التفسير المنير - ج ١٦

الدكتور وهبة الزحيلي

٧ ـ لقد أعذر من أنذر ، وقد أنذر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قومه والمشركين جميعا ما سيلقونه من الحسرة والندامة يوم القيامة ، ويوم الفصل في القضاء بين أهل الجنة وأهل النار ، فيدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار.

٨ ـ إنه تعالى الخالق المالك المتصرف ، وإن الخلق كلهم يهلكون ، ويبقى هو تعالى ، ولا

أحد يدعي ملكا ولا تصرفا ، بل هو الوارث لجميع خلقه ، الباقي بعدهم ، فلا تظلم نفس شيئا ولا مثقال ذرة ، ويرجع الخلائق كلهم إلى ربهم ، فيجازي كلّا بعمله.

قصة إبراهيم عليه‌السلام

أو مناقشته لأبيه في عبادة الأصنام

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠))

١٠١

الإعراب :

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ .. إِذْ) في موضع نصب على البدل من قوله : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ) أي واذكر في الكتاب قصة إبراهيم ، ثم بيّن ذلك ، فقال : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) أي واذكر إذ قال لأبيه.

(أَراغِبٌ أَنْتَ .. أَراغِبٌ) مبتدأ ، وابتدئ بالنكرة لاعتمادها على همزة الاستفهام. و (أَنْتَ) فاعل (راغِبٌ) ، لاعتماد اسم الفاعل على همزة الاستفهام ، فيجري حينئذ مجرى الفعل ، والفاعل هنا يسد مسد خبر المبتدأ.

(سَلامٌ عَلَيْكَ سَلامٌ) مبتدأ ، وجاز الابتداء بالنكرة إذا كان فيها فائدة عند المخاطب ، والفائدة هنا : تضمنها معنى الدعاء والمتاركة والتبرؤ.

البلاغة :

(صِدِّيقاً نَبِيًّا) الصدّيق : صيغة مبالغة ، أي المبالغ في الصدق.

(أَراغِبٌ) الهمزة للإنكار والتعجب.

(وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) كناية عن الذكر الحسن والثناء الجميل باللسان ؛ لأن الثناء يكون باللسان.

(نَبِيًّا) ، (عَلِيًّا) ، (حَفِيًّا) ، (سَوِيًّا) ، (عَصِيًّا) ، (وَلِيًّا) ، (حَفِيًّا) ، (شَقِيًّا) سجع رصين.

المفردات اللغوية :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ) أي اذكر لهم واتل عليهم في هذه السورة قصة إبراهيم أو خبره. (صِدِّيقاً) مبالغا في الصدق ، لم يكذب قط. (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) آزر. (يا أَبَتِ) التاء : عوض عن ياء الإضافة (أبي) فلا يجمع بينهما ، وكان آزر يعبد الأصنام ، فناداه : (يا أَبَتِ) وهو تلطف واستدعاء. (لا يُغْنِي) لا يكفيك. (شَيْئاً) من نفع أو ضرّ. (صِراطاً سَوِيًّا) طريقا مستقيما مؤديا للسعادة. (لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) إن عبادة الأصنام هي في الحقيقة عبادة للشيطان ، لأنه الآمر بها ، فبإطاعتك إياه في عبادة الأصنام ، تكون عابدا له. (عَصِيًّا) كثير العصيان. والمطاوع للعاصي عاص ، والعاصي جدير بأن ينتقم منه.

(أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) إن لم تتب. (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) ناصرا ، وقرينا في اللعن ، أو العذاب في النار. (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي) أي أكاره لها ، فتعيبها؟ (لَئِنْ لَمْ

١٠٢

تَنْتَهِ) عن التعرض لها ومقالك فيها (لَأَرْجُمَنَّكَ) أي لأشتمنك بالكلام القبيح ، أو لأرجمنك بالحجارة ، فاحذرني. (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) واتركني دهرا طويلا.

(سَلامٌ عَلَيْكَ) مني ، أي سلام توديع ومتاركة ومقابلة للسيئة بالحسنة ، أي لا أصيبك بمكروه ، ولا أقول لك بعد ما يؤذيك. (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) أي ولكن سأستغفر لك الله ، لعله يوفقك للتوبة والإيمان ، فإن حقيقة الاستغفار للكافر : استدعاء التوفيق لما يوجب مغفرته. (حَفِيًّا) مبالغا في برّي وإكرامي ، فيجيب دعائي. وقد وفى بوعده المذكور ، فقال في سورة الشعراء : (وَاغْفِرْ لِأَبِي).

(وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ) وأترككم وما تعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ) غيره. (وَأَدْعُوا رَبِّي) وأعبده وحده. (بِدُعاءِ رَبِّي) بعبادته. (شَقِيًّا) خائب المسعى ، مثلكم في دعاء آلهتكم. وفي تصدير الكلام بعسى : تواضع وتنبيه على أن الإجابة والإثابة تفضل من الله غير واجب عليه. (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) بالهجرة إلى الشام ، والذهاب إلى الأرض المقدسة. (وَهَبْنا لَهُ) ابنا وابن ابن يأنس بهما ، وهما إسحاق من سارّة التي تزوج بها ، ثم ولد لإسحاق يعقوب ، ولعل تخصيصهما بالذكر ؛ لأنهما شجرتا الأنبياء. (وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) وكلّا منهما أو منهم وهبناه النبوة. (وَوَهَبْنا لَهُمْ) للثلاثة (مِنْ رَحْمَتِنا) الأموال والأولاد (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) أي ثناء حسنا رفيعا في جميع أهل الأديان.

المناسبة :

هذه هي القصة الثالثة في سورة مريم ، فبعد أن أبان الله تعالى ضلال النصارى ، ذكر ضلال عبدة الأوثان. والفريقان ، وإن اشتركا في الضلال إلا أن ضلال الفريق الفريق الثاني أعظم ؛ لأن مقصد السورة إثبات التوحيد والنبوة والبعث والحشر ، والمنكرون للتوحيد فريقان : فريق أثبت معبودا غير الله حيا عاقلا وهم النصارى ، وفريق أثبت معبودا غير الله جمادا ليس بحي ولا عاقل ، وهم عبدة الأصنام ، فذكر الفريق الأول ، ثم الثاني ، لإبطال المذهبين.

والسبب في ذكر قصة إبراهيم هو أنه أبو العرب ، وكانوا معترفين بملته ودينه : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) [الحج ٢٢ / ٧٨] فنبههم تعالى إلى منهج إبراهيم من خلال حجاجه مع أبيه آزر.

١٠٣

وقد ذكرنا قصة إبراهيم في سورة البقرة ، ويلاحظ أن إبراهيم عليه‌السلام ـ كما ذكر السيوطي ـ عاش من العمر مائة وخمسا وسبعين سنة (١٧٥) وبينه وبين آدم ألفا سنة (٢٠٠٠) وبينه وبين نوح ألف سنة (١٠٠٠) ومنه تفرعت شجرة الأنبياء.

إسحاق عليه‌السلام :

هو ابن سارّة ، ولم يذكر في القرآن من قصصه إلا بشارة الملائكة به ، وأنه غلام عليم ، وأنه نبي من الصالحين ، وأن الله بارك عليه.

واليهود والنصارى يدّعون أنه الذبيح ، مع تكذيب التوراة لهذه الدعوى ، كما سأذكر في قصة إسماعيل قريبا.

وقد عاش إسحاق مائة وثمانين سنة ، ودفن في حبرون ، وهي مدينة الخليل اليوم ، بمغارة المكفيلة.

يعقوب عليه‌السلام :

هو إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه‌السلام ، تزوج بابنتي خاله (لابان) وهما (ليئة وراحيل) في فدان آرام ، ثم تزوج بجاريتيهما : زلفا وبلها ، ومنهن كان أولاده الذين ولدوا جميعا في (آرام) إلا بنيامين الذي ولد في فلسطين.

المناسبة :

هذه هي القصة الثالثة في هذه السورة بعد قصتي زكريا ويحيى ، وعيسى ومريم ، وهي قصة إبراهيم عليه‌السلام. ومن المعلوم أن الغرض من هذه السورة بيان التوحيد والنبوة والحشر ، والمنكرون للتوحيد أثبتوا معبودا سوى الله تعالى ، وهؤلاء فريقان : منهم من أثبت معبودا غير الله حيا عاقلا فاهما وهم

١٠٤

النصارى ، ومنهم من أثبت معبودا غير الله جمادا ، ليس بحي ولا عاقل ولا فاهم ، وهم عبدة الأوثان.

والفريقان وإن اشتركا في الضلال ، إلا أن ضلال الفريق الثاني أعظم ، فلما بين تعالى ضلال الفريق الأول ، تكلم في ضلال الفريق الثاني ، وهم عبدة الأوثان.

التفسير والبيان :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) هذا عطف على قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ) الذي هو عطف على قوله : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) أي واذكر أيها الرسول إبراهيم الصدّيق النبي ، خليل الرحمن ، أبا الأنبياء ، واتل خبره على الناس في الكتاب المنزل عليك ، فهو بالحجارة ، وفي ذلك إيناس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عما يلقاه من أذى قومه ، وغلظة عمه أبي لهب ، وفظاظة أبي جهل.

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ : يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ ، وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) اذكر إبراهيم حين قال بلطف وعقل واع وبرهان قاطع لأبيه آزر : يا أبت ، لم تعبد ما لا يسمع دعاءك إياه ، ولا يبصر ما تفعله من عبادته ، ولا يجلب لك نفعا ، ولا يدفع عنك ضررا ، وهي الأصنام الجمادات.

