التفسير المنير - ج ١٦

الدكتور وهبة الزحيلي

لا تعلم العبادة ، ويكونون أعداء لهم ، وأعوانا عليهم ، بخلاف ما ظنوا فيهم ، فيقولون : ما عبدتمونا ، كما قال تعالى : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا : رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ ، فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ ، إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) [النحل ١٦ / ٨٦] ، وقال سبحانه : (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) [القصص ٢٨ / ٦٣] ، وقال عزوجل : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ، وَرَأَوُا الْعَذابَ ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) [البقرة ٢ / ١٦٦].

وبعد بيان حال هؤلاء الكفار مع الأصنام في الآخرة ، ذكر تعالى حالهم مع الشياطين في الدنيا ، فإنهم يسألونهم وينقادون لهم ، فقال :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) أي ألم تعلم أننا سلطنا الشياطين على الكفار ، وخلينا بينهم وبينهم ، ومكناهم من إضلالهم ، فهم يحركونهم إلى فعل المعاصي ، ويهيجونهم ويغرونهم ويغوونهم ، كما قال تعالى : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ، وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ، وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) [الإسراء ١٧ / ٦٤].

وهذا إثارة لعجب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حال الكفار وإصرارهم على الكفر ، وتسلية له عن صدودهم وإعراضهم ، وتهوين الأمر على نفسه.

(فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ، إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) أي فلا تعجل يا محمد على هؤلاء بأن تطلب من الله إيقاع العذاب بهم وإهلاكهم وإبادتهم بسبب تصميمهم على الكفر وعنادهم ، إنما نعد لهم أوقاتا معدودة ، ونؤخرهم لأجل معدود مضبوط هو انتهاء آجالهم ، وهم صائرون لا محالة إلى عذاب الله ونكاله ، أي فليس بينك وبين عذابهم إلا أوقات محصورة معدودة ، وكل آت قريب ، قال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم ١٤ / ٤٢] الآية ، وقال

١٦١

سبحانه : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) [الطارق ٨٦ / ١٧] ، وقال عزوجل : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان ٣١ / ٢٤].

ثم أبان سبحانه ما سيظهر في يوم القيامة من الفصل بين المتقين وبين المجرمين في كيفية الحشر ، فقال :

(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) أي واذكر أيها الرسول لقومك ، يوم نحشر جماعة المتقين وافدين ركبانا إلى جنة الله ودار كرامته ، والوفد : هم القادمون ركبانا ، مراكبهم من نور من مراكب الدار الآخرة ، عن علي رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والذي نفسي بيده إن المتقين إذا خرجوا من قبورهم ، استقبلوا بنوق بيض ، لها أجنحة ، عليها رحال الذهب» ثم تلا هذه الآية.

(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) أي ونحث المجرمين المكذبين على السير طردا إلى جهنم ، مشاة عطاشا ، كالإبل ترد الماء.

(لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) أي لا يملك أحد عند الله الشفاعة لغيره ، (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) [النبأ ٧٨ / ٣٨] ، و (مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) : وهو شهادة أن لا إله إلا الله ، والقيام بحقها ، بأن كان صالح الاعتقاد والقول والعمل ، وكان في الدنيا هاديا مصلحا. أما شفاعة الآلهة المزعومة فهي أمان زائفة ، وأوهام فارغة ، فهي لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا.

روى ابن أبي حاتم عن الأسود بن يزيد قال : قرأ عبد الله بن مسعود هذه الآية : (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) ثم قال : اتخذوا عند الله عهدا ، فإن الله يقول يوم القيامة : من كان له عند الله عهد فليقم ، قالوا : يا أبا عبد الرحمن ، فعلّمنا ، قال : قولوا : اللهم فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب

١٦٢

والشهادة ، إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا ألا تكلني إلى عمل يقربني من الشر ، ويباعدني من الخير ، وإني لا أثق إلا برحمتك ، فاجعل لي عندك عهدا نؤديه إليّ يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد.

وهذا مأخوذ من معنى حديث (١) تبين منه أن المراد بالعهد كلمة الشهادة. ودلت الآية على ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ اتخذ المشركون بالله آلهة عبدوها من دون الله ، ليكونوا لهم أعوانا وأنصارا وشفعاء ، يقربونهم من الله ، ويمنعونهم من عذاب الله تعالى.

