التفسير المنير - ج ١٦

الدكتور وهبة الزحيلي

إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما‌السلام ، وهو والد عرب الحجاز كلهم ، وهي صفات أربع :

١ ـ (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) مشهورا بالوفاء ، مبالغا بإنجاز ما وعد ، فما وعد وعدا مع الله أو مع الناس إلا وفّى به ، فكان لا يخالف شيئا مما يؤمر به من طاعة ربه ، وإذا وعد الناس بشيء أنجز وعده ، وناهيك من صدق وعده أنه وعد أباه أن يصبر على الذبح ، فوفّى بذلك ، قائلا : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات ٣٧ / ١٠٢].

وصدق الوعد من الصفات الحميدة في كل زمان ومكان ، وخلفه من الصفات الذميمة ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف ٦١ / ٢ ـ ٣] ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة : «آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان» ، وإذا كانت هذه صفات المنافقين فضدها صفات المؤمنين ، ومما يؤسف له أن خلف الوعد شائع بين المسلمين ، وبخاصة التجار والعمال وأصحاب الحرف.

٢ ـ (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) جمع الله له بين الوصفين كأبيه وكموسى عليهم‌السلام ، فكان رسولا إلى جرهم في مكة ، لتبليغهم شريعة إبراهيم ، وإخبارهم بما أنزل الله تعالى ، وهذا دليل على أنه لا يشترط إنزال كتاب مستقل على الرسول. وفي هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق ؛ لأنه إنما وصف بالنبوة فقط ، وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة ، وأخرج الترمذي أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل».

٣ ـ (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) أي وكان يأمر أمته وعشيرته وأهله بهاتين العبادتين الشرعيتين المهمتين جدا ، فكان صابرا على طاعة ربه ، كما

١٢١

قال تعالى لرسوله : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٢١٤] ، وقال تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) [طه ٢٠ / ١٣٢] ، وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم ٦٦ / ٦]. وأخرج أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته ، فإن أبت نضح في وجهها الماء. رحم الله امرأة قامت من الليل ، فصلت وأيقظت زوجها ، فإن أبى نضحت في وجهه الماء». وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه ـ واللفظ له ـ عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي‌الله‌عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا استيقظ الرجل من الليل ، وأيقظ امرأته ، فصليا ركعتين ، كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات».

٤ ـ (وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) أي رضيا زاكيا صالحا ، مرضي العمل غير مقصر في طاعة ربه ، فعلى المؤمن الاقتداء به.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه مجموعة خصال أخرى لرسول نبي هو إسماعيل الذبيح أبو العرب ابن إبراهيم الخليلعليهما‌السلام ، والأظهر أن الذبيح هو وليس إسحاق كما تقدم في سورة الصافات.

خصة الله تعالى بصدق الوعد ، وإن كان موجودا في غيره من الأنبياء تشريفا له وإكراما ، ولأنه كان مشهورا بذلك مبالغا في الوفاء بالوعد. وهو كما تقدم صفة حميد ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه الطبراني في الأوسط عن علي وابن مسعود ، وهو ضعيف : «العدة دين».

وإيجاب الوفاء من محاسن المروءة وموجبات الديانة ، لكن لا يلزم قضاء ، فليس بواجب فرضا ؛ لإجماع العلماء على ما حكاه أبو عمر بن عبد البر : أن من وعد بمال ما كان ليضرب به مع الغرماء ، أي لا يقتسم مع الدائنين العاديين الآخرين ما يوجد من أموال المدين ؛ لأن ما وعد به لا يصبح دينا.

١٢٢

لكن لا خلاف أن الوفاء بالدين يستحق صاحبه الحمد والشكر ، وعلى الخلف الذم ، وقد أثنى الله تبارك وتعالى على من صدق وعده ، ووفّى بنذره.

ويرى الإمام مالك : أن الوعد ملزم إذا دخل الموعود في التزام ما ، أو وعد بقضاء دين عنه ، وشهد عليه اثنان ، يلزمه ذلك قضاء (١). ويرى سائر الفقهاء الآخرين : أن العدة لا يلزم منها شيء ؛ لأنها منافع لم تقبض في العارية ، وفي غير العارية : هي أشياء وأعيان موهوبة لم تقبض ، فلصاحبها الرجوع فيها.

وكان إسماعيل عليه‌السلام رسولا إلى جرهم في مكة ونبيا صالحا ، وكان يأمر أهله جرهم وولده بالصلاة والزكاة ، وكان عند ربه مرضيا مقبولا ؛ وهذا في نهاية المدح ؛ لأن المرضي عند الله هو الفائز بأعلى الدرجات.

