التفسير المنير - ج ١٦

الدكتور وهبة الزحيلي

(كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً كَثِيراً) منصوب لأنه صفة لمصدر محذوف ، أي نسبحك تسبيحا كثيرا.

(اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) يقرأ بوصل الهمزة وقطعها ، فالوصل دعاء وطلب وهو كالأمر ، والقطع فعل مضارع مجزوم ؛ لأنه جواب (اجْعَلْ) على تقدير شرط مقدر ، فهو مجزوم بجواب الطلب.

البلاغة :

(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) استعارة ، استعار جناح الطير بجنب الإنسان.

(بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) فيه احتراس : وهو أن يؤتى بشيء يرفع توهم غير المراد ، فلو اقتصر على (بَيْضاءَ) لأوهم أن ذلك من برص أو بهق ، فاحترس بقوله (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ).

المفردات اللغوية :

(وَاضْمُمْ) الضم : الجمع (يَدَكَ) اليمنى بمعنى الكف (إِلى جَناحِكَ) إلى جنبك الأيسر تحت العضد ، علما بأن أصل الجناح للطائر ، ثم أطلق على اليد والعضد والجنب ، وهذا هو المراد هنا (تَخْرُجْ) خلاف ما كانت عليه من الأدمة (بَيْضاءَ) مشعة كشعاع الشمس تعشي البصر (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) من غير عاهة أو قبح كالبرص الذي تنفر الطباع منه (آيَةً أُخْرى) معجزة ثانية غير العصا.

(لِنُرِيَكَ) أي فعلنا ذلك لنريك بها (مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) هي صفة : (آياتِنَا) أي من آياتنا العظمى الدالة على قدرتنا وعلى رسالتك. وإذا أراد عودها إلى حالتها الأولى ، ضمها إلى جناحه كما تقدم ، ثم أخرجها (اذْهَبْ) رسولا (إِلى فِرْعَوْنَ) ومن معه بهاتين الآيتين وادعه إلى العبادة (إِنَّهُ طَغى) جاوز الحد في كفره ، وعتوه وتجبره ، حتى ادعى الألوهية (اشْرَحْ لِي صَدْرِي) أي وسعه لتحمل أعباء الرسالة والصبر على مشاقها (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) سهل لي ما أمرتني به من تبليغ الرسالة (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) أزل تلك العقدة التي في لساني ، حدثت في احتراقه بجمرة وضعها بفيه وهو صغير ، لئلا ينفر مني الناس ويستخفوا بي (يَفْقَهُوا قَوْلِي) يفهموا قولي عند تبليغ الرسالة.

(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً) معينا ، والأزر : القوة أو الظهر ، يقال : آزره : أي قواه وأعانه (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) أي اجعله شريكا معي في النبوة والرسالة (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً) أي تسبيحا كثيرا (وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) أي ونذكرك ذكرا كثيرا (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) عالما بأحوالنا ، فأنعمت بالرسالة ، ولا نريد بالطاعة إلا رضاك.

٢٠١

المناسبة :

بعد أن ذكر تعالى معجزة العصا الدالة على صدق رسالة موسى عليه‌السلام ، وهي المعجزة الأولى ، ذكر المعجزة الثانية وهي معجزة اليد البيضاء التي تنقلب مشعة كشعاع الشمس ، تعشي البصر.

وبعد هاتين الآيتين أمره الله بالذهاب إلى فرعون ، لتبليغ رسالة ربه ودعوته إلى عبادة الله ، فدعا موسى عليه‌السلام ربه بأربعة أمور : شرح صدره ، وتيسير أمره ، وحل عقدة لسانه ، وجعل أخيه هارون نبيا وزيرا له ، لتقويته ، وتعاونه معه في أداء مهمة التبليغ ، وذكر الله وعبادته ، فصار مطلوب موسى ثمانية أمور ، أربع منها وسائل ، وأربع أخرى هي غايات.

التفسير والبيان :

هذا برهان ثان لموسى عليه‌السلام على نبوته ، وهو أن الله أمره أن يدخل يده في جيبه أو في جناحه (جنبه) معبرا عن الجنب بالجناح ، فقال :

(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى) أي واضمم يا موسى يدك اليمنى أو كفك إلى جناحك (وهو جنبك تحت العضد) واجعلها تحت الإبط الأيسر ، تخرج بيضاء لامعة ذات نور ساطع يضيء بالليل والنهار كضوء الشمس والقمر ، من غير عيب كبرص أو أذى أو شين ـ علما بأن جلد موسى كان أسمر ـ معجزة أخرى غير العصا ، ثم ردها فعادت كما كانت بلونها. وإذا حاول السحرة إبطال معجزة العصا ، فإنه لم يحاول أحد إبطال معجزة اليد.

وذلك أن موسى عليه‌السلام كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها ، تخرج تتلألأ ، كأنها فلقة قمر. قال الحسن البصري : أخرجها والله كأنها مصباح ، فعلم موسى أنه قد لقي ربه عزوجل.

