التفسير المنير - ج ١٦

الدكتور وهبة الزحيلي

(ما دُمْتُ حَيًّا ما) مصدرية ظرفية زمانية ، أي مدة دوامي حيا ، و (حَيًّا) خبر (ما دُمْتُ) ، والجملة منصوبة على الظرف ، وعامله (أَوْصانِي).

(وَبَرًّا بِوالِدَتِي) معطوف على قوله (مُبارَكاً) و (مُبارَكاً) مفعول ثان لجعل. ومن قرأ وبر عطفه على (الصلاة) أي أوصاني بالصلاة وببرّ بوالدتي.

المفردات اللغوية :

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ) أتت مع ولدها قومها راجعة إليهم بعد ما طهرت من النفاس حاملة إياه. (فَرِيًّا) عظيما منكرا خارقا للعادة ، حيث أتيت بولد من غير أب. (يا أُخْتَ هارُونَ) هو أخو موسى عليه‌السلام ، وكان بينهما ألف سنة ، أو رجل صالح من بني إسرائيل ، أي يا شبيهته في العفة ، وشبهوها به تهكما. (امْرَأَ سَوْءٍ) أي زانيا. (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) أي زانية ، فمن أين لك هذا الولد؟! وفيه تنبيه على أن الفواحش من أولاد الصالحين أفحش.

(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) أشارت لهم إلى عيسى أن كلموه ليجيبكم. (قالُوا : كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ) أي وجد (فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) أي لم نعهد صبيا في المهد كلمه عاقل. و (الْمَهْدِ) فراش الصبي الرضيع الموطّأ له ، جمع مهود.

(آتانِيَ الْكِتابَ) أي الإنجيل (مُبارَكاً) نفّاعا للناس ، معلما للخير. والتعبير بالماضي: إما باعتبار ما سبق في قضاء الله ، فهو إخبار ما كتب له ، أو بجعل المحقق وقوعه كالواقع. (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) أمرني بهما أو كلفني. (جَبَّاراً) متعاظما لا يرى لأحد حقا عليه. (شَقِيًّا) عاصيا لربه. (وَالسَّلامُ عَلَيَ) أي والأمان علي يوم الولادة ويوم الموت ويوم البعث حيا ، كما هو على يحيى عليه‌السلام ، والتعريف هنا في السلام على الأظهر للجنس.

التفسير والبيان :

لما اطمأنت مريم عليها‌السلام بما رأت من الآيات ، وسلمت لأمر الله عزوجل ، واستسلمت لقضائه أتت بعيسى تحمله إلى أهل بيتها ، كما قال تعالى :

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا : يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) أي لما برئت مريم من نفاسها ، جاءت به قومها تحمله من المكان القصي ، فلما رأوا الولد معها ، حزنوا وأعظموا الأمر واستنكروه جدا ، وقالوا منكرين : يا مريم ، لقد فعلت أمرا عجيبا عظيما منكرا خارجا عن المألوف وهو الولادة بلا أب ، وكانوا

٨١

أهل بيت صالحين : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ، ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) [آل عمران ٣ / ٣٣ ـ ٣٤].

(يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ ، وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) أي يا شبيهة هارون في العبادة ، أو يا من أنت من نسل هارون أخي موسى ، كما يقال للتميمي : يا أخا تميم ، وقيل : هارون هذا رجل صالح في ذلك الوقت ، أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة ، فكيف تأتين بمثل هذا؟ ما كان أبوك بالفاجر ، وما كانت أمك بالزانية البغي ، فمن أين يأتيك السوء ، ومن أين لك هذا الولد؟!!

أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال :

«بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أهل نجران ، فقالوا : أرأيت ما تقرؤون : يا أخت هرون وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال : فرجعت ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم». وهذا يرشد إلى أن هارون هو رجل صالح في زمان مريم وعيسى عليهما‌السلام. ويستفاد من هذا جواز التسمية بأسماء الأنبياء.

