التفسير المنير - ج ١٦

الدكتور وهبة الزحيلي

إيتاء يحيى عليه‌السلام النبوة والحكم صبيا

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥))

الإعراب :

(خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) الباء في موضع الحال ، أي خذ الكتاب مجدّا مجتهدا.

(وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا الْحُكْمَ) مفعول ثان لآتيناه ، و (صَبِيًّا) حال من هاء (آتَيْناهُ) الذي هو المفعول الأول.

(وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) معطوف منصوب على (الْحُكْمَ).

المفردات اللغوية :

(يا يَحْيى) على تقدير القول ، أي قلنا ، ويحيى هو ابن خالة عيسى عليهما‌السلام. (خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) بجدّ واجتهاد. (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) أي أعطيناه النبوة ، أو الحكمة وفهم التوراة ، أو الفقه في الدين ، وذلك في حال الصبا ، قيل : كان ابن ثلاث سنين ، وعن ابن عباس في حديث مرفوع : ابن سبع سنين.

(وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) رحمة وعطفا على الناس من عندنا. (وَزَكاةً) تطهيرا من الذنوب والآثام. (وَكانَ تَقِيًّا) مطيعا لما أمر به ، متجنبا المعاصي وكل ما نهي عنه ، فلم يفعل خطيئة ولا هم بها. (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) أي كثير البرّ والإحسان إليهما. (جَبَّاراً) متكبرا متعاليا عن الحق. (عَصِيًّا) عاصيا أمر ربه. (وَسَلامٌ عَلَيْهِ) أي أمان من الله عليه. (يَوْمَ وُلِدَ ، وَيَوْمَ يَمُوتُ ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) أي أنه آمن في هذه الأيام المخوفة من عذاب النار وهول القيامة ومكدرات الحياة الدنيوية ، فهو آمن حين الولادة من مؤثرات الشيطان ، وحين الموت من عذاب القبر ، وفي القيامة من عذاب جهنم.

٦١

قصة يحيى عليه‌السلام :

ذكر يحيى خمس مرات في القرآن الكريم ، في آل عمران [٣٩] ، وفي الأنعام [٨٥] ، وفي مريم [٧ ، ١٢] ، وفي الأنبياء [٩٠] ، وكان يحيى تقيا صالحا منذ صباه ، وكان عالما بارعا في الشريعة الموسوية ومرجعا في أحكامها ، وصار نبيا وهو صبي : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) وكان يدعو الناس إلى التوبة من الذنوب ، وكان يعمّدهم أي يغسلهم في نهر الأردن للتوبة من الخطايا ، وقد أخذ النصارى طريقته ، ويسمونه «يوحنا المعمدان».

وكان لأحد حكام فلسطين «هيرودس» بنت أخ تسمى «هيروديا» بارعة الجمال ، أراد

عمها هذا أن يتزوجها ، وكانت البنت وأمها تريدان ذلك ، فلم يوافق يحيى عليه‌السلام على هذا الزواج ؛ لأنه محرم ، فرقصت الفتاة أمام عمها فأعجب بها ، وطلب إليها ما تتمناه ليعمله لها ، فطلبت منه بمؤامرة أمها رأس يحيى بن زكريا ، ففعل وقتل يحيى. ولما بلغ المسيح أن يحيى قتل ، جهر بدعوته ، وقام في الناس واعظا (١).

التفسير والبيان :

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) في الكلام محذوف تقديره : أنه ولد لزكريا المولود ، ووجد الغلام المبشر به ، وهو يحيى عليه‌السلام ، فخاطبه الله تعالى بعد أن بلغ المبلغ الذي يخاطب به ، فقال له : يا يحيى خذ التوراة المتدارسة والتي يحكم بها النبيون ، والتي هي نعمة على بني إسرائيل ، بجد واجتهاد وعزيمة وحرص على العمل بها.

ثم ذكر الله تعالى ما أنعم به عليه وعلى والديه ، فقال ذاكرا صفاته :

__________________

(١) قصص القرآن : المرجع السابق ٣٦٩.

٦٢

١ ـ (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) أي وأعطيناه الحكم والفهم للكتاب والفقه في الدين والإقبال على الخير ، وهو صغير حدث دون سبع سنين. وقيل : الحكمة : النبوة ؛ لأن الله تعالى بعث يحيى وعيسى عليهما‌السلام ، وهما صبيان ، قال الرازي : والأقرب حمله على النبوة لوجهين :

الأول ـ أن الله تعالى وصفه بصفات شريفة ، والنبوة أشرف صفات الإنسان ، فذكرها في معرض المدح أولى من ذكر غيرها.

الثاني ـ أن الحكم هو ما يصلح لأن يحكم به على غيره ، ولغيره على الإطلاق ، وذلك لا يكون إلا بالنبوة.