٢٠٢

قال الله تعالى في مكان آخر : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ، فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) [القصص ٢٨ / ٣٢] ، وعبر تعالى عن الجناح أيضا بالجيب ، فقال : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ، تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) [النمل ٢٧ / ١٢] ، (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) [القصص ٢٨ / ٣٢].

(لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) فعلنا هذا لنريك بهاتين الآيتين بعض دلائل قدرتنا على كل شيء في السموات والأرض والمخلوقات الموجودات.

وبعد أن أظهر تعالى له هذه الآية أمره بالذهاب إلى فرعون ، وبين العلة في ذلك ، وهي أنه طغى ، فقال :

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي اذهب رسولا إلى فرعون ملك مصر الذي خرجت فارا منه ، ومعك ما رأيته من آياتنا الكبرى ، وادعه إلى توحيد الله وعبادته ، ومره بأن يحسن إلى بني إسرائيل ، فإنه كفر وتجاوز قدره والحدود كلها ، فآثر الحياة الدنيا وادعى أنه الرب الأعلى.

ولما أمر الله تعالى موسى عليه‌السلام بالذهاب إلى فرعون ، وكان ذلك تكليفا شاقا ، سأل ربه أمورا ثمانية ، ثم ختمها بعلة سؤال تلك الأشياء ، فقال :

١ ـ (قالَ : رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) قال موسى : رب وسع لي صدري وأزل عنه الضيق فيما بعثتني به ، فإنه أمر عظيم وخطب جسيم ، وسبب هذا السؤال قوله : (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) [الشعراء ٢٦ / ١٣] ، فسأل الله تعالى أن يبدل ذلك الضيق بالسعة ، ليحتمل أذى الناس وأعباء الرسالة.

٢ ـ (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) أي سهل علي القيام بما كلفتني به من تبليغ الرسالة ، وقوني على مهمتي ، فإن لم تكن أنت عوني ونصيري وإلا فلا طاقة لي بذلك.

٢٠٣

٣ ـ (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) أي وأطلق لساني بالنطق ، وأزل ما فيه من العقدة والعي ليفهموا قولي وكلامي بتبليغ الرسالة. وقد كان في لسانه رتة (حبسة) أو لثغة حين عرض عليه وهو صغير التمرة والجمرة ، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه ، فكان فيه لكنة ، وذلك حين نتف شعرة من ذقن فرعون وهو صغير ، فغضب ، وتوجس منه شرا ، فقالت امرأته : إنه صغير لا يدري شيئا ، فأتت له بجمرة وبلحة ، فوضع الجمرة على لسانه.

وروي أن الحسين رضي‌الله‌عنه كان في لسانه رتة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن هذه ورثها من عمه موسى».

٤ ـ (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي) أي واجعل لي عونا ومساعدا لي في بعض أموري ، من أهل بيتي هارون أخي ، اجعله رسولا ، ليتحمل معي أعباء الرسالة. ودعم الأنبياء تقتضيه حاجة نشر الدين ، لذا قال عيسى عليه‌السلام : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ ، قالَ الْحَوارِيُّونَ : نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) [آل عمران ٣ / ٥٢].

٥ ـ ٦ : (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) أي يا رب أحكم به قوتي ، واجعله شريكي في أمر الرسالة ، حتى نؤدي المطلوب على الوجه الأكمل ونحقق أفضل الغايات. والحاصل أنه شفع له كي يكون نبيا مثله ليعينه ، ويشد به أزره (قوته) ويجعله ناصرا له ؛ لأنه لا اعتماد على القرابة.

٧ ـ ٨ : (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) أي لكي نزهك كثيرا عما لا يليق بك من الصفات والأفعال ، ونذكرك كثيرا وحدك دون أن نشرك معك غيرك. قال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا.

(إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) أي إنك يا رب كنت عليما بأحوالنا وأحوال

٢٠٤

غيرنا ، في اصطفائك لنا ، وإعطائك إيانا النبوة ، وبعثتك لنا إلى عدوك فرعون الطاغية الجبار الذي ادعى الألوهية ، فنمتثل أمرك ، ولك الحمد على ذلك.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن إخراج موسى عليه‌السلام يده من جيبه أو جناحه بيضاء لامعة تضيء كضوء الشمس والقمر وأشد ضوءا : هي المعجزة الثانية بعد معجزة العصا.

٢ ـ أرسل الله موسى رسولا إلى فرعون الطاغية الذي ادعى الألوهية ، وآزرته فئته الباغية في ذلك الادعاء ، وأيد الله موسى بالعصا واليد ، وأراه ما يدل على أنه رسول.