(يا أَبَتِ ، إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ ، فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) أي يا أبي ، وإن كنت من صلبك ، وتراني أصغر منك ؛ لأني ولدك ، فاعلم أني قد اطلعت من العلم من الله ، على ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه ولا جاءك ، فاتبعني في دعوتي أرشدك طريقا سويا مستقيما موصلا إلى نيل المطلوب ، منجيا من كل مرهوب ومكروه.

١٠٥

والمراد بالهداية : بيان الدليل وشرحه وإيضاحه ، وقوله : (فَاتَّبِعْنِي) ليس أمر إيجاب ، بل أمر إرشاد ، وكانت هذه المحاورة بعد أن صار إبراهيم نبيا. ويلاحظ أنه لم يصف أباه بالجهل ، ولا نفسه بالعلم الكامل ، لئلا ينفر منه ، وإنما قال : أعطيت شيئا من العلم لم تعطه.

(يا أَبَتِ ، لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ ، إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) أي يا أبي ، لا تطع الشيطان في عبادتك هذه الأصنام ، فإنه هو الداعي إلى عبادتها ، المستن لها ، الراضي بها ، كما قال تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [يس ٣٦ / ٦٠] وقال سبحانه : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً ، وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) [النساء ٤ / ١١٧].

لا تطع الشيطان ، فإن عبادة الأصنام ، هي من طاعة الشيطان ، والشيطان عاص (كثير العصيان) مخالف مستكبر عن طاعة ربه ، حين ترك ما أمره به من السجود لآدم ، والعاصي حقيق بأن تسلب عنه النعم ، وتحلّ به النقم ، لذا طرده ربه وأبعده من رحمته ، فلا تتبعه تصر مثله ، فإن عبادة الأصنام لا يتقبلها عقل ، ولكنها تنشأ من وسوسة الشيطان وإغوائه ، فكانت عبادتها عبادة له ، وطاعة لإغوائه ، والشيطان عدو آدم وذريته ، لا يريد لكم إلا الشر.

(يا أَبَتِ ، إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ ، فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) يا أبي ، إني أخشى أن يصيبك عذاب الله على شركك وعصيانك لما أطلبه منك ، فتكون بذلك مواليا للشيطان ، وقرينا معه في النار ، بسبب موالاته. وهذا تحذير لأبيه من سوء العاقبة ، وإنذار بالشر ، حيث لا يكون له مولى ولا ناصر ولا مغيث إلا إبليس ، وليس له ولا لغيره من الأمر شيء ، بل اتباعه موجب لإحاطة العذاب به ، كما قال تعالى : (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ

١٠٦

قَبْلِكَ ، فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ، فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [النحل ١٦ / ٦٣].

وبالرغم من هذا الأدب في الدعوة إلى التوحيد مع البراهين والأدلة الدالة على بطلان عبادة الأوثان ، أجابه أبوه بما هو غير مأمول منه ، فقال تعالى :

(قالَ : أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) أجاب أبو إبراهيم ولده إبراهيم فيما دعاه إليه قائلا : أمعرض أنت عن تلك الأصنام ومنصرف إلى غيرها؟ وإن كنت لا تريد عبادتها ولا ترضاها ، فامتنع عن سبها وشتمها وعيبها ، فإنك إن لم تنته عن ذلك لأرجمنك بالحجارة أو لأشتمنك ، وفارقني زمنا طويلا.

ويلاحظ أن الأب قابل ابنه بالعنف ، فلم يقل له : يا بني ، كما قال الابن له : يا أبت ، وقابل وعظه الرقيق بالتهديد والوعيد بالشتم أو بالضرب بالحجارة ، وفي ذلك تسلية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عما يلقاه من أذى قومه ، وغلظة عمه أبي لهب ، وفظاظة أبي جهل.

ومع كل هذا أجابه إبراهيم باللطف قائلا :

(قالَ : سَلامٌ عَلَيْكَ ، سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ، إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) أي قال إبراهيم لأبيه : سلام عليك سلام توديع وترك لا سلام تحية ، فلا ينالك مني مكروه ولا أذى ، لحرمة الأبوة ، وكما قال تعالى في صفة المؤمنين : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا : سَلاماً) [الفرقان ٢٥ / ٦٣] وقال سبحانه : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ، وَقالُوا : لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ ، لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [القصص ٢٨ / ٥٥].

ولكن سأطلب لك من الله أن يهديك ويغفر لك ، بأن يوفقك للإيمان ، ويرشدك للخير ، إن ربي كان بي لطيفا كثير البرّ ، يجيبني إذا دعوته. ونظير

١٠٧

الآية : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء ٢٦ / ٨٦] (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) [إبراهيم ١٤ / ٤١]. والمراد بكل ذلك طلب الهداية وترك الضلال.

وإنما استغفر له ؛ لوعد سابق منه أن يؤمن ، كما قال تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) [التوبة ٩ / ١١٤].

