التفسير المنير - ج ١٦

الدكتور وهبة الزحيلي

رَبِّي) في موضع نصب على الحال : لأنه في الأصل صفة لكتاب وهو نكرة ، فلما تقدمت صفة النكرة عليها ، وجب النصب على الحال. ويحتمل أن يكون (فِي كِتابٍ) بدلا من قوله : (عِنْدَ رَبِّي) ويكون (عِنْدَ رَبِّي) خبر المبتدأ.

و (لا يَضِلُّ رَبِّي) أي لا يضل ربي عنه ، فحذف الجار والمجرور ، كما حذفا في آية (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات ٧٩ / ٤١] أي المأوى له.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) خبر لمبتدأ محذوف ، أو صفة لربي ، أو منصوب على المدح.

(كُلُوا وَارْعَوْا) حال من ضمير أخرجنا ، أي مبيحين لكم الأكل ورعي الأغنام.

البلاغة :

(نُعِيدُكُمْ) و (نُخْرِجُكُمْ) بينهما طباق.

(فَأَخْرَجْنا) التفات من الغيبة إلى التكلم.

(مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ) مقابلة ، قابل بين (مِنْها) و (فِيها) وبين الخلق والإعادة.

المفردات اللغوية :

(قالَ) : فرعون. (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى)؟ إنما خاطب الاثنين ، وخص موسى بالنداء ؛ لأنه الأصل ، وهارون وزيره وتابعه. (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) أي منح كل نوع من المخلوقات صورته وشكله الذي يطابق كماله ، ويناسب خواصه ومنافعه ، ومميزاته التي يتميز بها من غيره. (ثُمَّ هَدى) ثم عرفه كيف يرتفق بما أعطي له.

(قالَ) فرعون. (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) فما حالهم بعد موتهم من السعادة والشقاوة. والبال في الأصل : الفكر ، يقال : خطر ببالي كذا ، ثم أطلق هنا على الحال المعني بها.

و (الْقُرُونِ) الأمم ، مثل قوم نوح وهود ولوط وصالح في عبادتهم الأوثان.

(قالَ) موسى. (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ) أي علم حالهم محفوظ عند ربي في اللوح المحفوظ ، يجازيهم عليها يوم القيامة. والمراد أن حالهم غيب لا يعلمه إلا الله ، وقصد بذلك كما علم الله الذي لا يضيع منه شيء. (لا يَضِلُ) لا يخطئ مكان الشيء ، والضلال : أن تخطئ الشيء في مكانه ، فلم تهتد إليه. (وَلا يَنْسى) ربي شيئا ، والنسيان : عدم تذكر الشيء بحيث لا يخطر ببالك. وهما محالان على الله العالم بالذات.

٢٢١

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) أي هو الذي جعل للناس في جملة الخلق. (مَهْداً) وقرئ : مهادا ، أي فراشا ، أي جعل الأرض كالمهد تتمهدونها. والمهد : مصدر سمي به ، والمهاد : اسم ما يمهد كالفراش ، أو جمع مهد.

(وَسَلَكَ) سهل. (سُبُلاً) طرقا ، أي جعل لكم فيها طرقا بين الجبال والأودية والبراري ، تسلكونها من أرض إلى أرض لتبلغوا منافعها. (السَّماءِ) مطرا. (فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً) أصنافا وفيه التفات من لفظ الغيبة إلى صيغة المتكلم ، على الحكاية لكلام الله تعالى ، للتنبيه على ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة ، وللإشعار بأنه تعالى مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لمشيئته. (مِنْ نَباتٍ شَتَّى) شتى صفة. (أَزْواجاً) أي مختلفة الألوان والطعوم ، و (شَتَّى) جمع شتيت ، كمريض ومرضى ، من شت الأمر : تفرق.

(كُلُوا) منها. (وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) فيها ، والأنعام جمع نعم : وهي الإبل والبقر والغنم. والأمر للإباحة وتذكير النعمة. (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور هنا. (لَآياتٍ) لدلالات. (لِأُولِي النُّهى) أصحاب العقول ، جمع نهية ، كغرفة وغرف ، سمي به العقل ؛ لأنه ينهى صاحبه عن ارتكاب القبائح.

(مِنْها خَلَقْناكُمْ) من الأرض ، فإن التراب أصل خلقة أول آبائكم وأول مواد أبدانكم. (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) بالموت ، وتفكيك الأجزاء. (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ) عند البعث. (تارَةً أُخْرى) مرة أخرى ، كما أخرجناكم عند ابتداء خلقكم.

المناسبة :

بعد مبادرة موسى وهارون بالذهاب إلى فرعون امتثالا لأمر الله ، ووصولهما إلى قصر فرعون ، والإذن لهما بالدخول بعد انتظار طويل ، وصف الله تعالى الحوار الذي دار بينه وبينهما ، فسألهما سؤال إنكار للرب تكبرا وتجبرا ، بعد أن أثبت نفسه ربا في قوله : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ). فاستدل موسى على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات.

