التفسير المنير - ج ١٦

الدكتور وهبة الزحيلي

(فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ) بعد ما استوفى الأربعين ليلة وأخذ التوراة (غَضْبانَ) عليهم (أَسِفاً) شديد الحزن بما فعلوا (وَعْداً حَسَناً) أي صدقا أنه يعطيكم التوراة فيها هدى ونور (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) أي زمان الإنجاز ، يعني زمان مفارقته لهم (أَنْ يَحِلَ) يجب عليكم (غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ) بعبادتكم العجل (فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) وعدكم إياي بالثبات على الإيمان بالله ، والقيام بما أمرتكم به ، وتركتم المجيء بعدي.

(بِمَلْكِنا) مثلث الميم أي بقدرتنا واختيارنا وأمرنا ، إذ لو خلينا وأمرنا ولم يسول علينا السامري ، لما أخلفنا موعدك (وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) وقرئ : وحملنا ، و (أَوْزاراً) أثقالا ، وزينة القوم أي حلي قوم فرعون ، أي حملنا أحمالا من حلي القبط التي استعرناها منهم حين هممنا بالخروج من مصر ، باسم العروس (فَقَذَفْناها) طرحناها في النار بأمر السامري (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ) أي كما ألقينا فكذلك ألقى السامري ما كان معه منها أي من حليهم ومن التراب الذي أخذه من أثر حافر فرس جبريل.

(فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً) أي صاغ من تلك الحلي المذابة عجلا جثة لا روح فيها (لَهُ خُوارٌ) الخوار : صوت العجل ، والمراد هنا صوت يسمع بسبب التراب الذي يكون أثره الحياة فيما يوضع فيه ، وقد وضعه في فم العجل بعد صوغه.

(فَقالُوا) أي السامري وأتباعه (فَنَسِيَ) أي نسي السامري وترك ما كان عليه من إظهار الإيمان ، وقيل في زعم السامري : نسي موسى ربه هنا ، وذهب يطلبه عند الطور.

(أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) ألا يرد العجل لهم جوابا (وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أي لا يقدر على دفع ضر عنهم ولا جلب نفع لهم ، فكيف يتخذ إلها؟!

المناسبة :

بعد تعداد النعم على بني إسرائيل ، أردف هذا بقصة الكلام الذي جرى بينه تعالى وبين موسى في الميقات بحسب المواعدة التي واعده بها ربه سابقا ، ثم أعقبه ببيان فتنة السامري لبني إسرائيل باختراع العجل من الذهب ، وجعله إلها ، يصدر صوتا حينما تهب رياح معينة ، فتحرك التراب الذي في فمه ، فوبخهم الله بأن هذا العجل لا يجيب سائله ، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا.

وتجاوب بني إسرائيل في تأليه العجل وعبادته نابع من ميلهم إلى الوثنية

٢٦١

أثناء مخالطة المصريين ، بدليل أنه لما نجاهم الله من طغيان فرعون ، طلبوا من موسى نفسه عليه‌السلام أن يصنع لهم تمثالا ليعبدوه ، كما قال تعالى : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ ، فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ ، قالُوا : يا مُوسَى ، اجْعَلْ لَنا إِلهاً ، كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ، قالَ : إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف ٧ / ١٣٨].

التفسير والبيان :

(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) أي ما حملك على أن تسبقهم ، والقوم : هم بنو إسرائيل ، والمراد بهم هنا النقباء السبعون ، أي ما الذي حملك على العجلة حتى تركت النقباء وخرجت من بينهم.

وذلك أن الله وعد موسى باللقاء في جبل الطور بعد هلاك فرعون ، ليعطيه الألواح التي فيها الوصايا الدستورية لبني إسرائيل. فلما أهلك الله فرعون سأل موسى ربه الكتاب ، فأمره أن يصوم ثلاثين يوما ، ثم زيدت إلى أربعين يوما : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ ، فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ : اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ، وَأَصْلِحْ ، وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف ٧ / ١٤٢].

وكانت المواعدة أن يوافي موسى وجماعة من وجوه قومه ، فاختار موسى منهم سبعين رجلا : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا) [الأعراف ٧ / ١٥٥] وهم النقباء السبعون الذين اختارهم ، فسار موسى بهم ، ثم عجل من بينهم شوقا إلى ربه ، أي لما قرب من الطور سبقهم شوقا إلى سماع كلام الله ، فقال الله له : ما أعجلك؟ أي ما الذي حملك على العجلة حتى تركت قومك وخرجت من بينهم؟.

وهذا الإنكار إنكار للعجلة في ذاتها ؛ لما فيها من عدم العناية بصحبه ؛ لأن من شرط المرافقة الموافقة ، وهو تعليم للأدب الحسن الرفيع في المصاحبة.