ويرى ابن كثير أن الاستغفار للمشركين كان جائزا ثم نسخ في شرعنا ، فقال : وقد استغفر إبراهيم عليه‌السلام لأبيه مدة طويلة ، وبعد أن هاجر إلى الشام ، وبنى المسجد الحرام ، وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق عليهما‌السلام في قوله : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام ، وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك ، حتى أنزل الله تعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ : إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) إلى قوله : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ، وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ..) الآية [الممتحنة ٦٠ / ٤] يعني إلا في هذا القول ، فلا تتأسوا به. ثم بيّن تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك ورجع عنه ، واستقر التشريع بما دلّ عليه قوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ، وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى ، مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) [التوبة ٩ / ١١٣] (١).

والخلاصة : إن الاستغفار بمعنى طلب الهداية والتوفيق حال الحياة لا بأس به ، وأما بعد الموت على الشرك أو الكفر ، فهو ممنوع ، فقول بعض الناس : المرحوم فلان ، وهو يعلم أنه مات كافرا ، غير جائز.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ١٢٣ ـ ١٢٤.

١٠٨

ثم قرر إبراهيم عليه‌السلام الهجرة إلى بلاد الشام ، فقال تعالى :

(وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَأَدْعُوا رَبِّي ، عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) أي وأبتعد عنكم ، وأهاجر بديني عنكم وعن معبوداتكم ، حين لم تقبلوا نصحي ، وأعبد ربي وحده لا شريك له ، وأجتنب عبادة غيره ، لعلي لا أكون بدعاء ربي خائبا ، كما خبتم أنتم بعبادة تلك الأصنام التي لا تجيب دعاءكم ولا تنفعكم ولا تضركم. و (عَسى) ذكر ذلك على سبيل التواضع ، كقوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء ٢٦ / ٨٢] ويراد بها التحقق لا محالة ، فهو عليه‌السلام أبو الأنبياء. كذلك قوله : (شَقِيًّا) ذكره على سبيل التواضع ، وفيه تعريض بشقاوتهم في دعاء آلهتهم في قوله المتقدم لأبيه : (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً).

ولما أنفذ ما نواه وعزم عليه ، حقق الله رجاءه ودعاءه ، فقال :

(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) أي فلما اعتزل إبراهيم الخليل أباه وقومه ، وترك أرضه ووطنه ، وهجر موضع عبادتهم غير الله ، وهاجر في سبيل الله إلى أرض بيت المقدس حيث يقدر على إظهار دينه ، أبدله الله من هو خير منهم ، ووهب له إسحاق بعد أن تزوج من سارّة ، وابنه يعقوب حفيده ، بدل الأهل الذين فارقهم ، وجعل الله كل واحد من إسحاق ويعقوب نبيا أقرّ الله بهم عينيه ، فكل الأنبياء من سلالتهما ، وكل الأديان تحب إبراهيم وتحترمه مع إسحاق ويعقوب.

(وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا ، وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) أي وأعطيناهم من فضلنا ورحمتنا النبوة والمال والأولاد والكتاب ، وجعلنا لهم الثناء الحسن على ألسن العباد ، كما قال تعالى: (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٨٤]. قال ابن جرير : وإنما قال : (عَلِيًّا) لأن جميع الملل والأديان يثنون عليهم ويمدحونهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

١٠٩

وبما أن العرب من سلالة إبراهيم ، وتدعي أنها على دين إبراهيم ، فالله ذكر لهم قصته ، ليعتبروا ويتعظوا.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستدل بالآيات على ما يأتي :

١ ـ إن أسباب إيراد قصة إبراهيم عليه‌السلام ثلاثة :

الأول ـ كان إبراهيم عليه‌السلام أب العرب ، وكانوا مقرين بعلو شأنه وطهارة دينه ، فقال الله لنبيه : اقرأ عليهم في القرآن أمر إبراهيم ، فهم من ولده ، وإنه كان حنيفا مسلما ، لم يتخذ الأنداد ، فإن كنتم مقلدين لآبائكم ، فقلدوا إبراهيم في ترك عبادة الأوثان ، وإن كنتم مستدلين فانظروا في هذه الدلائل التي ذكرها إبراهيم عليه‌السلام لتعرفوا فساد عبادة الأوثان ، وبالجملة : فاتبعوا إبراهيم إما تقليدا وإما استدلالا ، ولم تتخذون الأنداد؟! والله يقول : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة ٢ / ١٣٠].

الثاني ـ كان كثير من الكفار في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : كيف نترك دين آبائنا وأجدادنا ، فذكر الله قصة إبراهيم عليه‌السلام ، وبيّن أنه ترك دين أبيه وأبطل قوله بالدليل ، فكونوا مثله.

الثالث ـ كان كثير من الكفار يتمسكون بالتقليد وينكرون الاستدلال ، كما حكى الله تعالى عنهم : (قالُوا : إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) [الزخرف ٤٣ / ٢٢] و (قالُوا : وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٥٣] فحكى الله تعالى عن إبراهيم عليه‌السلام التمسك بطريق الاستدلال ، تنبيها على فساد هذه الطريقة.