قال عبد الله بن المبارك : قال معمر : قال الصبيان ليحيي بن زكريا : اذهب بنا نلعب ، فقال : ما للّعب خلقنا ، فلهذا أنزل الله : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا).

٢ ـ (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) أي رحمناه رحمة من عندنا. والحنان : الرحمة والشفقة والعطف والمحبة. قال ابن كثير : والظاهر من السياق أن قوله : (وَحَناناً) معطوف على قوله : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) أي وآتيناه الحكم وحنانا وزكاة ، أي وجعلناه ذا حنان وزكاة ، فالحنان : هو المحبة في شفقة وميل (١).

٣ ـ ٥ : (وَزَكاةً ، وَكانَ تَقِيًّا ، وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) أي وجعلنا مباركا للناس ، يهديهم إلى الخير ، مطهرا من الدنس والرجس والآثام والذنوب ، وكان تقيا ، أي متجنبا لمعاصي الله ، مطيعا له ، وكثير البر والطاعة لوالديه ، متجنبا عقوقهما قولا وفعلا ، أمرا ونهيا ، فهو مطيع لله ولأبويه.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ١١٣.

٦٣

٦ ـ ٧ : (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) أي لم يكن متكبرا على الناس ، بل كان متواضعا لهم ، ولم يكن مخالفا عاصيا ما أمره به ربه ، روى عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا».

وبعد ذكر هذه الأوصاف الجميلة ليحيي ذكر الله تعالى جزاءه على ذلك ، فقال : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) أي له الأمان من الله في هذه الثلاثة أحوال : أمان عليه من الله يوم الولادة ، فقد أمن أن يناله الشيطان في ذلك اليوم كما ينال سائر بني آدم ، ويوم الموت ، فيأمن عذاب القبر ، ويوم البعث يأمن هول يوم القيامة وعذابه.

قال سفيان بن عيينة : أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن : يوم ولد ، فيرى نفسه خارجا مما كان فيه ، ويوم يموت ، فيرى قوما لم يكن عاينهم ، ويوم يبعث ، فيرى نفسه في محشر عظيم ، فأكرم الله يحيى بن زكريا ، فخصه بالسلام عليه ، فقال : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا).

فقه الحياة أو الأحكام :

ذكر الله تعالى في هذه الآيات تسع صفات ليحيي بن زكريا عليهما‌السلام وهي :

١ ـ الجد والصبر على القيام بأمر النبوة ، فليس المراد من قوله (خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) القدرة على الأخذ ؛ لأن ذلك معلوم لكل أحد ، فيجب حمله على معنى يفيد المدح وهو الجد والصبر على النبوة.

٢ ـ إيتاؤه النبوة وهو صبي ؛ لأن الله تعالى بعث يحيى وعيسى عليهما‌السلام وهما صبيان ، لا كما بعث موسى ومحمدا عليهما‌السلام ، وقد بلغا الأشد وهو أربعون سنة.

٦٤

٣ ـ جعله ذا حنان ، أي محبة ورحمة وشفقة على الناس ، كصفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه الرؤوف الرحيم.

٤ ـ جعله ذا بركة ونفع ونماء بتقديم الخير للناس وهدايتهم ، كما وصف عيسى عليه‌السلام : (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) [مريم ١٩ / ٣١].

٥ ـ كونه تقيا : يتقي نهي الله فيجتنبه ، ويتقي أمر الله فلا يهمله ، ولهذا لم يعمل خطيئة ولم يلّم بها.

٦ ـ بارا بوالديه : فلا عبادة بعد تعظيم الله تعالى مثل تعظيم الوالدين ، والله تعالى جعل طاعة الوالدين بعد طاعته مباشرة ، فقال : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء ١٧ / ٢٣].

٧ ـ لم يكن جبارا متكبرا : بل كان ليّن الجانب متواضعا ، وذلك من صفات المؤمنين ، وقد أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك فقال : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر ١٥ / ٨٨] وقال : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران ٣ / ١٥٩].

٨ ـ لم يكن عصيا لربه ولا لوالديه.

٩ ـ سلام وأمان من الله عليه يوم مولده ويوم وفاته ويوم بعثه. وقال ابن عطية : والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة ، فهي أشرف وأنبه من الأمان ؛ لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهي أقل درجاته ، وإنما الشرف في أن سلم الله تعالى عليه ، وحياة في المواطن التي يكون الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى عظيم الحول.

٦٥

قصة مريم

ـ ١ ـ حملها بعيسى عليه‌السلام

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢))

الإعراب :

(إِذِ انْتَبَذَتْ) بدل من مريم بدل اشتمال.