٣ ـ دعا موسى ربه ، والدعاء نوع من العبادة ، لتيسير القيام بمهمته وتحقيقه أحسن الغايات ، وقد أجابه ربه لكل ما طلب لقوله تعالى : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) ، فشرح صدره وأزال عنه الضيق والغم ، ويسر أمره وقواه ، وانحل أكثر العقد من لسانه ، وإن بقي منها شيء قليل ، لقوله تعالى حكاية عن فرعون : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) [الزخرف ٤٣ / ٥٢] وجعل له أخاه هارون نبيا ليعاونه في أداء الرسالة ، والتعاون ضروري لإنجاح المقصود ، وآزره وأحكم قوته به ، وشاركه في مهمته ، وكانا كثيرا ما يسبحان الله وينزهانه عما لا يليق به من نقص كادعاء ولد أو شريك معه ، ويذكرانه وحده لا شريك له ، عملا بما دعا به موسى عليه‌السلام.

٤ ـ إن الله تعالى عالم بخفيات الأمور ، عالم بموسى وأخيه وبأحوال فرعون وغير ذلك ، مدرك ما تعرض له موسى في الصغر ، فأحسن إليه ، ونصره على فرعون وملئه.

٢٠٥

ـ ٤ ـ

نعم الله الثمان على موسى قبل النبوة

(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١))

الإعراب :

(أَنِ اقْذِفِيهِ .. فَاقْذِفِيهِ أَنِ اقْذِفِيهِ) في موضع نصب على البدل من (ما). وهاء (اقْذِفِيهِ) لموسى ، وهاء (فَاقْذِفِيهِ) للتابوت.

(وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فُتُوناً) إما منصوب على المصدر (مفعول مطلق) مثل : ضربت ضربا ، وإما منصوب بحذف حرف الجر ، أي فتناك بفتون ، ومعناه : وفتناك بأنواع من الفتن.

البلاغة :

(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) استعارة تبعية ، شبه اختياره للمحبة والرسالة والتكريم والتكليم بمن يختاره الملك للمهام الجليلة ، لما يرى فيه من المقومات والخصال الحميدة ، لئلا يكون أحد أقرب منزلة منه إليه.

٢٠٦

المفردات اللغوية :

(سُؤْلَكَ) مسئولك ، أي مطلوبك (مَنَنَّا) أنعمنا (إِذْ) للتعليل (أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ) ألهمنا أو في المنام ، لما ولدتك وخافت أن يقتلك فرعون في جملة من يولد ، كما أوحى إلى مريم ، وإلى النحل ، وإلى الحواريين وليس وحيا على جهة النبوة (ما يُوحى) في أمرك (اقْذِفِيهِ) ألقيه واطرحيه أي ألقي موسى الصغير في التابوت (فَاقْذِفِيهِ) فألقي التابوت (فِي الْيَمِ) البحر ، والمراد هنا نهر النيل (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) الشاطئ ، والأمر هنا بمعنى الخبر (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) وهو فرعون (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) أي محبة كائنة مني ، لتصبح محبوبا بين الناس ، فأحبك فرعون وكل من رآك (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) وتربى على رعايتي وحفظي لك بمرأى مني.

(إِذْ تَمْشِي) إذ للتعليل (أُخْتُكَ) مريم ، لتتعرف على خبرك ، وقد أحضروا مراضع وأنت لا تقبل ثدي واحدة منهن (يَكْفُلُهُ) يضمه إلى نفسه ويصبح كافلا له ، فأجيبت ، فجاءت بأمه ، فقبل ثديها (تَقَرَّ عَيْنُها) تسر بلقائك (وَلا تَحْزَنَ) بفراقك وأنت بفراقها وفقد شفقتها (وَقَتَلْتَ نَفْساً) هو القبطي بمصر الذي استغاثه عليه الإسرائيلي ، فاغتممت لقتله خوفا من فرعون (الْغَمِ) غم قتله ، خوفا من عقاب الله تعالى ، والغم : الكدر الحادث من خوف شيء أو فوات مقصود (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) اختبرناك بأنواع من الابتلاء ، فخلصناك مرة بعد أخرى. والفتون : الابتلاء والاختبار بالمحن ، ثم تخليصه منها. وهو إجمال لما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن ، وترك الأصحاب ، والمشي راجلا على حذر ، وفقد الزاد ، وأجر نفسه ، وغير ذلك أثناء مسيره من مصر إلى مدين ، ومدين : على ثماني مراحل من مصر ، وهي جنوب فلسطين (١).

(فَلَبِثْتَ سِنِينَ) أقمت في أهل مدين عشر سنين ، بعد مجيئك إليها من مصر عند شعيب النبي وتزوجك بابنته (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ) قدرته في علمي لأن أكلمك وأكلفك بالرسالة ، وهو أربعون سنة (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) اخترتك بالرسالة والمحبة. وكرر : (يا مُوسى) للتنبيه على غاية القصة وهي التكليم.