٢٦٢

(قالَ : هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي ، وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) أي قال موسى مجيبا ربه : هم بالقرب مني ، واصلون بعدي ، وما تقدمتهم إلا بخطإ يسيرة ، وسارعت إليك رب لتزداد عني رضا بمسارعتي إلى الوصول إلى مكان الموعد ، امتثالا لأمرك ، وشوقا إلى لقائك. فهو عليه‌السلام يعتذر بالخطإ في الاجتهاد.

(قالَ : فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) أي قال الله تعالى : إنا قد اختبرنا قومك بني إسرائيل من بعد فراقك لهم ، وهم الذين تركهم مع أخيه هارون ، وجعلهم موسى السامري في ضلالة عن الحق ، باتخاذهم عبادة العجل من ذهب.

والسامري من قبيلة السامرة ، أو من قوم يعبدون البقر ، والأكثرون أنه كان من عظماء بني إسرائيل من قبيلة السامرة ، قال لمن معه من بني إسرائيل : إنما تخلف موسى عن الميعاد الذي بينكم وبينه وهو عشر ليال ، لما صار معكم من الحلي ، وهي حرام عليكم ، وأمرهم بإلقائها في النار ، وكان منها العجل ، الذي يصدر منه صوت أحيانا بفعل تأثير الرياح.

(فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) أي فعاد موسى إلى قومه بني إسرائيل بعد انقضاء الليالي الأربعين ، شديد الغضب والحنق ، والأسف والحزن والجزع.

(قالَ : يا قَوْمِ ، أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً؟) أي قال موسى : يا قوم أما وعدكم ربكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة وحسن العاقبة ، من إنزال الكتاب التشريعي العظيم لتعملوا به ، والنصر على عدوكم ، وتملككم أرض الجبارين وديارهم ، والثواب الجزيل في الآخرة بقوله المتقدم : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى).

٢٦٣

(أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ ، فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) أي هل طال عليكم الزمان في انتظار وعد الله ونسيان ما سلف من نعمه ، ولم يمض على ذلك من العهد غير شهر وأيام ، (أَمْ) (أي بل (١)) أردتم بصنيعكم هذا أن ينزل عليكم غضب ونقمة وعقوبة من ربكم؟ فأخلفتم وعدي ، إذ وعدتموني أن تقيموا على طاعة الله عزوجل إلى أن أرجع إليكم من الطور. يعني هل طال العهد عليكم فنسيتم أو أردتم المعصية فأخلفتم؟.

(قالُوا : ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) أي أجابوه قائلين : ما أخلفنا عهدك ووعدك باختيارنا وقدرتنا ، بل كنا مضطرين إلى الخطأ. وهذا إقرار منهم بالمعصية والوقوع في الفتنة بتسويل السامري وغلبته على عقولهم ، كما قال تعالى :

(وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ ، فَقَذَفْناها ، فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ) أي ولكن حملنا أثقالا من زينة القوم أي القبط المصريين ، حين خرجنا من مصر معك ، وأوهمناهم أننا نجتمع في عيد لنا أو وليمة. وسميت أوزارا أي آثاما ؛ لأنه لا يحل لهم أخذها. وقال السامري لهم : إنما حبس موسى عنكم بشؤم حرمتها ، ثم أمرنا أن نحفر حفرة ، ونملأها نارا ، وأن نقذف الحلي فيها ، فقذفناها ، أي فطرحناها في النار طلبا للخلاص من إثمها ، فمثل ذلك قذف السامري ما معه ، وصاغ من الحلي عجلا ، ثم ألقى عليه قبضة من أثر الرسول جبريل.

(فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) أي فأخرج السامري لبني إسرائيل من الذهب الملقى في النار (الأوزار) جسد عجل لا روح ولا حياة فيه ، له خوار العجول ؛ لأنه صنعه بطريقة معينة ، عمل فيه خروقا ، وألقى فيه رملا من أثر جبريل ، فكان إذا دخلت الريح في جوفه خار. والخوار : صوت البقر.

__________________

(١) بل : للإضراب عن الكلام الأول وعدول إلى الثاني ، كأنه يقول : بل أردتم .. إلخ.

٢٦٤

(فَقالُوا : هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى ، فَنَسِيَ) أي قال السامري ومن فتن به : هذا هو إلهكم وإله موسى ، فاعبدوه ، ولكن موسى نسي أن يخبركم أن هذا إلهكم.

فرد الله تعالى عليهم مقرعا لهم ومسفها عقولهم ، فقال :

(أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً ، وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أي أفلا يعتبرون ويتفكرون في أن هذا العجل لا يرد عليهم جوابا ، ولا يكلمهم إذا كلموه ، ولا يقدر أن يدفع عنهم ضررا ، أو يجلب لهم نفعا ، فكيف يتوهمون أنه إله؟!.

فقه الحياة أو الأحكام :

تدل الآيات على ما يأتي :

١ ـ تعجل موسى عليه‌السلام سابقا قومه النقباء السبعين شوقا للقاء ربه وسماع كلامه ، باجتهاد منه ، ولكنه أخطأ في ذلك الاجتهاد ، فاستوجب العتاب.