(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ ، قالُوا : كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) أي فأشارت مريم إلى عيسى أن يكلمهم ، وقد اكتفت بالإشارة ولم تأمره بالنطق ، لأنها نذرت للرحمن صوما عن الكلام ، فقالوا لها متهكمين بها ، ظانين أنها تزدري بهم تهزأ : كيف نكلم طفلا ما يزال في المهد ، أي فراش الرضيع؟

وهنا ظهرت المعجزة الكبرى بنطق الرضيع ووصف نفسه بتسع صفات هي :

١ ـ (قالَ : إِنِّي عَبْدُ اللهِ) قال عيسى : إني عبد تام العبودية لله الكامل الصفات ، الذي لا أعبد غيره ، فكان أول ما نطق به الاعتراف بالعبودية لربه ،

٨٢

وتبرئته عن الولد ، تنبيها للنصارى على خطئهم فيما ادعوه له من الربوبية.

٢ ـ (آتانِيَ الْكِتابَ) سينزل علي الإنجيل ، وقدّر لي وحكم في الأزل أن أكون نبيا ذا كتاب ، وقضى أنه يؤتيني الكتاب فيما قضى ، وإن لم يكن الكتاب منزّلا في الحال.

٣ ـ (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) أي قدّر لي أن أكون نبيا ، وفي هذا تبرئة لأمه مما نسبت إليه من الفاحشة ، لأن الله تعالى لا يجعل الأنبياء أولاد زنى ، وإنما هم نخبة عالية من الطهر وصفاء السلالة والمعدن.

٤ ـ (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) أي صيرني الله نفّاعا للعباد ، معلما للخير ، هاديا إلى الرشاد في أي مكان وجدت. وعبر تعالى عن هذه الصفات بصيغة الماضي إشارة إلى تحققها وحدوثها فعلا في المستقبل.

٥ ـ (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) وأمرني ربي بالصلاة التي تربط العبد بربه وتطهر النفس ، وتمنعه عن اقتراف الفاحشة ، وأمرني أيضا بزكاة المال التي هي طهرة للمال ، وعون للفقير والمسكين ، ما دمت على قيد الحياة في الدنيا.

٦ ـ (وَبَرًّا بِوالِدَتِي) أي وجعلني بارا بوالدتي مريم ، وأمرني ببرها وطاعتها والإحسان إليها بعد طاعة ربي ، لأن الله كثيرا ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين. وهذا أيضا دليل على نفي الزنى عنها ، إذ لو كانت زانية ، لما كان الرسول المعصوم مأمورا بتعظيمها.

٧ ـ ٨ : (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) أي ولم يجعلني متعظما عاصيا مستكبرا عن عبادة ربي وطاعته وبر والدتي ، فأشقى بذلك.

٩ ـ (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) أي

٨٣

والسلامة علي من كل سوء يوم الميلاد ، فلم يضرني الشيطان في ذلك الوقت ، ولا أغواني عند الموت ، ولا عند البعث ، فأنا في أمان لا يقدر أحد على ضري في هذه الأوقات الثلاثة. وهذا إثبات منه لعبوديته لله عزوجل ، وأنه مخلوق من خلق الله الذي يحيى ويموت ويبعث كسائر الخلائق ، ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ جاءت مريم المؤمنة الواثقة بتأييد الله لها قومها مع ولدها ، لما اطمأنت بما رأت من الآيات ، وعلمت أن الله تعالى سيبين عذرها.

٢ ـ يتأثر الناس عادة بظواهر الأمور ويتعجلون بالحكم عليها ، فاتهموا مريم بأنها جاءت شيئا فريا ، أي أمرا عظيما كالآتي بالشيء يفتريه ، وأنكروا عليها بما عرفوا عنها من سيرة حميدة قضت شبابها في التبتل والعبادة ، وبما علموا من استقامة أبويها.

