التفسير المنير - ج ١٦

الدكتور وهبة الزحيلي

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) خروا ساجدين لله تعالى ، أي فألقى فتلقفت ، فتحقق عند السحرة أنه ليس بسحر ، وإنما هو من آيات الله ، ومعجزة من معجزاته ، فألقاهم ذلك على وجوههم سجدا لله ، توبة عما صنعوا وتعظيما لما رأوا (آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) قدم هارون لكبر سنه ، أو لروي الآية ، روي أنهم رأوا في سجودهم الجنة ومنازلهم فيها. (قالَ : آمَنْتُمْ لَهُ) قال فرعون : آمنتم لموسى ، واللام لتضمين الفعل معنى الاتباع. (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أنا في الإيمان له. (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ) إن موسى لمعلمكم أو لأستاذكم الذي علمكم السحر ، وأنتم تواطأتم على ما فعلتم. (مِنْ خِلافٍ) في موضع النصب على الحال أي لأقطعنها من حال مختلفة : اليد اليمنى والرجل اليسرى. ومن : ابتدائية. (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) أي عليها ، شبه تمكن المصلوب بالجذوع بتمكن المظروف بالظرف ، وهو أول من صلب. (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا) يريد نفسه ورب موسى لقوله : (آمَنْتُمْ لَهُ). (أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) أي أدوم عذابا. وهل نفذ فيهم تهديده؟

الآيات لم تذكر ذلك ، لكن ذكر المفسرون أنه أنفذ فيهم وعيده ، فقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم ، فماتوا على الإيمان ، فقال ابن عباس : كانوا في أول النهار سحرة ، وفي آخر النهار شهداء بررة.

(قالُوا : لَنْ نُؤْثِرَكَ) قال السحرة : لن نختارك. (عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ) على ما جاءنا موسى به من المعجزات الواضحات الدالة على صدقه. (وَالَّذِي فَطَرَنا) خلقنا وأوجدنا من العدم. وهذا عطف على ما جاءنا ، أو قسم (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) اصنع ما أنت قاضيه ، أي صانعه ، أو ما قلته أو احكم. (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي إنما تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذه الدنيا ، فالنصب على الاتساع ، أي فيها ، ثم تجزى عليه في الآخرة ، والآخرة خير وأبقى ، فهو كالتعليل لما قبله ، والتمهيد لما بعده.

(لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) من الكفر والمعاصي. (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) تعلما وعملا في معارضة موسى والمعجزة. (وَاللهُ خَيْرٌ) منك ثوابا إذا أطيع. (وَأَبْقى) منك عذابا إذا عصي.

(إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) إن الأمر من يأت ربه كافرا ، بأن يموت على كفره وعصيانه. (لا يَمُوتُ فِيها) فيستريح. (وَلا يَحْيى) حياة هنيئة فتنفعه. (قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ) الفرائض والنوافل. (لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) المنازل الرفيعة ، جمع عليا مؤنث أعلى.

(جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي جنات أعدت للإقامة. (مِنْ تَحْتِهَا) من تحت غرفها. (جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) تطهر من الذنوب والكفر.

قال البيضاوي : والآيات الثلاث ـ أي الأخيرة ـ يحتمل أن تكون من كلام السحرة ، وأن تكون ابتداء كلام الله.

٢٤١

المناسبة :

بعد ذكر الموعد وهو يوم الزينة وذكر مجيئهم صفا ، حدثت المبارزة بين السحرة وموسى ، فخيروه بين بدئه بالإلقاء ، وبدئهم به ، وكان ذلك أدبا منهم وتواضعا ، رزقوا الإيمان ببركته ، فقابلهم موسى أدبا بأدب ، وقدمهم في الإلقاء ؛ لأنه الطريق إلى إزالة الشبهة ، فما كان منهم إلا الإيمان ، لمعرفتهم بأن فعل موسى معجزة وليس سحرا ، وصمدوا على إيمانهم هازئين بتهديد فرعون بالتقطيع والصلب.

التفسير والبيان :

لما بدأت المبارزة ، والتقى الفريقان ، قالت السحرة لموسى :

(قالُوا : يا مُوسى ، إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ، وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) أي قالت السحرة لموسى حين تقابلوا معه : اختر أحد الأمرين : إما أن تلقي أنت أولا ما تريد ، وإما أن نلقي نحن ما معنا من العصي والحبال على الأرض.

وهذا التخيير مع تقديمه في الكلام أدب حسن وتواضع له ، ألهمهم الله به ، ورزقوا الإيمان ببركته ، فقابل موسى عليه‌السلام أدبهم بأدب ، فقال :

(قالَ : بَلْ أَلْقُوا) قال لهم موسى : بل ألقوا أنتم أولا ، لنرى سحركم وتظهر حقيقة أمركم ، ولتكون معجزته أظهر إذا ألقوهم ما معهم ، ثم إذا ألقى عصاه فتبتلع ما ألقوه كله ، وليظهر عدم المبالاة بسحرهم.

(فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) أي فألقوا ما معهم من الحبال والعصي ، فتوهم موسى ومن رآهم من الناس أنها تتحرك بسرعة كالأفاعي. ففي بدء الكلام حذف ، أي فألقوا ، وقوله : (فَإِذا) في رأي الزمخشري أنها إذا المفاجأة ، وتعقبه الرازي فقال : والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف إليها.

