التفسير المنير - ج ١٦

الدكتور وهبة الزحيلي

وأخرج أبو نعيم وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس قال : قال جندب بن زهير : إذا صلى الرجل ، أو صام ، أو تصدق ، فذكر بخير ارتاح له ، فزاد في ذلك لمقالة الناس له ، فنزلت في ذلك : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) الآية.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى ما أعد للكافرين ، ذكر ما أعد للمؤمنين ، ثم ختم السورة ببيان سعة علم الله واتساع معلوماته وأنها غير متناهية ، والاعلام ببشرية النبي ومماثلته لبقية الناس في ذلك ، وأن علمه مستمد من الوحي الإلهي ، والتنبيه على الوحدانية ، والحض على ما فيه النجاة في الآخرة. قال البيضاوي : والآية جامعة لخلاصة العلم والعمل ، وهما التوحيد والإخلاص في الطاعة ، بالبعد عن الرياء وهو الشرك الأصغر أو الخفي.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن أصداد صفات الكافرين الذين ذكروا قبل المؤمنين ، فيقول :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) أي إن السعداء هم الذين آمنوا بالله ورسوله ، وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به ، وعملوا صالح الأعمال من إقامة الفرائض والتطوعات ، ابتغاء رضوان الله ، لهم جنات الفردوس (وهي أعلى الجنة وأوسعها وأفضلها) منزلا معدّا لهم ، مبالغة في إكرامهم. والفردوس في كلام العرب : الشجر الملتف ، والأغلب عليه العنب ، وفي اللغة الرومية : البستان.

جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا سألتم الله الجنة ، فاسألوه الفردوس ، فإنه أعلى الجنة ، وأوسط الجنة ، ومنه تفجر أنهار الجنة».

٤١

(خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) أي مقيمين ساكنين فيها على الدوام ، لا يختارون عنها غيرها ، ولا يحبون سواها ، ولا يريدون تحولا عنها. أخرج أحمد والترمذي عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن في الجنة مائة درجة ، كل درجة منها ما بين السماء والأرض ، والفردوس أعلاها درجة ، ومن فوقها يكون العرش ، ومنه تفجر أنهار الجنة الأربعة ، فإذا سألتم الله ، فاسألوه الفردوس».

ثم يخبر الله تعالى عن عظمة شأن القرآن وسعة علم الله ، فيقول :

(قُلْ : لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي ، لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي ، وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) أي قل أيها الرسول لهم : لو كتبت كلمات علم الله وحكمته ، وكان ماء البحر حبرا للقلم الذي يكتب به ، والقلم يكتب ، لنفد البحر قبل أن يفرغ من كتابة ذلك ، ولو جيء بمثل البحر آخر وآخر وهكذا لنفد أيضا ، ولم تنفد كلمات الله. وهذا دليل على كثرة كلمات الله ، وسعة علم الله وحكمته وأسراره ، بحيث لا تضبطها الأقلام والكتب.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ، ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [لقمان ٣١ / ٢٧].

وقال الربيع بن أنس : إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها ، وقد أنزل الله ذلك : (قُلْ : لَوْ كانَ الْبَحْرُ ...) الآية ، يقول : لو كانت تلك البحور مدادا لكلمات الله ، والشجر كله أقلام ، لانكسرت الأقلام ، وفني ماء البحر ، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء ؛ لأن أحدا لا يستطيع أن يقدر قدره ، ولا يثني عليه كما ينبغي ، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه ، إن ربنا كما يقول ، وفوق ما نقول ، إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الآخرة كجنة من خردل في خلال الأرض كلها.

٤٢

وروي أن حييّ ين أخطب اليهودي قال : في كتابكم : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) ثم تقرؤون : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) أي أنه يعترض بوجود التناقض ، فنزلت هذه الآية ، يعني أن ذلك خير كثير ، ولكنه قطرة من بحر كلمات الله.

وبعد بيان كمال كلام الله ، أمر تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتواضع فقال :

(قُلْ : إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي قل يا محمد لهم : ما أنا إلا بشر مثلكم في البشرية ، ليس لي صفة الملكية أو الألوهية ، ولا علم لي إلا ما علمني الله ، إلا أن الله تعالى أوحى إلي أنه لا إله إلا الله الواحد الأحد الصمد ، فلا شريك له في ألوهيته ، فمعبودكم الذي يجب أن تعبدوه هو معبود واحد لا شريك له.

(فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً ، وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) أي فمن آمن بلقاء الله ، وطمع في ثواب الله على طاعته ، فليتقرب إليه بصالح الأعمال ، وليخلص له العبادة ، وليجتنب الشرك بعبادة الله ، أحدا من مخلوقاته ، سواء أكان شركا ظاهرا كعبادة الأوثان ، أم شركا خفيا كفعل شيء رياء أو سمعة وشهرة ، والرياء : هو الشرك الأصغر ، كما في حديث أخرجه الإمام أحمد عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ، قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال : الرياء ، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا ، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟».

وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يرويه عن ربه قال : «أنا خير الشركاء ، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري ، فأنا بريء منه ، وهو للذي أشرك».

٤٣

قال الرازي : أورد تعالى في آخر هذه السورة ما يدل على حصول رؤية الله في ثلاث آيات:

أولها ـ قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ).

وثانيها ـ قوله : (كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً).

وثالثها ـ قوله : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) ولا بيان أقوى من ذلك (١).

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ للمؤمنين بالله ورسله الذين يعملون صالح الأعمال جنات الفردوس التي هي أعلى الجنان ، وهم خالدون دائمون فيها ، لا يطلبون تحويلا عنها إلى غيرها.

٢ ـ لا يستطيع أحد على الإطلاق أن يحصر كلمات الله تعالى وعلمه وحكمته وأسراره ، ولو كانت البحار والمحيطات وأمثالها دون تحديد حبرا يكتب به. قال ابن عباس : قالت اليهود ، لما قال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) قالوا : وكيف ، وقد أوتينا التوراة ، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا؟ فنزلت : (قُلْ : لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً ..) الآية.

٣ ـ أمر الله رسوله بالتواضع ، وبإعلان صفة البشرية وأنه لا امتياز له على غيره بشيء من الصفات ، وأنه لا يعلم إلا ما علّمه الله تعالى ، وعلم الله لا يحصى ، إلا أن الله تعالى أمره بأن يبلّغ غيره بأن لا إله إلا الله.

٤ ـ دلت الآية : (قُلْ : إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) على مطلوبين :

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢١ / ١٧٧

٤٤

الأول ـ أن كلمة إنما تفيد الحصر ، وهي قوله : (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ).

والثاني ـ أن كون الإله تعالى إلها واحدا يمكن إثباته بالأدلة السمعية.

٥ ـ إن المؤمن بربه الذي يرجو رؤيته وثوابه ويخشى عقابه يجب عليه أن يعمل العمل الصالح المرضي لله ، وألا يشرك بالله أحدا في عبادته. قال ابن عباس : نزلت في جندب بن زهير العامري ، قال : يا رسول الله ، إني أعمل العمل لله تعالى ، وأريد به وجه الله تعالى ، إلا أنه إذا اطّلع عليه سرّني ؛ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله طيّب ، ولا يقبل إلا الطيّب ، ولا يقبل ما شورك فيه» فنزلت الآية. وفي رواية مسلم عن أبي هريرة : «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ..».

والآية عامة في جميع الأعمال من عبادة وجهاد وصدقة وغيرها ، وموضوعها إخلاص العمل لله عزوجل. سئل الحسن البصري عن الإخلاص والرياء فقال : من الإخلاص أن تحب أن تكتم حسناتك ، ولا تحب أن تكتم سيئاتك ، فإن أظهر الله عليك حسناتك تقول : هذا من فضلك وإحسانك ، وليس هذا من فعلي ولا من صنيعي ، وتذكّر قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً ، وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) ، وقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) [المؤمنون ٢٣ / ٦٠] ، يؤتون الإخلاص ، وهم يخافون ألا يقبل منهم. وأما الرياء فطلب حظ النفس من عملها في الدنيا ؛ قيل له : كيف يكون هذا؟ قال : من طلب بعمل بينه وبين الله تعالى سوى وجه الله والدار الآخرة ، فهو رياء.

٤٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة مريم

مكية ، وهي ثمان وتسعون آية.

تسميتها :

سميت «سورة مريم» لاشتمالها على قصة حمل السيدة مريم ، وولادتها عيسى عليه‌السلام ، من غير أب ، وأصداء ذلك الحمل ، وما تبعه ورافق ولادة عيسى من أحداث عجيبة ، من أهمها كلامه وهو طفل في المهد.

مناسبتها لما قبلها :

اشتملت السورتان على قصص عجيبة ، فسورة الكهف اشتملت على قصة أصحاب الكهف ، وطول لبثهم هذه المدة الطويلة ، بلا أكل ولا شرب ، وقصة موسى مع الخضر ، وما فيها من المثيرات ، وقصة ذي القرنين.

وسورة مريم فيها أعجوبتان : قصة ولادة يحيى بن زكريا عليه‌السلام حال كبر الوالد وعقم الوالدة أي بين شيخ فان وعجوز عاقر ، وقصة ولادة عيسى عليه‌السلام من غير أب.