فقالوا لها : يا أخت هارون ، بمعنى : يا من كنا نظنّها مثل هارون في العبادة تأتي بمثل هذا؟ فهي كانت من ولد أو سلالة هارون أخي موسى ، وإن كان بين موسى وهارون وبين عيسى زمان مديد قدّر بألف سنة فأكثر ، فنسبت إليه بالأخوة ، لأنها من ولده ، كما يقال للتميمي : يا أخا تميم ، وللعربي : يا أخا العرب.

وقيل : هارون هذا رجل صالح في ذلك الزمان ، تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا ، كلهم اسمه هارون. ويؤيد ذلك الحديث الثابت المتقدم.

٣ ـ من معجزات عيسى عليه‌السلام نطقه وهو صغير في المهد ، ونحن

٨٤

المسلمون نعتقد بهذا اعتقادا جازما ، لإثباته بنص القرآن القاطع ، وأما اليهود والنصارى فينكرون أنه تكلم في المهد. وكان نطقه إظهارا لبراءة أمه ، ثم انقطع كلامه في المهد حتى بلغ مبلغ الغلمان.

٤ ـ وصف عيسى عليه‌السلام نفسه في كلامه المبين وهو طفل رضيع بصفات تسع ، جمعت بين إثبات النبوة وإنزال الإنجيل عليه في المستقبل ، وتبرئة أمه من تهمة الزنى ، وإثبات عبوديته لله عزوجل ، فهو عبد لله لا ربّ ولا إله ، كما يعتقد النصارى ، واتصافه بالبركات ومنافع الدين والدعوة إليه ، واستقامة سلوكه وأخلاقه ، فهو برّ بوالدته ، ليس متعظما متكبرا ، ولا عاصيا خائبا من الخير ، ملتزما تشريع الله في العبادة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بعد بلوغه من التكليف.

٥ ـ قوله تعالى : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي) أي جعلني برا بوالدتي يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ، لأن الآية تدل على أن كونه برا ، إنما حصل بجعل الله وخلقه.

٦ ـ قال مالك بن أنس رحمه‌الله تعالى في هذه الآية : ما أشدها على أهل القدر (١)! أخبر عيسى عليه‌السلام بما قضي من أمره ، وبما هو كائن إلى أن يموت.

٧ ـ الإشارة بمنزلة الكلام وتدل على ما يدل عليه ويحدث بها الإفهام والفهم ، كيف لا ، وقد أخبر الله تعالى عن مريم ، فقال : (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) وفهم منها القوم مقصودها وغرضها فقالوا : (كَيْفَ نُكَلِّمُ). وقد تكون الإشارة في كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام ، مثل قوله عليه الصلاة والسلام : فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي عن أنس «بعثت أنا والساعة كهاتين». وإجماع العقلاء على أن العيان أقوى من الخبر ، دليل على أن الإشارة

__________________

(١) هم القدرية الذين يقولون : إن العبد يخلق أفعال نفسه ، والمعاصي لا يريدها الله تعالى.

٨٥

قد تكون في بعض المواضع أقوى من الكلام.

لذا قرر المالكية والشافعية جواز الاعتماد على الإشارة في المعاملات والعقوبات ، وقد نص الإمام مالك على أن شهادة الأخرس مقبولة إذا فهمت إشارته ، وأنها تقوم مقام اللفظ بالشهادة ، وأما إذا كان الشخص قادرا على اللفظ ، فلا بد من الكلام.

وذهب الحنفية وأحمد والأوزاعي وإسحاق إلى أنه لا يصح قذف الأخرس ولا لعانه ، وإنما يصح القذف عندهم بصريح الزنى دون معناه ، وهذا لا يصح من الأخرس ضرورة ، فلم يكن قاذفا ، ولا يتميز بالإشارة بالزنى من الوطء الحلال والشبهة ، قالوا : واللعان عندنا شهادات ، وشهادة الأخرس لا تقبل بالإجماع.