المناسبة :

بعد أن سأل موسى ربه أمورا ثمانية ، ذكر تعالى هنا أنه أجابه إليها ، ليتمكن

__________________

(١) خرج موسى عليه‌السلام من مصر إلى أرض مدين وهو شاب ، بعد قتل القبطي في مصر ، وفي هذه الرحلة أقام بمدين وتزوج بابنة شعيب عليه‌السلام ، وقضى عشر سنين فأكثر. ثم بعد بعثته عليه‌السلام عاد إلى مصر لإخراج بني إسرائيل من ذل العبودية ودعوة فرعون إلى دينه.

٢٠٧

من تبليغ رسالته ، ثم ذكره بنعمه السالفة عليه قبل النبوة ، وعد له ثماني نعم عظام وهي : إلهام أمه صنع صندوق وإلقاؤه وهو رضيع في النيل : (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ). وإلقاء محبة الله عليه بحيث لا يراه أحد إلا أحبه : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي). وحفظ الله له ورعايته : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي). وعودته إلى أمه للرضاع والحضانة : (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها). ونجاته من القصاص بقتل القبطي : (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ). وابتلاؤه بالفتن : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً). ومقاساته الفقر والغربة مع أهل مدين : (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ). وتكليم الله له واختياره للنبوة والرسالة والهداية : (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى ، وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي).

التفسير والبيان :

أجاب الله تعالى في هذه الآيات دعاء موسى عليه‌السلام ، وذكره بنعمه السالفة عليه ، فقال :

(قالَ : قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) أي قال الله عزوجل لموسى : قد أعطيتك ما سألته من الأمور الثمانية ، من شرح الصدر ، وتيسير الأمر ، وحل العقدة ، ونبوة هارون ، وشد أزره به ، وإشراكه في أمر الرسالة ، والتمكين من التسبيح الكثير ، والتذكر الكثير لله عزوجل.

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) أي ولقد أحسنا وتفضلنا عليك بنعم سابقة كثيرة قبل النبوة وهي :

١ ـ (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى ، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ ، فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ ، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ، يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) أي مننا عليك حين ألهمنا أمك لإنقاذك من فرعون ، أن تضعك في تابوت (صندوق من خشب أو غيره) ثم تطرح هذا التابوت في البحر (اليم) وهو هنا نهر النيل ، وأمرنا النيل

٢٠٨

بإلقائك على الشط قبالة منزل فرعون ، فأخذك فرعون عدو الله وسيصير عدوا لك في المستقبل. فبينا فرعون جالس على رأس بركة بالساحل إذ بالصندوق ، فأمر به ، فأخرج ، ففتح ، فإذا صبي جميل صبيح الوجه ، فأحبه حبا شديدا هو وزوجته ، كما قال تعالى :

٢ ـ (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) أي ألقيت عليك محبة كائنة مني في قلوب العباد ، لا يراك أحد إلا أحبك ، فأحبك فرعون وزوجه التي قالت : (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ، لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) [القصص ٢٨ / ٩].

٣ ـ (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) أي ولتتربى بمرأى مني وفي ظل رعايتي.

٤ ـ (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ ، فَتَقُولُ : هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ؟ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) أي خرجت أختك تمشي على الشاطئ ، تسير بسير التابوت ، تتابعه بنظراتها لترى في أي مكان يستقر ، فوجدت فرعون وامرأته يطلبان له مرضعة ، فقالت : هل أدلكم على من يربيه ويحفظه؟ فجاءت بالأم ، فقبل ثديها ، وكان لا يقبل ثدي مرضعة أخرى غيرها ، فرددناك إلى أمك بألطافنا ، ليحصل لها السرور برجوع ولدها إليها ، بعد أن طرحته في البحر ، وعظم عليها فراقه.

٥ ـ (وَقَتَلْتَ نَفْساً ، فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) أي قتلت القبطي الذي وكزته حين استغاث بك الإسرائيلي ، وكان قتلا خطأ ، فنجيناك من الغم الحاصل عندك من قتله خوفا من العقوبة ، بالفرار إلى مدين ، فنجوت من الحبس والقتل والتعذيب.

٦ ـ (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) أي اختبرناك مرة بعد مرة بما أوقعناك فيه من المحن المذكورة ، قبل أن يصطفيك الله لرسالته ، حتى صلحت للقيام بالرسالة لفرعون ولبني إسرائيل.

٢٠٩

٧ ـ (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) أي فأقمت ومكثت سنين مع أهل مدين بأرض العرب على ثماني مراحل من مصر ، عانيت فيها من الفقر والغربة الشيء الكثير ، حتى آجرت نفسك لشعيب لترعى غنمه مدة عشر سنين كانت مهر امرأتك.

(ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) أي أتيت في وقت سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأجعلك نبيا.

٨ ـ (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) أي اخترتك برسالاتي وبكلامي لإقامة حجتي ، وجعلتك رسولا بيني وبين خلقي لتبليغ الدين ، والهداية إلى التوحيد والشرع القويم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ لما سأل موسى عليه‌السلام ربه الأمور الثمانية ، أجاب سؤله ، وحقق مطلوبه ومرغوبه ، فضلا من الله ونعمة ، ورحمة ومنة.