ثم إن العجلة وإن كانت في الجملة مذمومة ، فهي ممدوحة في الدين ، قال تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) [آل عمران ٣ / ١٣٣].

وكنى موسى عن ذكر الشوق وصدقه بابتغاء الرضا ، قائلا : (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) أي عجلت إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عني.

٢ ـ اختبر الله بني إسرائيل في غيبة موسى عليه‌السلام ، ليتبين القائمين على أمر الله عزوجل ، واعتقاد توحيده ، والتزام شريعته ، تبين انكشاف وظهور ؛ لأن الله عالم بالجميع.

٣ ـ لقد أضلهم السامري ، أي دعاهم إلى الضلالة ، أو هو سببها.

٢٦٥

٤ ـ حق لموسى عليه‌السلام أن يعود إلى قومه شديد الغضب والأسى بسبب ما أحدثوا بعده من عبادة العجل.

٥ ـ بادر موسى إلى عتاب قومه بتذكيرهم بنعم الله عزوجل عليهم ، ومنها إنجاؤهم من فرعون وجنوده ، ووعدهم بالجنة إذا أقاموا على طاعته ، ووعدهم أنه يسمعهم كلامه في التوراة على لسان موسى ، ليعملوا بما فيها ، فيستحقوا ثواب عملهم. وقوله : (أَلَمْ يَعِدْكُمْ) يدل على أنهم كانوا معترفين بالإله ، لكنهم عبدوا العجل على التأويل الذي يذكره عبدة الأصنام.

٦ ـ لا عذر لهم في نقض العهد الذي لم يطل أمره ، ولكنهم أرادوا العصيان وإحداث الأعمال التي تكون سبب حلول غضب الله بهم ، وأخلفوا الوعد مع موسى أن يقيموا على طاعة الله عزوجل إلى أن يرجع إليهم من الطور.

٧ ـ اعتذروا لموسى عليه‌السلام بأنهم كانوا مضطرين إلى خلف الموعد ، ونقض العهد ، وذلك للتخلص من آثام الحلي التي كانوا قد أخذوها من القبط المصريين ، حين أرادوا الخروج مع موسى عليه‌السلام ، وأوهموهم أنهم يجتمعون في عيد لهم أو وليمة ، فألقوها في النار لتذوب.

٨ ـ لما ذابت الحلي في النار ، أخذها السامري ، وصاغ لهم منها عجلا ، ثم ألقى عليه قبضته من أثر فرس جبريل عليه‌السلام ، فصار عجلا جسدا له خوار.

٩ ـ زيف السامري الحقائق ، ودلس على بني إسرائيل ، وقال لهم مع أتباعه الذين كانوا ميالين إلى التجسيم والتشبيه ؛ إذ قالوا : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف ٧ / ١٣٨] : هذا إلهكم وإله موسى الذي نسي أن يذكر لكم أنه إلهه.

١٠ ـ سفه الحق تعالى أحلامهم وعاب تفكيرهم ، وقال لهم : أفلا يعتبرون

٢٦٦

ويتفكرون في أن هذا العجل لا يكلمهم ، ولا يملك لهم ضرا يدفعه عنهم ولا نفعا يجلبه لهم ، فكيف يكون إلها؟!.

أما الذي يعبده موسى عليه‌السلام فهو يضر وينفع ويعطي ويمنع.

١١ ـ دل قوله تعالى : (أَفَلا يَرَوْنَ ..) على وجوب النظر في معرفة الله تعالى ، كما في آية أخرى : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) [الأعراف ٧ / ١٤٨]. وهو قريب في المعنى من قوله تعالى في ذم عبدة الأصنام : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) [الأعراف ٧ / ١٩٥].

ـ ١٢ ـ

معاتبة موسى لهارون على تأليه العجل وإلقائه في البحر

وتوحيد الإله الحق

(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ

٢٦٧

إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨))

الإعراب :

(يَا بْنَ أُمَ) بالفتح أراد يا بن أمي بفتح الياء ، فأبدل من الكسرة فتحة ، ومن الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، ثم حذف الألف تخفيفا ؛ لأن الفتحة تدل عليها. ومن قرأ بالكسر (يَا بْنَ أُمَ) أراد يا بن أمي إلا أنه حذف الياء ؛ لأن الكسرة قبلها تدل عليها ، والأصل إثباتها ؛ لأن الياء إنما تحذف من المنادي المضاف ، نحو : يا قوم ، ويا عباد ، والأم ليست بمناداة هنا ، وإنما المنادي هو «الابن».