٢ ـ ليس الأمر كما ظنوا وتوهموا ، فستجحد هذه الأصنام عبادة المشركين لها ، أو ينكرون هم أنفسهم أنهم عبدوا الأصنام ، وستكون هذه الأصنام أعوانا في خصومتهم وتكذيبهم ، ويكونون لهم أعداء ، فتقول بإنطاق الله لهم : يا ربّ عذب هؤلاء الذين عبدونا من دونك.

٣ ـ سلط الله الشياطين على الكافرين بالإغواء والإغراء بالشر ، والإخراج من الطاعة إلى المعصية.

٤ ـ لا داعي أيها الرسول أن تطلب العذاب لقومك المشركين ، فما بينهم وبين العذاب إلا أوقات قصيرة معدودة.

٥ ـ يحشر الله المتقين من قبورهم ركبانا معززين مكرّمين ، ويساق المجرمون الكفار المكذبون سوقا مشاة حفاة أفرادا عطاشا كالإبل التي ترد الماء ، وفي هذا

__________________

(١) ذكره الرازي في تفسيره : ٢١ / ٢٥٣ ، والقرطبي أيضا : ١١ / ١٥٤ ، وسيأتي نصه.

١٦٣

مهانة وذلّ ، ودليل على أن أهوال يوم القيامة تختص بالمجرمين ؛ لأن المتقين من الابتداء يحشرون في حال من التكريم ، فهم آمنون من الخوف ، فكيف يجوز أن تنالهم الأهوال؟!

٦ ـ لا يملك أحد عند الله الشفاعة لغيره ، إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا فهو يملك الشفاعة (١) ، والعهد : شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، والقيام بحقها ، فقد تظاهرت الأخبار بأن أهل الفضل والعلم والصلاح يشفعون ، فيشفّعون ، قال ابن مسعود : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لأصحابه : «أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا؟ قيل : يا رسول الله ، وما ذاك؟ قال : يقول كل صباح ومساء : اللهم فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، وأن محمدا عبدك ورسولك ، فلا تكلني إلى نفسي ، فإنك إن تكلني إلى نفسي تباعدني من الخير ، وتقرّبني من الشر ، وإني لا أثق إلا برحمتك ، فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد.

فإذا قال ذلك طبع الله عليها طابعا ، ووضعها تحت العرش ، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الذين لهم عند الله عهد؟ فيقوم فيدخل الجنة».

__________________

(١) وحينئذ يكون الاستثناء متصلا ؛ لأن مَنِ في موضع رفع على البدل من واو يَمْلِكُونَ أي لا يملك أحد عند الله الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا ، فإنه يملك. ويصح جعل الاستثناء منقطعا ، بمعنى لكن ، أي لا يملك هؤلاء الكفار الشفاعة لأحد ، لكن المسلمون الذين اتخذوا عند الرحمن عهدا ، فإنهم يملكون الشفاعة.

١٦٤

الرد على من نسب الولد إلى الله تعالى

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥))

الإعراب :

(إِدًّا) ، (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ .. هَدًّا ، أَنْ دَعَوْا ٩) : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) : كاد واسمها وخبرها وصف منصوب لقوله تعالى : (إِدًّا). و (هَدًّا) : منصوب على المصدر ، و (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) : في موضع نصب على المفعول لأجله ، أي : وتخر الجبال هدّا لأن دعوا للرحمن ولدا. ويصح جعله مرفوعا بأنه فاعل : (هَدًّا) أو مجرورا بدلا من هاء (مِنْهُ).

(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ ... كُلُ) : مبتدأ ، و (آتِي) : خبره ، ووحّده حملا على لفظ كل. وقد يحمل على المعنى مثل : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) [النمل ٢٧ / ٨٧]. و (عَبْداً) : حال من ضمير (آتِي) وهو عامله ، وهو اسم فاعل من (آتِي) يقال : أتى فهو آت.

البلاغة :

(لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) التفات إلى الخطاب للمبالغة في الذم ، وتسجيل الجرأة على الله عليهم.

المفردات اللغوية :

(وَقالُوا) أي اليهود والنصارى ومن زعم أن الملائكة بنات الله. (جِئْتُمْ) فعلتم.