التفسير والبيان :

(قالَ : فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) أي إذا كنتما رسولي ربكما إلي ، فأخبراني : من ربكما الذي أرسلكما؟ ويلاحظ أنه أضاف الرب إليهما ، ولم يضفه إلى نفسه

٢٢٢

لعدم تصديقه لهما ، ولجحده للربوبية الحقة ، ثم إنه خص موسى بالنداء بعد خطابهما مراعاة لرؤوس الآي ، ولما ظهر له أنه الأصل المتبوع ، وهارون وزيره وأخوه وأراد أن يقول : من هذا الرب الذي بعثك يا موسى وأرسلك؟ فإني لا أعرفه ، وما علمت لكم من إله غيري.

فأجابه موسى :

(قالَ : رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) أي قال موسى : ربنا هو الذي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يليق به ، ويطابق المنفعة المنوطة به ، كاليد للبطش ، والرجل للمشي ، واللسان للنطق ، والعين للنظر ، والأذن للسمع.

ثم أرشدهم إلى طرق الانتفاع بما أعطاهم ، فانتفعوا بكل شيء فيما خلق له ، إما اختيارا كالإنسان والحيوان ، وإما طبعا كالنبات والجماد ، كقوله تعالى : (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) [الأعلى ٨٧ / ٣] أي قدر قدرا ، وهدى الخلائق إليه ، أي كتب الأعمال والآجال والأرزاق ، ثم مشى الخلائق على ذلك ، لا يحيدون عنه ، ولا يقدر أحد على الخروج منه. والآية لإثبات الصانع بأحوال المخلوقات.

(قالَ : فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) بعد أن أخبر موسى فرعون بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق ، وقدر فهدى ، شرع يحتج بالقرون الأولى ، قائلا : إذا كان الأمر كذلك ، فما حال وما شأن الأمم الماضية ، لم يعبدوا ربك ، بل عبدوا غيره من الأوثان وغيرها من المخلوقات؟ فأجاب موسى :

(قالَ : عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ ، لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) قال موسى : إن كل أعمالهم محفوظة عند الله ، مثبتة عنده في اللوح المحفوظ ، يجازي بها ، لا يخطئ في علم شيء من الأشياء ، ولا ينسى ما علمه منها ، فعلم الله محيط بكل

٢٢٣

شيء. أما علم المخلوق فيعتريه الأمران : عدم الإحاطة بالشيء ، ونسيانه بعد علمه ، والله منزه عن ذلك.

وقصد فرعون بالسؤال عن الأمم الماضية أن يصرف موسى عن البراهين القوية ، فيتبين للناس صدقه ، ويشغله بالتواريخ والحكايات ، لكن موسى تنبه لهذا ، فأجاب عن إثبات الإله بأوجز عبارة وأحسن معنى ، وفوض أمر الماضي إلى علام الغيوب.

وبعد أن ذكر موسى الدليل الأول العام الذي يتناول جميع المخلوقات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النبات والجمادات ، ذكر بعدئذ أدلة خاصة وهي ثلاثة :

أولها ـ قوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) أي ربي الذي جعل الأرض ممهدة كالفراش ، تعيشون فيها بيسر وسهولة ، وقرارا تستقرون عليها وتقومون وتنامون عليها وتسافرون على ظهرها.

ثانيها ـ (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي جعل لكم فيها طرقا تسلكونها وسهلها لكم ، كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً ، لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) [الأنبياء ٢١ / ٣١] ، وقال سبحانه : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً ، وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الزخرف ٤٣ / ١٠] ، وقال عزوجل : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً ، لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) [نوح ٧١ / ١٩ ـ ٢٠].

ثالثها ـ (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ، فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) أي وأنزل من السحاب مطرا ، أخرجنا به أنواعا من أصناف النبات المختلفة ، من زروع وثمار حامضة وحلوة ومرة ، وذات ألوان وروائح وأشكال مختلفة ، بعضها صالح للإنسان ، وبعضها للحيوان ، لذا قال :

٢٢٤

(كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) أي خلقنا أصناف النبات ، بعضه للإنسان ، وبعضه لطعام الحيوان ، فكلوا وتفكهوا مما يناسبكم ، وارعوا أنعامكم (الإبل والبقر والغنم) في الأخضر واليابس ، إن فيما ذكرت لكم لدلالات وحججا وبراهين لذوي العقول السليمة المستقيمة ، على أن الخالق لا إله إلا هو ، ولا رب سواه.

وبعد أن ذكر الله تعالى منافع الأرض والسماء ، بين أنها غير مطلوبة لذاتها ، بل هي وسائل إلى منافع الآخرة ، فقال :

(مِنْها خَلَقْناكُمْ ، وَفِيها نُعِيدُكُمْ ، وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) أي من الأرض مبدؤكم ، فإن أباكم آدم مخلوق من تراب ، والنطفة المتولدة من الغذاء مرجعها إلى الأرض ، لأن الغذاء الحيواني من النبات ، والنبات من امتزاج الماء والتراب.

وإلى الأرض مصيركم بعد موتكم ، فتدفنون فيها ، وتتفرق أجزاؤكم حتى تصير من جنس الأرض ترابا.