وإذا قرنت الزكاة بالصلاة أريد بها الصدقات الواجبة ، فهي طاعة لله لازمة ، تتطلب الإخلاص في أدائها ، كما أن الصلاة واجبة.

والأقرب ـ كما قال الرازي ـ في الأهل : أن المراد به من يلزمه أن يؤدي إليه الشرع ، فيدخل فيه كل أمته ؛ لأنه يلزمه في جميعهم ما يلزم المرء في أهله خاصة.

قصة إدريس عليه‌السلام

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧))

المفردات اللغوية :

(إِدْرِيسَ) هو سبط شيث ، وجد نوح لأبيه ، واسمه (أخنوخ) لقب إدريس بذلك لكثرة

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١١ / ١١٦.

١٢٣

درسه ؛ إذ روي أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة ، وإنه أول من خط بالقلم ، وخاط الثياب ولبس المخيط ، وكانوا قبله يلبسون الجلود ، وأول من نظر في علم النجوم والحساب ، وأول من اتخذ الموازين والمكاييل والأسلحة ، فقاتل بني قابيل ، وأول مرسل بعد آدم. (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) يعني شرف النبوة والزلفى عند الله تعالى ، وقيل : الجنة ، وقيل : في السماء الرابعة أو السادسة أو السابعة ، والأول أصح.

المناسبة :

هذه قصة إدريس هي القصة السادسة من سورة مريم ، ذكرت للعبرة ؛ لأنه دعا إلى دين الله والتوحيد وعبادة الخالق ، وتخليص النفوس من العذاب في الآخرة بالعمل الصالح في الدنيا ، وحض على الزهد في الدنيا والعمل بالعدل ، وأمر بالصلاة وبصيام أيام من كل شهر ، وحث على جهاد الأعداء ، وأمر بالزكاة معونة للضعفاء ، وغلظ في الطهارة من الجنابة والكلب والحمار ، وحرم المسكر من كل شيء.

وهو أول بني آدم أعطي النبوة بعد آدم وشيث عليهما‌السلام. فهو من ذرية آدم لقربه منه ؛ لأنه جد أبي نوح ، وإبراهيم من ذرية من حمل مع نوح ؛ لأنه من ولد سام بن نوح. وجاء في صحيح مسلم في حديث الإسراء أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ به في السماء الرابعة. وهذا هو الصحيح ، وأما ما ذكر في البخاري من أنه في السماء الثانية فهو وهم.

ولد بمنف في مصر ، وسموه (هرمس الهرامسة) وقيل : ولد ببابل ، وأخذ في أول عمره بعلم شيث بن آدم ، وهو جد جد أبيه. وأقام بمصر يدعو الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وطاعة الله عزوجل. وكان يعلّمهم كيفية تخطيط المدن.

أقام في الأرض اثنتين وثمانين سنة ، وكان على فص خاتمه : «الصبر مع

١٢٤

الإيمان بالله يورث الظفر» ، وعلى المنطقة التي يلبسها : «الأعياد في حفظ الفروض ، والشريعة من تمام الدين ، وتمام الدين من كمال المروءة» ، وعلى المنطقة التي يلبسها وقت الصلاة على الميت : «السعيد من نظر لنفسه ، وشفاعته عند ربه أعماله الصالحة» ، وكانت له مواعظ وآداب.

التفسير والبيان :

وصف الله تعالى إدريس جد نوح الذي هو أول من خط بالقلم ، وخاط الثياب ، ولبس المخيط بصفات ثلاث هي :

١ ـ إنه كان صدّيقا ، أي كثير الصدق ، قوي التصديق بآيات الله تعالى.

٢ ـ وكان رسولا نبيا ، أي موحى إليه بشرع ، مأمورا بتبليغه إلى قومه ، وقد أنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة كما في حديث أبي ذرّ.

٣ ـ ورفعه الله مكانا عليا ، أي أعلى قدره ، وشرفه بالنبوة ، وجعله ذا منزلة عالية ، كما قال الله لنبيه : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) [الشرح ٩٤ / ٤] ، وروى مسلم في صحيحة : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ به في ليلة الإسراء ، وهو في السماء الرابعة». وجرت العادة ألا يرفع إلى السماء إلا من كان عظيم القدر والمنزلة.

والأولى في رأي الرازي أن المراد بالصفة الثالثة الرفعة في المكان إلى موضع عال ؛ لأن الرفعة المقرونة بالمكان تكون رفعة في المكان ، لا في الدرجة. والظاهر لي أن المراد الرفعة في الدرجة ، إذ لا فرق في التعبير بين المكان والمكانة ، فيقال : فلان ذو مكان عال عند السلطان.