٢٤٢

وجاء في آية أخرى أنهم لما ألقوا (وَقالُوا : بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ ، إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) [الشعراء ٢٦ / ٤٤] ونظير الآية التي هنا : (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ ، وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ، وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) [الأعراف ٧ / ١١٦].

وذلك أنهم حشوها بالزئبق الذي يتأثر بحرارة الشمس ، أو بمادة أخرى تتأثر بالحرارة ، فيخيل للناظر أنها تسعى باختيارها ، وكأن الوادي امتلأ حيات يركب بعضها بعضا.

(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) أي أحس موسى بالخوف من أن يغلب ، تأثرا بالطبيعة البشرية. وابتهج فرعون وقومه ، وظنوا أنهم قد نجحوا ، وأن السحرة فازوا على موسى وهارون.

(قُلْنا : لا تَخَفْ ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) أي قال الله لموسى : لا تخف ، فإنك أنت المستعلي عليهم بالظفر والغلبة.

(وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا ، إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ ، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) أي وألق يا موسى العصا التي في يمينك ، تبتلع بعد أن تصير حية جميع ما صنعوه من الحبال والعصي ، وسحروا بها أعين الناس ، إن الذي صنعوه ليس إلا سحرا خيالا لا حقيقة له ولا بقاء ، ولا يفوز الساحر حيث أتى من الأرض ، أو حيث احتال ، وأنه لا يحصل مقصوده بالسحر ، خيرا كان أو شرا. وإنما أبهم العصا تهويلا لأمرها ، وأنها ليست من جنس العصي المعروفة.

فقامت المعجزة ، واتضح البرهان ، وظهر الحق ، وبطل السحر ، ودهش الناس الذين ينظرون ، وأدرك السحرة أن السحر لا يفعل هذا أبدا ، وأن هذا خارج عن طاقة البشر ، وأنه من فعل الإله خالق الكون ، فآمنوا كما قال تعالى :

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً ، قالُوا : آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) أي فلما ألقى

٢٤٣

موسى عصاه ، وابتلعت عصيهم وحبالهم ، علموا أن فعل موسى ليس من قبيل السحر والحيل ، بل هو عن أمر الله القادر على كل شيء ، فسجدوا لله وآمنوا برسالة موسى ، قائلين : آمنا برب العالمين ، رب هارون وموسى ، مفضلين الآخرة على الدنيا ، والحق على الباطل. قال ابن عباس وعبيد بن عمير : كانوا أول النهار سحرة ، وفي آخر النهار شهداء بررة. وروى عكرمة عن ابن عباس أيضا أنه قال : كانت السحرة سبعين رجلا ، أصبحوا سحرة ، وأمسوا شهداء. قال الأوزاعي : لما خر السحرة سجدا ، رفعت لهم الجنة ، حتى نظروا إليها.

الله أكبر! ففعل الله أعجب وأدهش ، والإيمان البسيط سبب للمجد العظيم ، والفضل الكبير ، والنعم الخالدة في جنان الله. وليس المراد بقوله : (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) أنهم أجبروا على السجود ، وإلا لما كانوا محمودين ، بل إنهم من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا ، قال صاحب الكشاف : ما أعجب أمرهم ، قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود ، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود ، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين!!

وإنما قالوا : (آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) ولم يقولوا برب العالمين فقط ؛ لأن فرعون ادعى الربوبية في قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات ٧٩ / ٢٤] وادعى الألوهية في قوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص ٢٨ / ٣٨] فلو أنهم قالوا : آمنا برب العالمين فحسب ، لقال فرعون إنهم آمنوا بي ، لا بغيري ، فاختاروا هذه العبارة لإبطال قوله ، والدليل عليه : أنهم قدموا ذكر هارون على موسى ؛ لأن فرعون كان يدعي ربوبيته لموسى ؛ لأنه رباه في صغره كما حكى تعالى عنه : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) [الشعراء ٢٦ / ١٨].

ثم إن فرعون لما شاهد السجود والإقرار بالله تعالى ، خاف متابعة الناس لهم واقتداءهم بهم في الإيمان بالله وبرسوله ، فألقى شبهة أخرى في النبي ونبوته ، فقال :

٢٤٤

(قالَ : آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ، إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) أي قال فرعون الذي أصر على كفره وعناده وبغيه ومكابرته الحق بالباطل حين رأى المعجزة الباهرة ، وإيمان من استنصر بهم من السحرة ، وهزيمته الساحقة : هل صدقتموه أو صدقتم قوله واتبعتموه على دينه من غير إذن مني لكم بذلك؟ فلم تؤمنوا عن بصيرة وتفكير ، إنما أنتم أخذتم السحر عن موسى ، فهو معلمكم وأستاذكم ، وأنتم تلاميذه ، واتفقتم وتواطأتم أنتم وإياه علي وعلى رعيتي لتظهروه وتروجوا لدعوته ، كما قال تعالى : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ ، لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف ٧ / ١٢٣].