٨ ـ حظي عيسى بالسلامة من الله تعالى يوم ولادته في الدنيا من همز الشيطان ، ويوم الموت في القبر ، ويوم البعث في الآخرة ، وهذه الأحوال الثلاثة مراحل مصيرية حاسمة فاصلة ، وأشق شيء على الناس.

ـ ٤ ـ

اختلاف النصارى في شأن عيسى

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠))

٨٦

الإعراب :

(قَوْلَ الْحَقِ) منصوب على المصدر ، أي أقول قول الحق ، وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : ذلك قول الحق ، أو هذا قول. وقيل : إن الإشارة إلى عيسى ، لأن الله تعالى سماه كلمة ، إذ كان بالكلمة ، على ما قال الله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ قالَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ).

(كُنْ فَيَكُونُ) بالرفع بتقدير هو ، وبالنصب بتقدير : أن.

(وَإِنَّ اللهَ رَبِّي) من قرأها بالكسرة جعلها مبتدأ ، ومن قرأ بالفتح ، جعلها معطوفة ، وتقديره : وأوصاني بالصلاة والزكاة وأن الله ربي.

(مِنْ وَلَدٍ مِنْ) زائدة ، أي : ما كان لله أن يتخذ ولدا. وزيدت هنا في المفعول ، وزيادتها في الفاعل أكثر ، مثل : ما جاءني من أحد ، أي ما جاءني أحد.

(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) أي ما أسمعهم وأبصرهم ، والجار والمجرور في موضع رفع فاعل (أَسْمِعْ). والأصل أن يقول : وأبصر بهم ، لكنه حذف (بِهِمْ) اكتفاء بذكره مع (أَسْمِعْ). وهي صيغة تعجب ، وليس بأمر ، بدليل وروده بلفظ واحد في المذكر والمؤنث والتثنية والجمع.

(يَوْمَ يَأْتُونَنا) منصوب على الظرف ، متعلق بفعل التعجب.

(إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ إِذْ) بدل من اليوم أو ظرف للحسرة. (إِنَّا نَحْنُ) تأكيد.

البلاغة :

(لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ الظَّالِمُونَ) واقع موقع الضمير ، فهو من قبيل إقامة الظاهر مقام المضمر ، للدلالة على ظلم أنفسهم.

المفردات اللغوية :

(ذلِكَ عِيسَى ...) أي الذي تقدم نعته هو عيسى ابن مريم ، لا ما يصفه النصارى ، وهو تكذيب لهم فيما يصفونه على الوجه الأبلغ (قَوْلَ الْحَقِ) أي هو قول الحق الذي لا ريب فيه ، أو أقول قول الحق ، والإضافة للبيان ، والضمير للكلام السابق ، أو لتمام القصة (يَمْتَرُونَ) يشكون ويتنازعون (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ ، سُبْحانَهُ) تكذيب للنصارى ، وتنزيه لله تعالى عما بهتوه ، والمعنى : ما ينبغي ولا يصح أن يجعل له ولدا. (إِذا قَضى أَمْراً) أراد أن يحدث أمرا

٨٧

(فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) تبكيت لهم بأن الله إذا أراد شيئا أوجده بكلمة (كُنْ) : كان تعالى منزها عن شبه الخلق والحاجة في اتخاذ الولد ، بإحبال الإناث. وبعبارة أخرى : القادر على الخلق بالأمر الفوري ، قادر على خلق عيسى من غير أب.

(وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) بتقدير : قل ، بدليل : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) [المائدة ٥ / ١١٧] وعلى الفتح بتقدير : اذكر (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) هذا المذكور طريق مستقيم مؤد إلى الجنة. (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) أي اختلف النصارى في عيسى ، أهو ابن الله ، أم إله معه ، أم ثالث ثلاثة؟ فالأحزاب : فرق النصارى الثلاث أو اختلف اليهود والنصارى. (فَوَيْلٌ) كلمة عذاب أي فشدة عذاب ، أو واد في جهنم (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي ويل لهم بما ذكر وغيره (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) من شهود أو حضور يوم عظيم هوله وحسابه وجزاؤه ، وهو يوم القيامة.