(لَنْ تُخْلَفَهُ) فعل مبني للمجهول ، وضمير المخاطب نائب الفاعل ، وهاء (تُخْلَفَهُ) مفعول ثان منصوب. ومن قرأ بكسر اللام (لَنْ تُخْلَفَهُ) كان مضارع (أخلفت الموعد) والمفعول الثاني حينئذ محذوف ، أي (لَنْ تُخْلَفَهُ) أي الموعد ؛ لأن أخلف : يتعدى إلى مفعولين.

(وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) تمييز محول عن الفاعل ، أي وسع علمه كل شيء.

البلاغة :

(أَمْرِي قَوْلِي نَفْسِي) وكذا (نَفْعاً نَسْفاً عِلْماً) سجع حسن غير متكلف.

المفردات اللغوية :

(مِنْ قَبْلُ) من قبل رجوع موسى (إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) إنما وقعتم في الفتنة والضلال بالعجل (فَاتَّبِعُونِي) في الثبات على الحق وعبادة الرحمن (وَأَطِيعُوا أَمْرِي) في تلك العبادة (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ) لن نزال على العجل وعبادته (عاكِفِينَ) مقيمين (قالَ : يا هارُونُ) قال موسى بعد رجوعه (ضَلُّوا) بعبادة العجل (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) لا : زائدة ، أي أن تتبعني في الغضب لله ومقاتلة من كفر بالله (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) بالصلابة في الدين ، والمحاماة عنه ، وعصيانك بإقامتك بين قوم لا يعبدون الله تعالى.

(قالَ : يَا بْنَ أُمَ) أراد أمي ، وخص الأم استعطافا لقلبه (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) لا تأخذ بشعر لحيتي ولا بشعر رأسي ، وكان أخذ بلحيته بشماله ، وبشعره بيمينه ، يجره إليه ، من شدة

٢٦٨

غضبه لله ، ومن المعلوم أن موسى عليه‌السلام كان حديدا خشنا متصلبا في كل شيء ، فلم يتمالك حين رآهم يعبدون العجل ، ففعل ما فعل. (خَشِيتُ) خفت لو اتبعتك (وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) ولم تراع قولي فيما رأيته في ذلك.

(قالَ : فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ) أي ثم أقبل عليه وقال منكرا : ما شأنك الداعي إلى ما صنعت ، وما الذي حملك على هذا الأمر الخطير؟ (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) أي علمت بما لم يعلموه (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) فقبضت قبضة من تربة موطئ جبريل عليه‌السلام ، فهو الرسول ، وقيل : موسى عليه‌السلام ، والقبضة : الأخذ بجميع الكف (فَنَبَذْتُها) ألقيتها وطرحتها في صورة العجل المصاغ (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) أي ومثل ذلك زينت وحسنت لي نفسي.

(قالَ : فَاذْهَبْ) قال موسى له : (فَاذْهَبْ) من بيننا (فِي الْحَياةِ) مده حياتك (أَنْ تَقُولَ) لمن رأيته ، عقوبة على ما فعلت (لا مِساسَ) أي لا تقربني ، ولا مخالطة ، فلا يقربه ولا يخالطه أحد ، ولا يخالط أحدا ، فعاش وحيدا طريدا ، وإذا حدث مساس مع أحد ، أخذته الحمى (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً) في الآخرة لعذابك (لَنْ تُخْلَفَهُ) أي سيأتيك الله به حتما ، وتبعث إليه ، وبكسر اللام : لن تغيب عنه (ظَلْتَ) أصله : ظلت ، فحذفت الأولى تخفيفا ، أي دمت (عاكِفاً) مقيما تعبده (لَنُحَرِّقَنَّهُ) أي بالنار (لَنَنْسِفَنَّهُ) لنذرينه (فِي الْيَمِ) في البحر (نَسْفاً) نذرا ، فلا يصادف منه شيء ، وقام موسى فعلا بإلقاء العجل في البحر.

(وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) وسع علمه كل شيء وأحاط به.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى مخالفة عبادة العجل لأبسط مبادئ العقل ؛ لأنه لا يجيب سائله ولا يدفع عنه ضرا ولا يجلب له نفعا ، ذكر أن بني إسرائيل أيضا عصوا الرسول الذي نبههم إلى خطأ فعلهم ، ثم أوضح معاتبة موسى لأخيه هارون على سكوته على بني إسرائيل في عبادتهم العجل ، ثم أردف به مناقشة موسى للسامري وعقابه من الله في الدنيا والآخرة ، وإلقاء موسى العجل في البحر ، وإعلان موسى صراحة : من هو الإله الحق ، وهو الذي وسع علمه السموات والأرض ، لا الجماد الذي لا يضر ولا ينفع.

٢٦٩

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عما كان من نهي هارون عليه‌السلام قومه عن عبادتهم العجل وتحذيرهم منه ، وإخباره إياهم بأنه فتنة ، فيقول :

(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ : يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ ، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ ، فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) أي لقد قال هارون عليه‌السلام لقومه عبدة العجل من قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم : إنما وقعتم في الفتنة والاختبار لإيمانكم وحفظكم دينكم بسبب العجل ، وضللتم عن طريق الحق لأجله ، ليعرف صحيح الإيمان من عليله.