١٦٥

(إِدًّا) منكرا عظيما. والإدّة : الشدة. يقال : أدّني الأمر وآدني : أثقلني وعظم علي. (يَتَفَطَّرْنَ) يتشققن مرة بعد أخرى ، التفطر : التشقق. (وَتَخِرُّ) تسقط وتنهدم. (هَدًّا) أي تهدّ هدّا أو مهدودة. والمعنى : أن هول هذه الكلمة وعظمها بحيث لو تصوّر بصورة محسوسة ، لم تتحملها هذه الأجرام العظام ، وتفتّت من شدتها.

(وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) أي ما يليق به ذلك. (إِنْ كُلُّ ...) ما كل.

(عَبْداً) منقادا خاضعا ذليلا يوم القيامة. (لَقَدْ أَحْصاهُمْ) حصرهم وأحاط بهم ، فلا يخرجون عن علمه وقدرته. (وَعَدَّهُمْ عَدًّا) عدّ أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم ، فإن كل شيء عنده بمقدار. (فَرْداً) منفردا بلا مال ولا نصير.

المناسبة :

بعد أن ردّ الله تعالى على عبدة الأوثان ، عاد إلى الرد على من أثبت له ولدا كاليهود الذين قالوا : عزير ابن الله ، والنصارى الذين قالوا : المسيح ابن الله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ : عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ ، وَقالَتِ النَّصارى : الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [التوبة ٩ / ٣٠] ، وبعض مشركي العرب الذين قالوا : الملائكة بنات الله ، وكل ذلك إفك مفترى.

التفسير والبيان :

(وَقالُوا : اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً ، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) أي وقال الكفار (اليهود والنصارى والمشركون من العرب الذين يزعمون أن الملائكة بنات الله) : إن الله اتخذ ولدا ، فردّ الله تعالى عليهم : لقد جئتم بهذا القول شيئا منكرا ، وقلتم قولا عظيم الجرم والإثم. والإدّ : الداهية والأمر المنكر الشنيع الفظيع.

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) أي تقارب السموات أن تتشقق منه ، وأن تتصدع وتخسف الأرض ، وتسقط بصوت شديد ، وتنهدم الجبال هدما شديدا تتضعضع منه ، لشدة نكرانه ، إعظاما للربّ وإجلالا ، لأنهن مخلوقات على توحيده ، وأنه لا شريك له ولا نظير ولا ولد

١٦٦

ولا صاحبة. قال ابن عباس وكعب : فزعت السموات والأرض والجبال ، وجميع المخلوقات إلا الثقلين (الإنس والجن) ، وكادت أن تزول ، وغضبت الملائكة فاستعرت جهنم ، وشاك الشجر ، واكفهرت الأرض وجدبت حين قالوا : اتخذ الله ولدا. وقال محمد بن كعب : لقد كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة ؛ لقوله تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا ، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً).

وهذا تهويل عظيم ، وأنه موجب غضب الله وسخطه ، ولكن لولا حكمة الله وحلمه وأنه لا يبالي بكفر الكافر ، لقامت القيامة ، واستؤصل الكفار.

وسبب ذلك :

(أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً ، وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) أي لأجل أنهم نسبوا الولد إلى الله ، ولا يصلح له ولا يليق به اتخاذ الولد ، لجلاله وعظمته ، فإن هذا نقص ، يتعالى الله ويتنزه عنه ؛ لأن جميع الخلائق عبيد له.

لهذا قال مؤكدا إنكار هذه الفرية :

(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) أي كل واحد من الخلق من الملائكة والإنس والجن لا بدّ له أن يأتي إلى الله يوم القيامة مقرّا بالعبودية ، خاضعا ذليلا ، معلنا أنه مملوك لله ، فكيف يكون أحد المخلوقات ولدا له؟!

(لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) أي قد علم الله عددهم منذ خلقهم إلى يوم القيامة ، وعدّ أشخاصهم وأحوالهم كلها ، فهم تحت سلطانه وأمره وتدبيره ، وكل شيء عنده بمقدار ، وكل واحد منهم يأتيه يوم القيامة ، لا ناصر له ولا مال معه ، ولا مجير له إلا الله وحده لا شريك له ،

١٦٧

فيحكم في خلقه بما يشاء ، وهو العادل الذي لا يظلم الناس شيئا ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون. وقوله ؛ (وَعَدَّهُمْ عَدًّا) تأكيد لما سبق.