وسبب رفع مكانته : أنه كان كثير العبادة ، يصوم النهار ، ويتعبد في الليل. قال وهب بن منبّه : كان يرفع لإدريس عليه‌السلام كل يوم من العبادة

١٢٥

مثلما يرفع لأهل الأرض في زمانه. وأصحاب هذه الخصال هم قدوة يقتدي بها المؤمن ، ويتحلى بها المخلص ، وقد بدأ الله نبيه بالأمر بها والخطاب معه ؛ لأنه قدوة أمته ، والمثل الأعلى للمؤمنين على الدوام ، مشيرا إلى ذلك في الآية التالية.

جملة صفات الأنبياء عليهم‌السلام

(أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨))

الإعراب :

(أُولئِكَ الَّذِينَ) مبتدأ وخبر أو الذين : صفة ، والخبر : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ ..) ، وهو إشارة إلى من تقدم ذكره في هذه السورة من الأنبياء.

(خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) منصوبان على الحال المقدرة ، أي مقدّرين السجود والبكاء. و (بُكِيًّا) جمع باك.

(إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) الجملة الشرطية خبر ، إذا جعلنا (الَّذِينَ أَنْعَمَ ..) صفة لأولئك ، وهي كلام مستأنف إن جعلنا (الَّذِينَ) خبرا ، لبيان خشيتهم من الله ، مع علو الدرجة وشرف النسب وكمال النفس والزلفى من الله عزوجل.

البلاغة :

(أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ) الإشارة بالبعيد لعلو الرتبة.

المفردات اللغوية :

(أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين في السورة من زكريا إلى إدريس. (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بأنواع النعم الدينية والدنيوية. (مِنَ النَّبِيِّينَ) بيان للموصول ؛ لأن جميع الأنبياء منعم عليهم. (مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) من هنا للتبعيض ، والمراد به هنا : إدريس الذي هو من ذرية آدم عليه‌السلام ، لقربه منه ؛ لأنه جد نوح أي جد أبيه. (وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) في السفينة ، أي إبراهيم بن سام بن نوح. (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ) أي إسماعيل وإسحاق ويعقوب ، (وَإِسْرائِيلَ) هو يعقوب

١٢٦

عليه‌السلام ، أي من ذريته وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى. (وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) أي ومن جملتهم ، و (اجْتَبَيْنا) اصطفينا واخترنا للنبوة والكرامة. (سُجَّداً) جمع ساجد. (وَبُكِيًّا) جمع باك ، روى ابن ماجه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اتلو القرآن وابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا». والبكا : بالقصر مثل الحزن ، لا صوت معه.

المناسبة :

بعد أن أثنى الله على كل رسول من رسله العشرة بما يخصه ، جمعهم آخرا بصفة واحدة : هي الإنعام عليهم بالنبوة ، والهداية إلى طريق الخير ، والاصطفاء من سائر خلقه. قال ابن كثير : ليس المراد المذكورين في هذه السورة فقط ، بل جنس الأنبياء عليهم‌السلام ، استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس (١).

التفسير والبيان :

(أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ) أي أولئك المذكورون من أول السورة إلى هنا ، من لدن زكريا إلى إدريس ، بل وجميع الأنبياء هم الذين أنعم الله عليهم بنعمة النبوة والقرب منه ، وعظم المنزلة لديه ، واختارهم واجتباهم من بين عباده ، وهداهم وأرشدهم ليكونوا المثل الأعلى للبشرية ، والأسوة الحسنة للناس جميعا في عبادة الله وطاعته والتأسي بطريقتهم ومنهجهم وأخلاقهم.

(مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) أبي البشر الأول عليه‌السلام.

(وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) أي ومن ذرية من حملنا في السفينة مع نوح أبي البشر الثاني ، وهم من عدا إدريس عليه‌السلام الذي كان سابقا على نوح ، على ما ثبت في الأخبار ، جمعهم الله في كونهم من ذرية آدم ، ثم خص بعضهم بأنه من ذرية المحمولين مع نوح ، والذي يختص بأنه من ذرية آدم دون من حمل مع نوح هو إدريس عليه‌السلام.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ١٢٦

١٢٧

(وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ) وهم إسحاق ويعقوب وإسماعيل عليهم‌السلام.

(وَإِسْرائِيلَ) أي ومن ذرية إسرائيل ، أي يعقوب ، وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى بن مريم عليهم‌السلام.

(وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) أي ومن جملة من هدينا إلى الإسلام الذي هو الدين الحق المشترك بين جميع الأنبياء ، ومن جملة من اخترنا للنبوة والكرامة والاصطفاء.

(إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) أي كانوا إذا سمعوا آيات الله المتضمنة حججه ودلائله وبراهينه وشرائعه المنزلة ، سجدوا لربهم خضوعا لذاته واستكانة وانقيادا لأمره ، وحمدا وشكرا على ما هم فيه من النعم العظيمة ، وهم باكون خشية من الله ومن عذابه. والبكي : جمع باك.