ما اشتملت عليه السورة :

موضوع السورة كسائر السور المكية هو إثبات وجود الله ووحدانيته ، وإثبات البعث والجزاء من خلال إيراد قصص جماعة من الأنبياء ، على النحو التالي :

٤٦

١ ـ افتتحت السورة بقصة ولادة يحيى بن زكريا عليهما‌السلام ، من أب شيخ كبير وأم عاقر لا تلد ، ولكن بقدرة الله القادر على كل شيء ، خلافا للمعتاد ، وإجابة لدعاء الوالد الصالح ، وأعقبه الخبر بإيتاء يحيي النبوة في حال الصبا ، الآيات [١ ـ ١٥].

٢ ـ أردف ذلك قصة ولادة عيسى من مريم العذراء ، من غير أب ، لتكون دليلا آخر على القدرة الربانية. وقد أثار ذلك موجة من النقد واللوم والتعنيف ، خفف منها كلام عيسى وهو طفل في المهد ، تبرئة لأمه ، ووصف نفسه بصفات النبوة والكمال.

واقترن المخاض بحدثين غريبين : هما نداء عيسى أمه حين الولادة بألا تحزن ، فقد جعل الله عندها نهرا ، وأمرها بهز النخل أخذا بالأسباب لإسقاط الرطب ، الآيات [١٦ ـ ٣٦].

وأحدثت هذه الولادة اختلافا بين النصارى في شأن عيسى ، الآيات [٣٧ ـ ٤٠].

٣ ـ انتقلت الآيات بعدئذ إلى بيان جانب من قصة إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، ومناقشته أباه في عبادة الأصنام ، وإكرام الله له بهبته ـ وهو كبير ، وامرأته سارّة عاقر ـ ولدا هو إسحاق ومن بعده ابنه يعقوب وجعلهما نبيين ، كما حدث فعلا من ولادة إسماعيل قبل ذلك ، وإبراهيم شيخ كبير بعد دخوله على زوجته هاجر ، الآيات [٤١ ـ ٥٠].

٤ ـ ثم تحدثت السورة عن قصة موسى ومناجاته ربه في الطور ، وجعل أخيه هارون نبيا ، الآيات [٥١ ـ ٥٣].

٥ ـ ثم أشارت إلى قصص إسماعيل الموصوف بصدق الوعد وإقامة الصلاة

٤٧

وإيتاء الزكاة ، وإدريس الصدّيق النبي ، وما أنعم الله به على أولئك الأنبياء من ذرية آدم لإثبات وحدة الرسالة بدعوة الناس إلى التوحيد ونبذ الشرك الآيات [٥٤ ـ ٥٨]. وما سبق كله يشمل حوالي ثلثي السورة.

٦ ـ قورن الخلف بالسلف ، وبان الفرق بأن الخلف أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات ، وجدد الوعد بجنات عدن لمن تاب وعمل صالحا [٥٩ ـ ٦٣].

٧ ـ ناسب ذلك الكلام عن الوحي ، وأن جبريل لا ينزل بالوحي إلا بإذن ربه ، الآيات [٦٤ ـ ٦٥].

٨ ـ ناقش الله المشركين الذين أنكروا البعث ، وأخبر بحشر الكافرين مع الشياطين ، وإحضارهم جثيا حول جهنم ، وبأن جميع الخلق ترد على النار [٦٦ ـ ٧٢].

٩ ـ أبان الله تعالى موقف المشركين حين سماع القرآن من المؤمنين بأنهم خير منهم مجلسا ومجتمعا. وهددهم بأنه أهلك كثيرا من الأمم السابقة بسبب عتوهم واستكبارهم ، وأنه يمدّ للظالمين ويمهلهم ، ويزيد الهداية للمهتدين ، وأن معبودات المشركين ستكون أعداء لهم [٧٣ ـ ٨٤] وذلك كله لتنزيه الله عن الولد والشريك.

١٠ ـ التمييز بين حشر وفد المتقين إلى الجنان ، وسوق المجرمين إلى النيران [٨٥ ـ ٨٧].

١١ ـ التنديد بمن ادعى الولد لله ، والرضا عن المؤمنين الصالحين ، وأن القرآن لتبشير المتقين وإنذار الكافرين المعاندين [٨٨ ـ ٩٨].

فضلها :

روى محمد بن إسحاق في السيرة من حديث أم سلمة ، وأحمد بن حنبل عن

٤٨

ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة : أن جعفر بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه.

دعاء زكريا عليه‌السلام طالبا الولد وبشارته بيحيى

(كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١))

الإعراب :

(ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ، إِذْ نادى رَبَّهُ ذِكْرُ) إما مبتدأ محذوف الخبر ، أي فيما يملى عليكم ذكر رحمة ربك ، وإما خبر مبتدأ محذوف ، أي هذا ذكر رحمة ربك. و (ذِكْرُ) مصدر مضاف إلى المفعول وهو (رَحْمَتِ) ورحمة : مصدر مضاف إلى الفاعل ، و (عَبْدَهُ) مفعول منصوب بالمصدر المضاف وهو (رَحْمَتِ رَبِّكَ). و (زَكَرِيَّا) بدل من (عَبْدَهُ). و (إِذْ نادى إِذْ) منصوب على الظرف متعلق بذكر.