٢ ـ وبعد إجابة دعائه ، ذكره الله بما أنعم عليه من النعم الثماني التي أنعم بها عليه ، قبل سؤاله ، وتتلخص في حفظه سبحانه له من شر الأعداء والقتل من ابتداء حياته ، وحين شبابه.

٣ ـ كان الإيحاء من الله لأم موسى بصنع الصندوق وقذفه في البحر إلهاما أو رؤيا رأتها في المنام ، فقد اتفق الأكثرون على أن أم موسى عليه‌السلام ما كانت من الأنبياء والرسل ، فلا يجوز أن يكون المراد من هذا الوحي هو الوحي الواصل إلى الأنبياء ؛ لقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) [الأنبياء ٢١ / ٧].

٢١٠

وأيضا جاء في القرآن الوحي لا بمعنى النبوة ، قال تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل ١٦ / ٦٨] وقال سبحانه : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) [المائدة ٥ / ١١١].

٤ ـ من عجائب فعل الله وتدبيره وصنعه أن ينجي الله موسى الرضيع من قتل فرعون ، وأن يتربى في بيت فرعون على مائدته ، وأن يكون سببا في هلاك فرعون وإغراقه في البحر مع ملئه وقومه.

٥ ـ معنى محبة الله تعالى لموسى : إيصال النفع إلى عباده ، بتهيئته للرسالة منذ الصغر ، واستمرار ذلك حال الكبر إلى آخر عمره.

٦ ـ ومن تدبير الله الخفي أن موسى الرضيع لم يقبل ثدي أحد من المراضع ، حتى أقبلت أخته المتجاهلة أمره ، فأخذته ووضعته في حجرها وناولته ثديها ، فمصه وفرح به ، فقالوا لها : تقيمين عندنا؟ فقالت : إنه لا لبن لي ، ولكن أدلكم على من يكفله وهم له ناصحون ، قالوا : ومن هي؟ قالت : أمي ، فقالوا : لها لبن؟ قالت : لبن أخي هارون ، وكان هارون أكبر من موسى بسنة ، وقيل : بثلاث ، وقيل : بأربع. وذلك أن فرعون رحم بني إسرائيل فرفع عنهم القتل أربع سنين ، فولد هارون فيها ، كما قال ابن عباس. فجاءت الأم فقبل ثديها.

٧ ـ ليس هناك في الدنيا بعد النبي أشد عاطفة من عاطفة الأم على ولدها ، بخلق الله وتقديره بإفرازها الحنان على ولدها من خلايا خاصة بها ، لذا حزنت أم موسى وقلقت على ابنها بعد إلقائه في البحر ، ولكن الله الرحيم بعباده رد إليها ابنها ، وأقر عينها ، وأزال حزنها وغمها.

٨ ـ لم يكن قتل موسى قبطيا كافرا عمدا ، وإنما كان خطأ ، وقبل النبوة حال الصغر ، قال كعب كما روى مسلم في صحيحة : وكان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة.

٢١١

٩ ـ آمن الله موسى من الخوف والقتل والحبس ، واختبره اختبارا عسيرا شاقا في مراحل حياته أثناء الشباب ، حتى صلح للرسالة.

١٠ ـ أتم موسى عليه‌السلام عشر سنوات في رعي غنم شعيب الرجل الصالح مهرا لامرأته ، وهو أتم الأجلين. وقال وهب : لبث موسى عند شعيب ثماني وعشرين سنة ، منها عشر مهر امرأته «صفورا» ابنة شعيب ، وثماني عشرة إقامة عنده حتى ولد له عنده.

١١ ـ بعد مرور موسى بمحن كثيرة حان وقت نبوته ، فجاء في وقت مقدر سابقا في علم الله وقضائه ، موافقا للنبوة والرسالة ؛ لأن الأنبياء لا يبعثون إلا أبناء أربعين سنة.

فاصطفاه الله واختاره لوحيه ورسالته ، وأرسله إلى فرعون وملئه. وتتمة القصة في الآيات التالية.

أخرج البخاري ومسلم في تفسير الاصطفاء عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «التقى آدم وموسى ، فقال موسى : أنت الذي أشقيت الناس ، وأخرجتهم من الجنة ، فقال آدم : وأنت الذي اصطفاك الله برسالته ، واصطفاك لنفسه ، وأنزل عليك التوراة؟ قال : نعم ، قال : فوجدته مكتوبا علي قبل أن يخلقني ، قال : نعم ، فحج آدم موسى».

٢١٢

ـ ٥ ـ

التوجيهات لموسى وهارون في دعوة فرعون

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨))

المفردات اللغوية :

(بِآياتِي) بمعجزاتي التسع كالعصا واليد البيضاء ، فإن فرعون لما قال لموسى : فأت بآية ، ألقى العصا ونزع اليد ، وقال : (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ). (وَلا تَنِيا) لا تفترا ولا تقصرا (فِي ذِكْرِي) أي لا تنسياني حيثما تقلبتما بتسبيح وغيره ، واتخذا ذكري عونا ومددا وتأييدا مني إليكما. قال الزمخشري : ويجوز أن يريد بالذكر : تبليغ الرسالة ، فإن الذكر يقع على سائر العبادات ، وتبليغ الرسالة من أجلها وأعظمها.