قال ابن كثير : ومما يؤيد أن المراد بهذه الآية جنس الأنبياء : أنها كقوله تعالى في سورة الأنعام : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ ، نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا ، وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ ، كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً ، وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ. وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ ، وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إلى قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ ، فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام ٦ / ٨٣ ـ ٩٠] وقال سبحانه وتعالى : (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [غافر ٤٠ / ٧٨] وفي صحيح البخاري عن مجاهد : أنه سأل ابن عباس أفي ص سجدة؟ فقال : نعم ، ثم تلا هذه الآية : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ ، فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) أي فنبيكم ممن أمر أن يقتدي بهم ، قال : وهو منهم يعني داود.

١٢٨

لهذا أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا اقتداء بهم ، واتباعا لمنوالهم (١). وعند ابن ماجه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اتلوا القرآن وابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا» وعن صالح المرّي قال : قرأت القرآن عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام ، فقال لي : يا صالح ، هذه القراءة ، فأين البكاء؟ وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : «إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود ، حتى تبكوا ، فإن لم تبك عين أحدكم ، فليبك قلبه» (٢).

والذي يستنبط من هذه الآية كما فهم منها : أن جميع الأنبياء هم القدوة الصالحة والأسوة الحسنة للبشرية في سلامة العقيدة ، وكثرة العبادة ، وصحة الدين ، ونقاوة الأصل ، وطهارة النسب والمعدن. واستقامة المنهج والطريق ، ورفعة الشأن والخلق.

صفات خلف الأنبياء وجزاؤهم وصفات التائبين ومستحقي الجنة

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣))

__________________

(١) المرجع السابق ١٢٧.

(٢) تفسير الرازي : ٢١ / ٢٣٤.

١٢٩

الإعراب :

(جَنَّاتِ عَدْنٍ جَنَّاتِ) بدل منصوب من قوله : (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) أي يدخلون جنات عدن ، وهو بدل الشيء من نفسه ؛ لأن الألف واللام في الجنة للجنس.

(إِلَّا سَلاماً) إما منصوب ؛ لأنه استثناء منقطع ، أو منصوب على البدل من (لغو). (بِالْغَيْبِ) حال.

(نُورِثُ مِنْ عِبادِنا نُورِثُ) مضارع أورث ، وهو يتعدى إلى مفعولين ، الأول منهما محذوف ، وهو الهاء عائد الموصول ، أي نورثها ، والمفعول الثاني (مَنْ كانَ تَقِيًّا). و (مِنْ عِبادِنا) متعلق بنورث ، أي تلك الجنة التي نورثها من كان تقيا من عبادنا.

البلاغة :

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) جناس ناقص لتغير الحركات والشكل.

(بُكْرَةً وَعَشِيًّا) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(فَخَلَفَ) بسكون اللام : عقب السوء ، وبفتح اللام : عقب الخير. (أَضاعُوا الصَّلاةَ) تركوها بتاتا ، أو أخروها عن وقتها. (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) انهمكوا في المعاصي واللذات. (غَيًّا) أي شرا أو واديا في جهنم ، والمعنى : يقعون في نار جهنم ، ويلقون جزاءهم فيها. (إِلَّا) بمعنى لكن ، وهو يدل على أن الآية في الكفرة. (وَلا يُظْلَمُونَ) ينقصون. (شَيْئاً) من ثوابهم وجزاء أعمالهم.

(جَنَّاتِ عَدْنٍ) جنات إقامة ، وهذا وصف لها بالدوام (بِالْغَيْبِ) أي وهي غائبة عنهم ، أو هم غائبون عنها. (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ) موعوده. (مَأْتِيًّا) بمعنى آتيا لا محالة. أو أن موعوده الذي هو الجنة يأتيه أهله الذين وعدوا به.

(لَغْواً) فضولا من الكلام لا يفيد. (إِلَّا سَلاماً) أي لكن يسمعون سلاما من الله أو من الملائكة عليهم ، أو من بعضهم على بعض. (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) على عادة المتنعمين ، والتوسط ، وفي قدر وقتهما في الدنيا ، علما بأنه ليس في الجنة نهار ولا ليل ، بل ضوء ونور أبدا.

المناسبة :

بعد أن وصف الله تعالى أولئك الأنبياء وأتباعهم بصفات الثناء والمدح من

١٣٠

اتباع أوامر الدين وترك نواهيه ، ترغيبا في التأسي بطريقتهم ، ذكر صفات الخلف الذين أتوا بعدهم ممن أضاعوا واجبات الدين ، وانتهبوا اللذات والشهوات ، ثم ذكر ما ينالهم من العقاب في الآخرة ، إلا من تاب ، فإن الله يقبل توبته ، ويورثه جنات النعيم التي لا يرثها إلا الأتقياء.

