التفسير المنير - ج ١٧

الدكتور وهبة الزحيلي

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) ألم تعلم أن الله جعل جميع ما في الأرض مذللة لكم ، معدّة لمنافعكم. (وَالْفُلْكَ) السفن. عطف على (ما) أو على اسم (أَنَ). (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) للركوب والحمل ، والجملة : حال من (الْفُلْكَ) ، أو خبر. (الْفُلْكَ) على قراءة الرفع على الابتداء. (بِأَمْرِهِ) بإذنه. (أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) من أن تقع أو لئلا تقع ، يأن خلقها على صورة متينة مستمسكة. (إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي إلا بمشيئته ، وذلك يوم القيامة ، وفيه رد على القول باستمساكها بذاتها. (رَحِيمٌ) بتسخير ما في الأرض ، وإمساك السماء ، والتهيئة لعباده أسباب الاستدلال ، وفتح أبواب المنافع عليهم ، ودفع أنواع المضارّ عنهم.

(أَحْياكُمْ) بالإنشاء بعد أن كنتم جمادا : عناصر ونطفا. (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انتهاء آجالكم. (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) في الآخرة عند البعث. (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) لجحود للنعم مع ظهورها ، تارك توحيد الله تعالى.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى عظيم قدرته على تحقيق النصر للمؤمنين ، أتى بأنواع من الدلائل على قدرته البالغة ، من إيلاج الليل في النهار وبالعكس وخلقه لهما وتصرفه فيهما وعلمه بما يجري فيهما ، وإنزال المطر لإنبات النبات ، وخلقه السموات والأرض وملكه لهما ، وتسخيره ما في الأرض والفلك ، وإمساك السماء من الوقوع على الأرض ، والإحياء والإماتة ثم الإحياء.

التفسير والبيان :

أورد الله تعالى في هذه الآيات أنواعا من الدلائل على قدرته البالغة وعلمه الشامل ، ومن كان قادرا على كل شيء ، عالما بكل شيء ، كان قادرا على النصر ، فقال :

١ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي ذلك النصر المذكور بسبب أنه قادر على كل شيء ، فهو يولج ويدخل الليل في النهار ويولج ويدخل النهار في الليل ، بمعنى زيادة أحدهما على حساب الآخر ، فيزيد في أحدهما من الساعات ما ينقص من الآخر ، فتارة يطول الليل ويقصر

٢٦١

النهار كما في الشتاء ، وتارة يطول النهار ويقصر الليل كما في الصيف ، فالقادر على ذلك قادر قطعا على نصرة المظلوم ، وإثابة الطائع ، ومجازاة العاصي.

(وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي وذلك بسبب أن الله سميع لكل دعاء أو قول ، بصير بكل عمل أو حال ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

وهذا يعني أن الله تعالى هو الخالق المتصرف في خلقه بما يشاء ، الحاكم الذي لا معقب لحكمه ، كما قال : (قُلِ : اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ ، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ، وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ، وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ، وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ، وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [آل عمران ٣ / ٢٦ ـ ٢٧].

وعلة هذه القدرة الفائقة ما قال :

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) أي ذلك الوصف المتقدم من القدرة الكاملة والعلم التام لله تعالى لأجل أن الله هو الحق ، أي الموجود الثابت الواجب لذاته ، بلا مثيل ولا شريك ، بمعنى أنه هو مصدر الوجود ، وأنه الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له ؛ لأنه ذو السلطان العظيم ، وكل شيء فقير إليه ، ذليل لديه ، وأن ما يعبدون من دونه من الآلهة من الأصنام والأنداد والأوثان ، وكل ما عبد من غير الله هو باطل ، لا يقدر على صنع شيء ، ولا يملك ضرا ولا نفعا ؛ لأنه عاجز ضعيف ، ومصنوع مخلوق لربه القادر.

(وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي ولأن الله تعالى المتعالي على كل شيء بقدرته وعظمته ، الكبير عن أن يكون له شريك ، إذ هو العظيم الذي لا أعظم منه ، العلي الذي لا شيء أعلى منه شأنا ، الكبير الذي لا أكبر منه ، ولا أعز ولا

٢٦٢

أكبر منه سلطانا ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة ٢ / ٢٥٥] وقال : (الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) [الرعد ١٣ / ٩].

والمقصود : كيف يصح لعبدة الأصنام وأمثالها عبادة من لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا ، ويتركون عبادة من بيده كل شيء ، وهو القادر على كل شيء؟!