وإن ربكم الله الذي خلقكم وخلق كل شيء فقدره تقديرا ، لا العجل ، فاتبعوني في عبادة الله ، ولا تتبعوا السامري في أمره لكم بعبادة العجل ، وأطيعوا أمري لا أمره ، واتركوا ما أنهاكم عنه.

ويلاحظ أن هارون عليه‌السلام وعظهم بأحسن الوجوه ؛ لأنه زجرهم عن الباطل أولا بقوله : (إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) ثم دعاهم إلى معرفة الله تعالى ثانيا بقوله : (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) ثم دعاهم ثالثا إلى معرفة النبوة بقوله : (فَاتَّبِعُونِي) ثم دعاهم إلى الشرائع رابعا بقوله : (وَأَطِيعُوا أَمْرِي).

وقوله (إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) تذكير لهم بربوبية الله وقدرته التي أنجتهم من فرعون وجنوده ، وتذكير برحمة الله التي تدل على أنهم متى تابوا ، قبل الله توبتهم ؛ لأنه هو الرحمن الرحيم ، ومن رحمته تخليصهم من آفات فرعون وعذابه.

ولكنهم قابلوا الوعظ والنصح بالتقليد والجحود ، فقالوا :

(قالُوا : لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) أي قالوا : لا نقبل حجتك ، ولكن نقبل قول موسى ، فلا نترك عبادة العجل ، حتى نسمع

٢٧٠

كلام موسى فيه. وكادوا أن يقتلوا هارون عليه‌السلام. وما قصدهم إلا التسويف.

(قالَ : يا هارُونُ ، ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ ، أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) أي قال موسى لهارون حين رجع إلى قومه بعد تكليم ربه في الميقات : ما الذي منعك من اتباعي إلى جبل الطور ، واللحوق بي مع من بقي مؤمنا ، فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع ، حين وقعوا في هذه الضلالة ودخلوا في الفتنة؟ ففي مفارقتهم زجر لهم ، ودليل على الغضب والإنكار عليهم. و (أَلَّا) في قوله (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) زائدة ، أي أن تتبع أمري ووصيتي.

أفعصيت أمري؟ أي كيف خالفت أمري لك بالقيام لله ، ومنابذة من خالف دينه ، وأقمت بين هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلها؟ ألم أقل لك : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ، وَأَصْلِحْ ، وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف ٧ / ١٤٢].

فقال هارون معتذرا عن تأخره عنه وإخباره بما حدث ، مستعطفا إياه :

(قالَ : يَا بْنَ أُمَّ ، لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) أي قال هارون لموسى : يا ابن أم ، مترققا له بذكر الأم التي هي عنوان الحنو والعطف ، مع أنه شقيفه لأبويه ، لا تفعل هذا عقوبة منك لي ، وكان موسى قد أخذ برأس أخيه يجره إليه ، فإن لي عذرا هو :

(إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ : فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ ، وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) أي إني خشيت إن خرجت عنهم وتركتهم أن يقتتلوا ويتفرقوا ، فتقول : إني فرقت جماعتهم ؛ لأنه لو خرج لتبعه جماعة منهم ، وتخلف مع السامري عند العجل آخرون ، وربما أفضى ذلك إلى القتال بينهم ، وحينئذ تقول : لم تعمل بوصيتي لك فيهم وتحفظها ، وهي قوله المتقدم : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ) ولم تراع ما أمرتك به حيث استخلفتك فيهم ، واعتذر إليه أيضا بقوله في آية أخرى :

٢٧١

(إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) [الأعراف ٧ / ١٥٠].

ثم كلم موسى كبير الفتنة وهو السامري قائلا :

(قالَ : فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ)؟ أي قال موسى للسامري : ما شأنك ، وما الذي حملك على ما صنعت؟ سأله ليتخذ من جوابه وإقراره حجة للناس ببطلان فعله وقوله.

(قالَ : بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ، فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ، فَنَبَذْتُها) أي قال السامري : رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون على فرس ، فأخذت قبضة من أثر فرسه ـ والقبضة : ملء الكف ، والقبضة بأطراف الأصابع ، وذلك الأثر لا يقع على جماد إلا صار حيا ـ فطرحتها في الحلي المذابة المسبوكة على صورة العجل ، فصنعت لهم تمثال إله ، حينما رأيتهم يطلبون منك أن تجعل لهم إلها كآلهة المصريين عبدة الأصنام.

قال مجاهد : نبذ السامري ، أي ألقى ما كان في يده على حلية بني إسرائيل ، فانسبك عجلا جسدا له خوار : وهو حفيف الريح فيه.

(وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) أي كما زينت لي نفسي السوء ، زينت لي أيضا وحسنت هذا الفعل بمحض الهوى ، أو حدثتني نفسي ، لا بإلهام إلهي أو ببرهان نقلي أو عقلي.