قال الرازي : وظاهر الكلام. أن المراد من بعد هؤلاء الأنبياء خلف من أولادهم.

وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في قوم من هذه الأمة يتراكبون في الطرق ، كما تراكب الأنعام ، لا يستحيون من الناس ، ولا يخافون من الله في السماء.

أخرج أحمد وابن حبان والحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتلا هذه الآية ، قال : «يكون خلف من بعد ستين سنة ، أضاعوا الصلاة ، واتبعوا الشهوات ، فسوف يلقون غيا ، ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم ، ويقرأ القرآن ثلاثة : مؤمن ، ومنافق ، وفاجر».

التفسير والبيان :

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ ، فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) أي فجاء خلف سوء من بعد أولئك السعداء وهم الأنبياء عليهم‌السلام وأتباعهم القائمون بحدود الله وأوامره ، المؤدون فرائض الله ، التاركون لزواجره.

أولئك الخلف يدّعون الإيمان واتباع الأنبياء ، ولكنهم مخالفون مقصرون كاليهود والنصارى وفسّاق المسلمين الذين تركوا الصلاة المفروضة عليهم ، وآثروا شهواتهم من المحرّمات على طاعة الله ، فاقترفوا الزنى ، وشربوا الخمور ، وشهدوا شهادة الزور ، ولعبوا الميسر ، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، فهؤلاء جزاؤهم أنهم سيلقون غيا ، أي شرا وخيبة وخسارا يوم القيامة ، لارتكابهم المعاصي ، وإهمال الواجبات.

١٣١

والمراد بإضاعة الصلاة في الأظهر تركها بالكلام ، وعدم فعلها أصلا ، وجحود وجوبها. ويرى بعضهم كالشوكاني أن من أخر الصلاة عن وقتها ، أو ترك فرضا من فروضها ، أو شرطا من شروطها ، أو ركنا من أركانها ، فقد أضاعها.

لذا ذهب جماعة من السلف والخلف والأئمة ، كما الذي رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي وهو المشهور عن الإمام أحمد وقول عن الشافعي إلى تكفير تارك الصلاة ؛ للحديث : «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة» والحديث الآخر الذي رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن بريدة : «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر».

ثم استثنى الله تعالى من الجزاء المتقدم التائبين ، فقال :

(إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) أي لكن من تاب مما فرط منه من ترك الصلوات ، واتباع الشهوات ، فرجع إلى طاعة الله وآمن به وعمل عملا صالحا ، فأولئك يدخلهم ربهم الجنة ، ويغفر لهم ذنوبهم ؛ لأن «التوبة تجب ما قبلها» في حديث ذكره الفقهاء ، وفي الحديث الآخر الذي رواه ابن ماجه عن ابن مسعود : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» وأولئك أيضا لا ينقص من أجورهم شيء ، وإن كان العمل قليلا ؛ لأن أعمالهم السابقة ذهبت هدرا ، وصارت منسية ، تفضلا ورحمة من الله الكريم اللطيف الحليم.

وهذا الاستثناء كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ، وَلا يَزْنُونَ ..) ثم قال تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً ، فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ، وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان ٢٥ / ٦٨ ـ ٧٠].

١٣٢

ثم وصف الله تعالى الجنات التي يدخلها التائبون من ذنوبهم وهي أوصاف ثلاثة :

١ ـ (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ ، إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) أي هي جنات إقامة دائمة ، وعد الرحمن بها عباده الأبرار بظهر الغيب ، فآمنوا بها ولم يروها ؛ لقوة إيمانهم ، ولأن وعد الله آت لا يخلف ، ومنها الجنة ، يأتيها أهلها لا محالة. وقوله : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) أي آتيا : تأكيد لحصول ذلك وثبوته واستقراره ، فإن الله لا يخلف الميعاد ولا يبدله ، كقوله : (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) [المزمل ٧٣ / ١٨] أي كائنا لا محالة.

٢ ـ (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) أي لا يسمع الأبرار أهل الجنة فيها كلاما ساقطا ، أو تافها لا معنى له ، أو هذرا لا طائل تحته ، كما قد يوجد في الدنيا ، ولكن يسمعون سلام بعضهم على بعض ، أو سلام الملائكة عليهم ، بما يشعرهم بالأمان والطمأنينة ، وهما منتهى الراحة والسعادة.

وقوله : (إِلَّا سَلاماً) استثناء منقطع كقوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً : سَلاماً سَلاماً) [الواقعة ٥٦ / ٢٥ ـ ٢٦].