أراد فرعون بهذا القول أن يدخل الشبهة على الناس ، حتى لا يؤمنوا ، وإلا فإنه قد علم أنهم لم يتعلموا من موسى ، ولا كان رئيسا لهم ، ولا بينه وبينهم صلة أو مواصلة.

ثم لجأ فرعون إلى التهديد والتنفير عن الإيمان قائلا :

(فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ، وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) أي أقسم أني لأمثلن بكم ، فأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ، أي بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو عكسه. قال ابن عباس : فكان أول من فعل ذلك ، وهذا تعطيل للمنفعة ، وأيضا لأصلبنكم على جذوع النخل ، زيادة في الإيلام والتشهير ، وإنما اختارها لخشونتها وأذاها ، ولتعلمن هل أنا أشد عذابا لكم أو رب موسى؟

وفي هذا تحد لقدرة الله ، وتحقير لشأن موسى ، وإيماء إلى ماله من سلطة وقهر واقتدار.

ولما صال عليهم بذلك وتوعدهم ، هانت عليهم أنفسهم في الله عزوجل :

ـ (قالُوا : لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا) أي لن

٢٤٥

نختارك على ما جاءنا به موسى من البينات الواضحة من عند الله تعالى ، والمعجزات الظاهرة كاليد والعصا ، وعلى ما حصل لنا من الهدى واليقين ، ولن نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم ، فهو المستحق للعبادة والخضوع ، لا أنت.

ـ (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ ، إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي فافعل ما شئت ، واصنع ما أنت صانع ، إنما لك تسلط ونفوذ علينا في هذه الدنيا التي هي دار الزوال ، بما تريد من أنواع القتل ، ولا سبيل لك علينا فيما بعدها ، ونحن قد رغبنا في دار القرار.

ـ (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا ، وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ، وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي إننا صدقنا بالله ربنا المحسن إلينا ، ليتجاوز ويستر ويعفو عن سيئاتنا وآثامنا وذنوبنا ، خصوصا ما أجبرتنا عليه من عمل السحر ، لنعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه ، والله خير لنا منك جزاء وأدوم ثوابا ، مما كنت وعدتنا ، وأبقى منك عقابا.

ذكر أن رؤساء السحرة كانوا اثنين وسبعين ، اثنان من القبط ، والباقي من بني إسرائيل ، فقالوا لفرعون : أرنا موسى نائما ، فرأوه فوجدوه تحرسه عصاه ، فقالوا : ما هذا بساحر ، الساحر إذا نام بطل سحره ، فأبى إلا أن يعارضوه.

ولم تدل الآيات على تنفيذ فرعون ما هدد به السحرة ، ولكن الظاهر أنه نفذ ذلك ، لقول ابن عباس المتقدم : أصبحوا سحرة ، وأمسوا شهداء بررة.

وتابع السحرة وعظ فرعون ، يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم ، ويرغبونه في ثوابه الأبدي الخالد ، فقالوا :

(إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً ، فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ ، لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) أي إن من يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم ، فعذابه في جهنم ، لا يموت فيها ميتة

٢٤٦

مريحة ، ولا يحيا حياة ممتعة ، فهو يألم كما يألم الحي. وهذا من قول السحرة لما آمنوا ، وقيل : ابتداء كلام من الله عزوجل.

ونظير الآية قوله تعالى : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها ، كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) [فاطر ٣٥ / ٣٦] وقوله سبحانه : (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) [الأعلى ٨٧ / ١١ ـ ١٣] وقوله عزوجل : (وَنادَوْا يا مالِكُ ، لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ، قالَ : إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٧٧].

وأخرج أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب ، فأتى على هذه الآية ، فقال : «أما أهلها الذين هم أهلها ، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، وأما الذين ليسوا بأهلها ، فإن النار تميتهم إماتة ، ثم يقوم الشفعاء فيشفعون ، فيؤتى بهم ضبائر (١) على نهر ، يقال له : نهر الحياة أو الحيوان ، فينبتون كما ينبت الغثاء في حميل السيل». وفي الخبر الصحيح : «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان».

(وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ ، فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) أي ومن يلقى ربه يوم المعاد مؤمن القلب ، قد صدق ضميره بقوله وعمله ، فعمل الطاعات ، فأولئك لهم بإيمانهم وعملهم الصالح الجنة ذات الدرجات والمنازل العالية الرفيعة ، والغرف الآمنة ، والمساكن الطيبة.

أخرج الإمام أحمد والترمذي عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الجنة مائة درجة ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، والفردوس أعلاها درجة ، ومنها تخرج الأنهار الأربعة ، والعرش فوقها ، فإذا سألتم الله تعالى ، فاسألوه الفردوس».

__________________

(١) الضبر : الجماعة ، جمع ضبور ، وضبائر : جمع الجمع.

٢٤٧

وفي الصحيحين : «إن أهل عليين ليرون من فوقهم ، كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء ، لتفاضل ما بينهم ، قالوا : يا رسول الله ، تلك منازل الأنبياء؟ قال : بلى ، والذي نفسي بيده ، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» وفي السنن : «وإن أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما».

(جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ، وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) أي تلك الدرجات العلى في جنات إقامة تجري من تحت غرفها الأنهار ، ماكثين فيها أبدا ، وذلك الفوز الذي أحرزوه جزاء من طهر نفسه من دنس الكفر والمعاصي الموجبة للنار ، واتبع المرسلين فيما جاؤوا به من عند الله العلي القدير.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ الأدب الحسن يفيد في الدنيا والآخرة ، فلما خير السحرة موسى بين أن يلقي أولا أو يلقوهم ، أفادهم ذلك في التوفيق للإيمان. ولما قدمهم موسى في الإلقاء وهم الجمع الكثير ، نصره ربه ، فالتقمت عصاه التي تحولت حية جميع ما ألقوه من الحبال والعصي ، وكان ظهور المعجزة أوقع وأتم وأوضح.

وليس أمر موسى بالإلقاء رضى منه بما هو سحر وكفر ؛ إذ لا يقصد منه ظاهر الأمر ؛ فلا يكون نفس الإلقاء كفرا ومعصية ، وإنما هو وسيلة لما بعده ، ليظهر الفرق بين ذلك الإلقاء وبين معجزة الرسول موسى عليه‌السلام ، ولأن الأمر مشروط بتقدير محذوف هو : ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين. ثم إنه قدمهم في الإلقاء على نفسه ، مع أن تقديم إيراد الشبهة على إيراد الحجة غير جائز ؛ ليكون إظهار المعجزة سببا لإزالة الشبهة.

٢٤٨

٢ ـ خاف موسى عليه‌السلام من الحيات ، حسبما يعرض لطباع البشر ، كما خاف لأول مرة حينما كلمه الله بإلقاء عصاه فصارت حية عظيمة. وقيل : خاف أن يفتتن الناس قبل أن يلقي عصاه.

٣ ـ أزال الله الخوف عن قلب موسى بقوله له : (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) أي الغالب لهم في الدنيا ، وأنت في الدرجات العلى في الجنة ، للنبوة والاصطفاء الذي آتاك الله به. وبقوله أيضا : (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم ، وألق العصا التي بيمينك ، فإنها بقدرة الله تلتهم كل ما ألقوا ، وهي أعظم منها كلها ، وهذه على كثرتها أقل شيء ، فإنها تبتلع بإذن الله ما معهم وتمحقه.

٤ ـ اختلف الرواة في عدد السحرة ، والظاهر كما نقل عن ابن عباس وغيره كالكلبي : أنهم كانوا اثنين وسبعين ساحرا ، اثنان منهم من القبط ، وسبعون من بني إسرائيل أكرههم فرعون على ذلك. هذا مع العلم بأن ظاهر القرآن لا يدل على شيء من العدد ، والمهم أنه لا يفوز ولا ينجو الساحر حيث أتى من الأرض ، أو حيث احتال ، ولا يحصل مقصوده بالسحر خيرا كان أو شرا ، وذلك يقتضي نفي السحر بالكلية.

٥ ـ خر السحرة ساجدين لله ، لما رأوا من عظيم الأمر وخرق العادة في العصا ؛ فإنها ابتلعت جميع ما احتالوا به من الحبال والعصي ، وكانت حمل ثلاث مائة بعير ، ثم عادت عصا ، لا يعلم أحد أين ذهبت الحبال والعصي إلا الله تعالى (١).

وفي قوله : (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) دلالة على أنه ألقى العصا ، وصارت حية ، وتلقفت ما صنعوه ، وفي التلقف دلالة على أن جميع ما ألقوه تلقفته ،

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١١ / ٢٢٤

٢٤٩

وذلك لا يكون إلا مع عظم جسدها وشدة قوتها. وقد حكي عن السحرة أنهم عند التلقف أيقنوا بأن ما جاء به موسى عليه‌السلام ليس من مقدور البشر من وجوه :

أحدها ـ ظهور حركة العصا على وجه لا يمكن بالحيلة.

وثانيها ـ زيادة عظمها على وجه لا يتم بالحيلة.

وثالثها ـ ظهور الأعضاء عليها من العين والمنخرين والفم وغيرها ، ولا يتم ذلك بالحيلة.

ورابعها ـ تلقف جميع ما ألقوه على كثرته ، وذلك لا يتم بالحيلة.

وخامسها ـ عودها خشبة صغيرة كما كانت ، ولا يتم شيء من ذلك بالحيلة (١).

٦ ـ قوله : (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) فيه دلالة على أن ما مع موسى معجزة إلهية ، والذي معهم تمويهات باطلة.

٧ ـ آمن السحرة بما رأوه من المعجزة ، وعرفوا أن رب موسى وهارون هو الرب الحقيقي المستحق للعبادة ، وكان إيمانهم أرسخ من الجبال ، فهان عليهم عذاب الدنيا ، ولم يأبهوا بتهديد فرعون.

٨ ـ لم يملك فرعون إلا أن يعلن بأن موسى كبير السحرة ورئيسهم في التعليم ، وأنه إنما غلبهم لأنه أحذق منهم ؛ ليشبه على الناس ، حتى لا يتبعوهم فيؤمنوا كإيمانهم ، وإلا فقد علم فرعون أنهم لم يتعلموا من موسى ، بل قد علموا السحر قبل قدوم موسى وولادته.