٤٩

(شَيْباً) تمييز منصوب ، أو منصوب لأنه مصدر ، والأول أظهر.

(بِدُعائِكَ) مصدر مضاف إلى المفعول ، والفاعل محذوف ، أي ولم أكن بدعائي إياك.

(يَرِثُنِي) إما مجزوم على جواب الأمر ، وهو في الحقيقة جواب شرط مقدر ، أي هب لي إن تهب لي يرث ، وإما مرفوع على أنه صفة لقوله : (وَلِيًّا) أي فهب لي من لدنك وليا وارثا.

والوجهان هما في قوله : (رِدْءاً يُصَدِّقُنِي).

(عِتِيًّا) منصوب ببلغت ، وهو مصدر «عتا».

(قالَ : كَذلِكَ) الكاف : خبر مبتدأ محذوف ، أي قال الأمر كذلك (سَوِيًّا) حال من ضمير (تُكَلِّمَ).

(أَنْ سَبِّحُوا) إما مفسّرة بمعنى «أي» وإما مخففة من الثقيلة ، أي أنه سبّحوا.

البلاغة :

(وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) كناية عن ذهاب القوة وضعف الجسم.

(اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) استعارة تبعية ، شبه انتشار الشيب باشتعال النار في الحطب ، وأستعير الاشتعال للانتشار ، وهذا من أحسن الاستعارة وأبدعها في كلام العرب.

(نادى نِداءً) جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(كهيعص) حروف مقطعة قصد بها التنبيه كحروف التنبيه التي تقع في أول الكلام مثل ألا ويا وغيرهما ، كما قصد بها التحدي للعرب في الإتيان بمثل القرآن المكون من حروف اللغة العربية التي يتكلمون ويخطبون ويكتبون بها.

(زَكَرِيَّا) من ولد سليمان بن داود عليهم‌السلام ، وكان نجارا (نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) أي دعاه سرا في جوف الليل ؛ لأنه أسرع للإجابة ، واختلف في سنه حينئذ فقيل ٦٠ ، أو ٧٠ ، أو ٧٥ ، أو ٨٥ ، أو ٩٩ (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) أي ضعف جميعه بسبب الكبر (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) أي صار الشيب منتشرا في شعره ، كما تنتشر النار في الحطب (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ) أي وإني أريد أن أدعوك ، ولم أكن بدعائي إياك (شَقِيًّا) خائبا غير مستجاب الدعوة فيما مضى ، فلا تخيبني فيما يأتي.

٥٠

(الْمَوالِيَ) هم عصبة الرجل ، الذين يلونه في النسب ، كبني العم. (مِنْ وَرائِي) بعد موتي ، وخوفي منهم على الدين أن يضيعوه ، كما شاهدته في بني إسرائيل من تبديل الدين (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) أي لا تلد ، يقال : رجل عاقر وامرأة عاقرة ، أي عقيمان (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) من عندك (وَلِيًّا) ولدا من صلبي (مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) جدي في العلم والنبوة ، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وكان متزوجا أخت مريم بنت عمران من ولد سليمان ، وكان زكريا زوجا لخالة مريم (رَضِيًّا) أي مرضيا عندك.

(لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) أي مسمى بيحيى ، فلم يسمّ أحد بهذا الاسم قبله (أَنَّى) كيف (عِتِيًّا) من عتا : أي يبس ، يبست مفاصله وعظامه ، قيل : كان عمره : مائة وعشرين سنة ، وبلغت امرأته ثمانية وتسعين سنة ، وقرئ : عسيّا بمعنى عتيا (قالَ : كَذلِكَ) أي الأمر كذلك من خلق غلام منكما في هذه السن (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي لا أحتاج فيما أريد أن أفعله إلى الأسباب (وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) قبل خلقك ، بل كنت معدوما صرفا. وفيه دليل على أن المعدوم ليس بشيء.

(آيَةً) علامة أعلم بها وقوع ما بشرتني به (ثَلاثَ لَيالٍ) أي بأيامها ، بدليل ذكر الأيام في سورة آل عمران : (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ). (سَوِيًّا) أي سوي الخلق سليم الجوارح بلا علة ، ما بك من خرس ولا بكم (الْمِحْرابِ) المصلّى وكانوا ينتظرون فتحه ، ليصلوا فيه بأمره على العادة (فَأَوْحى) أشار ، أو أومأ (سَبِّحُوا) صلوا أو نزهوا ربكم ، والمتفق عليه أنه أراد بالتسبيح الصلاة (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) طرفي النهار ، أوائل النهار وأواخره على العادة ، أي صلاة الفجر وصلاة العصر ، فعلم من امتناعه من الكلام حمل زوجته بيحيى.