وسوف نخرجكم من قبوركم في الأرض مرة أخرى بالبعث والنشور ، والمعنى : من الأرض أخرجناكم ، ونخرجكم بعد الموت من الأرض تارة أخرى. والغرض من الآية هنا تنزيه الرب نفسه وتذكير فرعون بأصله وأنه من تراب عائد إليه ، فلا يغتر بدنياه وملكه ، وليعلم أن أمامه يوما شديد الأهوال ، يسأل فيه عن كل شيء ، ويحاسب على أعماله.

ونظير هذه الآية قوله تعالى : (فِيها تَحْيَوْنَ ، وَفِيها تَمُوتُونَ ، وَمِنْها تُخْرَجُونَ) [الأعراف ٧ / ٢٥] ، وقوله سبحانه : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ ، فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ، وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء ١٧ / ٥٢].

٢٢٥

وجاء في الحديث المروي عند أصحاب السنن : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حضر جنازة ، فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب ، فألقاها في القبر ، وقال : منها خلقناكم ، ثم أخذ أخرى وقال : وفيها نعيدكم؟ ثم أخرى وقال : ومنها نخرجكم تارة أخرى.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ لم يؤمن فرعون بدعوة موسى وهارون ، وظل على كفره ، وتساءل تكبرا وتجبرا وزورا وبهتانا ، مع كونه عارفا بالله تعالى ، وقال : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى)؟

٢ ـ تدل الآية المذكورة على أنه يجوز حكاية كلام المبطل ؛ لأنه تعالى حكى كلام فرعون في إنكاره الإله ، وحكى شبهات منكري النبوة ، وشبهات منكري الحشر ، لكن يجب قرن الجواب بالسؤال ، لئلا يبقى الشك.

٣ ـ وتدل الآية أيضا على أن المحق يجب عليه استماع كلام المبطل ، والجواب عنه من غير إيذاء ولا إيحاش ، كما فعل موسى بفرعون هنا ، وكما أمر الله تعالى رسوله في قوله : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [النحل ١٦ / ١٢٥] ، وقال سبحانه : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ ، فَأَجِرْهُ ، حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة ٩ / ٦].

٤ ـ كان جواب موسى لفرعون : إن الله تعالى يعرف بصفاته ، فهو خالق العالم ، وهو الذي خص كل مخلوق بهيئة وصورة معينة. قال مجاهد : أعطى كل شيء صورة ؛ لم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم ، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان ، ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرا. وقال الشاعر :

وله في كل شيء خلقة

وكذاك الله ما شاء فعل

٢٢٦

أراد بالخلقة : الصورة.

٥ ـ الله هو المختص بعلم الغيب في الماضي والحاضر والمستقبل ، فلما سأل فرعون عن حال وشأن الأمم الغابرة ، أجابه موسى وأعلمه أن علمها عند الله تعالى ، أي إن هذا من علم الغيب الذي سألت عنه ، وهو مما استأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو ، وما أنا إلا عبد مثلك ؛ لا أعلم منه إلا ما أخبرني به علام الغيوب ، وعلم أحوال القرون مكتوبة عند الله تعالى في اللوح المحفوظ.

٦ ـ هذه الآية : (قالَ : عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ ..) ونظائرها تدل على تدوين العلوم وكتبها لئلا تنسى ، فإن الحفظ قد تعتريه الآفات من الغلط والنسيان. وقد لا يحفظ الإنسان ما يسمع ، فيقيده لئلا يذهب عنه. جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه ، فهو موضوع عنده : إن رحمتي تغلب غضبي». وفي صحيح مسلم أيضا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بكتب الخطبة التي خطب بها في الحج لأبي شاه ـ رجل من اليمن ـ لما سأله كتبها. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «قيدوا العلم بالكتابة». وأسند الخطيب عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لرجل من الأنصار لا يحفظ الحديث : «استعن بيمينك».

وأما النهي عن كتابة الأحاديث ، فكان ذلك متقدما ، فهو منسوخ بأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكتابة ، وإباحتها لأبي شاه وغيره.

قال أبو بكر الخطيب : ينبغي أن يكتب الحديث بالسواد ، ثم الحبر خاصة ، دون المداد (١) ؛ لأن السواد أصبغ الألوان ، والحبر أبقاها على مر الدهور ، وهو آلة ذوي العلم ، وعدة أهل المعرفة.

__________________

(١) الحبر والمداد في اللغة سواء. ولعل المراد به المداد الذي لا لون له أو لونه باهت.

٢٢٧

٧ ـ دل قوله تعالى : (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) على أن الله عالم بكل المعلومات ، وهو اللفظ الأول ، وعلى بقاء ذلك العلم أبد الآباد ، وهو إشارة إلى نفي التغير ، وهو اللفظ الثاني.

٨ ـ من نعم الله تعالى أن جعل الأرض رغم كرويتها الكلية ممهدة كالفراش ، وقرارا للاستقرار عليها ، لتصلح للعيش عليها.

٩ ـ ظاهر آية (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ..) يدل على أنه سبحانه إنما يخرج النبات من الأرض بواسطة إنزال الماء ، فيكون للماء فيه أثر ، وهذا التأثير على تقدير أن الله تعالى هو الذي أعطى الماء هذه الخواص والطبائع ، فيكون الماء المنزل سبب خروج النبات في الظاهر.