(مَكاناً شَرْقِيًّا مَكاناً) إما ظرف مكان منصوب ، وعامله (انْتَبَذَتْ) وإما مفعول به ، وعامله مقدر ، أي وقصدت مكانا قصيا. و (شَرْقِيًّا) صفة له.

(وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) الواو : إما واو عطف على قوله (لِأَهَبَ لَكِ) وإما زائدة.

البلاغة :

(وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) كناية عن المعاشرة الزوجية بالجماع.

(شَرْقِيًّا سَوِيًّا تَقِيًّا بَغِيًّا مَقْضِيًّا قَصِيًّا سَرِيًّا نَبِيًّا) .. إلخ سجع لطيف.

٦٦

المفردات اللغوية :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ) واذكر في القرآن خبر مريم. (إِذِ انْتَبَذَتْ) حين اعتزلت. (مَكاناً شَرْقِيًّا) أي اعتزلت في مكان نحو الشرق من الدار. (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) أرسلت سترا تستتر به للاغتسال من الحيض ، وكانت في العادة تتحول من المسجد إلى بيت خالتها إذا حاضت ، وتعود إليه إذا طهرت ، فبينا هي في مغتسلها أتاها جبريل متمثلا بصورة شاب أمرد ، سوي الخلق ، لتستأنس بكلامه. (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) جبريل. (فَتَمَثَّلَ لَها) بعد لبسها ثيابها. (بَشَراً سَوِيًّا) تام الخلق. (قالَتْ : إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ) من غاية عفافها. (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) تتقي الله ، وتحتفل بالاستعاذة ، فتنتهي عني بتعوذي. وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله ، أي فإني عائذة منك ، أو فاتعظ بتعويذي ، أو فلا تتعرض لي. ويجوز أن يكون للمبالغة ، أي إن كنت تقيا متورعا ، فإني أعوذ منك ، فكيف إذا لم تكن كذلك.

(قالَ : إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) الذي استعذت به. (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) أي لأكون سببا في هبته بالنفخ في القميص (الدرع). و (زَكِيًّا) طاهرا من الذنوب ، أو ناميا على الخير والصلاح. (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) ولم يباشرني رجل بالحلال من طريق الزواج. (بَغِيًّا) زانية.

(قالَ : كَذلِكِ) أي الأمر هكذا من خلق غلام منك من غير أب ، أو كذلك الأمر حكم ربّك ، بمجيء الغلام منك ، وإن لم يكن لك زوج. (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي فإن الأمر على الله يسير سهل. (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) على قدرتنا ، وهذا معطوف على جملة. (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) التي هي في معنى العلة. (وَرَحْمَةً مِنَّا) أي ورحمة لهم ببعثته نبيا يهتدون بإرشاده ، لمن آمن به. (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) أي وكان خلقه أمرا مقضيا به في الأزل وفي علم الله ، فنفخ جبريل في جيب قميصها ، فأحست بالحمل في بطنها مصورا ، إذ دخلت النفخة في جوفها ، وكانت مدة حملها سبعة أشهر ، وقيل : ثمانية ، أو تسعة ، وقيل : ساعة ، كما حملته نبذته ، وسنها ثلاث عشرة سنة ، وقيل : عشر سنين ، وقد حاضت حيضتين ، والأولى أن يكون حملها في المدة المعتادة وهي تسعة أشهر ، إذ لا دليل على تلك الأقوال.

(فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) اعتزلت ، وهو في بطنها ، مكانا بعيدا من أهلها وراء الجبل.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى قصة زكريا عليه‌السلام ، وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولدا زكيا طاهرا مباركا ، أردفه بذكر قصة مريم في إنجاب ولدها عيسى عليه‌السلام من غير أب ، وبين القصتين تناسب وتشابه واضح

٦٧

ظاهر ، ولذا ذكرا معا في آل عمران وهنا وفي الأنبياء ، لتقاربهما في المعنى ، ليدل تعالى عباده على قدرته وعظمة سلطانه وأنه على ما يشاء قادر.

وعملا بمبدإ الانتقال في البيان والتعليم من الأسهل إلى الأصعب ، بدأ تعالى بقصة يحيىعليه‌السلام ؛ لأن خلقه من أبوين كبيرين أقرب إلى العادة والتصديق من خلق الولد بلا أب ، ثم ذكر قصة عيسى ؛ لأنها أغرب من تلك.

التفسير والبيان :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) أي واذكر يا محمد الرسول للناس في هذه السورة قصة مريم البتول بنت عمران من سلالة داود عليه‌السلام ، وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل ، حين تنحّت ، واعتزلت من أهلها ، وتباعدت عنهم إلى مكان شرقي بيت المقدس أو المسجد المقدس ؛ لتنقطع إلى العبادة.