وأما وقت نبوة هارون : فروي أن الله تعالى أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى ، وقيل : سمع بمقبله ، وقيل : ألهم ذلك ، وخوطب مع أخيه موسى لأنه كان تابعا ، وموسى متبوعا.

(طَغى) تجاوز الحد بادعائه الربوبية (قَوْلاً لَيِّناً) فيه تلطف وبعد عن الغلظة والشدة ، نحو قوله تعالى : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى ، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) [النازعات ٧٩ / ١٨ ـ ١٩]. (يَتَذَكَّرُ) يتأمل ويتعظ فيؤمن. وقوله : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) متعلق باذهبا ، أو قولا ، أي باشرا الأمر على رجاء وطمع منكما أنه يثمر. والفائدة في إرسالهما مع علمه تعالى بأنه ـ أي فرعون ـ لا يؤمن : إلزام الحجة وقطع المعذرة (يَخْشى) أي يخاف من بطش

٢١٣

الله وعذابه. وقدم التذكر على الخشية ؛ لأن التذكر للمتحقق ، والخشية للمتوهم ، أي إن لم يتحقق صدقكما ، ولم يتذكر ، فلا أقل من أن يتوهمه ، فيخشى. (يَفْرُطَ) يعجل بالعقوبة (أَوْ أَنْ يَطْغى) علينا ، أي يتكبر ويزداد طغيانا (إِنَّنِي مَعَكُما) بالعون والحفظ والنصرة (أَسْمَعُ) ما يقول (وَأَرى) ما يفعل ، بل أسمع وأرى ما يجزي بينكما من قول أو فعل ، فأصرف شره عنكما.

(فَأْتِياهُ) قابلاه مواجهة (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) أطلقهم من الأسر ، ودعهم يذهبون معنا إلى الشام (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) ولا تبقهم عندك معذبين بالتكاليف الصعبة والأشغال الشاقة كالحفر والبناء وحمل الأثقال ، وقتل الولدان ، وهذا دليل على أن تخليص المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإيمان (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) أي بحجة على صدقنا بالرسالة. وهي جملة مقررة لما تضمنه الكلام السابق من دعوى الرسالة. وإنما وحد الآية وكان معه آيتان ؛ لأن المراد إثبات الدعوى ببرهانها ، فالمراد : جنس الآية ، لا الإشارة إلى وحدة الحجة وتعددها.

(وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) أي السلامة من العذاب في الدارين ، لمن صدق بآيات الله الدالة على الحق (كَذَّبَ) ما جئنا به (وَتَوَلَّى) أعرض عنه. ويلاحظ أنه قدم البشارة بالسلام للترغيب وعملا بسياسة اللين المأمور بها ، ثم جاء التصريح بالوعيد والتوكيد فيه ؛ لأن العقاب مؤيد والتهديد مهم.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى النعم الثماني على موسى في مقابل طلباته الثمانية ، ذكر هنا الأوامر والنواهي أو التوجيهات التي ينفذها هو وأخوه هارون ، كالتعليمات التي تعطى للرسل والسفراء والقناصل لدى الذهاب في مهمة إلى دولة أخرى ، للتوصل إلى نجاح المهمة ، وأداء الرسالة على أكمل وجه ، والخلاصة : أنه لما قال تعالى : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) عقبه بذكر ما لأجله اصطنعه ، وهو الإبلاغ والأداء.

التفسير والبيان :

هذه هي الأوامر والنواهي الصادرة من الله لموسى وأخيه ، فقال تعالى : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) أي اذهب يا موسى مع أخيك إلى فرعون وقومه بحججي وبراهيني ومعجزاتي التي جعلتها لك آية وعلامة على

٢١٤

النبوة ، وهي التسع آيات التي أنزلت عليك ، ولا تضعفا ، ولا تفترا عن ذكر الله ، ولا عن تبليغ الرسالة إليهم ، فإن ذكر الله عون وقوة وسلطان ، كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي عن عمارة بن دسكرة : «إن عبدي كل عبدي : الذي يذكرني وهو مناجز قرنه» أي نظيره في الشجاعة والحرب. والذكر يقع على كل العبادات ، وتبليغ الرسالة من أعظمها ، وذلك بأن يبينا لهم أن الله أرسلهما مبشرين ومنذرين ، وأنه لا يرضى منهم بالكفر ، ويذكرا لهما أمر الثواب والعقاب والترغيب والترهيب.

(اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) اذهبا إلى فرعون ، وأبطلا دعواه الألوهية بالحجة والبرهان ؛ لأنه جاوز الحد في الكفر والتمرد ، وتجبر على الله وعصاه ، حين قال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات ٧٩ / ٢٤].

وبدأ بفرعون لأنه الحاكم ، فإذا آمن تبعه الرعية ، ثم بين الله تعالى أسلوب الدعوة ، فقال :

(فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً ، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) أي فكلماه كلاما رقيقا لطيفا لا خشونة فيه ، وخاطباه بالقول اللين ، فذلك أدعى به وأحرى أن يفكر فيما تبلغانه ، ويخشى عقاب الله الموعود به على لسانكما. والمراد تركهما التعنيف ، كقولهما : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى ، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى ..) [النازعات ٧٩ / ١٨ ـ ١٩] لأن نفس الحاكم مستعلية قاسية ، لا تقبل القسر والقسوة ، وتلين للمديح والاستعطاف. وكلمة «لعل» هنا لتوقع حصول ما بعدها ، واحتمال تحققه ، فالتوقع فيها من البشر ، أي على أن تكونا راجيين لأن يتذكر أو يخشى. والخطاب وإن كان مع موسى ، فإن هارون تابع له ، فجعل الخطاب معه خطابا مع هارون.

وفي هذه الآية عبرة وعظة وهي أن فرعون في غاية العتو والاستكبار ، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك ، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا

٢١٥

بالملاطفة واللين ، كما قال تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل ١٦ / ١٢٥].

فأجاب موسى وهارون بقولهما :

(قالا : رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) أي قال موسى وهارون : يا ربنا ، إننا نخاف من فرعون إن دعوناه إلى التوحيد وعبادتك ، أن يعجل ويبادر بعقوبتنا ، ويشتط في أذيتنا ويعتدي علينا ، لتجبره وعتوه وقساوته.

(قالَ : لا تَخافا ، إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) أي قال الله لموسى وهارون : لا تخافا من فرعون ، فإنني معكما بالنصر والتأييد ، والحفظ والعون عليه ، وإنني سميع لما يجري بينكما وبينه ، ولست بغافل عنكما ، وأرى كل ما يقع ، فأصرف شره عنكما. والمراد أنه تعالى حثهما على التبليغ بجرأة وحكمة ، وتكفل لهما بالحفظ والمعونة والنصرة والوقاية من شر فرعون وغضبه. وتدل هذه الآية على أن كونه تعالى سميعا بصيرا صفتان زائدتان على العلم ؛ لأن قوله : (إِنَّنِي مَعَكُما) دل على العلم ، و (أَسْمَعُ وَأَرى) على السمع والبصر.

(فَأْتِياهُ فَقُولا : إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) أي فأتياه في مجلسه وقابلاه وقولا له : إن الله أرسلنا إليك. وقوله (رَبِّكَ) إشارة إلى أن الرب الحقيقي هو الله ، وأن دعواك الربوبية لنفسك لا معنى لها.

(فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ) أي أطلق سراح بني إسرائيل من الأسر ، وخل عنهم ، ولا تعذبهم بتذبيح أبنائهم ، واستحياء نسائهم ، وتكليفهم مالا يطيقون من السخرة في أعمال البناء والحفر ونقل الأحجار. وإنما بدأ موسى وهارون بهذا الطلب لأنه أخف وأسهل من الدعوة المباشرة إلى الإيمان بالله تعالى.

٢١٦

(قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ، وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) أي قد أتيناك بمعجزة ودلالة وعلامة من ربك على أنا مرسلون لك ، والسلامة والأمن من سخط الله ومن عذابه على من اتبع هدى ربه ، فآمن برسله ، واسترشد بآياته الداعية إلى الحق والخير وترك الظلم والضلال. وهذا ليس بتحية. والعبارة الأخيرة كانت تكتب في مكاتبات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الملوك والأمراء يدعوهم فيها إلى الإسلام.

مثل كتاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هرقل عظيم الروم ، ونصه : «بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد :

فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، فأسلم تسلم ، يؤتك الله أجرك مرتين».

ولما كتب مسيلمة الكذاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتابا صورته :

«من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، سلام عليك ، أما بعد : فإني قد أشركتك في الأمر ، فلك المدر ، ولي الوبر ، ولكن قريش قوم يعتدون».

فكتب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين».

(إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي إننا وجهنا لك النصح والإرشاد ؛ لأن الله أخبرنا فيما أوحاه إلينا من الوحي المعصوم : أن العذاب متمحض خالص لمن كذب بآيات الله وبما ندعو إليه من توحيده ، وتولى عن طاعته ، كما قال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات ٧٩ / ٣٧ ـ ٣٩] ، وقال سبحانه : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى ، لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى ، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [الليل ٩٢ / ١٤ ـ ١٦] ، وقال

٢١٧

عزوجل : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى ، وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [القيامة ٧٥ / ٣١ ـ ٣٢].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ ربط الله تعالى بين اصطناع موسى لنفسه ، أي اختياره لوحيه ورسالته ، وبين ما اختاره له ، وهو إبلاغ الرسالة ، وأداء الوحي إلى الناس.