٩ ـ ولجأ أخيرا إلى التهديد بالتقطيع للأيدي والأرجل من خلاف ، لتعطيل المنفعة ، وضم إليه التصليب للإذلال والإهانة ، وزاد في غيه وكفره وعناده أنه أشد عذابا وأدوم أثرا من عذاب رب موسى. وهذا إفك شديد.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٢ / ٨٥

٢٥٠

١٠ ـ لم يتراجع السحرة عن إيمانهم بالرغم من شدة التهديد والوعيد وقالوا لفرعون : لن نختارك على ما جاءنا من اليقين والعلم ، ولا على الذي فطرنا ، أي خلقنا ، فافعل ما شئت ، إنما ينفذ أمرك في هذه الدنيا.

إننا صدقنا بالله وحده لا شريك له وما جاءنا به موسى ليغفر الله لنا خطايانا ، أي الشرك الذي كانوا عليه ، ويغفر لنا ما أكرهتنا عليه من السحر ، وثواب الله خير وأبقى.

قال عكرمة وغيره : لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم من الجنة ؛ فلهذا قالوا : (لَنْ نُؤْثِرَكَ).

وكانت امرأة فرعون تسأل من غلب؟ فقيل لها : غلب موسى وهارون ؛ فقالت : آمنت برب موسى وهارون. فأرسل إليها فرعون فقال : انظروا أعظم صخرة ، فإن مضت على قولها فألقوها عليها ؛ فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء ، فأبصرت منزلها في الجنة ، فمضت على قولها فانتزعت روحها ، وألقيت الصخرة على جسدها ، وليس في جسدها روح.

١١ ـ استمر السحرة في وعظ فرعون وغيره وتحذيره من عذاب الآخرة وترغيبه في العمل للجنة ، فقالوا : إن المجرم يدخل النار ، والمؤمن يدخل الجنة ، والمجرم : هو الكافر بدليل مقابلته بالمؤمن في الآية التالية : (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً ..) وصفة الكافر المكذب الجاحد أنه في جهنم لا يموت فيها ولا يحيا. وإذا كان هذا كلام السحرة ، فلعلهم سمعوه من موسى أو من بني إسرائيل ، إذ كان فيهم بمصر أقوام ، وكان فيهم أيضا المؤمن من آل فرعون. ويحتمل أن يكون ذلك إلهاما من الله لهم ، أنطقهم بذلك لما آمنوا.

وقد استدل المعتزلة بهذه الآية على وعيد أصحاب الكبائر ، وقالوا : صاحب الكبيرة مجرم ، وكل مجرم فإن له جهنم لقوله : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) ومن

٢٥١

الشرطية تفيد العموم. والجواب أن كلمة المجرم كما بينا يراد بها الكافر ، بدليل مقابلتها بالمؤمن فيما بعد.

وأما من يموت على الإيمان ، ويلقى ربه مصدقا به وبرسله وبالبعث ، ويعمل الصالحات ، أي الطاعات وما أمر به وما نهي عنه ، فله الدرجة الرفيعة التي عجز الوصف عن إدراكها والإحاطة بها. والدرجات العلى هي جنان الخلد والإقامة التي تجري من تحت غرفها وسررها الأنهار من الخمر والعسل واللبن والماء ، ماكثين دائمين ، وذلك جزاء من تطهر من الكفر والمعاصي.

ـ ١٠ ـ

إغراق فرعون وجنوده في البحر ونعم الله على بني إسرائيل

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢))

الإعراب :

(طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً يَبَساً) صفة (طَرِيقاً) وهو مصدر ، فهو إما أن يكون بمعنى: ذا يبس ، فحذف المضاف ، أو جعل الطريق اليبس نفسه.

٢٥٢

(لا تَخافُ دَرَكاً) جملة فعلية في موضع نصب على الحال ، أي غير خائف ، مثل : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) [المدثر ٧٤ / ٦] أي مستكثرا. ومن قرأ لا تخف جزمه جوابا لقوله : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً).

(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) الجار والمجرور في موضع نصب على الحال ، والمفعول الثاني

محذوف ، أي فأتبعهم فرعون عقوبته بجنوده ، أي معه جنوده.

(فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) أي من ماء اليم ، و (ما غَشِيَهُمْ) : في موضع رفع فاعل ، وكان حق الكلام : فغشيهم من ماء اليم شدته. فعدل إلى لفظه (ما) لما فيها من الإبهام ، تهويلا للأمر ، وتعظيما للشأن ؛ لأنه أبلغ من التعيين ، فيكون أبلغ تخويفا وتهديدا.

(وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ جانِبَ الطُّورِ) مفعول ثان لواعدناكم ، والتقدير : واعدناكم إتيان جانب الطور الأيمن ، ثم حذف المضاف. و (الْأَيْمَنَ) صفة جانب.

(وَعَمِلَ صالِحاً) صفة لموصوف محذوف ، أي : وعمل عملا صالحا ، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه.

البلاغة :

(فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) تهويل.

(وَأَضَلَ وَما هَدى) طباق بينهما.

(فَقَدْ هَوى) استعارة ، استعار لفظ الهوي : وهو السقوط من علو إلى سفل للهلاك والدمار.