فقه الحياة أو الأحكام :

موضوع هذه الآيات : تقرير التوحيد ، وإثبات العبودية الخالصة لله ، وإنكار اتخاذ الله ولدا : (قُلْ : هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص ١١٢ / ١ ـ ٤].

ومع هذا زعم اليهود والنصارى وبعض العرب القائلين بأن الملائكة بنات الله : أن لله ولدا ، وحاشا لله أن يتخذ ولدا ، إذ لا حاجة به إليه ، وهو منزه عن النقص والشريك والنظير والولد ، وتعدّ هذه المقالة منكرا عظيما ، وأمرا فظيعا ، وجرما شنيعا.

حتى لتكاد تزول الأكوان ، فتنشق السموات ، وتتصدع الأرض ، وتسقط الجبال بصوت شديد ، رفضا لهذا القول ، وإنكارا له ، وغضبا لله عزوجل ؛ لأنها خلقت وأسست على الإقرار بتوحيد الله ؛ ولأن الولد يقتضي الحدوث ، ولا ولد إلا من والد ، والله سبحانه تعالى تنزه عن ذلك وتقدس.

وما كل من في السموات والأرض إلا وهو يأتي يوم القيامة مقرّا لله بالعبودية ، خاضعا ذليلا ، كما قال تعالى : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) [النمل ٢٧ / ٨٧] أي ذليلين صاغرين ؛ لأن الخلق كلهم عبيده ، فكيف يكون واحد منهم ولدا له عزوجل؟ تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا.

وهذه الآية : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) دليل على أنه لا يجوز أن يكون الولد مملوكا للوالد ، فإن الله تعالى أبان المنافاة بين الأولاد والملك ، فإذا ملك الوالد ولده بنوع من التصرفات ، عتق عليه

١٦٨

فورا. أخرج مسلم في صحيحة : «لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا ، فيشتريه ، فيعتقه».

ولا يخفى على الله أحد من خلقه ، فإنه تعالى علم عددهم ، وعدهم عدا دقيقا ، وكل واحد يأتيه يوم القيامة واحدا منفردا لا ناصر له ، ولا مال معه لينفعه ؛ كما قال تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء ٢٦ / ٨٨ ـ ٨٩] فلا ينفعه إلا ما قدّم من عمل صالح.

وفي قوله تعالى : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) إشارة إلى أنكم أيها المشركون لا ترضون لأنفسكم باستعباد أولادكم ، والكل عبيده ، فكيف رضيتم له ما لا ترضون لأنفسكم؟! وإذا كنتم أيضا لا ترضون لأنفسكم البنات ، فكيف تنسبون البنات إلى الله؟ في قولكم : الملائكة بنات الله ، والأصنام بنات الله.

والخلاصة : إن هذه الآيات المقررة لنفي اتخاذ الإله ولدا ، تلتقي مع موضوع سورة الإخلاص المتقدمة : (قُلْ : هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ومع الحديث المتقدم الذي أخرجه البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يقول الله تبارك وتعالى : كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ، وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا ، وأنا الأحد الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن لي كفوا أحد».

محبة المؤمنين وتيسير الذكر المبين وإهلاك المجرمين

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨))

١٦٩

المفردات اللغوية :

(سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) الودّ : المودة والمحبة ، والمعنى : سيحدث لهم في القلوب مودة من غير تودد منهم ، يحبهم الناس ، ويتحابون فيما بينهم ، ويحبهم الله تعالى ، أي يرضى عنهم. (يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) أنزلناه بلغتك العربية ، والباء بمعنى على ، أو على أصله لتضمن «يسرنا» معنى (أنزلنا). (الْمُتَّقِينَ) الصائرين إلى التقوى بالإيمان والعمل الصالح. (وَتُنْذِرَ) تخوف (لُدًّا) جمع ألدّ : وهو الشديد الخصومة ، المجادل بالباطل ، واللد : هم كفار مكة. (وَكَمْ) أي كثيرا. (مِنْ قَرْنٍ) أي أمة من الأمم الماضية ، وهو تخويف للكفرة وتجسير للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إنذارهم. (هَلْ تُحِسُ) تجد. (رِكْزاً) صوتا خفيا؟ لا ، والمعنى : فكما أهلكنا أولئك نهلك هؤلاء.

سبب النزول :

أخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي كرم الله وجهه : «اللهم اجعل لي عندك عهدا ، واجعل لي في صدر المؤمنين ودّا ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية».