١٠ ـ إن إخراج أصناف من النبات المختلفة الأنواع والألوان من الأرض دليل واضح على قدرة الله تعالى ووجود الصانع. وإن جعل بعض النبات صالحا للإنسان وآخر للحيوان : (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) من أجل النعم على الإنسان ، ومما يقتضي التأمل والتفكير عند ذوي العقول الصحيحة.

١١ ـ ما أعظم خيرات الأرض ، وما أحوج الناس إليها! فالله خلقنا منها ، ويعيدنا إليها بعد الموت ، ويخرجنا منها للبعث والحساب. أما كيفية الإخراج من الأرض فهو أن الله تعالى خلق أصلنا وهو آدم عليه‌السلام من التراب ، فكنا تبعا له ، وأما استمرار الخلق فهو أن تولد الإنسان من النطفة ودم الطمث ، وهما يتولدان من الأغذية ، والغذاء إما حيواني أو نباتي ، والحيواني ينتهي إلى النبات ، والنبات إنما يحدث من امتزاج الماء والتراب.

٢٢٨

ـ ٧ ـ

اتهام موسى بالسحر

(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩))

الإعراب :

(مَكاناً سُوىً مَكاناً) بدل منصوب من (مَوْعِداً) ولا يجوز نصبه بقوله (مَوْعِداً) ؛ لأن (مَوْعِداً) قد وصف بقوله : (لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ) والمصدر إذا وصف لا يعمل ويجوز أن يجعل (مَكاناً) منصوبا بنزع الخافض : في.

سوى : يقرأ بكسر السين وبضمها ، فمن قرأ بالكسر ، فلأن «فعل» لم يأت في الوصف إلا نادرا نحو : قوم عدى ، ولحم زيم. والضم أكثر ؛ لأن «فعل» في الوصف كثير ، نحو : لكع وحطم.

(مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ .. يَوْمُ) : خبر (مَوْعِدُكُمْ) على تقدير حذف مضاف ، أي موعدكم وقت يوم الزينة ، ولا يجوز أن يكون (يَوْمُ) ظرفا ؛ لأن العرب لم تستعمله مع الظرف استعمال سائر المصادر ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) [هود ١١ / ٨١] بالرفع إذ يراد به هنا المصدر ، ولو قلت : إن خروجكم الصبح ، لم يجز فيه إلا النصب ، أي وقت الصبح.

وموعد مصدر بمعنى الوعد في الأظهر.

والموعد : يكون مصدرا وزمانا ومكانا بلفظ واحد ، (وَأَنْ يُحْشَرَ) معطوف بالرفع على (يَوْمُ الزِّينَةِ) أي موعدكم وقت يوم الزينة ، وموعدكم وقت حشر الناس ، فحذف المضاف أيضا.

البلاغة :

(سُوىً ضُحًى ...) سجع حسن.

٢٢٩

المفردات اللغوية :

(أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها) بصرنا فرعون آيات معهودة هي الآيات التسع المختصة بموسى. (فَكَذَّبَ) بها وزعم أنها سحر. (وَأَبى) امتنع أن يوحد الله تعالى أو أبي الإيمان والطاعة ، لعتوه. (لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا) مصر ، ليصبح لك الملك فيها. بسحر مثله يعارضه. (مَوْعِداً) ميعادا معينا لذلك. (لا نُخْلِفُهُ) لا نخلف ذلك الوقت في الاجتماع فيه ، إذا جعل (موعد) هنا هو الزمان ، وإذا جعل مصدرا أي لا نخلف ذلك الموعد. (سُوىً) أي وسطا ، تستوي إليه مسافة الجائي من الطرفين.

(قالَ) موسى. (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) يوم عيد كان لهم ، يتزينون فيه ويجتمعون ، ويوم : بضم الميم ، وقرأ الحسن بالنصب ، فمن رفع فعلى أنه خبر المبتدأ ، والمعنى : وقت موعدكم يوم الزينة ، ومن نصب فعلى الظرف ، معناه : موعدكم يقع يوم الزينة. والسؤال وقع عن مكان الموعد ، وطابقه من حيث المعنى ذكر الزمان ، وإن لم يطابق لفظا ؛ لأنهم لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان معين مشهود باجتماع الناس في ذلك اليوم ، فبذكر الزمان علم المكان.

(وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ) يجمعون. (ضُحًى) وقت ارتفاع شمس النهار.

المناسبة :

بعد سؤال فرعون عن رب موسى ، ذكر الله تعالى أنه بصره بالآيات الدالة على توحيد الله ، مثل (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) وقوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) والدالة على نبوة موسى مثل العصا واليد البيضاء ، فكذب بكل هذا ، واتهم موسى بالسحر ، وطلب المبارزة مع السحرة ، وتحديد مكان اللقاء وموعد الاجتماع.

التفسير والبيان :

(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى) أي وتالله لقد بصرنا فرعون وعرفناه آياتنا الدالة على قدرتنا وتوحيدنا وعلى نبوة موسى ، كالآيات التسع (١).

__________________

(١) وهي العصا ، واليد ، وفلق البحر ، والحجر ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، ونتق الحل.