(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ) صيغة مبالغة ، أي كثير المغفرة للذنوب.

المفردات اللغوية :

(أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) ليلا من مصر ، والسري والإسراء : السير ليلا (فَاضْرِبْ لَهُمْ) اجعل لهم بعصاك (يَبَساً) أي طريقا يابسا ، لا ماء فيه ، فامتثل ما أمر به ، وأيبس الله الأرض في قاع البحر ، فمروا فيها (لا تَخافُ دَرَكاً) أو دركا ، أي إدراكا ولحوقا (وَلا تَخْشى) ولا تخاف غرقا (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) حذف المفعول الثاني ، أي فأتبعهم فرعون نفسه ومعه جنوده.

(فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) فغمرهم وعلاهم من ماء البحر ما علاهم ، فأغرقهم ، والضمير : له ولهم. وفيه مبالغة وتهويل وإيجاز ، أي غشيهم ما سمعت قصته ولا يعرف كنهه إلا الله (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ) أي أضلهم في الدين وما هداهم بدعوتهم إلى عبادته ، وإيقاعهم في الهلاك ، خلافا

٢٥٣

لقوله : (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) [غافر ٤٠ / ٢٩] فمعنى (أَضَلَّهُمُ) : سلك بهم طريقا إلى الخسران في دينهم ودنياهم ، إذ أغرقوا فأدخلوا نارا. ومعنى (وَما هَدى) : وما أرشدهم طريقا يؤدي بهم إلى السعادة.

(أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) فرعون بإغراقه (الْأَيْمَنَ) أي عن يمين من يأتي من الشام إلى مصر ، لإنزال التوراة ، للعمل ب ها ، وقرئ الأيمن بالجر على الجوار (الْمَنَ) نوع من الحلوى يسمى الترنجبين (وَالسَّلْوى) طائر هو السماني ، وكلاهما في التيه (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) لذائذه أو حلالاته مما أنعمنا به عليكم (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) بأن تكفروا النعمة به ، وتخلوا بشكره ، وتتعدوا لما حد الله لكم فيه ، كالسرف والبطر والمنع عن المستحق (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) بكسر الحاء : أي فيجب ويلزمكم عذابي ، وبضمها : أي ينزل (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ) بكسر الحاء وضمها (فَقَدْ هَوى) سقط من النار وهلك.

(لَغَفَّارٌ) كثير المغفرة وستر الذنوب (لِمَنْ تابَ) من الشرك (وَآمَنَ) وحد الله وآمن بما يجب الإيمان به (وَعَمِلَ صالِحاً) عمل الفرائض والنوافل (ثُمَّ اهْتَدى) ثم استقام على الهدى المذكور إلى موته.

المناسبة :

بعد بيان الانتصار الساحق لموسى عليه‌السلام على السحرة ، أبان الله تعالى طريق الخلاص بين فرعون الطاغية وقومه وبين بني إسرائيل ، فأغرق الله فرعون وجنوده في البحر ، حين تبعوا موسى وقومه ، لما خرج من مصر إلى الطور ، وذلك بمعجزة العصا التي ضرب بها موسى البحر ، فأحدث فيه بقدرة الله طريقا يبسا ، بالرغم من الآيات المفصلة التي حدثت على يد موسى في مدى عشرين سنة حسبما ذكر في سورة الأعراف.

وأنقذ الله بني إسرائيل الذين أنعم الله عليهم بأنواع من النعم الدينية والدنيوية وأهمها إزالة المضرة ، فاقتضى تذكيرهم إياها ، وابتدأ بالمنفعة الدنيوية بقوله : (أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) وهو إشارة إلى إزالة الضرر ، ثم ثنى بذكر المنفعة الدينية بقوله : (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) وهو إنزال التوراة كتاب دينهم ومنهاج شريعتهم ، ثم ثلث بذكر المنفعة الدنيوية بقوله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ

٢٥٤

الْمَنَّ وَالسَّلْوى ، كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ثم زجرهم عن العصيان بقوله : (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ ، فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) ثم بيان قبول توبة العاصي بقوله : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ).

التفسير والبيان :

أمر الله موسى عليه‌السلام حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل أن يسري بهم في الليل ، وينقذهم من قبضة فرعون ، فقال :

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي ، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ ، يَبَساً ، لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) أي ولقد أوحينا إلى النبي موسى أن يسير ببني إسرائيل من مصر ليلا ، دون أن يشعر بهم أحد ، وأمرناه أن يتخذ أو يجعل لهم طريقا يابسا في وسط البحر (بحر القلزم أو البحر الأحمر) وذلك أن الله تعالى أيبس لهم تلك الطريق حتى لم يكن فيها ماء ولا طين.

وأشعرناه بالأمان والنجاة ، فقلنا له : أنت آمن لا تخاف أن يدركك وقومك فرعون وقومه ، ولا تخشى أن يغرق البحر قومك ، أو لا تخاف إدراك فرعون ولا تخشى الغرق بالماء.

والتعبير عن بني إسرائيل بكلمة (بِعِبادِي) دليل على العناية بهم ، وأنهم كانوا حينئذ قوما صالحين ، وإيماء بقبح صنع فرعون بهم من الاستعباد والظلم.