٢ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ، فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) أي ألم تعلم أيها المخاطب أن الله يرسل الرياح ، فتثير سحابا ، فيمطر على الأرض الجرز التي لا نبات فيها ، وهي هامدة يابسة ، فتصبح زاهية نضرة ، مخضرة بالنباتات والأزهار ذات الألوان البديعة ، والأشكال الرائعة ، بعد يبسها وجمودها ، قال الخليل : المعنى انتبه! أنزل الله من السماء ماء ، فكان كذا وكذا. وقوله : (مُخْضَرَّةً) أي ذات خضرة ، على وزن مفعلة كمبقلة ومسبعة ، أي ذات بقل وسباع.

(إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) أي إن الله رحيم لطيف بعباده ، يدبر لهم أمر المعاش ، وأصل علمه أو فضله إلى كل شيء ، عليم بما في أنحاء الأرض من الحب مهما صغر ، خبير بمصالح خلقه ومنافعهم وأحوالهم ، لا يخفى عليه خافية ، فيحقق لهم المصلحة بتدبيره ، كما قال تعالى حكاية عن لقمان : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ ، إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان ٣١ / ١٦] وقال سبحانه : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ، وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ ، وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [يونس ١٠ / ٦١].

٣ ـ (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) جميع ما في السموات وما في الأرض لله سبحانه خلقا وملكا وعبيدا ، أي جميع الأشياء هي

٢٦٣

مخلوقة له ، مملوكة له ، عبيد له ، منقادة خاضعة لأمره ، متصرف فيها كيف يشاء ، وهو غني عما سواه ، وكل شيء فقير إليه ، عبد لديه. وهذا دليل آخر على القدرة الإلهية الشاملة.

٤ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) أي ألم تعلم أن الله ذلل لكم أيها البشر جميع ما في ظاهر الأرض وباطنها ، من حيوان وجماد ومعدن وزروع وثمار ، لينتفع بها الإنسان في مصالحه المختلفة ، كما قال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية ٤٥ / ١٣] أي من إحسانه وفضله وامتنانه.

(وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) أي وسخر لكم السفن ، جارية في البحار ، لنقل الركاب والبضائع ، بتسخيره وتسييره ، متنقلة من بلد إلى بلد ، ومن قطر إلى قطر ، فيتم تبادل الحوائج والمنافع ، ويتعايش الناس متعاونين ، يحققون بها ما يحتاجون إليه ويريدون.

(وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي ويحفظ السماء بما فيها من كواكب ونجوم بالجاذبية ، وبتخصيص مدار ثابت خاص لكل منها ، بمشيئته وإرادته ، ولو شاء لأذن للسماء ، فسقطت على الأرض ، فهلك من فيها ، ولكن من لطفه ورحمته وقدرته يمسك السماء من أن تقع على الأرض إلا بإذنه وأمره ، وذلك يوم القيامة حيث تتساقط الكواكب وتتصدع السموات ، كما قال تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) [الانفطار ٨٢ / ١ ـ ٢] ولو لا هذا النظام الدقيق لا لاصطدمت الكواكب ببعضها ، ودمرت الأرض بما عليها ، لذا قال :

(إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي إن الله تعالى رؤف رحيم بالناس على ظلمهم ، فمتعهم بجمال السماء والأرض ، وأرشدهم إلى الاستدلال بآيات الكون على وجوده ووحدانيته.

٢٦٤

٥ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي وهو الذي أحياكم من العدم ، وخلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا يذكر ، ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم وأعماركم ، والموت ستر ونعمة ، ثم يحييكم بالبعث يوم القيامة. ويلاحظ اختيار الصيغ المناسبة للتعبير ، فهو أولا عبر بالماضي لأنه تم وحدث ، ثم أشار إلى المرحلة المرتقبة وهو الموت ، ثم الحياة الجديدة في عالم الآخرة.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) أي إن الإنسان جحود نعم الله تعالى ، فلم يقدر تلك النعم ، ويهتدي بها إلى عبادة الله وتوحيده ، وهجر كل ما عداه من الآلهة المزعومة ، وهو مثل قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) [العاديات ١٠٠ / ٦].

ونظير الآية قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة ٢ / ٢٨] وقوله : (قُلِ : اللهُ يُحْيِيكُمْ ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ، ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، لا رَيْبَ فِيهِ) [الجاثية ٤٥ / ٢٦].