فأخبره موسى بجزائه في الدنيا والآخرة ، فقال : (قالَ : فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ : لا مِساسَ ، وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ) أي قال موسى للسامري : فعقوبتك في الدنيا أن تذهب من بيننا وتخرج عنا ، وأن تقول ما دمت حيا : لا يمسك أحد ، ولا تمس أحدا ، وأمر موسى بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له ، وهذه هي عقوبة النبذ من المجتمع أو العزل المدني.

٢٧٢

وعقوبتك في الآخرة : أن لك موعدا فيها للعذاب لا يخلفه الله ، بل سينجزه ، وهو يوم القيامة ، وهو آت لا ريب فيه ولا مفر منه.

وأما إلهك المزعوم فمصيره كما قال تعالى :

(وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ، ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) أي وانظر إلى معبودك الذي أقمت على عبادته ، يعني العجل لنحرقنه تحريقا بالنار ، ثم لنذرينه في البحر لتذهب به الريح. قال قتادة : فحرقه بالنار ، ثم ألقى رماده في البحر. وهذا موقف حازم من موسى عليه‌السلام أحد الأنبياء أولي العزم ؛ لأن مثل هذا المعبود في زعم السامري ومن اتبعه يجب استئصال آثاره ، حفاظا على توحيد الله عزوجل وعبادته وحده لا شريك له ، لذا أتبعه بقوله :

(إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي قال موسى : إن هذا العجل الذي فتنكم به السامري ليس بإله ، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو ، أي فهو المستحق للعبادة ، ولا تنبغي العبادة إلا له ، فكل شيء فقير إليه ، عبد له. وهو عالم بكل شيء ، أحاط بكل شيء علما ، وأحصى كل شيء عددا ، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ، ولا حبة في ظلمات الأرض ، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين. وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ، ويعلم مستقرها ومستودعها ، كل في كتاب مبين.

وهكذا بدأت قصة موسى بالتوحيد الخالص : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ..) وختمت به : (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ ..) شأن رسالة كل نبي.

٢٧٣

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ أنكر هارون عليه‌السلام على السامري وتابعيه عبادة العجل إنكارا شديدا قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم ، فعصوه وكادوا أن يقتلوه ، وسوفوا وما طلوا حتى يرجع موسى عليه‌السلام ، لينظروا هل يقرهم على ما فعلوا أم لا.

٢ ـ لقد توهموا أن موسى يعبد العجل ، فاعتزلهم هارون مع اثني عشر ألفا لم يعبدوا العجل ، فلما رجع موسى سمع الصياح والضجيج ، وكانوا يرقصون حول العجل ، فقال للسبعين الذين معه : هذا صوت الفتنة.

٣ ـ قوله تعالى : (قالَ : يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ ، أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) دليل على أن السكوت على المنكر ضلال ، والمعنى : حين رأيتهم أخطئوا الطريق وكفروا ، ما منعك عن اتباعي والإنكار عليهم ، إن مقامك بينهم ـ وقد عبدوا غير الله ـ عصيان منك لي.

قال القرطبي : وهذا كله أصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتغييره ومفارقة أهله ، وأن المقيم بينهم لا سيما إذا كان راضيا حكمه كحكمهم. وسئل الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه‌الله :

ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية؟ وهم جماعة يجتمعون ، فيكثرون من ذكر الله تعالى ، وذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم ، ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه ، ويحضرون شيئا يأكلونه ، هل الحضور معهم جائز أم لا؟

فأجاب : يرحمك الله ، مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة ، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله ، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب

٢٧٤

السامري ، لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار ، قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون ؛ فهو دين الكفار وعباد العجل ؛ وأما القضيب : فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى ؛ وإنما كان يجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أصحابه ، كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار ؛ فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها ؛ ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم ، ولا يعينهم على باطلهم ؛ هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين ، وبالله التوفيق (١).

٤ ـ أجاب هارون معتذرا مبينا وجهة اجتهاده : وهي أنه خشي إذا خرج وتركهم ـ وقد أمره موسى بالبقاء معهم ـ أن تقع الفرقة بين بني إسرائيل ، وربما أدى الأمر إلى سفك الدماء ، وخشي إن زجرهم أن يقع قتال ، فيلومه موسى عليه ، وقد أوضح ذلك هنا بقوله : (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ : فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) وفي الأعراف قال : (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي ، فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) لأنك أمرتني أن أكون معهم.

٥ ـ بعد عتاب هارون اتجه موسى للسامري سائلا : (فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ؟) أي ما أمرك وما شأنك ، وما الذي حملك على ما صنعت؟ وقصده من سؤاله : انتزاع اعتراف منه بباطله.