(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) أي بهم ، صيغة تعجب ، بمعنى : ما أسمعهم وما أبصرهم يوم يأتوننا في الآخرة ، أو يوم القيامة ، بعد ما كانوا صما عميا في الدنيا (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي لكن الكافرون في الدنيا في خطأ بيّن ، به صموا عن سماع الحق ، وعموا عن إبصاره ، أي أعجب منهم يا مخاطب في سمعهم وإبصارهم في الآخرة ، بعد أن كانوا في الدنيا صميا عميا. وذكر كلمة (الظَّالِمُونَ) من إقامة الظاهر مقام المضمر ، إشعارا بأنهم ظلموا أنفسهم ، حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين ينفعهم.

(وَأَنْذِرْهُمْ) خوّف يا محمد كفار مكة (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) هو يوم القيامة ، يوم يتحسر فيه المسيء على ترك الإحسان في الدنيا ، والمحسن على قلة إحسانه (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) فرغ من الحساب ، وسيق الفريقان إلى الجنة والنار. (وَهُمْ) في الدنيا (فِي غَفْلَةٍ) عنه (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) به (نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) العقلاء وغيرهم بإهلاكهم (وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) فيه للجزاء.

إيضاح آية (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) بحديث صحيح :

روى الشيخان والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤتى بالموت بهيئة كبش أملح (١) ، فينادي مناد : يا أهل الجنة ، فيشرئبون (٢) وينظرون ، فيقول : هل تعرفون هذا؟ فيقولون : نعم ، هذا الموت ، وكلهم قد

__________________

(١) الأملح : الذي يخالط بياضه سواد.

(٢) يشرئبون : يمدون أعناقهم.

٨٨

رأوه ، ثم ينادي مناد : يا أهل النار ، فيشرئبون وينظرون ، فيقول : هل تعرفون هذا؟ فيقولون : نعم ، هذا الموت ، وكلهم قد رأوه ، فيذبح بين الجنة والنار ، ثم يقول : يا أهل الجنة ، خلود فلا موت ، ويا أهل النار ، خلود فلا موت ، ثم قرأ : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ ، وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)».

أضواء على قصة عيسى عليه‌السلام :

عيسى : هو عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه ، وهو آخر أنبياء بني إسرائيل ، ذكر اسمه في القرآن بلفظ المسيح وهو لقب له ، وبلفظ عيسى وهو اسمه ، وهو بالعبرية «يشوع» أي المخلّص ، أي يخلص النصارى ـ في زعمهم ـ من الخطيئة ، وذكر بلفظ ابن مريم.

ذكر عيسى في القرآن في ثلاث عشرة سورة في ثلاث وثلاثين آية منه : في البقرة [٨٧ ، ١٣٦ ، ٢٥٣] ، وآل عمران [٤٥ ، ٥٢ ، ٥٥ ، ٥٩ ، ٨٤] ، والنساء [١٥٧ ، ١٦٣ ، ١٧١ ، ١٧٢] ، والمائدة [١٧ ، ٤٦ ، ٧٢ ، ٧٥ ، ٧٨ ، ١١٠ ، ١١٢ ، ١١٤ ، ١١٦] ، والأنعام [٨٥] ، والتوبة [٣٠ ، ٣١] ، ومريم [٣٤] ، والمؤمنون [٥٠] ، والأحزاب [٧] ، والشورى [١٣] ، والزخرف [٥٧ ، ٦٣] ، والحديد [٢٧] ، والصف [٦ ، ١٤].

ونشأ عيسى المسيح في رأي النصارى وهو ابن يوسف النجار الذي هو شاب صالح من شبان اليهود ، من قوم مريم ، والمسيح في العبرية : النبي والملك.