فقه الحياة أو الأحكام :

موضوع الآيات الاستدلال على كمال قدرته تعالى وكمال علمه ، وتلك الأدلة هي ما يأتي :

١ ـ من آيات قدرة الله البالغة كونه خالقا لليل والنهار ، ومتصرفا فيهما ، فوجب أن يكون قادرا عالما بما يجري فيهما ، وإذا كان قادرا عليما ، كان قادرا على نصر من شاء من عباده ، يفعل ما يلائم الحكمة والمصلحة ، فهو يسمع الأقوال ، ويبصر الأفعال ، فلا يعزب عنه مثقال ذرّة ، ولا دبيب نملة إلا يعلمها ويسمعها ويبصرها.

٢ ـ ذلك الوصف المتقدم من قدرة الله على هذه الأمور لأجل أن الله هو الحق أي الموجود الواجب لذاته ، الذي يمتنع عليه التغير والزوال ، فيأتي بالوعد

٢٦٥

والوعيد. أو أنه ذو الحق ، فدينه الحق ، وعبادته حق ، والمؤمنون بحق يستحقون منه النصر بحكم وعده الحق.

وأما الأصنام فلا استحقاق لها في العبادات ، والله هو العالي على كل شيء بقدرته ، والعالي عن الأشباه والأنداد ، المقدس عما يقول الظالمون من الصفات التي لا تليق بجلاله. وهو الكبير المتعال أي الموصوف بالعظمة والجلال وكبر الشأن ، الكبير عن أن يكون له شريك.

٣ ـ ومن الأدلة على كمال قدرته إنزال المطر وإنبات النبات ذي الخضرة البديعة ، السارّة لكل عين وقلب ، ومن قدر على هذا قدر على إعادة الحياة بعد الموت ؛ كما قال الله عزوجل : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) [الحج ٢٢ / ٥].

وقوله (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء بالنبات واستمرارها كذلك عادة.

وفي قوله : (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) قال ابن عباس : خبير بما ينطوي عليه العبد من القنوط عند تأخير المطر. وهو لطيف بأرزاق عباده.

٤ ـ لله تعالى جميع ما في السموات وما في الأرض خلقا وملكا وعبيدا ، وكل محتاج إلى تدبيره وإتقانه ، وإن الله لهو الغني الحميد ، فلا يحتاج إلى شيء ، وهو المحمود على كل حال ، والكل منقاد له غير ممتنع من التصرف فيه ، وهو غني عن الأشياء كلها ، وعن حمد الحامدين أيضا ؛ لأنه كامل لذاته ، والكامل لذاته غني عن كل ما عداه في كل الأمور.

٥ ـ هناك نعم كثيرة من الله على عباده تدل أيضا على قدرته ورحمته

٢٦٦

ولطفه ، منها أنه سخر (ذلل) لعباده كل ما في الأرض مما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار ، كما قال : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة ٢ / ٢٩]. وسخر لكم الفلك في حال جريها ، كما قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ ، لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [لقمان ٣١ / ٣١] وتسخير الفلك : بتسخير الماء والرياح لجريها.

وهو تعالى يمسك السماء لئلا تقع على الأرض ، فيهلك الناس ، إلا بإذن الله لها بالوقوع أو السقوط ، فتقع بإرادته وتخليته ، إن الله بالناس لرؤوف رحيم في هذه الأشياء التي سخرها لهم.

٦ ـ ومن دلائل القدرة الإلهية : الإحياء والإماتة ، فالله هو الذي خلقنا بعد أن كنا نطفا ، ثم يميتنا عند انقضاء آجالنا ، ثم يحيينا للحساب والثواب والعقاب ، ولكن الإنسان لجحود لما ظهر من الآيات الدالة على قدرته ووحدانيته تعالى. قال ابن عباس : يريد الأسود بن عبد الأسد وأبا جهل بن هشام والعاص بن هشام ، وجماعة من المشركين. والأولى ـ كما ذكر الرازي ـ تعميمه في كل المنكرين ، وإنما قال ذلك ؛ لأن الغالب على الإنسان كفران النعم ، كما قال تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ ٣٤ / ١٣]

وقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) زجر للإنسان عن الكفران ، وبعث له على الشكر.

٢٦٧

لكل أمة شريعة ومنهاج ملائمان

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠))

البلاغة :

(فَلا يُنازِعُنَّكَ) نهي يراد به النفي ، أي لا ينبغي لهم منازعتك ، فقد ظهر الحق وقامت أدلته.

المفردات اللغوية :

(مَنْسَكاً) شريعة ومنهاجا ومتعبدا (ناسِكُوهُ) عاملون به (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) أي لا ينبغي لهم أن ينازعوك في أمر الدين ، ومنه أمر الذبيحة ، إذ قالوا : ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم ؛ لأنهم إما جهال وأهل عناد ، أو لأن أمر دينك أظهر من أن يقبل النزاع (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي إلى دينه وتوحيده وعبادته (هُدىً مُسْتَقِيمٍ) طريق إلى الحق سويّ أو دين قويم.