روى ابن جرير عن ابن عباس قال : إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبله ؛ لقول الله تعالى : (انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) واتخذوا ميلاد عيسى قبلة.

(فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً ، فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا ، فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) أي استترت منهم وتوارت بساتر أو حاجز يسترها عنهم لئلا يروها حال العبادة ، فأرسلنا إليها جبريلعليه‌السلام ، متمثلا بصورة إنسان تام كامل ، لتأنس بكلامه ، ولئلا تنفر من محاورته في صورته الملكية ، فظنت أنه يريدها بسوء.

وقوله : (رُوحَنا) هو جبريل ، كما جاء في آية أخرى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [الشعراء ٢٦ / ١٩٣ ـ ١٩٤].

٦٨

فكان موقفها منه كما قال تعالى :

(قالَتْ : إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أي قالت السيدة مريم لعذراء البتول : إني أستعيذ (أو أستجير) بالرحمن منك أن تنالني بسوء إن كنت تخاف الله ، فاخرج من وراء الحجاب. وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل ، فخوفته أولا بالله عزوجل ، والاستعاذة والتخويف لا يؤثران إلا في التقي ، وهو كقوله تعالى : (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة ٢ / ٢٧٨] أي إن الإيمان يقتضي ذلك ويوجبه ، لا أن الله تعالى يخشى في حال دون حال ، وهذا دليل عفتها وورعها.

فأجابها جبريل عليه‌السلام :

(قالَ : إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) أي قال الملك جبريل مهدئا روعها ومزيلا خوفها : لست أريد بك سوءا ، ولكن أنا رسول إليك من ربك الذي استعذت به ، ولست ممن يتوقع منه السوء أو مما تظنين ، بعثني الله إليك لأهب لك غلاما طاهرا من الذنوب ، ينمو على النزاهة والعفة. وقد نسب الهبة لنفسه لجريانها على يده بأمر الله تعالى.

فتعجبت مريم مما سمعت ، وقالت :

(قالَتْ : أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ، وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ، وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) أي قالت لجبريل : كيف يكون لي غلام؟ وعلى أي صفة يوجد هذا الغلام مني ، ولست بذات زوج ، أو لم يقربني زوج ، ولا يتصور مني الفجور ، فلم أك يوما ما بغيا ، أي زانية ، تبغي الرجال بالأجر. وجوابها هذا لم يكن عن استبعاد لقدرة الله ، وإنما عرفت بالعادة أن الولادة لا تكون إلا من رجل ، والعادات عند أهل المعرفة معتبرة في الأمور ، وإن حدث خلاف هذا في القدرة الإلهية ، فإنها عرفت أنه

٦٩

تعالى خلق أبا البشر من غير أب ولا أم ، فهل سيكون هذا الولد مخلوقا بخلق الله ابتداء كآدم ، أم عن طريق زوج تتزوجه في المستقبل؟

فأجابها بقوله :

(قالَ : كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ : هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ، وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ، وَرَحْمَةً مِنَّا ، وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) أي فقال لها الملك مجيبا لها عما سألت : إن الله قد قال : إنه سيوجد منك غلاما ، وإن لم يكن لك زوج (بعل) ولا من طريق الفاحشة ، فإنه على ما يشاء قادر ، وليجعل خلقه برهانا للناس على قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوّع في خلقهم ، فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى ، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق عيسى من أنثى فقط ، وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى.

ويجعل هذا الغلام أيضا رحمة من الله لعباده ، يبعثه نبيا من الأنبياء ، يدعو إلى عبادة الله تعالى وتوحيده ، وكان هذا الأمر مقدرا قد قدره الله في سابق علمه ، وجف به القلم ، فلا يغير ولا يبدّل.

ونظير آخر الآية : (كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران ٣ / ٤٧] ونظير القسم السابق له وهو : (وَرَحْمَةً مِنَّا) قوله سبحانه : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ : يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ، وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران ٣ / ٤٥ ـ ٤٦].

ونظير قوله : (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) قوله سبحانه : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها ، فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [التحريم ٦٦ / ١٢].

وحدث مراد الله تعالى :

٧٠

(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) أي لما قال جبريل لها عن الله تعالى ما قال ، استسلمت لقضاء الله تعالى ، فنفخ جبريل في جيب درعها (فتحة قميصها) فنزلت النفخة في جوفها ، حتى ولجت فرجها ، فحملت بالولد بإذن الله تعالى ، فاعتزلت إلى مكان بعيد. والفاء وإن كانت للتعقيب ، لكن تعقيب كل شيء بحسبه.