قصة زكريا عليه‌السلام :

ذكر زكريا في القرآن الكريم ثماني مرات ، في الآيتين [٣٧ ، ٣٨] من آل عمران ، وفي الأنعام الآية [٨٥] ، وفي مريم الآيتان [٢ ، ٧] ، وفي الأنبياء الآية [٨٩].

وكان لزكريا أبي يحيى شركة في خدمة الهيكل ، فهو (لاوي) وكانت مريم التي نذرتها والدتها لخدمة الهيكل من نصيب زكريا (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا). وكان زكريا زوجا لخالة مريم أو لأختها. ولما رأى زكريا إكرام الله تعالى لمريم ورزقها من حيث لا تحتسب ، دعا أن يرزقه الله تعالى الولد : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ، قالَ :

٥١

رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ، إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) [آل عمران ٣ / ٣٨] ، فاستجاب الله دعاءه ، وبشرته الملائكة بيحيى ، وقد كان في سن الشيخوخة وامرأته عاقر : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى ، مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ ، وَسَيِّداً ، وَحَصُوراً ، وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران ٣ / ٣٩] فتعجب زكريا من البشرى قائلا : (قالَ : رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ، وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ ، وَامْرَأَتِي عاقِرٌ ، قالَ : كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) وفي سورة مريم : (قالَ : رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً ، وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا. قالَ : كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ : هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ، وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ ، وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) [٨ ـ ٩].

ووالده اسمه (برخيا) ويلاحظ أنه يوجد شخص آخر اسمه (زكريا بن برخيا) له كتاب قانوني عند النصارى ، وكان في زمن (داريوس) قبل زمن المسيح عليه‌السلام بما يقرب من ثلاثة قرون(١).

التفسير والبيان :

(كهيعص) تقرأ هكذا : كاف ، ها ، يا ، عاين ، صاد بإدغام نون عاين في الصاد ، ويتعين في الكاف والصاد منها المدّ المطول ست حركات بثلاث ألفات ، ويتعين في الهاء والياء المد الطبيعي حركة واحدة بألف واحدة ، ويجوز في العين المد المطول وقصره بحركتين بمقدار ألفين.

والمراد بهذه الحروف المقطعة التنبيه في أول الكلام على ما يأتي بعدها ، وتحدي العرب بالإتيان بمثل القرآن أو بمثل سورة منه ، ما دام الكلام القرآني مركبا من حروف الهجاء العربية التي يتركب منها الكلام العربي نثرا وخطابة وشعرا. ولا يصح القول بأن هذه الأحرف مبهمات أو تشير إلى أسرار معينة أو أنها

__________________

(١) قصص الأنبياء للأستاذ عبد الوهاب النجار ٣٦٨.

٥٢

علم (اسم) أو وصف ؛ لأنه كما قال الرازي : لا يجوز من الله تعالى أن يودع كتابه ما لا تدل عليه اللغة ، لا بالحقيقة ولا بالمجاز ؛ لأنا إن جوزنا ذلك فتح علينا قول من يزعم أن لكل ظاهر باطنا ، واللغة لا تدل على ما ذكروه ، فإنه ليست دلالة الكاف أولى من دلالته على الكريم أو الكبير أو على اسم آخر من أسماء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الملائكة أو الجنة أو النار ، فيكون حمله على بعضها دون البعض تحكما لا تدل عليه اللغة أصلا (١).

(ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) أي هذا المتلو ذكر رحمة ربك الذي نقصه عليك عبده زكريا ، الذي كان نبيا عظيما من أنبياء بني إسرائيل ، وزوجته خالة عيسى عليه‌السلام ، وأنه ـ كما في صحيح البخاري ـ كان نجارا يأكل من عمل يده في النجارة ، حين دعا ربّه دعاء خفيّا مستترا ، إخلاصا وبعدا عن الرياء ، ولئلا ينسب في طلب الولد ـ وهو عجوز كبير ـ إلى الرعونة ، ويكون محل اللوم والتهكم من قومه.