٢ ـ أيد الله تعالى موسى وأخاه هارون عليهما‌السلام بتسع آيات أنزلت على موسى ، لتكون دليلا وآية على النبوة ، ومعجزة تثبت الصدق ، وبرهانا لفرعون وقومه على أن موسى وأخاه هارون أرسلهما الله إليهم.

٣ ـ أمر الله تعالى موسى وهارون بالذهاب إلى دعوة فرعون إلى عبادة الله والإقرار بربوبيته وألوهيته وحده لا شريك له ، وقد خاطب أولا موسى وحده تشريفا له ، ثم كرر الخطاب له مع أخيه للتأكيد.

٤ ـ قوله تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) دليل على جواز الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وأن ذلك يكون باللين من القول لمن معه القوة ، وضمنت له العصمة ، فنحن أولى بذلك ، وحينئذ يحصل الآمر أو الناهي على مرغوبه ، ويظفر بمطلوبه.

والقول اللين : هو القول الذي لا خشونة فيه.

٥ ـ الخوف من عدوان الظلمة العتاة الجبابرة كفرعون من طبيعة البشر ، لذا لم يكن مستغربا أن يقول موسى وهارون : (إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) أي أن يشطط في أذيتنا أو يعتدي علينا.

٦ ـ قال العلماء : لما لحقهما ـ أي موسى وهارون ـ ما يلحق البشر من الخوف

٢١٨

على أنفسهما ، عرفهما الله سبحانه أن فرعون لا يصل إليهما ولا قومه. وهذه الآية رد على من قال : إنه لا يخاف ؛ والخوف من الأعداء سنة الله في أنبيائه وأوليائه مع معرفتهم به وثقتهم.

لذا حكى القرآن عن موسى : (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ) [القصص ٢٨ / ٢١] ، وقال : (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) [القصص ٢٨ / ١٨] ، وقال حين ألقى السحرة حبالهم وعصيهم : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ، قُلْنا : لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) [طه ٢٠ / ٦٧ ـ ٦٨] ، وقال في الآيات المتقدمة في هذه السورة : (خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى).

ومنه حفر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخندق حول المدينة تحصينا للمسلمين وأموالهم ، مع كونه من التوكل والثقة بربه بمحل لم يبلغه أحد. ثم كان من أصحابه ما لا يجهله أحد من تحولهم عن منازلهم ، مرة إلى الحبشة ، ومرة إلى المدينة ، تخوفا على أنفسهم من مشركي مكة ، وهربا بدينهم أن يفتنوهم عنه بتعذيبهم.

قال العلماء : فالمخبر عن نفسه بخلاف ما طبع الله نفوس بني آدم عليه كاذب ، وقد طبعهم على الهرب مما يضرها ويؤلمها أو يتلفها.

٧ ـ العصمة للأنبياء من الله تعالى وحده ، لذا قال لموسى وهارون : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) أي إنه معهما بالنصر والمعونة والقدرة على فرعون. والسماع والبصر : عبارة عن الإدراك الذي لا تخفى معه خافية.

والآية دليل كما تقدم على العلم الإلهي ، وعلى كونه تعالى سميعا وبصيرا.

٨ ـ كان أول مطلب موسى وهارون من فرعون إطلاق سراح بني إسرائيل من الأسر ، وإنقاذهم من السخرة والتعب في العمل ؛ لأن بني إسرائيل كانوا عند فرعون في عذاب شديد ، يذبح أبناءهم ، ويستخدم نساءهم ، ويكلفهم من العمل في الطين واللبن وبناء المدائن ما لا يطيقونه.

٢١٩

٩ ـ كان خطاب موسى وهارون في غاية اللطف واستعمال المنطق ، فقالا له : قد جئناك بآية دالة على نبوتنا ورسالتنا إليك ، ومن اتبع الهدى سلم من سخط الله عزوجل وعذابه ، وليس هذا بتحية ، بدليل أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب.

وأضافا أيضا في كلامهما : إنا قد أوحي إلينا أن العذاب أي الهلاك والدمار في الدنيا ، والخلود في جهنم في الآخرة على من كذب أنبياء الله ، وتولى ، أي أعرض عن الإيمان. قال ابن عباس : هذه أرجى آية للموحدين ؛ لأنهم لم يكذبوا ولم يتولوا.

ـ ٦ ـ

الحوار بين فرعون وموسى حول الربوبية

(قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥))

الإعراب :

(قالَ : عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) : (عِلْمُها) : مبتدأ ، و (فِي كِتابٍ) : خبره ، و (عِنْدَ رَبِّي) : ظرف يتعلق بالخبر ، وتقديره : علمها كائن في كتاب عند ربي. ويحتمل أن يكون (عِنْدَ

٢٢٠