ولم يعيّن القرآن الكريم مدة الحمل ، إذ لا حاجة لمعرفتها ، لذا نرى أن حملها كان بحسب المعتاد بين النساء ، وهو تسعة أشهر قمرية. وإنما اتخذت المكان البعيد لا من أجل الوضع ، وإنما حياء من قومها ، وبعدا عن اتهامها بالريبة.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه بداية قصة السيدة مريم العذراء ، حكى فيها الحق سبحانه كيفية حملها بعيسى عليه‌السلام ، مبينا مقدمات ضرورية لإبراز عفتها وصونها.

فهي قد اعتزلت أهلها شرقي البيت المقدس للانقطاع للعبادة وللخلوة مع الله ومناجاة ربها ، فأرسل الله إليها جبريل عليه‌السلام بصورة بشر تام الخلقة ؛ لأنها لم تكن لتطيق أو تنظر جبريل في صورته الحقيقية الملكية ، ولما رأت رجلا حسن الصورة في صورة البشر ، قد خرق عليها الحجاب ، ظنت أنه يريدها بسوء ، فتعوذت بالله منه إن كان ممن يتقي الله.

فأخبرها جبريل بأنه رسول من عند الله بعثه إليها ليهبها غلاما طاهرا نقيا من الذنوب والمعاصي ، وجعل الهبة من قبله ؛ لأنه الواسطة ورسول الاعلام بالهبة من قبله. روي أن جبريل عليه‌السلام حين قال لها هذه المقالة نفخ في جيب درعها وكمّها.

فتساءلت مريم عن وسيلة إيجاد الغلام ، لا استبعادا لقدرة الله تعالى ، ولكن أرادت معرفة كيفية تكوّن هذا الولد ، من قبل الزوج الذي تتزوجه في

٧١

المستقبل ، أم يخلقه الله ابتداء؟ وهي الآن ليست ذات زوج ، ولم تكن في أي وقت زانية ، وذكرت هذا تأكيدا ؛ لأن قولها : (لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) يشمل الحلال والحرام.

فأجابها جبريل : هذا أمر قدره الله وقضى به من الأزل ، فهو في سابق علمه الأزلي القديم ، وهو أمر هيّن يسير على قدرة الله ، فهو القادر على كل شيء ، وقد خلق عيسى عليه‌السلام من أم بلا أب ، ليكون ذلك دليلا وعلامة على قدرته العجيبة في تنوع الخلق والإبداع ، ويكون عيسى بنبوته رحمة لمن آمن به ، وكان أمرا مقدرا في اللوح مسطورا.

فاستسلمت مريم لقضاء الله وقدره ، واعتزلت بالحمل إلى مكان بعيد ، حياء من قومها ، وبعدا عن اتهامها بالريبة وتعيير قومها إياها بالولادة من غير زوج. قال ابن عباس : إلى أقصى الوادي ، وهو وادي بيت لحم بينه وبين إيلياء أربعة أميال. وقال ابن عباس أيضا : ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال. قال القرطبي : وهذا هو الظاهر ؛ لأن الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل (١).

وقال آخرون : كان الحمل بحسب المعتاد بين النساء ؛ لأن تعقيب كل شيء بحسبه ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً ..) [المؤمنون ٢٣ / ١٢ ـ ١٤]. وقد ثبت في الصحيحين أن بين كل صفتين أربعين يوما ، وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ، فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) [الحج ٢٢ / ٦٣] قال ابن كثير : فالمشهور الظاهر ـ والله على كل شيء قدير ـ أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن (٢).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١١ / ٩٢ ـ ٩٣.

(٢) تفسير ابن كثير : ٣ / ١١٦.

٧٢

وقال محمد بن إسحاق : فلما حملت به ، وملأت قلّتها ، ورجعت ، استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب (المرض والضعف) والتوحم وتغير اللون ، حتى فطر لسانها ، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا ، وشاع الحديث في بني إسرائيل ، فقالوا : إنما صاحبها يوسف النجار (وهو رجل صالح من قراباتها ، كان معها في المسجد يخدم معها البيت المقدس) ولم يكن معها في الكنيسة غيره ، وتوارت من الناس ، واتخذت من دونهم حجابا ، فلا يراها أحد ولا تراه.

ويحسن أن نذكر مقطعا من حوار بين يوسف النجار ومريم ، ذكره الثعلبي في العرائس عن وهب ، قال : أخبريني يا مريم ، هل ينبت زرع بغير بذر ، وهل تنبت شجرة من غير غيث ، وهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت : نعم ، ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر ، وهذا البذر إنما حصل من الزرع الذي أنبته من غير بذر ، ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجرة من غير غيث ، وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر ، بعد ما خلق كل واحد منهما على حدة ، أو تقول : إن الله تعالى لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى استعان بالماء ، ولولا ذلك لم يقدر على إنباتها؟

فقال يوسف : لا أقول هذا ، ولكني أقول : إن الله قادر على ما يشاء ، فيقول له : كن فيكون.