٢٣٠

وغيرها من الحجج والبراهين ، فعاين ذلك وأبصره ، ولكنه كذب بها ، وأبى الاستجابة للإيمان والحق ، كفرا وعنادا وبغيا ، كما قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل ٢٧ / ١٤] وقال سبحانه : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ ، وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) [الإسراء ١٧ / ١٠٢].

ثم ذكر الله تعالى شبهة فرعون وصفة تكذيبه ، فقال :

(قالَ : أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى) أي قال فرعون لموسى مستنكرا معجزة العصا واليد : هل جئت يا موسى من أرض مدين لتخرجنا من أرضنا مصر بما أظهرته من السحر ، وهو قلب العصا حية؟ توهم الناس بأنك نبي يجب عليهم اتباعك ، حتى تتوصل بذلك إلى أن تغلب على أرضنا وتخرجنا منها. وإنما ذكر فرعون الإخراج من الأرض لتنفير قومه عن إجابة موسى ، وحملهم على السخط على موسى والغضب منه ، والعمل على طرده وإخراجه من مصر.

(فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ) أي لنعارضنك بمثل ما جئت به من السحر ، فإن عندنا سحرا مثل سحرك ، فلا يغرنك ما أنت فيه.

(فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً) أي حدد لنا يوما معلوما ومكانا معلوما ، نجتمع فيه نحن وأنت ، فنعارض ما جئت به بما عندنا من السحر ، لا نخلف ذلك الوعد من قبل كل منا. وقد فوض فرعون تعيين الموعد إلى موسى إظهارا لكمال اقتداره.

وليكن المكان مكانا مستويا ظاهرا لا ارتفاع فيه ولا انخفاض ، ليظهر فيه الحق ، أو مكانا وسطا بين الفريقين ، حتى لا يكون عذر في التخلف.

(قالَ : مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ ، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) أي قال موسى

٢٣١

عليه‌السلام : موعد الاجتماع يوم العيد (عيد النيروز) الذي يتزين فيه الناس ، وفي وقت الضحى ، ليكون الاجتماع عاما في يوم يفرغ فيه الناس من أعمالهم ، ويجتمعون جميعا ، ويتحدثون بنتيجة المبارزة ، فتظهر الدعوة ، وتعلو كلمة الحق ، ويزهق الباطل ، وليكون الضوء غالبا ، وفي نشاط أول النهار ، فلا يشكوا في المعجزة ، ويشاهدوا قدرة الله على ما يشاء ، ومعجزات الأنبياء ، وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية.

واختيار هذا الوعد دليل على الثقة بالنصر ، وسبيل لإيضاح الحجة.

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ لم يبق عذر لفرعون في كفره ، بعد إرسال موسى وهارون رسولين إليه ، وتأييدهما بالمعجزات الدالة على نبوة موسى ، وإبدائهما البراهين والدلائل والحجج على وحدانية الله وقدرته ، وهذا يدل على أنه كفر عنادا ؛ لأنه رأى الآيات عيانا لا خبرا ، واقتنع بها في أعماق نفسه ، كما قال سبحانه : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل ٢٧ / ١٤].

٢ ـ حاول فرعون تأليب قومه وتحريضهم على معاداة موسى وطرده ، باتهامه بأنه بحسب عقلية الحاكم يريد إخراج الناس من مصر ، والاستيلاء على السلطة.

٣ ـ وحاول أيضا إبطال المعجزات النبوية بالسحر ، ظنا منه أن ما جاء به موسى من الآيات سحر يوهم الناس به لاتباعه والإيمان به ، فإذا عورض السحر بمثله ، تبين للناس أن ما أتى به موسى ليس من عند الله.

٤ ـ طلب فرعون من موسى تعيين يوم معلوم ومكان معروف لا يخلف فيه أحد الطرفين الوعد ، إيهاما للناس بمدى الثقة به ، وبكمال اقتداره ، وإنهاء دعاوى موسى في يوم مشهود للجميع.

٢٣٢

وكان اقتراحه أن يكون المكان مكانا سوى أي مكانا مستويا متوسطا بين الطرفين ، حتى لا يكون عذر في التخلف.

٥ ـ اختار موسى يوم العيد (يوم الزينة) لتعلو كلمة الله ، ويظهر دينه ، ويكبت الكفر ، ويزهق الباطل ، أمام الناس قاطبة في المجمع العام ، ليشيع الخبر ، ويتناقل جميع أهل المدن والقرى والحضر والأعراب قصة الأمر العجيب ، ونبأ المعجزة الكبرى. ثم عين موسى عليه‌السلام من اليوم وقتا معينا بقوله : (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) أي في ضحوة الناس بعد طلوع الشمس ، حيث تكون الرؤية واضحة ، والنفوس مستعدة نشيطة ، ولأنه أول النهار ، فلو امتد الأمر فيما بينهم كان في النهار متسع. وكان ذلك بالصدفة مناسبا للسحرة ، لتسخين الحبال والأدوات المعبأة بالزئبق.

ـ ٨ ـ

جمع فرعون السحرة وتحذير موسى لهم

(فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤))

الإعراب :

(إِنْ هذانِ لَساحِرانِ إِنْ) إما مخففة من الثقيلة لم تعمل ، وإما بمعنى «ما» واللام بمعنى «إلا» أي ما هذان إلا ساحران. وهذان الوجهان على مذهب الكوفيين. ومن قرأ بالتشديد

٢٣٣

(إِنْ) أتى به على لغة بني الحارث بن كعب ، فإنهم يقولون : مررت برجلان ، وقبض منه درهمان ، وهي لغة من يأتي في المثنى بالألف في أحواله الثلاث.