وأمه مريم بنت عمران الذي كان رجلا عظيما من علماء بني إسرائيل ، وقد حملت زوجه ، فنذرت أن تجعل الحمل محررا لخدمة الهيكل. وتوفي عمران ، وابنته صغيرة تحتاج إلى كافل يقوم بشأنها ، فألقى رعاة الهيكل قرعة ، فكان كافلها

٨٩

زكريا أبو يحيى عليهما‌السلام. وكان زكريا زوجا لخالة مريم أو لأختها ، فنشأت مريم على الطهارة والعبادة والبعد عن الدنس.

ولما بلغت مبلغ النساء جاءها جبريل ، فتعوذت منه ، فأعلمها أنه مرسل من عند الله ، ليهب لها غلاما زكيا ، وتم حملها بنفخة منه في جيب قميصها ، فدخلت في جوفها ، ومرت بجميع أدوار الحمل إلى أن ولدته في بيت لحم ، والراجح أن مدة حملها تسعة أشهر ، بحسب الغالب. وهذا الحمل استثناء مما هو حادث عادة ، ليكون دليلا على قدرة الله تعالى ، بخلق إنسان بلا أب ، خلافا للمعتاد ، لأن الخالق الحقيقي هو الله عزوجل ، سواء مع اتخاذ الأسباب أم لا.

وقد ختن المسيح بعد ثمانية أيام من ولادته ، كما تقرّر الشريعة اليهودية ، وقد أمر الله إبراهيم بالختان.

ولما أمر هيرودس حاكم فلسطين بقتل كل طفل في بيت لحم ، أمر يوسف النجار في منامه بأن يذهب بالطفل وأمه إلى مصر ، فقام من فوره ، وأخذ الطفل وأمه ، وذهب بهما إلى مصر ، وأقاموا بها ، إلى أن مات هيرودس.

ثم عادوا إلى فلسطين ، وكان الطفل قد بلغ سبع سنين من العمر ، فتربى في الناصرة ، ولما بلغ اثني عشر عاما ، جاء مع أمه ويوسف إلى أورشليم ، للصلاة بحسب شريعة موسى ، وفي اليوم الثالث بعد ضياعه ، وجد عيسى يحاج علماء اليهود ، ثم عاد مع أمه ويوسف إلى الناصرة.

ولما بلغ يسوع ثلاثين سنة من العمر ، صعد إلى جبل الزيتون مع أمه ليجني زيتونا ، وبينما كان يصلي في الظهيرة ، تلقى الإنجيل من الملاك جبريل عليه‌السلام ، وهذا كنبوة يحيى خلافا للغالب في أن النبوة تكون بعد الأربعين.

٩٠

الأناجيل :

ومعنى الإنجيل : البشارة ، وهو كتاب تضمن هدى ونورا ، لكن هذا الإنجيل الذي أتى به المسيح وسلمه إلى تلاميذه وأمرهم أن يبشروا به لا يوجد الآن ، وإنما توجد قصص تاريخية تسرد سيرة المسيح ، ألّفها التلاميذ ، وفيها مواعظ وأمثال ونصائح مأخوذة عن المسيح ، وهي كثيرة بلغت مائة ونيفا ، تعترف الكنيسة المسيحية بأربعة منها : هي إنجيل متى ، وإنجيل مرقس ، وإنجيل لوقا ، وإنجيل يوحنا. ولم يكتب شيء من هذه الأناجيل في زمان المسيح.

وإنجيل متى هو أول الأناجيل وأقدمها ، لكنه ليس من تصنيفه يقينا ، بل ضيعوه بعد ما حرفوه ، باعتراف قدماء المسيحية كافة ، وقد كتب بالعبرانية ، ثم ترجم إلى اليونانية ، ولا يعرف إسناد هذه الترجمة.

وكان متّى قد كتب إنجيله سنة ٣٩ بعد المسيح ، على ما ذهب إليه القديس «إيرونيموس».