٢ ـ وصف تعالى إبراهيم عليه‌السلام بأنه كان صديقا نبيا ، أي مبالغا في كونه صادقا : وهو الذي يكون عادته الصدق ، أو كثير التصديق بالحق حتى يصير مشهورا به.

١١٠

٣ ـ كان إبراهيم عليه‌السلام في محاورته أباه في غاية الأدب واللطف والرفق ، فكان يكرر قوله استعطافا وشفقة : يا أبت ، ولما يئس من استجابته لدعوته ، قال : سلام عليك ، سلام متاركة وتوديع ، لا سلام تحية ، سأستغفر لك ربي ، طالبا منه هدايتك ، وكان في خطابه كله له شديد الخوف عليه من الكفر والعذاب في النار.

وكان الأب آزر مستعليا مترفعا يعتمد على التهديد والقطيعة والسب والشتم والرجم بالحجارة.

٤ ـ عاب إبراهيم عليه‌السلام الوثن من ثلاثة أوجه :

أحدها ـ لا يسمع.

الثاني ـ لا يبصر.

الثالث ـ لا يغني عنك شيئا ، كأنه قال له : بل الألوهية ليست إلا لربي ، فإنه يسمع ويجيب دعوة الداعي ويبصر ، كما قال : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [طه ٢٠ / ٤٦] ويقضي الحوائج : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) [النمل ٢٧ / ٦٢].

٥ ـ ليحذر الإنسان طاعة الشيطان فيما يأمره به من الكفر ، ومن أطاع شيئا في معصية فقد عبده ، والشيطان دائما عاص لربه مخالف أوامره.

٦ ـ حذر إبراهيم عليه‌السلام أباه آزر من الكفر وعاقبته ، فقال : إني أخاف أن تموت على الكفر ، فيمسّك العذاب ، فتكون للشيطان قرينا في النار.

٧ ـ يرى جمهور العلماء أنه لا يبدأ الكافر بالسلام ؛ لأن ذلك إكرام ، والكافر ليس أهله ، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام ، فإذا لقيتم أحدهم فاضطروه إلى أضيقه» وربما كان هذا الحديث لواقعة معينة إثر تآمر اليهود على قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أشار بعضهم.

١١١

وجوز سفيان بن عيينة تحية الكافر وأن يبدأ بها ، قيل لابن عيينة : هل يجوز السلام على الكافر؟ قال : نعم ، قال الله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ ، وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة ٦٠ / ٨] ؛ وقال : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) [الممتحنة ٦٠ / ٤] الآية ؛ وقال إبراهيم لأبيه : (سَلامٌ عَلَيْكَ) ويؤيده حديث آخر في الصحيحين عن أسامة بن زيد : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سلم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود ، وفيهم عبد الله بن أبيّ بن سلول. وقال الطبري : وقد روي عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب ، وفعله ابن مسعود بدهقان صحبه في طريقه ، وقال : ولكن حق الصحبة. وكان أبو أمامة إذا انصرف إلى بيته ، لا يمر بمسلم ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه ؛ فقيل له في ذلك ، فقال : أمرنا أن نفشي السلام. وسئل الأوزاعي عن مسلم مرّ بكافر فسلّم عليه ، فقال : إن سلّمت فقد سلّم الصالحون قبلك ، وإن تركت فقد ترك الصالحون قبلك.

وأما الاستغفار للكافر فقد أوضحناه في تفسير الآيات هنا ، وخلاصته : أنه ممنوع بعد الموت ، جائز في الحياة بمعنى طلب الهداية والرشاد. والدليل على أن الاستغفار للكافر لا يجوز آيتان تقدمتاهما : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [التوبة ٩ / ١١٣] و (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ..) [الممتحنة [٦٠ / ٤] أي لا تتبعوه في ذلك.

٨ ـ قال الرازي : اعلم أنه ما خسر على الله أحد ، فإن إبراهيم عليه‌السلام لما اعتزل قومه في دينهم وفي بلدهم ، واختار الهجرة إلى ربه إلى حيث أمره ، لم يضره ذلك دينا ودنيا ، بل نفعه فعوضه أولادا أنبياء ، وذلك من أعظم النعم في الدنيا والآخرة. ثم إنه تعالى وهب لهم مع النبوة ما وهب من المال والجاه والأتباع والنسل الطاهر والذرية الطيبة ، ثم قال تعالى : (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ

١١٢

عَلِيًّا) أي ثناء حسنا ؛ لأن جميع الملل تحسن الثناء عليهم (١). واللسان يذكّر ويؤنث.

قصة موسى عليه‌السلام

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣))

الإعراب :

(الْأَيْمَنِ) صفة الطور أو الجانب ، والظاهر أنها صفة الجانب لقوله في آية أخرى (جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) [مريم ١٩ / ٥٢] بنصب الأيمن.