وقيل : إن بمعنى «نعم» أي نعم هذان لساحران ، لكن فيه ضعف ، لدخول اللام في الخبر ، وهو قليل في كلامهم. وقرئ «إن هذين لساحران».

(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) قرئ : أجمعوا بقطع الهمزة ووصلها ، ففي قراءة القطع نصب (كَيْدَكُمْ) ب (فَأَجْمِعُوا) على تقدير حذف حرف الجر ، أي فأجمعوا على كيدكم. فحذف حرف الجر ، فاتصل الفعل به فنصبه ، يقال : أجمع على كذا : إذا عزم عليه ، فحذف الجار من الآية ، كما في آية : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) [البقرة ٢ / ٢٣٥] أي على عقدة النكاح.

وعلى قراءة فاجمعوا بوصلها ، لم يفتقر إلى تقدير حذف حرف الجر ؛ لأنه يتعدى بنفسه.

(ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) مصدر في موضع الحال ، أي ائتوا مصطفين ، أو مفعول به ، أي ائتوا إلى صف ، والأول أوجه.

المفردات اللغوية :

(فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ) أدبر وانصرف عن المجلس. (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) أي جمع ذوي كيده من السحرة ، والكيد : ما يكاد به من السحرة وأدواتهم. (ثُمَّ أَتى) أي أتى بالموعد بهم. (قالَ لَهُمْ مُوسى) وهم اثنان وسبعون مع كل واحد حبل وعصا. (وَيْلَكُمْ) أي هلاك لكم. (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) بأن تدعوا آياته سحرا ، وتشركوا أحدا مع الله. والافتراء : الاختلاق والكذب. (فَيُسْحِتَكُمْ) يهلككم. (بِعَذابٍ) شديد من عنده. (وَقَدْ خابَ) خسر. (مَنِ افْتَرى) كذب على الله ، كما خاب فرعون ، فإنه افترى واحتال ليبقى الملك معه ، فلم ينفعه.

(فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) فتفاوض السحرة وتشاوروا في أمر موسى ، حين سمعوا كلامه. (وَأَسَرُّوا النَّجْوى) بالغوا في إخفاء الكلام بينهم. (قالُوا) لأنفسهم. (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) المثلى : مؤنث أمثل بمعنى أشرف ، أي يذهبا بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب ، بإظهار مذهبه وإعلاء دينه ، لقوله تعالى حكاية لقول فرعون : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) [غافر ٤٠ / ٢٦].

(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) بهمزة القطع من أجمع أي أحكموا كيدكم الذي يكاد به ، وبهمزة الوصل من جمع ، أي لم (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) أي مصطفين ؛ لأنه أهيب في صدور الرائين. (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) فاز اليوم من غلب.

٢٣٤

المناسبة :

بعد اتفاق موسى وفرعون على موعد المبارزة وهو يوم عيد لهم ، ذكر الله تعالى ما قام به فرعون من تدبير أمره بجمع السحرة وآلاتهم ، ثم ذكر ما حذرهم به موسى من عذاب شديد إن أقدموا على إبطال آيات الله ، فأوقع الخلاف بينهم ، وعقدوا المشاورات في خطتهم ، فاتفقوا على وحدة الصف أمام موسى وهارون اللذين يريدان الغلبة والتفوق على دينهم الذي هو في زعمهم أفضل الأديان.

التفسير والبيان :

(فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ ، فَجَمَعَ كَيْدَهُ ، ثُمَّ أَتى) أي انصرف فرعون وشرع في جمع السحرة من مدائن مملكته ، فجمع ما يكيد به من سحره وحيله وآلاته وأنصاره ، وقد كان السحر شائعا عندهم ، ثم أقبل في الموعد المعين ، وجلس في مكان خاص به مع كبار أعوانه ، كجناح العروض العسكرية المخصص اليوم لرئيس الدولة ، وجاء موسى مع أخيه هارون ، وجاءت السحرة ووقفوا صفوفا ، وبدأ فرعون يحرضهم ويستحثهم ويعدهم ، فتجرءوا أن يطلبوا منه الأجر ، كما قال تعالى: (قالُوا لِفِرْعَوْنَ : أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ ، قالَ : نَعَمْ ، وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٤٢] وعدهم فرعون بالجزاء المادي والأدبي ليتفانوا في إجادة عملهم ، ويتغلبوا على موسى عليه‌السلام.

وشرع موسى في الإعلان عن رسالته ، فقال :

(قالَ لَهُمْ مُوسى : وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً ، فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) أي قال موسى لفرعون والسحرة : الهلاك والعذاب لكم إن اختلقتم على الله كذبا وزورا ، بأن تزعموا أن الذي جئت به ليس بحق ، وأنه سحر ، فيستأصلكم الله بعذاب شديد من عنده ، وقد خسر وهلك من افترى على الله أي كذب كان.