والمراد بذكر الرحمة : بلوغها وإصابتها وإجابة الله دعاء زكريا وهو : (قالَ : رَبِّ ، إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ، وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ، وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) أي قال زكريا : يا ربّ ، لقد صرت فاتر العظام ، ضعيف القوى ، هرما كثير الشيب جدا ، ولم أعهد منك إلا إجابة الدعاء ، ولم تردّني قط فيما سألتك ، فما كنت خائبا ، بل كلما دعوتك استجبت لي ، وإني خفت أقاربي العصبات من بني العم ونحوهم إهمال أمر الدين وتضييعه بعد موتي ، فطلبت ولدا نبيا من بعدي يحرس بنبوته شأن الدين والوحي ، وكانت امرأتي (وهي أخت حمنة أم مريم) عاقرا لا تلد. واسم امرأته : إيشاع بنت فاقوذا بن قبيل ، أخت حمنة بنت فاقوذا ، وعلى هذا يكون يحيى ابن خالة عيسى عليهما‌السلام على الحقيقة.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢١ / ١٧٩.

٥٣

ويلاحظ أنه ذكر مسوغات ثلاثة لدعائه ، تستدعي العطف والرحمة والشفقة ، وهي :

١ ـ ضعف البدن باطنا وظاهرا ، أي ضعف العظام وظهور الشيب.

٢ ـ كونه مستجاب الدعاء ، فلم يكن في وقت من الأوقات خائبا ، بل كان كلما دعا ربه أجابه.

٣ ـ خوفه من ورثته من ضياع الدين وما يوحى إليه بعد موته ، ولم يكن خوفه من إرث المال ، فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدرا من الإشفاق على ماله ، ولأنه لم يكن ذا مال ، وإنما كان نجارا يأكل من كسب يده ، ولأنه كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا نورث ، ما تركنا صدقة» وفي رواية الترمذي : «نحن معشر الأنبياء لا نورث» ويكون ميراث الأنبياء هو وراثة النبوة أو العلم والمحافظة على الدين والدعوة إليه.

(فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي ، وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ، وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) أي فامنحني وأعطني من جنابك وواسع فضلك وليا يلي أمر الدين ، يكون ولدا من صلبي يرثني النبوة ، وهذا ما أراده وإن لم يصرح به ، ويرث ميراث آل يعقوب وهي وراثة العلم والنبوة على الراجح لا وراثة المال ، كما تقدم ، فيرث ما عندهم من العلم ، ويقوم برعاية أمورهم في الدين ، واجعله يا رب برّا تقيا مرضيا عندك في أخلاقه وأفعاله ، ترضاه وتحبه أنت ويرضاه عبادك ويحبونه ، ليكون أهلا لحمل رسالة الدين وتعليمه وتبليغه وإقامة شعائره.

ونظير الآية : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ، قالَ : رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) [آل عمران ٣ / ٣٨] ، (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ : رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٨٩]. ويعقوب : هو إسرائيل ، وكان زكريا متزوجا بأخت مريم بنت عمران ، ويرجع نسبها إلى يعقوب ؛ لأنها

٥٤

من ولد سليمان بن داود ، وهو من ولد يهوذا بن يعقوب ، وزكريا من ولد هارون أخي موسى ، وهارون وموسى من ولد لاوي بن يعقوب ، وكانت النبوة في سبط يعقوب بن إسحاق.

فأجاب الله دعاءه ، كما قال تعالى :

(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) أي فاستجاب الله دعاءه وناداه من جهة الملائكة : يا زكريا إنا نبشرك بمنحتنا لك غلاما اسمه يحيى (معرّب يوحنا ، وهو يوحنا المعمدان الذي كان يعمّد الناس) لم يسمّ أحد قبله بهذا الاسم. وقال مجاهد : لم يجعل له شبيها ولا مثلا ولا نظيرا ، أخذه من معنى قوله تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم ١٩ / ٦٥] ، أي شبيها. وقال ابن عباس : «لم تلد العواقر قبله مثله». وهذا دليل على أن زكريا وامرأته عاقران لا يولد لهما ، بخلاف إبراهيم وسارّة عليهما‌السلام ، فإنهما تعجبا من البشارة بإسحاق ، لكبرهما ، لا لعقرهما ، فقد ولد لإبراهيم قبله إسماعيل بثلاث عشرة سنة.

فتعجب زكريا من هذه البشارة سائلا :

(قالَ : رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً ، وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) تعجب زكريا عليه‌السلام حين أجيب دعاؤه ، وفرح فرحا شديدا ، وسأل عن كيفية ما يولد له والوجه الذي يأتيه منه الولد ، مع أن امرأته كانت عاقرا لم تلد من أول عمرها مع كبرها وكبره ، فتساءل متأثرا بالأحوال المعتادة لا مستبعدا قدرة الله تعالى : كيف يكون لي ولد ، وامرأتي عاقر لا تحبل ولا تلد ، وقد كبرت وضعفت؟ فقوله : (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) معناه : انتهى سنه وكبر ونحل عظمه وفقد القدرة على جماع النساء.