قال قتادة : كان السامري عظيما في بني إسرائيل من قبيلة يقال لها «سامرة» ولكن عدو الله نافق بعد ما قطع البحر مع موسى ، فلما مرت بنو إسرائيل بالعمالقة ، وهم يعكفون على أصنام لهم (قالُوا : يا مُوسَى ، اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) فاغتنمها السامري ، وعلم أنهم يميلون إلى عبادة العجل ، فاتخذ العجل.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١١ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

٢٧٥

فقال السامري مجيبا لموسى : (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) يعني رأيت ما لم يروا ؛ رأيت جبريل عليه‌السلام على فرس الحياة ، فألقي في نفسي أن أقبض من أثره قبضته ، فما ألقيته على شيء ، إلا صار له روح ولحم ودم ؛ فلما سألوك أن تجعل لهم إلها ، زينت لي نفسي ذلك.

٦ ـ عاقب موسى عليه‌السلام ذلك السامري الذي اعترف بأنه صنع العجل لهوى في نفسه ، فنفاه عن قومه ، وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له. قال الحسن البصري : جعل الله عقوبة السامري ألا يماس الناس ولا يماسوه ، عقوبة له ولما كان منه إلى يوم القيامة ؛ وكأن الله عزوجل شدد عليه المحنة ، بأن جعله لا يماس أحدا ، ولا يمكن من أن يمسه أحد ، وجعل ذلك عقوبة له في الدنيا.

ويقال : لما قال له موسى : فاذهب ، فإن لك في الحياة أن تقول : (لا مِساسَ) خاف فهرب ، فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحش ، لا يجد أحدا من الناس يمسه ، حتى صار كالقائل : لا مساس ؛ لبعده عن الناس وبعد الناس عنه.

٧ ـ قال القرطبي : هذه الآية أصل في نفي أهل البدع والمعاصي وهجرانهم وألا يخالطوا ، وقد فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك بكعب بن مالك وصاحبيه الذين خلفوا.

ومن التجأ إلى الحرم وعليه قتل لا يقتل عند بعض الفقهاء ، ولكن لا يعامل ولا يبايع ولا يشارى ، ليضطر إلى الخروج. ومن هذا القبيل : التغريب في حد الزنى.

٨ ـ وهناك عقاب آخر للسامري يوم القيامة ، وموعد لعذابه لا بد من مجيئه ، والصيرورة إليه ، ولا خلف فيه.

٩ ـ حرق موسى عليه‌السلام بالنار العجل الذي اتخذه السامري. ثم ألقى

٢٧٦

رماده في البحر ، وهذا هو الواجب المتعين في استئصال المنكر وتصفية جميع آثاره.

١٠ ـ طوى موسى عليه‌السلام من تاريخ بني إسرائيل واقعة عبادة العجل التي طرأت في فترة زمنية قصيرة الأمد ، وقرر إلى الأبد مبدأ التوحيد ، وأوجب عبادة الله الذي لا إله إلا هو ، العليم بكل شيء ، وسع كل شيء علمه ، الخبير بأحوال المخلوقات الظاهرة والباطنة ، وهذه هي صفات الإله الحق المستحق للعبادة دون سواه.

١١ ـ لم يكن أخذ موسى برأس أخيه وبلحيته معصية قادحة بعصمة الأنبياء عليهم‌السلام ، كما زعم بعض الطاغين ، وإنما كان هذا تعبيرا قويا عن إنكاره ، وغضبا لله لا لنفسه ، وهكذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يغضب لنفسه ، وإنما يغضب إذا انتهكت محارم الله. والغضب في هذا الموضع محمود غير مذموم ، ولا يستنكر ولا يستغرب ظهور أمارات الغضب على النفس ، وقد أجرى موسى عليه‌السلام أخاه هارون مجرى نفسه ؛ لأنه كان أخاه وشريكه ، فصنع به ما يصنع الرجل بنفسه في حال الفكر والغضب ، فإن الغضبان المتفكر قد يعض على شفتيه ، ويفتل أصابعه ، ويقبض لحيته (١).

والدليل على ذلك أن هارون عليه‌السلام عذر أخاه موسى عليه‌السلام فيما فعل ، وكل ما في الأمر أنه استمهله وهدأ أعصابه ، ليبين له وجهة نظره ، ووجه اجتهاده.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٢ / ١٠٨.

٢٧٧

العبرة من القصص القرآني وجزاء المعرض عن القرآن

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤))

الإعراب :

(مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً ، خالِدِينَ فِيهِ) أفرد ضمير (أَعْرَضَ) حملا على لفظ (مَنْ) ، وجمع الضمير في قوله (خالِدِينَ) حملا على معناه. و (خالِدِينَ) حال من ضمير (يَحْمِلُ).

(وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) تمييز مفسر للضمير في (ساءَ) ، والمخصوص بالذم محذوف تقديره : وزرهم.

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ يَوْمَ) : بدل من يوم القيامة السابق.