المناسبة :

بعد أن رد الله تعالى على أصناف الكفار ، وأبان أحوالهم في الدنيا والآخرة ، ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين ، وأوضح أنه سيغرس محبتهم في قلوب العباد ، من غير تودد منهم ، ولا تعرض لأسباب الوداد من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف أو غير ذلك.

ثم استأنف تعالى بيان تيسير القرآن بلسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لما تضمنه في هذه السورة من دلائل التوحيد والنبوة والحشر والنشر ، وليبشر به وينذر.

ثم ختم السورة بموعظة بليغة وإنذار بإهلاك المشركين كما أهلك من قبلهم من الأمم ، فإنهم إذا علموا أنه لا بدّ من زوال الدنيا ، والموت ، خافوا ذلك ، وخافوا أيضا سوء العاقبة في الآخرة ، فكانوا إلى الحذر من المعاصي أقرب.

١٧٠

التفسير والبيان :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) أي إن الذين صدقوا بالله ورسله ، وعملوا صالح الأعمال من المفروضات والتطوعات ، وأحلوا الحلال وحرموا الحرام ، وفعلوا ما يرضي الله ، سيغرس الله محبتهم في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة. والصالحات : هي الأعمال التي ترضي الله عزوجل ، لمتابعتها الشريعة المحمدية.

أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا أحبّ الله عبدا نادى جبريل : إني قد أحببت فلانا فأحبّه ، فينادي في السماء ، ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض. وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل : إني قد أبغضت فلانا ، فينادي في السماء ، ثم ينزل له البغضاء في الأرض» فاتفق الحديث مع الآية في إنزال المحبة في الأرض للعباد الصالحين ، وأن هذه المحبة والمودة في القلوب تكون بإحداث الله دون تعرض للأسباب المؤدية إلى إيجاد المودات من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف أو غير ذلك.

ثم استأنف الله تعالى كلامه لبيان موقع هذه السورة ، لما فيها من التوحيد والنبوة والحشر والنشر ، والرد على الفرق الضالة المضلة ، فقال : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) أي يسرنا القرآن لك بإنزالنا له على لغتك ، وفصلناه وسهلناه ، لتبشر به المتصفين بالتقوى ، المستجيبين لله ، المصدقين لرسوله ، بأن لهم الجنة بالطاعة ، وتنذر به القوم الألداء ، الشديدي الخصومة والجدل ، العوج عن الحق ، المائلين إلى الباطل ، بان لهم النار بالكفر والعصيان.

ثم ختم تعالى السورة بموعظة بليغة قائلا :

١٧١

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ ، هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ ، أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) أي كثيرا ما أهلكنا قبل العرب المشركين من الأمم والجماعات من الناس ، لكفرهم بآيات الله وتكذيب رسله ، فهل ترى منهم أحدا ، أو تسمع لهم صوتا؟!

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات ما يأتي :

١ ـ إذا أحب الله عبدا لتقواه ، ورضاه عنه باتباعه شرع الله ودينه ، كتب له المحبة والمودة في قلوب عباده الصالحين ، وعند الملائكة المقربين ، وإن كان مكروها عند الظلمة والكفار والفساق.

قال هرم بن حيّان : ما أقبل أحد بقلبه على الله تعالى إلا أقبل الله تعالى بقلوب أهل الإيمان إليه حتى يرزقه مودّتهم ورحمتهم.

والنموذج الأول لذاك هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والنماذج التي بعده هم كبار صحابته ، قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في عبد الرحمن بن عوف ؛ جعل الله تعالى له في قلوب العباد مودة ، لا يلقاه مؤمن إلا وقّره ، ولا مشرك ولا منافق إلا عظّمه.

ومن كان محبوبا في الدنيا فهو كذلك في الآخرة ؛ فإن الله تعالى لا يحب إلا مؤمنا تقيا ، ولا يرضى إلا خالصا نقيا ، جعلنا الله تعالى منهم بمنّه وكرمه.

٢ ـ نزل القرآن الكريم بلسان العرب ولغتهم ، ليسهل عليهم فهمه.

٣ ـ عذب الله كثيرا من الأمم والجماعات عذاب الاستئصال ؛ لكفرهم بالله ، وتكذيبهم رسله الكرام ، وأكرم الله الأمم بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فرفع عنهم عذاب الإبادة والاستئصال.