٢٣٥

فأعرضوا عن قوله :

(فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى) أي لما سمع السحرة كلام موسى تناظروا وتشاوروا وتفاوضوا فيما بينهم في ذلك ، وتناجوا فيما بينهم سرا عن موسى وأخيه ، وقرروا ما يأتي:

(قالُوا : إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما ، وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) أي قالت السحرة : إن موسى وهرون لساحران يريدان إخراجكم أيها المصريون من أرضكم مصر بصناعة السحر ، كما يريدان التغلب للاستيلاء على جميع المناصب ، ولتكون لهما الرياسة في كل شيء ، ومآل ذلك أن تنقضي سنتكم في الحياة ، ويعصف بمنهجكم في العيش الحر العزيز الكريم ، وتسلب خيراتكم ، ويزول مذهبكم الأمثل الحسن.

قالوا ذلك متأثرين بما قاله فرعون ، ومرددين ما يشيعه ، مستخدمين أساليب ثلاثة للتنفير منهما ، وهي تكذيب نبوتهما ووصفهما بالسحرة ، والكشف عن نواياهما البعيدة بطرد السكان الأصليين من أرضهم مصر ، والاستيلاء على جميع المناصب والرياسات.

فيجب علينا الوقوف صفا واحدا أمام هذا الخطر ، فقالوا :

(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ، ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا ، وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) أي فاعزموا على تقديم جميع خبراتكم ومهاراتكم ، ولا تتركوا أقصى ما تستطيعون عليه من الكيد والحيلة ، وقفوا صفا واحدا ، وألقوا ما لديكم دفعة واحدة ، لتبهروا الأبصار ، وتعظم هيبتكم ، وتغلبوا هذين الرجلين ، فإنه قد فاز اليوم بالمطلوب من غلب منا ومنهما.

وهذا كله من قول السحرة بعضهم لبعض ، بقصد التحريض وشد العزائم ، لبذل أقصى الجهود للفوز بالمطلوب.

٢٣٦

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ بدأت استعدادات فرعون في جمع السحرة ، وإعداد الحيل كما هي عادة التهيؤ للمبارزة ، قال ابن عباس : كانوا اثنين وسبعين ساحرا ، مع كل ساحر منهم حبال وعصي.

٢ ـ لما أتى فرعون وسحرته في الموعد المعين قال موسى لفرعون والسحرة : الهلاك والعذاب لمن اختلق الكذب على الله ، وأشرك به ، ووصف المعجزات بأنها سحر ، فيستأصلكم الله بعذاب شديد من عنده ، وقد خسر وهلك ، وخاب من الرحمة والثواب من ادعى على الله ما لم يأذن به. وهذا شعار الأنبياء ، وهو الصدق في الدعوة ، وانتهاز الفرص المناسبة لإعلان دعوتهم.

٣ ـ تشاور السحرة سرا فيما بينهم ، وقالوا : إن كان ما جاء به سحرا ، فسنغلبه ، وإن كان من عند الله فسيكون له أمر. وهذا حق وصدق لا شيء فيه.

٤ ـ ثم أعلنوا قرارهم بأن موسى وأخاه هارون ساحران عظيمان ، يريدان إخراج الناس من مصر بسحرهما ، وإفساد دينهم ، وإزالة مذهبهم الحسن ، كما قال فرعون عن موسى : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ، أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) [غافر ٤٠ / ٢٦]. وهذا كله من دعاية فرعون وتحريضه.

٥ ـ ثم حرضوا بعضهم قائلين : اعزموا وجدوا في تجميع أنواع الكيد والحيلة ، وأقصى فنون السحر ، وأحكموا أمركم ، وقفوا صفا واحدا ، ليكون أشد لهيبتكم ، وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة ، لتبهروا الأبصار ، وتغلبوا موسى وأخاه ، وقد فاز اليوم من غلب. وهذا شأن كل من الفريقين المتبارزين ، يحرص كل منهما على الفوز والانتصار ، ويتأثران بالتأييد الشعبي وبحماس المتفرجين واللاعبين أنفسهم ، كما هو معروف.

٢٣٧

ـ ٩ ـ

المبارزة بين موسى والسحرة وإعلان إيمانهم بالله تعالى

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦))

٢٣٨

الإعراب :

(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى مُوسى) فاعل أوجس ، وهاء (نَفْسِهِ) تعود إلى موسى ؛ لأنه في تقدير التقديم ، و (نَفْسِهِ) في تقدير التأخير. و (خِيفَةً) مفعول أوجس. وأصل خيفة «خوفة» لأنها من الخوف ، فانقلبت الواو ياء لسكونها ، وانكسار ما قبلها.

(تَلْقَفْ) التاء إما لتأنيث (ما) وهي العصا ، حملا على المعنى ، كأنه قال : ألق العصا تلقف ما صنعوا ، وإما أن تكون التاء للمخاطب ، أي تلقف أنت. وهو مجزوم بجواب الأمر ، بتقدير حذف حرف الشرط. ومن قرأ بالرفع ، كان حالا من (ما) أو من ضمير (فِي يَمِينِكَ). وما في قوله (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) إما اسم موصول بمعنى الذي اسم إن ، والعائد محذوف ، أي إن الذي صنعوه ، و (كَيْدُ) خبر إن ، وإما أن تكون (ما) كافة ، و (كَيْدُ) عند من قرأ بالنصب منصوب ب (صَنَعُوا). ومن قرأ كيد سحر أي كيد ذي سحر ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

«من خلاف» حال.