البلاغة :

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ) تشبيه مرسل مجمل.

(وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) استعارة تصريحية ، شبه الوزر بالحمل الثقيل ، مصرحا بلفظ المشبه به.

المفردات اللغوية :

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) أي مثل ذلك الاقتصاص ـ اقتصاص موسى والسامري ـ نقص عليك يا محمد من أخبار الأمم الماضية. (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) وقد أعطيناك من عندنا قرآنا ، فالذكر : القرآن ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) وسمي بذلك ؛ لأن فيه ذكر كل ما يحتاج إليه الناس في الدين والدنيا ، والقصص والأخبار ، والتنكير فيه للتعظيم.

٢٧٨

(مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) عن الذكر الذي هو القرآن الجامع لأسباب السعادة والنجاة ، فلم يؤمن به. (وِزْراً) حملا ثقيلا من الإثم ، والمراد به : العقوبة الشديدة التي تثقل صاحبها. (خالِدِينَ فِيهِ) في عذاب الوزر. (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) أي ساء أو بئس وزرهم ، واللام للبيان ، كما في (هَيْتَ لَكَ).

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) يوم ينفخ في القرن النفخة الثانية. (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ) نجمع الكافرين. (زُرْقاً) أي زرق الأبدان والعيون ، مع سواد وجوههم ، لاشتماله على الشدائد والأهوال. (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) أي يتسارون ويخفضون أصواتهم ، لشدة الرعب والهول. (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) أي ما لبثتم في الدنيا إلا عشرا من الليالي بأيامها ، يستقصرون مدة لبثهم فيها لزوالها.

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) في ذلك أي في مدة لبثهم. (أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) أعدلهم رأيا أو عملا. (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) أي يستقلون لبثهم في الدنيا جدا ، لما يشاهدونه من أهوال الآخرة. وحكاية اختلافهم في مدة اللبث : (عَشْراً) أو (يَوْماً) أو (ساعة) ليس على سبيل الحقيقة أو الشك في التعيين ، بل المراد تقرير سرعة زواله.

المناسبة :

بعد بيان قصص موسى والسامري ، أبان الله تعالى لنبيه إيناسا له أن إعلامك بأخبار الأمم الماضية وأحوالهم كعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة ، هو زيادة في معجزاتك ، وحث على الاعتبار والاتعاظ من قبل المكلفين في الدين.

وناسب بعده أن يذكر جزاء المعرضين عن أحكام القرآن ، ذلك الجزاء الرهيب الذي تشيب منه الولدان.

التفسير والبيان :

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) أي كما قصصنا عليك أيها الرسول خبر موسى مع فرعون وجنوده وخبره مع بني إسرائيل في الحقيقة والواقع ، كذلك نقص عليك أخبار الحوادث التي جرت مع الأمم الماضية ، كما وقعت من

٢٧٩

غير زيادة ولا نقص ، لتكون سلوة لك عما تكره ، وبيانا لسيرة الأنبياء السابقين في مكابدتهم الشدائد مع أقوامهم لتتأس بهم ، ودلالة على صدقك ونبوتك ، مما يجعل في القصص عبرة وعظة ، ودرسا وفائدة.

(وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) أي هذا .. وقد أعطيناك من عندنا ذكرا ، وهو القرآن العظيم ، للتذكر به على الدوام ؛ لأنه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، ولأنه لم يعط نبي من الأنبياء قبلك مثله ، ولا أكمل منه ولا أجمع لخبر ما سبق ، وخبر ما هو كائن ، وفيه حكم الفصل بين الناس ، وكل ما هو صلاح للبشر في الدين والدنيا والآخرة ، وجميع مكارم الأخلاق ، ومناهج الحياة الفاضلة.

(مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) أي كل من كذب به ، وأعرض عن اتباعه ، فلم يؤمن به ، ولا عمل بما فيه ، وابتغى الهدى في غيره ، يحمل إثما عظيما ، وعقوبة ثقيلة يوم القيامة بسبب إعراضه ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ ، فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود ١١ / ١٧].

وهذا عام في كل من بلغه القرآن من العرب والعجم أهل الكتاب وغيرهم ، كما قال تعالى في بيان مهمة رسوله : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام ٦ / ١٩] ، فكل من بلغه القرآن فهو نذير له ، وداع للإيمان به ، فمن اتبعه هدي ، ومن خالفه وأعرض عنه ، ضل وشقي في الدنيا ، والنار موعده يوم القيامة.

(خالِدِينَ فِيهِ ، وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) أي ماكثين مقيمين على الدوام في جزائه ووزره ، وهو النار ، لا محيد لهم عنه ولا انفكاك ، وبئس الحمل حملهم الذي حملوه من الأوزار ، جزاء إعراضهم.

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ، وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) أي إن يوم القيامة هو اليوم الذي ينفخ فيه في الصور النفخة الثانية ، نفخة البعث التي يحشر الناس

٢٨٠