدبر وتفهم.

٦٠