(وَإِنْ جادَلُوكَ) في أمر الدين ، وقد ظهر الحق ، ولزمت الحجة (فَقُلِ : اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) من المجادلة الباطلة وغيرها ، فمجازيكم عليها ، وهو وعيد فيه رفق.

(يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) يفصل بين المؤمنين منكم والكافرين بالثواب والعقاب يوم القيامة ، كما فصل في الدنيا بالحجج والآيات (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من أمر الدين ، بأن يقول كل فريق خلاف قول الآخر.

(أَلَمْ تَعْلَمْ) استفهام تقرير (يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فلا يخفى عليه شيء (إِنَ

٢٦٨

ذلِكَ فِي كِتابٍ) أي إن ما ذكر هو في اللوح المحفوظ مسجل فيه قبل حدوثه ، فلا يهمنك أمرهم ، مع علمنا به ، وحفظنا له. (إِنَّ ذلِكَ) إن علم ما ذكر والإحاطة به وإثباته في اللوح المحفوظ (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) سهل ؛ لأن علمه مقتضى ذاته المتعلق بكل المعلومات على سواء.

سبب النزول :

قيل نزلت هذه الآية بسبب جدال الكفار في أمر الذبائح ، وهم كفار خزاعة ، قالوا للمسلمين : تأكلون ما ذبحتم ، ولا تأكلون ما ذبح الله من الميتة ، أو مالكم تأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون ما قتله الله؟! فكان ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم بسكاكينكم ، فنزلت الآية بسبب هذه المنازعة.

المناسبة :

بعد أن عدد الله تعالى نعمه ، وأبان أنه رؤف رحيم بعباده ، وإن كان منهم من يكفر بالله ولا يشكر النعمة ، أتبعه بذكر نعمه بما كلّف ، فقال : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ) أي لكل أمة شريعة خاصة ، وفيه زجر من نازع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بتمسكهم بما شرعوا من الشرائع ، ثم أمره بالثبات على دينه الحق ، فالله يحكم بين العباد يوم المعاد.

التفسير والبيان :

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ) يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم منسكا هم عاملون به ، أي شريعة ، ومتعبّدا ، ومنهاجا صالحا ، يتلاءم مع مقتضيات الزمان والمكان ، ومع سنة التدريج والتطور ونضوج العقل البشري ، فأنزل التوراة على موسى بنحو من الشدة ، لعلاج التمسك بالمادة ، ثم أنزل الإنجيل متمما لحكم التوراة مع علاج الروح وإشاعة المحبة ، والعناية بجوهر الدين ، لا بمجرد المظاهر والشكليات والطقوس ، ثم أنزل القرآن حينما نضج العقل البشري ، لإرساء معالم دستور الحق ، والجمع بين العناية بالمادة والروح ، والتركيز على معايير

٢٦٩

العلم ، واستخدام العقل ، فكان أول دين يضع أسس الحضارة الإنسانية الشاملة ، وكان تشريعه وسطا بين الشرائع ، وكانت هذه الأديان صالحة للزمان الذي جاءت فيه.

(فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) أي إذا كان هذا هو شأن التدرج في الشرائع ، فلا ينبغي لمعاصريك يا محمد أن ينازعوك في أمر الدين ، فلكل أمة شريعة خاصة تناسب الزمان الذي جاءت فيه ، ثم جاء هذا القرآن ناسخا تلك الشرائع التي لم تعد صالحة للعمل بها ، وأدت دورها ، وكانت مقصورة على أتباعها المتقدمين.

فلا تتأثر يا محمد بمنازعتهم لك ، ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق ، واثبت على دينك ثباتا لا يتزعزع ولا يلين. والمراد بذلك تهييج حمية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمبالغة في تثبيته على دينه.

(وَادْعُ إِلى رَبِّكَ ، إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) أي وادع هؤلاء المنازعين وغيرهم ، أي كل الناس إلى سبيل ربك ودينه الحق ، فإنك على طريق واضح مستقيم موصل إلى المقصود ، وهو سعادة الدنيا والآخرة ، كقوله تعالى : (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ ، وَادْعُ إِلى رَبِّكَ ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [القصص ٢٨ / ٨٧].

(وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ : اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) أي فإن عدلوا عن هذه الأدلة إلى طريقة المراء والجدال بالباطل ، بعد أن ظهر الحق ، فقل لهم على سبيل التهديد والوعيد : الله عليم بما تعملون وبما أعمل ، ومجاز كل واحد بعمله ، وهذا كقوله تعالى : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ : لِي عَمَلِي ، وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس ١٠ / ٤١] وقوله سبحانه : (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ ، كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) [الأحقاف ٤٦ / ٨] لأنه ليس بعد إيضاح الأدلة إلا هذا اللون من الوعيد والتحذير ، لذا قال تعالى :

٢٧٠

(اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي الله يقضي بين المؤمنين منكم والكافرين يوم القيامة فيما اختلفتم فيه من أمر العقيدة والدين ، بالجزاء الحاسم المتردد بين الجنة والنار ، والثواب والعقاب ، الأول لمن قبل ، والثاني لمن رفض ، فتعرفون حينئذ الحق من الباطل ، والمحق من المبطل.

والخلاصة : إن الآيات آمرة باستمرار الدعوة إلى شرع الله ودينه ، وعدم التمييز بين الناس ، دون مبالاة بجدل المرائين وعرقلة المتخلفين ، فإن الداعي على حق أبلج ، كما قال تعالى : (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ، وَقُلْ : آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ ، وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ، اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ ، لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ ، لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ ، اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [الشورى ٤٢ / ١٥].

ثم أخبر الله تعالى عن كمال علمه بخلقه وعلمه بالكائنات كلها قبل خلقها وبما يستحقه كل من المسيء والمحسن ، فقال :

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي لقد علمت أيها الرسول ـ والخطاب وإن كان معه ، فالمراد سائر الناس ـ أن علم الله محيط بما في السموات وما في الأرض ، فلا يعزب عنه مثقال ذرة فيهما ، وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها ، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ. وكتابة كل ما هو كائن إلى يوم القيامة ، وعلمه الشامل ، وفصله بين عباده يوم القيامة يسير سهل عليه.

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يلي :

١ ـ لكل أمة من الأمم المتقدمة شريعة خاصة بها ، صالحة لزمانها ، أي أنه

٢٧١

كانت الشرائع في كل عصر ، ومن الخطأ البيّن التمسك بما كان للأولين من شريعة التوراة والإنجيل ؛ لأن القرآن نسخ ما قبله من الشرائع.

٢ ـ إن خاصم الناس بالباطل ، كمخاصمة مشركي مكة محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فليقل المؤمن : (اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) من الكفر والتكذيب ، وهذا أمر من الله تعالى لنبيه بالإعراض عن مماراة قومه ، صيانة له عن الاشتغال بتعنتهم ، ولا جواب لصاحب العناد ، فإنهم إن أبوا إلا المجادلة بعد الاجتهاد بتسوية النزاع ، فليدفعوا بأن الله أعلم بأعمالكم وبقبحها ، وبما تستحقون عليها من الجزاء ، فهو مجازيكم به. وهذا وعيد وإنذار ، ولكن برفق ولين.

٣ ـ الله تعالى هو الذي يحكم بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقومه ، وبين المؤمنين والكافرين فيما يختلفون فيه من أمر الدين ، فيعرف حينئذ الحق من الباطل.

قال القرطبي : في هذه الآية أدب حسن علّمه الله عباده في الرد على من جادل تعنتا ومراء ألا يجاب ولا يناظر ، ويدفع بهذا القول الذي علمه الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤ ـ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين من بعده الدعوة إلى دين الله الحق ، فإن هذا الدين طريق واضح مستقيم مؤد إلى المقصود ، وعلى كل داعية إلى الله وتوحيده وعبادته ألا يعبأ بالعثرات ، وألا يهتم بمراء المجادلين ، ومحاولاتهم الوقوف في وجه الدعوة.

٥ ـ الله عليم بأحوال الناس وبما هم مختلفون فيه ، وإن كل ما يجري في العالم هو مكتوب عند الله في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ ، وإن العلم الشامل بما في السماء والأرض ، والفصل بين المختلفين يسير جدا على الله تعالى. ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء»

٢٧٢

وفي السنن من حديث جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أول ما خلق الله القلم ، قال له : اكتب ، قال : وما اكتب؟ قال : أكتب ما هو كائن ، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة».

فما العباد عاملون قد علمه الله تعالى قبل ذلك على الوجه الذي يفعلونه ، فيعلم قبل الخلق أن هذا يطيع باختياره ، وهذا يعصي باختياره ، وكتب ذلك عنده ، وأحاط بكل شيء علما ، وهو سهل عليه.