(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ ، فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) أي تبعهم فرعون ومعه جنوده ، فغشيهم من البحر ما غشيهم مما هو معروف ومشهور ، فغرقوا جميعا. وتكرار (غَشِيَهُمْ) للتعظيم والتهويل.

وأما تورط فرعون الداهية الذكي في متابعة موسى فكان بسبب أنه أمر مقدمة عسكره بالدخول ، فدخلوا وما غرقوا ، فغلب على ظنه السلامة ، فلما دخل الكل أغرقهم الله تعالى.

٢٥٥

(وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) أي أضل فرعون قومه عن سبيل الرشاد ، وما هداهم إلى طريق النجاة حينما سلك بهم في الطريق الذي سلكه بنو إسرائيل في وسط البحر.

ثم بدأ الله تعالى يعدد نعمه على بني إسرائيل ، مقدما إزالة المضرة على جلب المنفعة ، وهو ترتيب حسن معقول ؛ لأن «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» فقال :

١ ـ (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) أي قلنا لهم بعد إنجائهم : يا بني إسرائيل ، قد أنجيناكم من عدوكم : فرعون ، الذي كان يذبح أبناءكم ويستحيي نساءكم ، وأقررنا أعينكم منهم ، حين أغرقتهم وأنتم تنظرون إليهم ، فقد غرقوا في صبيحة واحدة ، لم ينج منهم أحد ، كما في آية أخرى : (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [البقرة ٢ / ٥٠] وهو إشارة إلى إزالة الضرر.

٢ ـ (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) أي جعلنا لكم ميقاتا وهو موعد تكليم موسى بحضرتكم ، وإنزال التوراة ذات الشريعة المفصلة ، وأنتم تسمعون الكلام الذي يخاطبه به رب العزة. وكان مكان الموعد جانب جبل الطور الأيمن ، وهو جبل في سيناء. قال المفسرون : ليس للجبل يمين ولا يسار ، بل المراد أن طور سيناء عن يمين من انطلق من مدين إلى مصر.

٣ ـ (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) أي وأنزلنا عليكم المن والسلوى وأنتم في التيه ، أما المن : فهو حلوى كانت تنزل عليهم من الندى من السماء ، من الفجر إلى طلوع الشمس ، على الحجارة وورق الشجر. وأما السلوى : فهو طائر السماني الذي تسوقه ريح الجنوب ، فيأخذ كل واحد منكم ما يكفيه.

(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي وقلنا لهم : أنعموا بالأكل من تلك الطيبات المستلذات من الأطعمة الحلال.

٢٥٦

(وَلا تَطْغَوْا فِيهِ ، فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) أي ولا تتجاوزوا ما هو جائز إلى ما لا يجوز ، ولا تجحدوا نعمة الله فتكونوا طاغين ، ولا تأخذوا من الرزق من غير حاجة ، وتخالفوا ما أمرتكم به من البعد عن السرف والبطر وارتكاب المعاصي والاعتداء على الحقوق ، فينزل بكم غضبي ، وعقوبتي.

(وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) أي ومن ينزل به غضبي فقد شقي وهلك.

(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) أي وإني لستار وذو مغفرة شاملة لمن تاب من الذنوب ، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وعمل عملا صالحا مما ندب إليه الشرع وحسنه ، ثم استقام على ذلك حتى يموت. وفي التعبير ب (ثُمَّ اهْتَدى) دلالة على وجوب الاستمرار على تلك الطريقة ؛ إذ المهتدي في الحال لا يكفيه ذلك في الفوز بالنجاة ، حتى يستمر عليه في المستقبل ، ويموت عليه ، ويؤكده قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا : رَبُّنَا اللهُ ، ثُمَّ اسْتَقامُوا) [فصلت ٤١ / ٣٠] وكلمة (ثُمَ) هنا للتراخي ، وليست لتباين المرتبتين ، بل لتباين الوقتين ، فكأنه تعالى قال : الإتيان بالتوبة والإيمان والعمل الصالح ، مما قد يحدث أحيانا لكل أحد ، ولا صعوبة في ذلك ، إنما الصعوبة في المداومة والاستمرار على المطلوب.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت هذه الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ تفضل الله على بني إسرائيل بإنقاذهم وإنجائهم من ظلم فرعون وقومه ، فأوحى الله إليه أن يتخذ لهم طريقا يابسا في البحر لا طين فيه ولا ماء ، بأن ضربه بعصاه ، فانشق ، وجف بما هيأ الله له من الأسباب كالرياح ، فأضحى لا يخاف لحاقا من فرعون وجنوده ، ولا يخشى غرقا من البحر.

٢٥٧

٢ ـ تورط فرعون بعد أن أرسل فريقا من عسكره وراء بني إسرائيل في البحر ، فلما لم يغرقوا ، أمر جنوده بالمسيرة بقيادته ، فتبعهم ليلحقهم مع جنوده ، فأطبق عليهم البحر ، ولم ينج أحد.

٣ ـ كان فرعون شؤما على نفسه وعلى قومه ، فإنه أضلهم عن الرشد ، وما هداهم إلى خير ولا نجاة ؛ لأنه قدر أن موسى عليه‌السلام ومن معه لا يفوتونه ؛ لأن بين أيديهم البحر.