فقالت له مريم : أو لم تعلم أن الله خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟ فعند ذلك زالت التهمة عن قلبه (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢١ / ٢٠١ ـ ٢٠٢.

٧٣

ـ ٢ ـ

ولادة عيسى وما اقترن بها

(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦))

الإعراب :

(بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ) الباء : زائدة ، أي وهزي إليك جذع النخلة. و (تُساقِطْ) جواب الأمر ، و (رُطَباً جَنِيًّا) مفعول (تُساقِطْ) أي تساقط النخلة رطبا. وقرئ (تُساقِطْ) وأصله : تتساقط ، فحذف إحدى التاءين تخفيفا ، وقرئ تساقط وأصله : تتساقط أيضا ، فأبدل من إحدى التاءين سينا ، وأدغم السين في السين. ورطبا في هاتين القراءتين : تمييز أو حال ، ويجوز النصب بهزّي ، أي وهزي إليك رطبا جنيا متمسكة بجذع النخلة ، والباء في موضع الحال ، لا زائدة ، وقرئ يساقط و (رُطَباً) مفعول به ، أي يساقط جذع النخلة رطبا.

(وَقَرِّي عَيْناً) تمييز أي من عين ، مثل : طاب به نفسا ، أي من نفس.

(فَإِمَّا تَرَيِنَ) أصله «ترأيين» فحذفت الهمزة منه ، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين ، فبقي (تَرَيِنَ) وحذفت النون لأنها نون إعراب ، لطروء البناء بدخول نون التوكيد الثقيلة (المشددة) وكسرت الياء لسكونها وسكون النون المشددة أي لالتقاء الساكنين. وإما : أدغمت فيه نون إن الشرطية في ما الزائدة.

المفردات اللغوية :

(فَأَجاءَهَا) جاء بها وألجأها واضطرها. (الْمَخاضُ) وجع الولادة والطّلق حين تحرك الولد للخروج من البطن. (إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة ، فولدت

٧٤

(يا) للتنبيه. (قَبْلَ هذا) الأمر ، استحياء من الناس ومخافة لومهم. (نَسْياً) ما من شأنه أن ينسى ولا يطلب ، ككل شيء حقير من وتد وحبل. (مَنْسِيًّا) منسي الذكر ، وهو ما لا يخطر بالبال لتفاهته ، والمراد من الكلمتين : شيئا متروكا لا يعرف ولا يذكر.

(فَناداها مِنْ تَحْتِها) أي عيسى ، وقيل : جبريل وكان أسفل منها أي من مكانها. وقيل: ضمير (تَحْتِها) عائد للنخلة. (أَلَّا تَحْزَنِي) أي لا تحزني أو بألا تحزني. (سَرِيًّا) جدولا أو نهر ماء ، هكذا روي مرفوعا ، وقيل : السري : السيد الشريف ، أي سيدا شريفا وهو عيسى. (وَهُزِّي) الهز : تحريك الشيء بعنف أو بدونه ، أو أميليه إليك أو افعلي الهز والإمالة به. (بِجِذْعِ) الباء مزيدة للتأكيد. (تُساقِطْ) تسقط. (رُطَباً) تمرا طازجا ناضجا. (جَنِيًّا) صالحا للاجتناء.

(فَكُلِي) من الرطب. (وَاشْرَبِي) من السري ـ النهر. (وَقَرِّي عَيْناً) أي لتقر عينك به ، أي تسكن ، فلا تطمح إلى غيره. (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) أي إن تري آدميا ، فيسألك عن الولد. (فَقُولِي) أشيري إليهم ، قال الفراء : العرب تسمي كل ما أفهم الإنسان شيئا كلاما بأي طريق كان. (نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) أي صمتا أو إمساكا عن الكلام في شأنه وشأن غيره من الناس ، بدليل : (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) أي أحدا من الناس بعد ذلك ، أي بعد أن أخبرتكم عن نذري.

التفسير والبيان :

(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ : يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) أي فاضطرها وألجأها وجع الولادة وألم الطلق إلى الاستناد إلى جذع النخلة والتعلق به ، لتسهيل الولادة ، فتمنت الموت قبل ذلك الحال ، استحياء من الناس ، وخوفا أن يظن بها السوء في دينها ، أو أن تكون شيئا لا يبالي به ، ولا يعتد به أحد من الناس كالوتد والحبل ، أو لم تخلق ولم تك شيئا. قال ابن كثير : فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة ، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد ، ولا يصدقونها في خبرها ، وبعد ما كانت عندهم عابدة ناسكة ، تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية. قال الزمخشري : أجاء منقول من جاء إلى معنى الإلجاء.