ومرقس كان يهوديا لاويا أي من خدم الهيكل ، وهو تلميذ بطرس ، وكان ينكر ألوهية المسيح ، وكتب إنجيله سنة ٦١ م ومات مقتولا في سجن الإسكندرية سنة ٦٨ م.

ولوقا : كان طبيبا من أهل أنطاكية ولم ير المسيح أصلا ، وقد لقن النصرانية عن بولس ، وبولس هذا كان يهوديا متعصبا على المسيحية ، ولم ير المسيح في حياته ، وكان يسيء إلى النصارى باستمرار ، ولما رأى أن اضطهاده للنصرانية لا يجدي ، احتال بالدخول فيها ، وأظهر الاعتقاد بالمسيح ، ثم استطاع أن يجعل النصارى يتحللون من واجبات الناموس (التوراة) الذي ما جاء المسيح لإبطال أحكامه.

٩١

وكتب لوقا إنجيله بعد كتابة مرقس ، وبعد موت بطرس وبولس.

ويوحنا أحد تلاميذ المسيح الاثني عشر ، وهو من صيدا في الجليل ، وكان عيسى يحبه جدا ، وقد كتب إنجيله في سنة ٩٦ أو سنة ٩٨ ، وكان يرى أن المسيح ليس إلا إنسانا ، وقد أنكر كثير من علماء النصرانية أن يكون هذا الإنجيل من تأليف يوحنا التلميذ ، وإنما صنفه أحد تلاميذه في القرن الثاني ، ونسبه إلى يوحنا ليغتر به الناس. وقد كتب لغرض خاص هو إثبات ألوهية المسيح ، والقضاء على التعاليم التي كانت تؤكد أنه إنسان.

والخلاصة : إن هذه الأناجيل منقطعة السند إلى المسيح ، وليست هي الإنجيل الصحيح الذي نزل على المسيح باعتراف النصارى أنفسهم.

إنجيل برنابا :

هو أحد الأناجيل التي ألفت في قصة المسيح ، وبرنابا أحد أتباع المسيح المواظبين على نشر دعوته ، ويختلف عن الأناجيل الأخرى في أمرين جوهريين : الأول ـ التصريح بأن عيسى إنسان وليس بإله. والثاني ـ التصريح والتبشير باقتراب ملكوت السموات وباسم محمد في كثير من المواضع.

رسالة عيسى :

تتلخص رسالة عيسى عليه‌السلام فيما يأتي :

١ ـ التخفيف من تنطع اليهود ، والتزامهم بالشكليات المؤدية إلى تعطيل الخير في يوم السبت ، وتوجيههم إلى جوهر الدين وحقيقته ، وإبعادهم عن المادية الطاغية وتهالكهم على المال وحبه وجمعه ، بتحريض الناس على النذر للهيكل ، لأخذ ذلك المال.

٩٢

٢ ـ رد اليهود الذين يسمون بالصدوقيين إلى عقيدة الإيمان باليوم الآخر التي أنكروها ، وتثبيت الإيمان في قلوبهم.

٣ ـ تصحيح مسيرة اليهود الذين يسمون بالفريسيين وهم في الأصل قوم تجردوا لطاعة الله تعالى ، وتفردوا للعبادة ، وزهدوا في حطام الدنيا ، وأقبلوا على الآخرة ، ولكنهم أصبحوا في زمن المسيح يظهرون بمظهر الزهد فقط ، ويتخذونه ستارا لجمع المال.

وكان هناك جماعة الكتبة الذين يكتبون الشريعة لمن يطلبها ، وهم كالفريسيين في اقتناص أموال الناس.

وكذلك الكهنة وخدمة الهيكل صاروا متهالكين على جمع المال ، يحرفون كلام الله لأغراض دنيوية.

فكانت هذه العيوب كلها موجبة لصيحة المسيح المدوية بالزهد في الدنيا ، وإصلاح النفوس من أمراضها ، وتوجيه الناس إلى مرضاة الرب عزوجل.