١٧٢

٤ ـ في الآيتين الأخيرتين وعد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنصر والغلبة على المشركين العرب من قومه ، ووعيد لأولئك الكافرين وأمثالهم بالعقاب والعذاب والذل والهوان.

٥ ـ تنحصر مهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التبشير والإنذار ، وفي الآية حث له عليهما ، أي تبشير من أطاعه بالجنة ، وإنذار من عصاه بالنار.

١٧٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة طه

مكية ، وهي مائة وخمس وثلاثون آية.

التسمية :

سميت (سورة طه) لابتداء السورة بالنداء بها (طه ، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) وهو اسم من أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي ذلك تكريم له ، وتسلية عما يلقاه من إعراض قومه.

مناسبتها لما قبلها :

تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه هي :

أولا ـ أن طه نزلت بعد سورة مريم ، كما روي عن ابن عباس.

ثانيا ـ أنه ذكر في سورة مريم قصص عدد من الأنبياء والمرسلين (عشرة) مثل زكريا ويحيى وعيسى وإبراهيم ، وموسى الذي ذكرت قصته موجزة مجملة ، فذكرت في هذه السورة موضحة مفصلة ، كما وضحت قصة آدم عليه‌السلام الذي لم يذكر في سورة مريم إلا مجرد اسمه فقط.

ثالثا ـ أنه ذكر في آخر سورة مريم تيسير القرآن باللسان العربي ، لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتبشير والإنذار ، وابتدئ ذكر هذه السورة بتأكيد هذا المعنى.

ما اشتملت عليه السورة :

موضوع هذه السورة كموضوعات سائر السور المكية وهو إثبات أصول الدين

١٧٤

من التوحيد والنبوة والبعث. وكانت بداية السورة ذات إيحاء وتأثير عجيب ، من خلال الحديث عن سلطان الله وعظمته وقدرته وشمول علمه ، وقد أدرك هذا عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه حين تلاوتها في بداية إسلامه ، كما هو معروف في قصة إسلامه.

وتضمنت السورة ما يأتي :

١ ـ القرآن الكريم تذكرة لمن يخشى رب الأرض والسموات العلى ، وتثبيت لشخصية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قيامه بواجب الدعوة والتبليغ ، والإنذار والتبشير ، وعدم الالتفات لمكائد المشركين [الآيات : ١ ـ ٨].

٢ ـ البيان الجلي لقصة موسى وتكليم الله له ، وإلقائه صغيرا في اليم في صندوق ، وإرساله مع أخيه هارون إلى فرعون الطاغية الجبار ، وجداله بالحسنى لإثبات ربوبية الله وحده ، ومبارزته السحرة ، وتأييد الله له وانتصاره المؤزر ، وإيمان السحرة بدعوته ، ومعجزة انفلاق البحر وعبور بني إسرائيل فيه ، وإهلاك فرعون وجنوده ، وكفران بني إسرائيل بنعم الله الكثيرة عليهم ، وحديث السامري وإضلاله بني إسرائيل باتخاذ العجل إلها لهم ، وغضب موسى من أخيه هارون ، الآيات [٩ ـ ٩٨].

٣ ـ الإشارة لفائدة القصص القرآني ، وتوضيح جزاء من أعرض عن القرآن [٩٩ ـ ١٠١].

٤ ـ بيان حالة الحشر الرهيبة ، وإبادة الجبال ، وأوصاف المجرمين يوم القيامة ، والحساب العادل [١٠٢ ـ ١١٢].

٥ ـ عربية القرآن ووعيده وعصمة رسوله من نسيانه [١١٣ ـ ١١٤].

٦ ـ إيراد قصة آدم عليه‌السلام مع إبليس في الجنة [١١٥ ـ ١٢٢].

١٧٥

٧ ـ تأكيد بيان الجزاء في الدنيا والآخرة لمن أعرض عن القرآن ، بالعيشة الضنك في الدنيا ، والعمى في الآخرة عن الحجة المنقذة من العذاب [١٢٤ ـ ١٢٧].

٨ ـ العظة والاعتبار بهلاك الأمم السابقة وتأخير عذاب المشركين إلى يوم القيامة [١٢٨ ـ ١٢٩].