(وَالَّذِي فَطَرَنا) : إما مجرور بالعطف على (ما جاءَنا) أي «على الذي جاءنا وعلى الذي فطرنا» وإما مجرور بالقسم ، وجوابه محذوف ، لدلالة ما تقدم عليه.

وما في (إِنَّما تَقْضِي) إما بمعنى الذي في موضع نصب اسم «إن» والعائد محذوف ، أي : إن الذي تقضيه. وهذه : خبر «إن». وإما أن تكون «ما» كافة ، وهذه : في موضع نصب على الظرف ، أي إنما تقضي في هذه الحياة الدنيا. والحياة الدنيا صفة (هذِهِ) في كلا الوجهين.

(وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ما) إما في موضع نصب بالعطف على (خَطايانا) وإما مبتدأ مرفوع ، وخبره محذوف ، تقديره : ما أكرهتنا عليه مغفور لنا. و (مِنَ السِّحْرِ) متعلق ب (أَكْرَهْتَنا).

(فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى جَنَّاتُ .. الدَّرَجاتُ) مرفوع بالظرف ؛ لأنه جرى خبرا عن المبتدأ ، وهو أولئك ، و (جَنَّاتُ) بدل مرفوع من (الدَّرَجاتُ) أي أولئك لهم جنات عدن. و (خالِدِينَ) حال من الهاء والميم في (لَهُمُ) والعامل فيه : اللام ، أي الاستقرار ، أو معنى الإشارة.

البلاغة :

(بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ) فيه إيجاز بالحذف ، أي فألقوا فإذا حبالهم. (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) ثم قال : (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) فيه إيجاز بالحذف ، وهو : فألقى موسى عصاه ، فتلقفت ما صنعوا من السحر ، فألقي السحرة سجدا. وحسن الحذف في الموضعين لدلالة المعنى عليه.

٢٣٩

(يَمُوتُ) و (يَحْيى) بينهما طباق.

(إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) و (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ) بينهما مقابلة : وهي أن يؤتى بمعينين أو أكثر ، ثم يؤتى بما يقابل ذلك.

(إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) فيه مؤكدات هي : إن ، وأنت ، وتعريف الخبر : (الْأَعْلى) ولفظ العلو الدال على الغلبة ، وصيغة التفضيل (الْأَعْلى).

المفردات اللغوية :

(إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) قال السحرة ذلك مراعاة للأدب ، وخيروه بين أن يلقي عصاه أو يلقوا عصيهم. وأن وما بعده : منصوب بفعل مضمر ، أو مرفوعبخبر محذوف ، أي اختر إلقاءك أولا أو إلقاؤنا ، أو الأمر إلقاؤك ، أو إلقاؤنا. (قالَ : بَلْ أَلْقُوا) مقابلة أدب بأدب ، وعدم مبالاة بسحرهم ، وليستنفدوا أقصى وسعهم ، ثم يظهر الله سلطانه ، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه.

(فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ ..) أي فألقوا ، وكلمة (فَإِذا) التحقيق أنها ظرفية متعلقة بفعل المفاجأة ، والجملة ابتدائية ، والمعنى : فألقوا ففاجأ موسى وقت تخيل سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم ، وذلك بأنهم لطخوها بالزئبق ، فلما ضربت عليها الشمس ، اضطربت ، فخيل إليه أنها تتحرك. و (أَنَّها تَسْعى) بدل اشتمال ، أي أنها حيات تسعى على بطونها.

(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً) أحس بشيء من الخوف ، من جهة أن سحرهم من جنس معجزته ، أن يلتبس أمره على الناس ، فلا يؤمنوا به.

(قُلْنا : لا تَخَفْ ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) قلنا له : لا تخف ما توهمت فإنك أنت الأعلى عليهم بالغلبة ، وهذا الأخير تعليل للنهي وتقرير لغلبته ، مؤكدا بالاستئناف وحرف التحقيق : «إن» وتكرير الضمير وتعريف الخبر ولفظ العلو الدال على الغلبة الظاهرة وصيغة التفضيل.

(وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) وهي العصا ، ولم يقل : عصاك ، تحقيرا لها ، أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم ، أو تعظيما لها ، أي لا تحتفل بكثرة هذه الأشياء وعظمها ، فإن في يمينك ما هو أعظم منها أثرا ، فألقه. (تَلْقَفْ) تبتلع بقوة وسرعة وبقدرة الله تعالى ، والخطاب على إسناد الفعل إلى السبب (إِنَّما صَنَعُوا) إن الذي زوروا وافتعلوا (كَيْدُ ساحِرٍ) أي كيد سحري لا حقيقة له ، أي ذي سحر ، أو إضافة قصد بها البيان مثل : علم فقه. وإنما وحد الساحر ؛ لأن المراد به الجنس المطلق. (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ) أي هذا الجنس. (حَيْثُ أَتى) بسحره ، أي أينما كان ، وأينما أقبل.

٢٤٠