٣ ـ (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي يأتيهم ما يشتهون من الطعام والشراب قدر وقت البكرة والعشي ، أي وقت الغداء صباحا ، والعشاء مساء إذ ليس هناك ليل ولا نهار ، وإنما بمقدار طرفي النهار في الدنيا ، وفي أوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنهار ، كما أخرج الإمام أحمد والشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أول زمرة تلج الجنة ، صورهم على صورة القمر ليلة البدر ، لا يبصقون فيها ، ولا يتمخّطون فيها ، ولا يتغوّطون ، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة ، ومجامرهم الألوّة (١) ، ورشحهم

__________________

(١) الألوّة : بفتح الهمزة وضمها ، عود يتبخر به ، والمجامر جمع مجمرة : وهي الشيء الذي يوضع فيه الجمر والبخور.

١٣٣

المسك ، ولكل واحد منهم زوجتان ، يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن ، لا اختلاف بينهم ولا تباغض ، قلوبهم على قلب رجل واحد ، يسبحون الله بكرة وعشيا». وهذا وقت طعام أهل الاعتدال ، أما النهم فيأكل متى شاء. وأسباب استحقاق الجنان هي :

(تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) أي هذه الجنة التي وصفناها بتلك الأوصاف الرائعة هي التي نورثها عبادنا المتقين ، وهم المطيعون لله عزوجل في السرّاء والضرّاء ، أي نجعلها حقا خالصا لهم كملك الميراث ، كما قال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) إلى أن قال : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ ، هُمْ فِيها خالِدُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ١ ـ ١١].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ جاء بعد الأنبياء وأتباعهم الأتقياء خلف سوء وأولاد شر.

أ ـ تركوا أداء الصلوات المفروضة ، وهذا دليل على أن إضاعة الصلاة من الكبائر التي يعذب بها صاحبها. روى الترمذي وأبو داود عن أنس بن حكيم الضّبّي أنه أتى المدينة ، فلقي أبا هريرة ، فقال له : يا فتى ، ألا أحدثك حديثا لعل الله تعالى أن ينفعك به ؛ قلت : بلى ، قال : «إن أول ما يحاسب به الناس يوم القيامة من أعمالهم الصلاة ، فيقول الله تبارك وتعالى لملائكته ـ وهو أعلم ـ : انظروا في صلاة عبدي ، أتمها أم نقصها ، فإن كانت تامة ، كتبت له تامة ، وإن كان انتقص منها شيئا قال : انظروا هل لعبدي من تطوع ، فإن كان له تطوع قال : أكملوا لعبدي فريضته من تطوعه ، ثم تؤخذ الأعمال على ذلك».

١٣٤

وأخرجه النسائي عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة بصلاته ، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح ، وإن فسدت فقد خاب وخسر ..» الحديث.

ب ـ واتبعوا شهواتهم وهي عبارة عما يوافق الإنسان ويشتهيه ويلائمه ولا يتقيه. جاء في الصحيح : الذي رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أنس «حفّت الجنة بالمكاره ، وحفّت النار بالشهوات».

٢ ـ إن جزاء خلف السوء الغي ، أي الهلاك والضلال في جهنم ، أو أن الغي : واد في جهنم أبعدها قعرا ، وأشدها حرا ، فيه بئر يسمى البهيم ، كلما خبت فتح الله تعالى تلك البئر ، فتسعّر بها جهنم. قال ابن عباس : «غيّ : واد في جهنم ، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حره ، أعد الله تعالى ذلك الوادي للزاني المصرّ على الزنى ، ولشارب الخمر المدمن عليه ، ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه ، ولأهل العقوق ، ولشاهد الزور ، ولا مرأة أدخلت على زوجها ولدا ليس منه» أي كانت زانية به.

٣ ـ يقبل الله توبة من تاب من عباده ، من تضييع الصلوات واتباع الشهوات ، فرجع إلى طاعة الله ، وآمن به ، وعمل صالح الأعمال ، فهؤلاء يدخلون الجنة مع الأبرار ، ولا ينقص من أعمالهم الصالحة شيء بسبب تقصيرهم الماضي ، لكن يكتب لهم بكل حسنة عشر إلى سبع مائة.

٤ ـ تلك هي جنات عدن ، أي إقامة دائمة ، وهي التي وعد بها الرحمن عباده ، فآمنوا بها غيبيا ، وإن لم يشاهدوها ، ووعد الله آت لا ريب فيه ، وإن الله لا يخلف الميعاد.

٥ ـ خصائص الجنة وأوصافها : هي :

أولا ـ أن الوعد بها آت لا محالة ، كما ذكر.

١٣٥

وثانيا ـ لا لغو فيها : وهو المنكر من القول ، والباطل من الكلام ، والفحش منه ، والفضول الساقط الذي لا ينتفع به : (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) [الغاشية ٨٨ / ١١].