٧٥

(فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) أي فناداها جبريل من تحت الأكمة أو من تحت النخلة ، وقيل : المنادي هو عيسى ، وقد أنطقه الله بعد وضعه تطييبا لقلبها وإيناسا لها ، قائلا : لا تحزني ، فقد جعل ربك تحتك جدولا أو نهرا صغيرا ، أجراه الله لها لتشرب منه. وقيل : المراد بالسريّ هنا عيسى ، والسريّ : السيد العظيم الخصال من الرجال. قال ابن عباس : المراد ب (مِنْ تَحْتِها) جبريل ، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها. ففي هذا لها آية وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة التي لله تعالى فيها مراد عظيم ، وهذا هو الأصح.

(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) أي حرّكي جذع النخلة ، تسقط عليك رطبا طريا طيبا ، صالحا للاجتناء والأكل من غير حاجة إلى تخمير وصناعة. وهذه آية أخرى ، قال الزمخشري ، كان جذع نخلة يابسة في الصحراء ، ليس لها رأس ولا ثمر ولا خضرة ، وكان الوقت شتاء. وقيل : كانت النخلة مثمرة. والمهم في الأمر : وجوب اتخاذ الأسباب لتحصيل الرزق ، والاعتقاد بأن الفاعل الحقيقي في تيسير الرزق هو الله تعالى ، وأنه على كل شيء قدير. وأما التفاصيل فلا يجب علينا أن نعتقد إلا بما أخبر به القرآن صراحة ، وأما الروايات فتحتاج إلى تثبت ودليل وسند صحيح. وما أحسن قول الشاعر :

ألم تر أن الله أوحى لمريم

وهزي إليك الجذع يساقط الرطب

ولو شاء أدنى الجذع من غير هزه

إليها ولكن كل شيء له سبب

(فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) أي فكلي من ذلك الرطب ، واشربي من ذلك الماء ، وطيبي نفسا ولا تحزني وقرّي عينا برؤية الولد النبي ، فإن الله قدير على صون سمعتك ، والإرشاد إلى حقيقة أمرك. قال عمرو بن ميمون : ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب ، ثم تلا هذه الآية الكريمة. وروى ابن أبي حاتم

٧٦

عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أكرموا عمتكم النخلة ، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم عليه‌السلام ، وليس من الشجر شيء يلقّح غيرها».

(فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً ، فَقُولِي : إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً ، فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) أي إن رأيت إنسانا يسألك عن أمرك وأمر ولدك ، فأشيري له بأنك نذرت لله صوما عن الكلام ، أي صمتا ، بألا أكلم أحدا من الإنس ، بل أكلم الملائكة ، وأناجي الخالق.

والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم ، يحرم عليهم الطعام والكلام ، قال ابن زيد والسدّي : كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الكلام.

وليس الصوم عن الكلام مشروعا في الإسلام ، روى ابن أبي حاتم وابن جرير رحمهما‌الله عن حارثة قال : كنت عند ابن مسعود ، فجاء رجلان ، فسلم أحدهما ، ولم يسلم الآخر ، فقال : ما شأنك؟ قال أصحابه : حلف ألا يكلم الناس اليوم ، فقال عبد الله بن مسعود : كلّم الناس ، وسلّم عليهم ، فإن تلك امرأة علمت أن أحدا لا يصدقها أنها حملت من غير زوج ، يعني بذلك مريم عليها‌السلام ، ليكون عذرا لها إذا سئلت.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن ألم المخاض ووجع الطلق أمر معتاد في أثناء الولادة ، أشبه بالموت ، فتحتاج المرأة حينئذ إلى عون ورعاية ، ولم تجد السيدة مريم معينا لها غير جذع النخلة ، فاستندت إليه وتعلقت به ، كما تتعلق الحامل لشدة وجع الطلق.

٢ ـ يكون تمني الموت جائزا في مثل حال السيدة مريم ، فإنها تمنت الموت من جهة الدّين لسببين :

٧٧

أحدهما ـ أنها خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير ، فيفتنها ذلك.

الثاني ـ لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والنسبة إلى الزنى ، وذلك مهلك. فخافت صونا لسمعتها الدينية ، وحماية لتدين الآخرين حتى لا يقعوا في الذنب.

٣ ـ تظاهرت الروايات بأن السيدة مريم ولدت عيسى عليه‌السلام لثمانية أشهر ، وقد عاش ، وتلك خاصة له ، وقيل : ولدته لتسعة ، أو لستة. ويرى ابن عباس كما تقدم أنها حملت فوضعت في الحال ؛ لأن الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل.