نجيا حال من أحد الضميرين في (نادَيْناهُ) و (قَرَّبْناهُ).

(أَخاهُ هارُونَ هارُونَ) : بدل أو عطف بيان ، و (أَخاهُ) مفعول لوهبنا.

(نَبِيًّا) حال ، هي المقصودة بالهبة ، إجابة لسؤاله أن يرسل أخاه معه ، وكان أسنّ منه.

المفردات اللغوية :

(مُخْلَصاً) مختارا مصطفى مخلّصا من الدنس ، وقرئ بكسر اللام ، أي مخلصا في عبادته عن الشرك والرياء ، موحدا أسلم وجهه لله. (وَنادَيْناهُ) يقول : يا موسى ، إني أنا الله. (مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) من ناحية الجبل اليمنى ، وهي التي تلي يمين موسى حين أقبل من مدين ، بأن تمثل له الكلام من تلك الجهة ، والطور : الجبل بين مصر ومدين. (وَقَرَّبْناهُ) تقريب تشريف وتكريم. (نَجِيًّا) مناجيا ، مكلما الله بلا واسطة ، بأن أسمعه الله تعالى كلامه. (مِنْ رَحْمَتِنا) نعمتنا ، أي من أجل رحمتنا أو بعض رحمتنا. (أَخاهُ) معاضدة أخيه ومؤازرته ، إجابة لدعوته : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) [طه ٢٠ / ٢٩] فإنه كان أسنّ من موسى.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢١ / ٢٣٠

١١٣

المناسبة :

هذه هي القصة الرابعة لإخبار العرب وغيرهم أن موسى عليه‌السلام مثل إبراهيم عليه‌السلام أخلص العبادة لله عن الشرك والرياء ، وأسلم وجهه لله تعالى. ومثله أيضا أخوه هارون. قال ابن عباسرضي‌الله‌عنهما : كان هارون عليه‌السلام أكبر من موسى عليه‌السلام ، وإنما وهب الله له نبوته ، لا لشخصه وأخوته ، وذلك إجابة لدعائه في قوله : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي : هارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) [طه ٢٠ / ٢٩ ـ ٣١] ، فأجابه الله تعالى إليه بقوله : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) [طه ٢٠ / ٣٦] ، وقوله : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) [القصص ٢٨ / ٣٥].

التفسير والبيان :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى) لما ذكر الله تعالى إبراهيم الخليل وأثنى عليه ، عطف بذكر موسى الكليم ، فقال : واذكر يا محمد في الكتاب ، واتل على قومك أوصاف موسى التي سأخبرك عنها وهي خمس صفات :

١ ـ (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) أي جعلناه مختارا مصطفى ، وأخلصناه مطهرا من الآثام والذنوب ، كما قال تعالى : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) [الأعراف ٧ / ١٤٤]. وقرئ بالكسر (مخلصا) ومعناه : أخلص لله في التوحيد والعبادة ، والإخلاص : هو القصد في العبادة إلى أن يعبد المعبود بها وحده. قال الثوري عن أبي لبابة قال : قال الحواريون : يا روح الله ، أخبرنا عن المخلص لله ، قال : الذي يعمل لله ، لا يحب أن يحمده الناس.

٢ ـ (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) جمع الله له بين الوصفين ، فإنه كان من المرسلين الكبار أولي العزم الخمسة ، وهم : (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم

١١٤

صلوات الله وسلامه) أرسله الله إلى عباده داعيا ومبشرا ونذيرا ، فأنبأهم عن الله بشرائعه.

والرسول : هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه ، وكان معه كتاب فيه شريعته كموسىعليه‌السلام ، سواء أنزل عليه كتاب مستقل أم كتاب من سبقه. والنبي : هو من أوحي إليه بشرع يخبر به عن الله ويخبر به قومه ، وليس معه كتاب ، كيوشع عليه‌السلام.

٣ ـ (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) أي كلمناه من جانب الطور عن يمين موسى أو عن يمين الجبل نفسه ، حين جاء من مدين متجها إلى مصر ، فهو كليم الله بعدئذ ، وأصبح رسولا ، وواعدناه إليه بعد إغراق آل فرعون ، وأنزلنا عليه كتاب التوراة. والمناداة عن يمين موسى أصح ، فإن الجبال لا يمين لها ولا شمال.

٤ ـ (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) أي أدنيناه إدناء تشريف وتقريب منزلة ، حتى كلمناه ، أو حين مناجاته لنا. فقوله : (نَجِيًّا) من المناجاة في المخاطبة ، أي أنه أصبح في العالم الروحي قريب المنزلة من الله تعالى.

٥ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) أي منحناه من فضلنا ونعمتنا ، فجعلنا أخاه نبيا ، حين سأل ربه قائلا : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) [طه ٢٠ / ٢٩ ـ ٣٢] فحقق له مطلبه وأجاب دعاءه وسؤاله وشفاعته بقوله : (قالَ : قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) [طه ٢٠ / ٣٦] ، وقوله : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) [القصص ٢٨ / ٣٥].