٩ ـ توجيهات ربانية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمته في الصبر على الأذى ، وتنزيه الله تعالى في الليل والنهار ، وعدم الافتتان بزهرة الحياة الدنيا لدى الآخرين ، وأمر الأهل بإقامة الصلاة ومتابعة التنفيذ [١٣٠ ـ ١٣٢].

١٠ ـ طلب المشركين إنزال آيات مادية من الله ، وإعذارهم بعد إرسال الرسول وإنزال القرآن ، ثم وعيدهم بالعذاب المنتظر يوم القيامة [١٣٣ ـ ١٣٥].

القرآن سبب السعادة

(طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤)الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨))

الإعراب :

(طه ، ما أَنْزَلْنا .. إِلَّا تَذْكِرَةً) ما أنزلنا : إما جواب القسم ؛ لأن قوله تعالى : (طه) جار مجرى القسم ، وإما أن يكون (طه) بمعنى : يا رجل ، أي يا رجل ما أنزلنا عليك القرآن

١٧٦

لتشقى ، ولام (لِتَشْقى) لام النفي ، أو لام الجحود. و (تَذْكِرَةً) منصوب على الاستثناء المنقطع.

(تَنْزِيلاً) منصوب على المصدر. (الرَّحْمنُ) مبتدأ ، أو مرفوع على المدح أي هو الرحمن. و (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) خبران للمبتدأ.

(يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) أي وأخفى من السر ، كقولهم : الله أكبر ، أي أكبر من كل شيء.

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ... اللهُ) مبتدأ مرفوع ، أو بدل من ضمير (يَعْلَمُ) وخبر المبتدأ : جملة : (لَهُ الْأَسْماءُ).

البلاغة :

(مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ) التفات من ضمير التكلم إلى الغيبة ، تفننا في الكلام ، وتفخيما للمنزل من وجهين : إسناد إنزاله إلى ضمير الواحد العظيم الشأن ، والتنبيه على أنه واجب الإيمان به.

المفردات اللغوية :

(طه) هذه الحروف المقطعة نزلت للتنبيه والتحدي بإعجاز القرآن البياني ، ما دام مركبا من الحروف التي تتكون منها لغة العرب نفسها. أو هو اسم من أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو معناه : يا رجل ، كما روي عن ابن عباس وكبار جماعة التابعين.

(ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) يا محمد (لِتَشْقى) لتتعب بما فعلت بعد نزوله من طول قيامك بصلاة الليل ، أي خفف عن نفسك. (إِلَّا تَذْكِرَةً) لكن أنزلناه للتذكير والعظة لمن يخشى؟ لمن يخاف الله. (الْعُلى) جمع عليا ، مؤنث الأعلى ، كالكبرى مؤنث الأكبر.

(الْعَرْشِ) في اللغة : سرير الملك ، وهو هنا كناية عن الملك ، أو هو مخلوق الله أعلم به ، وهذا هو الأصح. (اسْتَوى) استولى عليه ، بدليل قول الشاعر :

استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

والأصح أن الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة ، والإيمان به واجب ، كما قال الإمام مالك ، فهو استواء يليق بجلال الله تعالى. (وَما بَيْنَهُما) من المخلوقات. (وَما تَحْتَ الثَّرى) التراب الندي ، وهنا يراد مطلق التراب ، والمراد : الأرضون السبع ؛ لأنها تحت التراب. (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ) في ذكر أو دعاء ، فالله غني عن الجهر به. (وَأَخْفى) من السر ، وهو حديث النفس والخاطر الذي يدور في الذهن ، دون التفوه به ، فلا تجهد نفسك بالجهر. (لَهُ الْأَسْماءُ) الصفات والأسماء التسعة والتسعون الوارد بها الحديث. والحسنى : مؤنث الأحسن. والذي

١٧٧

فضلت به أسماؤه في الحسن على سائر الأسماء : دلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية والأفعال التي هي النهاية في الحسن ، كما قال الزمخشري.

سبب النزول :

قال مقاتل : قال أبو جهل ، والوليد بن المغيرة ، والنضر بن الحارث ، ومطعم بن عدي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بل بعثت رحمة للعالمين»

قالوا : بل أنت تشقى ، فأنزل الله الآية ردا عليهم ، وتعريفا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن دين الإسلام هو سبب كل سعادة ، وما فيه المشركون هو الشقاء بعينه.