٤ ـ لقد اقترنت ولادة السيدة مريم بأنواع من الألطاف الإلهية ، فقد ناداها جبريل عليه‌السلام بأن الله جعل من تحتها نهرا صغيرا لتشرب منه ، وأسقط لها رطب النخلة ، ويقال : إنها أثمرت لها ، وصار رطبها قابلا للأكل والاجتناء بقدرة الله ، وطيب الله نفسها وأقر عينها ، فأزال عن قلبها الكآبة والحزن ، وأمرها على لسان جبريل بالإمساك عن كلام البشر حتى لا تتعب نفسها بالحوار والنقاش وردّ التّهم ، وأحالت الأمر على ابنها الذي أنطقه الله في المهد مدافعا عنها ، ليرتفع عنها خجلها ، وتتبين الآية ، فيظهر عذرها. وكل هذه آيات خارقة للعادة أظهرها الله بمناسبة ميلاد عيسى عليه‌السلام.

٥ ـ استدل العلماء بهذه الآية على أن الرزق ، وإن كان محتوما ، فإن الله تعالى ربطه بالسعي ، ووكل ابن آدم إلى سعي ما فيه ؛ لأنه سبحانه أمر مريم بهز النخلة لترى آية ، وكانت الآية ألا تهتز النخلة ؛ لأن جذعها صلب قوي ثخين يصعب تحركه.

٦ ـ الأمر بتكليف الكسب في الرزق سنة الله تعالى في عباده ، وأن ذلك لا يتعارض مع التوكل ، فإن التوكل على الله يكون بعد اتخاذ الأسباب. وقد كانت مريم قبل الولادة يأتيها رزقها من غير تكسب ، تكريما خاصا لها ، كما قال

٧٨

تعالى : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً ..) الآية [آل عمران ٣ / ٣٧] فلما ولدت أمرت بهز الجذع ؛ لأن قلبها قبل الولادة كان مشغولا بالعبادة متفرغا لها ، فلم تشغل أعضاؤها بتعب التكسب ، فلما ولدت عيسى وتعلق قلبها بحبه ، واشتغل سرها بحديثه وأمره ، أمرت بالكسب ، وردت إلى العادة بالتعلق بالأسباب ، كسائر العباد.

٧ ـ الرطب خير شيء للنفساء ، وكذلك التحنيك به للمولود ، فإذا عسرت الولادة لم يكن للمرأة خير من الرطب ، ولا للمريض خير من العسل.

٨ ـ في أمر مريم بالسكوت عن الكلام دليل على أن السكوت عن السفيه واجب ، ومن أذلّ الناس سفيه لم يجد مسافها.

٩ ـ من التزم بالنذر بألا يكلم أحدا من الآدميين ، أو نذر الصمت ، فذلك كان مشروعا في شريعة موسى وعيسى عليهما‌السلام ، وليس في شريعتنا ، فلا يجوز نذر الصمت في شرعنا ؛ لما فيه من التضييق وتعذيب النفس ، كنذر القيام في الشمس ونحوه ، مما لم يجزه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق بالكلام ، كما تقدم. وهذا هو الصحيح لحديث أبي إسرائيل : الذي نذر الصوم في الشمس ، فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يتكلم ويتم صومه في الظل ، والحديث خرّجه البخاري عن ابن عباس. قال ابن زيد والسدّي كما تقدم : كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام.

ومن سنتنا نحن في الصيام الإمساك عن الكلام القبيح ، قال عليه الصلاة والسلام في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا : «إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل ، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه ، فليقل : إني صائم» وقال أيضا فيما رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة : «من لم يدع قول الزور والعمل به ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه».

٧٩

ـ ٣ ـ

نبوة عيسى ونطقه وهو طفل في المهد

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣))

الإعراب :

(تَحْمِلُهُ) جملة حالية.

(يا أُخْتَ) التاء هنا بدل عن واو ، وليست للتأنيث ؛ لأنها تكتب بالتاء لا بالهاء نحو قائمة وذاهبة ، مثل تاء : بنت.

(بَغِيًّا) على وزن فعول لا فعيل ؛ لأنه هنا بمعنى فاعل ، وأتى بغير تاء. وهو صفة للمؤنث. كقولهم : امرأة صبور وشكور. وقد يأتي فعول بغير هاء إذا كان بمعنى مفعول ، مثل (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) [يس ٣٦ / ٧٢].

(مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ) كان : إما بمعنى (حدث ووقع) فيكون (صَبِيًّا) حال من ضمير (كانَ) ، وإما بمعنى (صار) فيكون (صَبِيًّا) خبر (صار) وإما (كانَ) زائدة. و (صَبِيًّا) حال ، وعامله (فِي الْمَهْدِ). ولا يجوز جعل (كانَ) هنا ناقصة : لأنه لا اختصاص لعيسى بكونه في المهد ، فهذا وصف لكل صبي ، وإنما تعجبوا من كلام من صار في حال الصّبا في المهد.

٨٠