قال بعض السلف : ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة

١١٥

موسى في هارون أن يكون نبيا ، قال الله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا). قال ابن عباس : كان هارون أكبر من موسى بأربع سنين.

فقه الحياة أو الأحكام :

لم يبلغ رسول مرتبة أولي العزم إلا بمقومات عالية ، وخصائص فريدة رفيعة ، وهذه بعض خصائص موسى وصفاته ، أخلصه ربه واختاره ، فكان مخلصا لله في عبادته ، بعيدا عن الشرك والرياء ، وجعله رسولا بشرع وكتاب ونبيا من الصالحين ، وكلّمه ربه من غير وحي ، وناجاه من جانب الطور ، في البقعة المباركة ، عند الشجرة ، عن يمين موسى حين أقبل من مدين إلى مصر.

وقربه إليه ربه تقريب تشريف وإجلال ، حالة كونه مناجيا حضرة الله تعالى ، مثل تقريب الملك لمناجاته ، وأنعم عليه مجيبا سؤاله ودعاءه بجعل أخيه هارون الأكبر منه سنّا نبيا ورسولا ، وتلك نعمة كبري على الأخوين ، إذ آزرهما ببعضهما ، وجعلهما متعاضدين متعاونين في تبليغ الرسالة الإلهية إلى فرعون وآله وإلى بني إسرائيل.

قصة إسماعيل عليه‌السلام

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥))

الإعراب :

(مَرْضِيًّا) خبر كان ، وأصله «مرضويا» فأبدلوا من الضمة كسرة ، ومن الواو ياء ، على لغة من ثنى «الرضا» «رضوان». ومن قال : «رضيان» كان من ذوات الياء ، وأصله «مرضوي» فاجتمعت الواو والياء ، والسابق منهما ساكن ، فقلبوا الواو ياء ، وأدغموا الياء في الياء ، وكسروا ما قبل الياء مناسبة لها.

١١٦

المفردات اللغوية :

(صادِقَ الْوَعْدِ) ذكره بالمشهور به ، فلم يعد شيئا إلا وفي به ، وانتظر من وعد ثلاثة أيام ، أو حولا ، حتى رجع إليه في مكانه. (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) إلى قبيلة جرهم. وهو يدل على أن الرسول لا يلزم أن يكون صاحب شريعة ، فإن أولاد إبراهيم عليه‌السلام كانوا على شريعته.

(وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ) قومه ، اشتغالا بما هو الأهم ، وهو أن يعنى الإنسان بتكميل نفسه ومن هو أقرب الناس إليه أولا ، قال تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٢١٤] ، (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) [طه ٢٠ / ١٣٢] ، (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم ٦٦ / ٦]. (وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) [مريم ١٩ / ٥٥] لاستقامة أقواله وأفعاله ، والمرضي عند الله : الفائز في كل طاعاته بأعلى الدرجات.

المناسبة :

هذه هي القصة الخامسة في سورة مريم ، وهي قصة إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام ، وكان على شريعة أبيه في توحيد الله ومحاربة الوثنية وعبادة الأصنام ، وإبراهيم كما عرفنا أبو العرب يمنيها ومضريها. قال الزمخشري : كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ، ليجعلهم قدوة لمن وراءهم ، ولأنهم أولى من سائر الناس.

وقدم الله تعالى قصة موسى عليه‌السلام على قصة إسماعيل عليه‌السلام ، لينسجم الكلام عن يعقوب وبنيه دون فاصل بينهما.

أضواء على قصة إسماعيل الذبيح :

رأى إبراهيم عليه‌السلام في منامه ـ ورؤيا الأنبياء حق ـ أنه يذبح ولده قربانا لله تعالى ، وكان ذلك الولد على الأصح الراجح إسماعيل ، فعرض الأمر على ولده ، فتقبل القضاء بالرضا وقال : (يا أَبَتِ ، افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات ٣٧ / ١٠٢].

١١٧

فلما بدأ بتحقيق الأمر ، وأهوى بالمدية إلى ذبح ولده ، ناداه الله بالكفّ ، وأن هذا العمل منه يكفي تصديقا للرؤيا ، ورأى إبراهيم كبشا قريبا منه ، فذبحه فدية عن ولده ، ولم تعين الآيات اسم ذلك الولد ، ولكن سياق الآيات ، وتبشير إبراهيم بإسحاق بعدها ، يدل على أن الذبيح إسماعيل ، وذلك في الآيات من سورة الصافات [٩٩ ـ ١١٣] ، وفيها : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) [١٠١] ، ثم قال : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) [١٠٨] ، والضمير يعود إلى الذبيح. ثم قال : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) [١١٢] ، فالإتيان بالبشرى بإسحاق بعد ذكر قصة الذبيح صريح في أن إسحاق غير الغلام المأمور بذبحه ، وعود الضمير إلى الغلام الذبيح ، وذكر اسم إسحاق معه صريحا يقتضي التغاير بين الذبيح وإسحاق.