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أول ما أنزل الله عليه الوحي يقوم على صدور قديمه إذا صلى ، فأنزل الله : (طه ، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى).

التفسير والبيان :

(طه) هذه الحروف المقطعة التي يبتدأ بها في أوائل السورة لتنبيه المخاطب إلى ما يلقى بعدها ، ولتحدي العرب بالإتيان بمثل القرآن ، ما دام مركبا من حروف اللغة التي ينطقون بها ويكتبون. وقيل : هو اسم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومعناه : طأ الأرض يا محمد ، قال ابن الأنباري : وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتحمل مشقة الصلاة ، حتى كادت قدماه تتورمان ، ويحتاج إلى التروح ، فقيل له : طأ الأرض ، أي لا تتعب نفسك في الصلاة جدا ، حتى تحتاج إلى المراوحة بين قدميك.

(ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ، إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) أي لم ننزل القرآن عليك لتتعب نفسك بسبب تأسفك عليهم وعلى كفرهم ، وفرط تحسرك على أن يؤمنوا ، فإن إيمانهم ليس إليك ، بل أنزلناه لتبلغ وتذكر ، فحسبك التبليغ

١٧٨

والتذكير ، ولا تلتفت بعدئذ لإعراض المعاندين ، ولا ترهق نفسك وتتعبها بحملهم على قبول دعوتك.

ونظير الآية قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف ١٨ / ٦]. فقوله : (لِتَشْقى) لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم ، وتحسرك على أن يؤمنوا.

روى جويبر عن الضحاك قال ، ومعه مقاتل : لما أنزل الله القرآن على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قام به هو وأصحابه ، فقال المشركون من قريش : ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى ، فأنزل الله تعالى : (طه ، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ، إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) فليس الأمر كما زعمه المبطلون ، بل من آتاه الله العلم ، فقد أراد به خيرا ، كما ثبت في الصحيحين عن معاوية قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين».

وما أنزلناه إلا تذكرة لتذكر به من يخاف عذاب الله ، وينتفع بما سمع من كتاب الله الذي جعلناه رحمة ونورا ودليلا إلى الجنة ، وليس عليك جبرهم على الإيمان ، (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) [الشورى ٤٢ / ٤٨] ، و (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية ٨٨ / ٢٢].

وفي هذا إيناس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إعراض قومه عن دعوته ، وضيق نفسه من تصميمهم على الكفر.

روى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن ثعلبة بن الحكم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يقول الله تعالى للعلماء يوم القيامة ، إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده : إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي».

وكلمة (إِلَّا) في الآية : إما استثناء منقطع بمعنى : لكن ، أو متصل

١٧٩

والتقدير : ما أنزلنا عليك القرآن لتحمل متاعب التبليغ إلا ليكون تذكرة.

وإنما خص (لِمَنْ يَخْشى) بالتذكرة ؛ لأنهم المنتفعون بها ، وإن كان القرآن عاما في الجميع ، وهو كقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة ٢ / ٢]. ودليل العموم قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ ، لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان ٢٥ / ١].

ووجه التذكير بالقرآن : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعظهم به وببيانه.

(تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) أي هذا القرآن الذي جاءك يا محمد نزل عليك تنزيلا من خالق الأرض والسموات العليا ، والمراد بهما جهة السفل والعلو ، الأرض بانخفاضها وكثافتها ، والسموات في ارتفاعها ولطافتها.

والمراد بالآية : إخبار العباد عن كمال عظمة منزل القرآن ، ليقدروا القرآن حق قدره.

(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) أي ومنزل القرآن هو الرحمن المنعم بجلائل النعم ودقائقها ، وهو الذي علا وارتفع على العرش ، ولا يعلم البشر كيف ذلك ، بل نؤمن به على طريقة السلف الصالح الذين يؤمنون بالصفات من دون تحريف ولا تأويل ، ومن غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل ، فهو استواء يليق بجلال الله وعظمته ، بلا كيف ولا انحصار ، كقوله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح ٤٨ / ١٠] لأن الله تعالى ليس بجسم ولا يشبه شيئا من الحوادث ، والعرش : شيء مخلوق ، لا ندري حقيقته.

ويرى الخلف تأويل الصفات ، فيراد بالاستواء : الاستيلاء والقهر والتصرف الكامل ، والعرش : هو الملك ، واليد : القدرة.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) أي إن الله

١٨٠