وثالثا ـ لكن يسمعون فيها سلام بعضهم على بعض ، وسلام الملائكة عليهم ، والسلام : اسم جامع للخير ، والمعنى : أنهم لا يسمعون فيها إلا ما يحبون.

ورابعا ـ لهم ما يشتهون فيها من المطاعم والمشارب بكرة وعشيا ، أي قدر هذين الوقتين ، إذ لا بكرة ثم ولا عشيا.

وخامسا ـ هذه الجنة حق خالص يرثه ويتملكه العباد الأتقياء ، وهم من اتقى الله وعمل بطاعته ، فقام بالأوامر ، واجتنب النواهي.

تنزل الوحي بأمر الله تعالى

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥))

الإعراب :

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) على حذف : قل ، أي قل : ما نتنزل إلا بأمر ربك ، فحذف قل ، والخطاب لجبريل ، وحذف القول كثير في كلام العرب وفي القرآن. و (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) دليل على أن الأزمنة ثلاثة : ماض وحاضر ومستقبل. وعطف كلام غير الله (وَما نَتَنَزَّلُ) على كلام الله (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ) من غير فصل أمر جائز إذا كانت القرينة ظاهرة ، مثل : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) [البقرة ٢ / ١١٧ وآل عمران ٣ / ٤٧] الذي هو كلام الله ، وقوله : (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) [مريم ١٩ / ٣٦] الذي هو كلام غير الله.

١٣٦

(وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبُّ السَّماواتِ) إما مرفوع بدل من (رَبِّكَ) اسم (كانَ) ، أو خبر مبتدأ مقدر ، أي هو ربّ السموات ، أو مبتدأ ، وخبره (فَاعْبُدْهُ) عند أبي الحسن الأخفش ؛ لأنه يجوز أن تزاد الفاء في خبر المبتدأ ، وإن لم يكن المبتدأ اسما موصولا ، أو نكرة موصوفة ، مثل : «زيد فمنطلق» والأكثرون على أن الفاء عاطفة ، لا زائدة ، أي هذا زيد فهو منطلق ، فكل واحد منهما خبر مبتدأ محذوف.

البلاغة :

(لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(نَتَنَزَّلُ) التنزل : النزول على مهل وقتا بعد وقت ، وهو حكاية قول جبريل حين استبطأه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ، ولم يدر ما يجيب ، ورجا أن يوحى إليه فيه ، فأبطأ عليه خمسة عشر يوما (إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) المعنى : وما ننزل وقتا بعد وقت إلا بأمر الله ومشيئته على ما تقتضيه حكمته. وقرئ : وما يتنزل ، والضمير للوحي (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) له ما أمامنا في الزمان المستقبل ، وما وراءنا من الزمان الماضي ، وما بينهما من الزمان الحاضر (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) أي ناسيا تاركا لك ، بتأخير الوحي عنك ، والمعنى : ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به ، ولم يكن ذلك عن ترك الله لك ، وتوديعه إياك ، كما زعمت الكفرة ، وإنما كان لحكمة رآها فيه.

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) بيان لامتناع النسيان عليه (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرتب على ما سبق ، أي لما عرفت ربّك بأنه لا ينبغي له أن ينساك ، فأقبل على عبادته واصطبر عليها ، أي اصبر على مشاقها وشدائدها ، ولا تتشوش بإبطاء الوحي وهزء الكفرة. وإنما عدّي باللام (لِعِبادَتِهِ) لتضمنه معنى الثبات للعبادة ، كما تقول للمحارب : اصطبر لقرنك ، أي اثبت له في حملاته (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) أي مثلا ونظيرا مسمى بذلك ، أي الله؟ فإن المشركين لم يسموا الصنم الإله : (الله) قط. وإذا صح ألا أحد مثله ولا يستحق العبادة غيره ، لم يكن بد من التسليم لآمره والاشتغال بعبادته والاصطبار على مشاقها.

سبب النزول :

أخرج أحمد والبخاري عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله وسلّم لجبريل : ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا ، فنزلت : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ).

١٣٧

وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : أبطأ جبريل في النزول أربعين يوما ، فذكر نحوه.

وأخرج ابن إسحاق عن ابن عباس : أن قريشا لما سألوه عن أصحاب الكهف ، مكث خمس عشرة ليلة ، لا يحدث الله له في ذلك وحيا ، فلما نزل جبريل ، قال له : أبطأت ، فذكره.