ويرى اليهود أن إسحاق هو الذبيح ليفتخروا بأن أباهم هو الذي جاد بنفسه في طاعة ربه ، وهو في حالة صغره.

والدليل على أن الذبيح إسماعيل من التوراة نفسها : أن الذبيح وصف بأنه ابن إبراهيم الوحيد ، والإقدام على ذبح الولد الوحيد هو الإسلام بعينه ، أي الطاعة والامتثال ، ولم يكن إسحاق وحيدا لإبراهيم في يوم من الأيام ؛ لأن إسحاق ولد ، ولإسماعيل أربع عشرة سنة ، كما هو صريح التوراة ، وبقي إسماعيل إلى أن مات إبراهيم ، وحضر إسماعيل وفاته ودفنه. وذبح إسحاق يناقض وعد الله لإبراهيم أن سيكون له ابن هو يعقوب. ثم إن مسألة الذبح وقعت في مكة ؛ وإسماعيل هو الذي ذهب به أبوه إليها رضيعا ، كما في حديث البخاري الآتي (١) ، وعند الزمخشري في الكشاف حديث : «أنا ابن الذبيحين» رواه الحاكم في المناقب.

__________________

(١) قصص القرآن للأستاذ عبد الوهاب النجار ١٠١ ـ ١٠٣

١١٨

إسماعيل وأمه هاجر في مكة :

لم يبن بمكة شيء بعد البيت إلا في القرن الثاني قبل الإسلام ، في عهد قصي بن كلاب ، فإنه بنى دار الندوة ، وتبعته قريش في البناء حول المسجد.

جاء في البخاري عن ابن عباس : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل ، اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة. ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل ، وهي ترضعه ، وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء ، ووضعهما هناك ، ووضع عندهما جرابا فيه تمر ، وسقاء فيه ماء ، ثم قفى إبراهيم منطلقا ، فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم ، أين تذهب ، وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء ، فقالت له ذلك مرارا ، وجعل لا يلتفت إليها ؛ فقالت له : آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يضيعنا. ثم رجعت.

فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية ، حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهؤلاء الكلمات ، ورفع يديه ، فقال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) ، حتى بلغ (يَشْكُرُونَ).

وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل ، وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفد ما في السقاء ، عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوى ـ أو قال :يتلبط ـ فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ؛ فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر ، هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا ، فهبطت من الصفا ، حتى إذا بلغت الوادي ، رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود ، حتى جاوزت الوادي. ثم أتت المروة ، فقامت عليها ، ونظرت ، هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات».

قال ابن عباس : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فذلك سعي الناس بينهما». فلما

١١٩

أشرفت على المروة ، سمعت صوتا ، فقالت : صه ـ تريد نفسها ، ثم تسمّعت ، فسمعت أيضا ، فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غوث ؛ فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه ـ أو قال : بجناحه ـ حتى ظهر الماء ، فجعلت تخوضه ، وتقول بيدها هكذا. وجعلت تغرف من الماء في سقائها ، وهو يفور بعد ما تغرف. قال ابن عباس : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يرحم الله أم إسماعيل ، لو تركت زمزم ـ أو قال : لو لم تغرف من الماء ـ لكانت زمزم عينا معينا».

وأرضعت ولدها ، فقال لها الملك : لا تخافوا الضيعة ، فإن هاهنا بيت الله ، يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يضيع أهله. إلخ الحديث.

بناء البيت :

كان إبراهيم عليه‌السلام يزور ولده إسماعيل حينا بعد آخر ، ففي إحدى هذه الزيارات أمر الله تعالى إبراهيم وإسماعيل أن يبنيا البيت ، فصدعا بالأمر وبنيا الكعبة. ولما تمّ بناؤها أمره الله تعالى أن يعلم الناس بأنه بنى بيتا لعبادة الله تعالى وأن عليهم أن يحجوه ، وطلب إبراهيم وإسماعيل من الله تعالى أن يريهما المناسك التي ينسكانها. والآيات التي توضح ذلك : [البقرة ٢ / ١٢٥ ـ ١٢٩] ، [إبراهيم ١٤ / ٣٥ ـ ٣٧] ، [الحج ٢٢ / ٢٦ ـ ٣٧].

والكعبة : أول بيت وضع للناس لعبادة الله تعالى [آل عمران ٣ / ٩٦ ـ ٩٧].

حياة إسماعيل وأولاده :

لإسماعيل اثنا عشر ولدا رؤساء قبائل ، وعاش مائة وسبعا وثلاثين سنة ، مات بمكة ، ودفن بالحجر بجواز البيت هو وأمه.

التفسير والبيان :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ) واذكر أيها الرسول في القرآن خبر وصفات

١٢٠