فأجابه الله تعالى بقوله :

٥٥

(قالَ : كَذلِكَ ، قالَ رَبُّكَ : هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ، وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) أي قال الله تعالى من جهة الملك مجيبا زكريا عما تعجب منه : الأمر كما قلت ، سنهب لك ولدا بالرغم من العقم والهرم ، هو علي سهل ميسور ، إذا أردت شيئا قلت له : كن فيكون ، وقد خلقتك ابتداء وأوجدتك من العدم المحض ، ولم تك شيئا قبل ذلك ، فإيجاد الولد بطريق التوالد المعتاد أهون من ذلك وأسهل منه.

وهذا دليل على القدرة الإلهية الفائقة ، فإنه تعالى يسهل عليه كل شيء ، وقد قرر هنا أن الأمر سهل يسير عليه ، وذكر ما هو أعجب مما سأل عنه زكريا ، بحسب تقدير الناس ، والحقيقة أن الأمرين على قدرة الله سواء ، فسيان خلق الإنسان من العدم أو من طريق التوالد ، ومن قدر على خلق الذات ، فهو قادر على تبديل الصفات ، فيعيد الله إليه وإلى زوجته القدرة على الإنجاب ، كما قال : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ ، وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى ، وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) [الأنبياء ٢١ / ٩٠].

ثم أخبر الله تعالى عن طلب آخر لزكريا هو تعرف وقت طلوع المبشر به ، فقال :

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي قال زكريا : يا رب اجعل لي علامة ودليلا على وقت وجود الأمر المبشر به وهو حمل امرأتي ، لتستقر نفسي ، ويطمئن قلبي بما وعدتني ، إذ الحمل خفي في مبدئه ، ولا سيما ممن انقطع حيضها في الكبر.

فأجابه الله مرة أخرى إلى مطلبه قائلا :

(قالَ : آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) أي قال الله بواسطة الملك : علامتك على وقوع المسؤول وحصول البشرى من الله سبحانه بحمل امرأتك بابنها يحيى أن يعتقل لسانك ، ويحبس عن الكلام ، فلا تقدر على تكليم الناس ومحاورتهم مدة ثلاث ليال ، وأنت صحيح سوي الخلق ، ليس بك آفة أو مرض أو علة تمنعك من الكلام.

٥٦

ونظير الآية : (قالَ : رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ، قالَ : آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) [آل عمران ٣ / ٤١].

فقوله تعالى (سَوِيًّا) صحيح الخلق سوي من غير مرض ولا علة ، وقيل : متتابعات ، والقول الأول عن الجمهور أصح.

وهذا دليل على أنه لم يكن يكلّم الناس في هذه الليالي الثلاث وأيامها إلا رمزا أي إشارة ، ولهذا قال تعالى هنا :

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ ، فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي فخرج زكريا على قومه من المحراب وهو مصلاه الذي بشر فيه بالولد (وهو المسمى عند أهل الكتاب بالمذبح : وهو مقصورة في مقدّم المعبد يصعد إليها بدرج بحيث يصبح المتعبد فيها محجوبا عمن في المعبد) وقد كان الناس ينتظرونه للصلاة في الغداة والعشي ، فأشار إليهم إشارة خفية سريعة ، ولم يستطع أن يكلّمهم بذلك ، أن يقولوا : سبحان الله (أي تنزيها لله عن الشريك والولد وعن كل نقص) في الصباح والمساء في صلاتي الفجر والعصر ، شكرا لله على ما أولاه ، وقد كان أخبرهم بما بشّر به قبل ذلك.

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن الله تعالى قص على نبيه قصة زكريا وما بشر به من الولد ، في سن الكبر والشيخوخة وحال عقم امرأته منذ بداية عمرها ، ليكون ذلك آية على قدرة الله العجيبة التي تستدعي الإيمان به إيمانا مطلقا.

٢ ـ الجهر والإخفاء في الدعاء عند الله سيان ؛ لقوله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [الأعراف ٧ / ٥٥] ، ولكن زكريا

٥٧

عليه‌السلام ناجى ربه ودعاه في محرابه في حال الخفاء وهو أولى ؛ لأنه أبعد عن الرياء ، وأقرب إلى الإخلاص ، ولئلا يلام على طلب الولد في زمان الشيخوخة.

٣ ـ قدّم زكريا عليه‌السلام على السؤال أمورا ثلاثة مثل حيثيات الحكم القضائي : أحدها ـ كونه ضعيفا ، والثاني ـ أن الله تعالى ما ردّ دعاءه مطلقا ، والثالث ـ كون المطلوب بالدعاء سببا في المنفعة الدينية.