وروي عن ابن عباس «أن جبريل عليه‌السلام احتبس عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أياما ، حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ، ولم يدر عليه الصلاة والسلام كيف يجيب؟ فحزن واشتد عليه ذلك ، وقال المشركون : إن ربّه ودّعه وقلاه ، فلما نزل ، قال له عليه الصلاة والسلام : يا جبريل ، احتسبت عني ، حتى ساء ظني ، واشتقت إليك ، فقال : إني إليك لأشوق ، ولكني عبد مأمور ، إذا بعثت نزلت ، وإذا حبست احتبست ، وأنزل الله هذه الآية» (١). ولا مانع من تعدد الوقائع وأسباب النزول.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى قصص الأنبياء كزكريا وإبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس ، تثبيتا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذكر ما أنعم الله عليهم وما أحدثه الخلف بعدهم ، وجزاء الفريقين ، ذكر الله سبب تأخر الوحي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تنبيها على قصة قريش واليهود ، من أولئك الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ، وختما لقصص أولئك المنعم عليهم بمخاطبة أشرفهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي هو من ذرية إبراهيم.

التفسير والبيان :

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ، لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ، وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) عطف الله هذه الآية التي هي كلام غير الله على آية : (تِلْكَ

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢١ / ٢٣٩

١٣٨

الْجَنَّةُ ..) التي هي كلام الله من غير فصل ، وهو جائز إذا كانت القرينة ظاهرة ، مثل عطف آية (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) [مريم ١٩ / ٣٦] التي هي كلام غير الله ، على قوله : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [البقرة ٢ / ١١٧ وآل عمران ٣ / ٤٧] الذي هو كلام الله.

ومعنى الآية : بعد أن استبطأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزول جبريل عليه ، أمر الله جبريل أن يقول : وما نتنزل نحن الملائكة بالوحي على الأنبياء والرسل إلا بأمر الله بالتنزيل على وفق الحكمة والمصلحة وخير العباد في الدنيا والآخرة.

إن لله تعالى التدبير والتصرف وأمر الدنيا والآخرة وما بين ذلك من الجهات والأماكن والأزمنة الماضية والحاضرة والمستقبلة ، فلا نقدم على أمر إلا بإذنه. وقوله : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) خطاب جماعة لواحد ، وذلك لا يليق إلا بالملائكة الذين ينزلون على الرسول. والتنزل هنا : النزول على مهل ، أي أن نزول الملائكة وقتا بعد وقت لا يكون إلا بأمر الله تعالى.

وما نسيك ربك يا محمد ، وإن تأخر عنك الوحي ، ولا ينسى شيئا ، ولا يغفل عن شيء ، وإنما يقدّم ويؤخّر لما يراه من الحكمة ، وهذه الآية كقوله تعالى : (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) [الضحى ٩٣ / ١ ـ ٣].

روى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني عن أبي الدرداء مرفوعا قال : «ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرّمه فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عافية ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئا» ثم تلا هذه الآية : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا).

والدليل على ذلك قوله سبحانه :

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ ، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ

١٣٩

سَمِيًّا) أي إن الله خالق السموات والأرض ومالكهما وما بينهما ، وهو المدبر والحاكم والمتصرف الذي لا معقب لحكمه ، فاثبت على عبادة ربك ، واصطبر على العبادة والطاعة وما فيها من المتاعب والشدائد ، ولا تنصرف عنها بسبب إبطاء الوحي ، هل تعلم للرب مثلا أو شبيها ، يكون أهلا للعبادة؟ فهو الخالق والمدبر والرازق والمنعم بأصول النعم وفروعها من خلق الأجسام والحياة والعقل وما يحتاجه الإنسان وغيره ، فإنه لا يقدر على ذلك أحد سواه سبحانه.

والمراد بنفي العلم نفي الشريك على أي وجه ، والاستفهام للإنكار ، وهل بمعنى لا ، أي لا تعلم.

قال ابن عباس : ليس أحد يسمى الرحمن غيره تبارك وتعالى وتقدس اسمه.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيتان على أمرين :

الأول ـ إن الملائكة رسل الله بالوحي لا تنزل على أحد من الأنبياء والرسل من البشر إلا بأمر الله مدبر الكائنات في كل زمان ومكان ، والذي لا يغفل عن شيء ولا ينساه ، إذا شاء أن يرسل الملك أرسله.

الثاني ـ إن الله عزوجل هو رب السموات والأرض وخالقهما وخالق ما بينهما ، ومالكهما ومالك ما بينهما ، فكما إليه تدبير الأزمان ، كذلك إليه تدبير الأعيان ، وبما أنه المالك على الإطلاق فهو الذي وجبت عبادته ، ولا يستحقها أحد سوى المالك المعبود ، الذي ليس له ولد ولا نظير أو مثيل أو شبيه يستحق مثل اسمه الذي هو الله وهو الرحمن.

والعبادة : الطاعة بغاية الخضوع لله تعالى ، وما على الرسول وغيره من المؤمنين إلا الاشتغال بما أمر به والاستمرار عليه ، دون استبطاء شيء آخر.

١٤٠