بعض أباطيل المشركين وتحديهم بخلق ذبابة

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦))

٢٧٣

الإعراب :

(قُلْ : أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ النَّارُ) : إما خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره هي النار ، و (وَعَدَهَا اللهُ) : استئناف كلام ، وإما أن يكون مبتدأ ، والجملة الفعلية : (وَعَدَهَا اللهُ) خبره.

(وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) منصوب على الحال (بَيِّناتٍ) حال.

البلاغة :

(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) فيه استعارة ، أي تستدل من وجوههم على المكروه وإرادة الفعل القبيح ، مثل : عرفت في وجه فلان الشر.

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) تمثيل ، أي مثل الكفار في عبادتهم لغير الله كمثل الأصنام التي لا تستطيع أن تخلق ذبابة واحدة. وقد سمي الذي جاء به مثلا تشبيها للصفة ببعض الأمثال.

المفردات اللغوية :

(وَيَعْبُدُونَ) أي المشركون (مِنْ دُونِ اللهِ) أي الأصنام (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) حجة وبرهانا سمعيا يدل على جواز عبادته (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي حجة عقلية أنها آلهة ، سواء أكان العلم من ضرورة العقل أو استدلاله (وَما لِلظَّالِمِينَ) بالإشراك (مِنْ نَصِيرٍ) أي ناصر ومعين يقرر مذهبهم أو يدفع عنهم العذاب.

(آياتُنا) من القرآن (بَيِّناتٍ) واضحات الدلالة على العقائد الحقة والأحكام الإلهية (الْمُنْكَرَ) المستنكر من التجهم والانتفاخ ، أو الإنكار لها ، كالمكرم بمعنى الإكرام ، أي أثره من الكراهة والعبوس ودلالة الغيظ والغضب ، لفرط نكيرهم للحق ، وهذا منتهى الجهالة. وإشعارا بذلك وضع (الَّذِينَ كَفَرُوا) موضع الضمير (يَسْطُونَ) أي يبطشون بهم من شدة الغيظ.

(بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) من غيظكم على التالين ، وبأكره إليكم من القرآن المتلو عليهم (النَّارُ) هو النار ، كأنه جواب سائل قال : ما هو؟ (وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بأن مصيرهم إليها (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) هي النار.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) أهل مكة وغيرهم (ضُرِبَ مَثَلٌ) بيّن لكم حال مستغربة أو قصة رائعة أو جعل ، ولذلك سماها مثلا ، تشبيها لها ببعض الأمثال ، والمثل : الشبه. (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) للمثل أو

٢٧٤

لبيانه استماع تدبر وتفكر (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي تعبدون غيره وهم الأصنام (ذُباباً) اسم جنس ، يقع على المذكر والمؤنث ، واحده : ذبابة وجمعه أذبّة وذبّان ، مثل غراب وأغربة وغربان ، وسمي به لكثرة حركته. وقوله : (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) أي لا يقدرون على خلقه مع صغره ؛ لأن لن بما فيها من تأكيد النفي دالة على المنافاة بين المنفي والمنفي عنه (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) أي لخلقه ، أي لا يقدرون على خلقه مجتمعين له متعاونين عليه ، فكيف إذا كانوا منفردين؟!.

(وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً) من الطيب والزعفران الملطخين به (لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) لا يستردوه منه لعجزهم ، فكيف يعبدون شركاء لله تعالى؟ هذا أمر مستغرب ، عبر عنه بضرب المثل (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) العابد والمعبود.

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ما عظموه حق عظمته ، إذ أشركوا به العاجز عن دفع الذباب عنه والانتصاف منه (لَقَوِيٌ) قادر على خلق الممكنات بأسرها (عَزِيزٌ) غالب (يَصْطَفِي) يختار (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي إن الله سميع لمقالتهم ، مدرك للأشياء كلها ، بصير بمن يتخذه رسولا كجبريل وميكائيل وإبراهيم ومحمد وغيرهم عليهم‌السلام. (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي ما قدموا وما أخروا وما عملوا وما هم عاملون بعد (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي إليه مرجع الأمور كلها ؛ لأنه مالكها بالذات ، لا يسأل عما يفعل من اصطفاء الرسل وغيره ، وهم يسألون.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى أنه العليم بكل شيء ، بيّن أن عبادة المشركين لغير الله تعالى لا تعتمد على دليل نقلي أو عقلي ، وهم مع جهلهم وغباوتهم إذا أرشدوا إلى الحق ودليله ، وتلي عليهم القرآن ، ظهر في وجوههم الغيظ والغضب ، وهموا أن يبطشوا بمن يتلو ويذكّرهم ، ولكن ما ينالهم من النار أعظم مما يحصل لهم من الغم حين تلاوة الآيات.