٤ ـ قال العلماء : يستحب للمرء أن يذكر في دعائه نعم الله تعالى عليه ، وما يليق بالخضوع ؛ لأن قوله تعالى : (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) إظهار للخضوع. وقوله : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) إظهار لعادات تفضله في إجابته أدعيته ، أي لم تكن تخيب دعائي إذا دعوتك ، وعوّدتني الإجابة فيما مضى. وقوله : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ) حرص على مصلحة الدين ، فإن أقاربه كانوا مهملين للدين ، فخاف بموته أن يضيع الدين ، فطلب وليا يقوم بالدين من بعده ، لا أنه سأل من يرث ماله ؛ لأن الأنبياء لا تورث ؛ للحديث المتقدم في الصحيحين : «إنا معشر الأنبياء لا نورث ، ما تركنا صدقة» ، وفي سنن أبي داود : «إن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما ، ورّثوا العلم» فتكون الوراثة على لسان زكريا هي وراثة الدين ، وتكون مستعارة.

وقد ورث يحيى من آل يعقوب النبوة والحكمة والعلم والدين ، كما أن سليمان ورث من داود الحكمة والعلم ، ولم يرث منه مالا خلّفه له بعده.

٥ ـ قوله تعالى : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) سؤال ودعاء ، ولم يصرح بولد ، لشيخوخته وعقم امرأته ، قال قتادة : جرى له هذا الأمر وهو ابن بضع وسبعين سنة. وقال مقاتل : خمس وتسعين سنة ، قال القرطبي : وهو أشبه ، فقد كان غلب على ظنه أنه لا يولد له لكبره ؛ ولذلك قال : (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا).

٥٨

٦ ـ يجوز الدعاء بالولد ، ويجوز التضرع إلى الله في هداية الولد ، اقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والفضلاء ، وقد دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنس خادمه فقال : «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته» فدعا له بالبركة تحرزا مما يؤدي إليه الإكثار من الهلكة. وكان دعاء زكريا أن يجعل الولي الوارث له مرضيا في أخلاقه وأفعاله.

٧ ـ دعاء زكريا عليه‌السلام لم يكن بالواسطة ، وإنما كان يخاطب ربه مباشرة قائلا : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) ، (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) ، (فَهَبْ لِي) ، (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ).

كذلك قوله تعالى : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ ...) نداء من الله تعالى ، وإلا لفسد النظم. ويرى جماعة أن هذا نداء الملك ؛ لقوله تعالى : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ ، وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) [آل عمران ٣ / ٣٩] ، وقوله سبحانه : (قالَ : كَذلِكَ ، قالَ رَبُّكَ : هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) وهذا لا يجوز أن يكون كلام الله تعالى ، فوجب أن يكون كلام الملك. وأجاب الرازي عن آية (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) بأنه يحتمل حصول النداءين : نداء الله ونداء الملائكة ، وعن آية (قالَ رَبُّكَ ..) بأنه يمكن أن يكون كلام الله تعالى (١).

٨ ـ في قوله تعالى : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) دليل وشاهد على أن الأسامي السّنع (الجميلة) جديرة بالأثرة ، وإياها كانت العرب تنتحي في التسمية ، لكونها أنبه ، وأنزه عن النّبز.

٩ ـ قوله تعالى : (قالَ : رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ)؟ ليس شكا في قدرة الله تعالى على ذلك ، وإلا كان كفرا ، وهو غير جائز على الأنبياء عليهم‌السلام ،

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢١ / ١٨٦.

٥٩

وليس إنكارا لما أخبر الله تعالى به ، بل على سبيل التعجب والانبهار من قدرة الله تعالى أن يخرج ولدا من امرأة عاقر وشيخ كبير.

١٠ ـ قوله تعالى : (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ، وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ) دليل على قدرة الله الباهرة ، سواء في تغيير الصفات أو إبداع الذوات ، فكما أن الله خلق الإنسان من العدم ، ولم يك شيئا موجودا ، فهو القادر على خلق يحيى وإيجاده.

١١ ـ قوله سبحانه : (قالَ : رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) بعد قوله تعالى : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ) زيادة طمأنينة ، كما طلب إبراهيم عليه‌السلام آية تدل على كيفية الخلق وإحياء الموتى ، والمراد : تمم النعمة بأن تجعل لي آية وعلامة أتعرف بها وجود الحمل ، بعد بشارة الملائكة إياه.

١٢ ـ قوله تعالى : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) وهو أرفع المواضع ، وأشرف المجالس ، دليل على أن ارتفاع الإمام على المأمومين كان مشروعا عندهم ، وقد أجاز ذلك الإمام أحمد وغيره متمسكا بقصة المنبر. ومنع الإمام مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير ، خوفا من الكبر على الإمام ، وعملا بما رواه أبو داود عن ثلاثة من الصحابة (حذيفة وأبو مسعود ، وعمار) من نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك : «إذا أمّ الرجل القوم ، فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم».

١٣ ـ قوله سبحانه : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) دليل على جواز العمل بالإشارة المفهمة. واتفق مالك والشافعي والكوفيون على أن الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه.

٦٠