فلما ضرب موسى البحر بعصاه انفلق منه اثنا عشر طريقا ، وكان الماء بين الطرق قائما كالجبال ، كما قال تعالى : (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الشعراء ٢٦ / ٦٣] أي الجبل الكبير ، فأخذ كل سبط من أسباط بني إسرائيل طريقا.

وأوحى الله إلى أطواد الماء بالتشبك ، فصارت شبكات يرى بعضهم بعضا ، ويسمع بعضهم كلام بعض ، فكان هذا من أعظم المعجزات ، وأكبر الآيات. فلما أقبل فرعون ، ورأى الطرق في البحر ، والماء قائما ، أوهمهم أن البحر فعل هذا لهيبته ، فدخل هو وأصحابه ، فانطبق البحر عليهم. وهذا كله يحتاج إلى الإيمان بقدرة الله.

٤ ـ أنعم الله على بني إسرائيل بنعم كثيرة ، ذكر منها هنا ثلاثا ، وهي الإنجاء من آل فرعون ، والمواعدة : إتيان جانب الطور ، وإنزال المن والسلوى في التيه.

٥ ـ إن النعم تقتضي الحفظ والشكر ، فقد يسر الله لهم الأكل من طيبات الرزق الحلال ولذيذه الذي لا شبهة فيه ، فما عليهم إلا حفظ النعمة ، فلا يؤخذ منها أكثر من الحاجة ، وشكرها ، فلا تؤدي إلى السرف والبطر والمعصية ، وهذا هو الطغيان ، أي التجاوز إلى ما لا يجوز.

٢٥٨

٦ ـ إن جحود النعمة يوجب حلول غضب الله ونزوله ، ومن نزل به غضب الله وعقابه ونقمته وعذابه ، فقد شقي وهلك وهوى ، أي صار إلى الهاوية وهي قعر النار.

٧ ـ الله غفور على الدوام لمن تاب من الشرك والكفر والمعصية ، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وعمل صالح الأعمال بأداء الفرائض والطاعات ، واجتنب المعاصي ، ثم أقام على إيمانه حتى مات عليه.

ـ ١١ ـ

تكليم الله موسى في الميقات وفتنة السامري بصناعة العجل إلها

(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩))

٢٥٩

الإعراب :

(وَما أَعْجَلَكَ ... ما) مبتدأ ، و (أَعْجَلَكَ) خبره ، وفيه ضمير يعود إلى (ما) وتقديره : أي شيء أعجلك؟.

(يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً وَعْداً) إما منصوب على المصدر ، تقول : وعدته وعدا ، كضربته ضربا ، وإما أن يكون الوعد بمعنى الموعود ، كالخلق بمعنى المخلوق ، فيكون مفعولا به ثانيا ل (يَعِدْكُمْ) على تقدير حذف مضاف ، أي تمام وعد حسن.

(ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) بالفتح : هو اسم أي بإصلاح ملكنا ورعايته ، ومن ضم الميم جعله مصدر «ملك» يقال : ملك بين الملك ، ومن كسر الميم جعله مصدر «مالك» يقال : مالك بين الملك ، والمصدر هنا مضاف إلى الفاعل.

(فَنَسِيَ) الفاعل إما (السَّامِرِيُ) أي نسي طاعتنا وتركها ، والنسيان بمعنى الترك ، قال تعالى : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة ٩ / ٦٧] أي تركوا طاعة الله فتركهم في النار ، وإما الفاعل (مُوسى) أي ترك موسى ذلك وأعرض عنه ، والأول أوجه.

(أَلَّا يَرْجِعُ) «أن» مخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف : أنه.

المفردات اللغوية :

(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ) لمجيء ميعاد أخذ التوراة ، وهو يدل على تقدم قومه في المسير إلى المكان ، وهو سؤال عن سبب العجلة ، يتضمن إنكارها ، من حيث إنها نقيصة في نفسها ، انضم إليها إغفال القوم ، وإيهام التعظم عليهم ، فأجاب موسى عن الأمرين ، وقدم جواب الإنكار ؛ لأنه أهم فقال : (هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) أي ما تقدمتهم إلا بخطي يسيرة لا يعتد بها عادة ، وهم قادمون ورائي ، ليس بيني وبينهم إلا مسافة قريبة ، يتقدم الرفقة بها بعضهم بعضا. ثم قال : (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) عني ، أي زيادة على رضاك ، فإن المسارعة إلى امتثال أمرك والوفاء بعهدك يوجب مرضاتك. وقبل الجواب أتى بالاعتذار بحسب ظنه. يقال : جاء على أثره : أي لحقه بلا تأخير.

قال تعالى : (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) أي ابتليناهم واختبرناهم بعبادة العجل ، بعد فراقك لهم ، وأضلهم موسى السامري : أي أوقعهم في الضلال والخسران ، باتخاذ العجل والدعاء إلى عبادته. وهم الذين خلفهم مع هارون ، وكانوا ست مائة ألف ، ما نجا من عبادة العجل منهم إلا اثنا عشر ألفا. وقرئ : وأضلهم السامري ، أي أشدهم ضلالة ؛ لأنه كان ضالا مضلا. والسامري : منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة.

٢٦٠