ولما بين أنهم يعبدون من دون الله مالا حجة لهم فيه ولا علم ، ذكر ما يدل على إبطال قولهم وجهلهم بعظمة الإله ، ثم انتقل من الإلهيات إلى النبوات ، وأبان أنه يختار الرسل من الملائكة والناس ممن يعلم أنه الأكفاء والأوفق : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام ٦ / ١٢٤].

٢٧٥

التفسير والبيان :

هذه بعض أباطيل المشركين الدالة على جهلهم وكفرهم وسخافتهم فيقول تعالى :

١ ـ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ، وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي ويعبد هؤلاء المشركون آلهة من غير الله ، ليس لهم دليل نقلي ولا عقلي على عبادتها ، فهو تعالى لم ينزل من السماء بجواز عبادتها حجة ولا برهانا ، وهو المقصود بالدليل النقلي السمعي ، والمراد من قوله : (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) وليس لهم دليل عقلي وهو المراد بقوله : (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) وإذا لم يكن هناك دليل مقبول ، فهو عن تقليد للآباء والأسلاف ، أو عن جهل وشبهه ، وكل ذلك باطل.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ ، فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ١١٧]. وفي الآية إشارة إلى أن الكافر قد يكون كافرا ، وإن لم يعلم كونه كافرا ، ودلالة على فساد التقليد القائم على الجهل.

(وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي ليس للكافرين الظالمي أنفسهم من ناصر ينصرهم من الله فيما يحل بهم من العقاب أو العذاب.

٢ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) أي وإذا ذكرت للمشركين آيات القرآن والحجج والدلائل الواضحات على توحيد الله ، وأن لا إله إلا الله ، وأن رسله الكرام حق وصدق ، ظهرت على وجوههم دلالة الغيظ والغضب ، وامتلأت قلوبهم حقدا ونفورا.

(يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي يكادون أو يقاربون

٢٧٦

يبطشون بالذين يحتجون عليهم بدلائل القرآن الصحيحة ، ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء. وهذا يدل على غليان قلوبهم بالكفر ، وسيطرة الجهالة والعناد والكفر عليها ، حتى أصبحوا ميئوسا من علاجهم ، وصاروا متمردين على الأنبياء والمؤمنين.

(قُلْ : أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين مقابلة لوعيدهم : ألا أخبركم بشر من غيظكم الذي ملأ قلوبكم؟ هو النار التي وعدها الله للكافرين ، فعذابها ونكالها أشد وأشق وأعظم مما تخوفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا ، بل هو أعظم مما تنالون منهم فعلا ، إن نلتم بزعمكم وإرادتكم ، وبئس المصير ، أي وبئس النار موئلا ومقاما لكم ، كما قال تعالى : (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) [الفرقان ٢٥ / ٦٦].

ثم نبه الله تعالى على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها ، وبيان حال هذه الأشباه والأمثال لله في زعمهم ، فقال :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا) أي يا أيها البشر قاطبة جعل مثل أي شبه لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به ، فأنصتوا وتفهموا حال تلك المعبودات ، وإذا فهم حالها يكون حال عابديها أسوأ ، فهم كالأصنام وأسوأ منها ، وحالها هو :

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) أي إن ما تعبدون من غير الله من الأصنام والأنداد لن يقدروا على خلق ذبابة واحدة ، حتى ولو تعاون واجتمع لهذه المهمة جميع تلك المعبودات. روى الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعا قال : «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا مثل خلقي ذرة أو ذبابة أو حبة» ورواه الشيخان بلفظ آخر: «قال الله عزوجل : من أظلم ممّن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرة ، فليخلقوا شعيرة».

٢٧٧

(وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) أي كما أنهم عاجزون عن خلق ذبابة واحدة ، هناك ما هو أبلغ من ذلك عاجزون من مقاومته والانتصار منه ، فلو سلبوا شيئا مما عليها من الطيب ، لا تقدر أن تستنقذوه منه ، علما بأن الذباب أضعف مخلوقات الله ، لذا قال : (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) أي عجز الطالب وهو الإله المعبود من استنقاذ الشيء المسلوب من الذباب المطلوب ، أو ضعف عابد الصنم ، والصنم المعبود.

وهذا يدل على جهالتهم وغباوتهم ؛ لأن العابد يتأمل عادة النفع أو دفع الضّرّ من المعبود ، وعابد الصنم لا يحقق لنفسه شيئا ، مما يدل على حقارة الصنم وضعفه ، وغباء عابده ، فكيف يصح جعله مثلا لله في العبادة. ثم قال تعالى مؤكدا عبثهم وجهلهم وعدم معرفتهم حق الله تعالى :

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ، إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي ما عرفوا قدر الله وعظمته ، وما عظموه حق التعظيم ، حين عبدوا معه غيره ، كهذه المخلوقات الجمادات التي لا تقاوم الذباب لضعفها.

والله هو القوي القادر الذي بقدرته وقوته خلق كل شيء ، العزيز الذي عز كل شيء فقهره وغلبه ، فلا يغالب ولا يمانع ، لعزته وعظمته وسلطانه ، فهو الجدير بالعبادة والتعظيم.

ونظائر الآية كثير منها : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم ٣٠ / ٢٧] (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ، إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) [البروج ٨٥ / ١٢ ـ ١٣] (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات ٥١ / ٥٨].

ثم انتقل بيان الله تعالى من الإلهيات إلى النبوات فقال :

(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) أي أن الله يختار من الملائكة رسلا لتبليغ الوحي إلى الأنبياء ، ومن الناس لإبلاغ الرسالة إلى العباد ،

٢٧٨

حسبما يشاء وعلى وفق ما يريد. قيل : إن الوليد بن المغيرة قال : أو أنزل عليه الذكر من بيننا؟ فنزلت الآية.

(إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي سميع لأقوال عباده ، بصير بهم ، عليم بمن يستحق اختياره للرسالة.

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي يعلم علما تاما بأحوال الملائكة والرسل والمكلفين ، ما مضى منها ، وما يأتي فلا يخفى عليه شيء من أمورهم ، كما قال : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) ـ إلى قوله : (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) [الجن ٧٢ / ٢٦ ـ ٢٨].

(وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي وإليه يوم القيامة مرجع الأمور كلها ، فلا أمر ولا نهي لأحد سواه وهذا إشارة إلى القدرة التامة ، والتفرد بالألوهية والحكم. وقوله (يَعْلَمُ .. وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) يتضمن مجموعها الزجر عن الإقدام على المعصية.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن عبدة الأوثان مثل كفار قريش يعبدون من غير الله آلهة ، ليس لهم دليل سمعي نقلي أو عقلي ، لذا توعدهم ربهم بقوله : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي ناصر ومعين.

٢ ـ إن تأصل الكفر والعناد والاستكبار في نفوس أولئك الكفرة ، جعلهم في أشد حالات الغضب والعبوس والحقد إذا تليت عليهم آيات القرآن ، ويكادون

٢٧٩

يبادرون إلى البطش الشديد بمن يحتج عليهم بدلائل القرآن ، ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء.

٣ ـ أمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقابل وعيدهم بقوله : هل أخبركم بما هو أسوأ أو أشنع وأكره من تخويفكم المؤمنين وبطشكم بهم ومن هذا القرآن الذي تسمعون؟ إنه نار جهنم وعذابها ونكالها ، وعدها الله الذين كفروا يوم القيامة ، وبئس المصير ، أي الموضع الذي يصيرون إليه وهو النار. فهذا وعيد لهم على سطواتهم بالذين يتلون القرآن.

٤ ـ ضرب الله مثلا لحال الكفار وأصنامهم ؛ لأن حجج الله تعالى عليهم بضرب الأمثال أقرب إلى أفهامهم ، وهو في الحقيقة ليس مثلا ، وإنما هو لما في صفتهم وحالهم من الاستغراب والتعجب سمي مثلا ، تشبيها لتلك الصفة ببعض الأمثال السائرة.

والمعنى : ضربوا لله مثلا فاستمعوا قولهم ؛ يعني أن الكفار جعلوا لله مثلا بعبادتهم غيره ؛ فكأنه قال : جعلوا لي شبيها في عبادتي ، فاستمعوا خبر هذا التشبيه. فالكفار هم ضاربو المثل.

أو أن المعنى : يا أيها الناس ، هذا مثل من عبد آلهة لم تستطع أن تخلق ذبابا ، وإن سلبها الذباب شيئا لم تستطع أن تستنقذه منه ، أي أن الله هو ضارب المثل.

والأدق في المعنى : ضرب الله عزوجل ما يعبد من دونه مثلا ، أي بيّن الله لكم شبها ولمعبودكم ، فالمثل يشمل العابد والمعبود.

٥ ـ المثل : هو أن الذين تعبدون من دون الله وهي الأوثان التي كانت حول الكعبة ، وعددها ثلاث مائة وستون صنما ، لن يقدروا أن يخلقوا ذبابة واحدة ،

٢٨٠