٤ ـ البشارة باقتراب ملكوت السموات ، أي الشريعة الإلهية التي يرسل الله تعالى بها النبي الأمي المذكور في آية [١٥] وما بعدها من الإصحاح ١٨ ـ سفر التثنية ، الذي وعد الله بني إسرائيل على لسان موسى أن يرسله من بين إخوتهم ، كما بشر به أنبياء كثيرون ، منهم داود في المزمور (٤٥) والمزمور (١٤٩) و (١١٠) وأشعيا في الإصحاحات (٨ ، ٩ ، ٢٦ ، ٣٥ ، ٤٢ ، ٤٣ ، ٥٠ ، ٥١ ، ٥٢ ، ٥٤ ، ٥٥ ، ٦٠ ، ٦٥) ودانيال في ص (٢ ، ٧) وزكريا في ص (٣) وغيرهم. والمسيحيون يحملون البشارة على الدين المسيحي.

لكن لم يجئ المسيح بغير طائفة من العظات والنصائح والحكم والأمثال ، لإخلاص العبادة لله تعالى ، والتخفيف من ماديات الجماهير التي غرقوا بها إلى الآذان ، وترك الرياء والنفاق ، والاهتمام بروح الدين الذي ورثوه عن موسى.

٩٣

وليس في الإنجيل سوى أحكام قليلة ، مثل عدم تزوج من طلق امرأة بامرأة سواها ، وعدم تزوج المطلقة بآخر ، وعدم جواز الطلاق إلا بعلة الزنى ، والأمر بالعفة. وفيه نهي عن الأخلاق المرذولة كالمكر والخداع وأكل الأموال بالباطل ، والرياء والنفاق.

الحواريون :

هم أصحاب المسيح عيسى ابن مريم وخاصته الذين بادروا إلى الإيمان به وتتلمذوا له وتعلموا منه ، وكانوا اثني عشر رجلا. وتعبر عنهم الأناجيل بلفظ (التلاميذ). وقد أرسلهم المسيح في القرى اليهودية ليدعوا الكفار بدعوة المسيح الحقيقية.

معجزات عيسى :

صدرت عن عيسى كغيره من الأنبياء معجزات تؤيد دعواه النبوة ، والمعجزة : أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي يجريه الله تعالى على يد أحد الأنبياء مع انتفاء المعارض ، منها خلق هيئة الطير من الطين والنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى بإذن الله ، والإخبار بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم ، وقد ذكرت في سورة آل عمران [الآيات : ٤٩ ـ ٥١].

وفاة المسيح :

كان افتضاح أمر الكهنة والفريسيين على يد المسيح عليه‌السلام سببا في كيدهم له ، وشكايتهم إلى الوالي ، مدّعين عنده أن عيسى يقول : إنه ملك اليهود ، وهم لا يقرون بملك سوى قيصر رومية ، فأرسل الوالي جندا للقبض على المسيح ، فحينما جاؤوا يبحثون عنه ألقى الله شبهه على شخص آخر ، هو (يهوذا

٩٤

الأسخريوطي) فألقوا القبض عليه وصلب وقتل ، وهو الذي واطأ الكهنة على الدلالة عليه بأجر.

وأنجى الله عيسى من اليهود ، فلم يقبضوا عليه ، ولم يقتل ولم يصلب ، لقوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) [النساء ٤ / ٥٧]. ثم توفاه الله ، ورفعه إليه إلى السماء حيا بجسده وروحه ، أو بروحه فقط على قولين ، والأول رأي جمهور المسلمين ، لقوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ : يا عِيسى ، إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران ٣ / ٥٥].

الثالوث عند النصارى :

يعتقد النصارى بوجود ثلاثة أقانيم في اللاهوت هي (الأب والابن وروح القدس) وفقا لتعاليم الكنيسة الكاثوليكية ، والشرقية ، وعموم البروتستانت إلا القليل منهم ، مع أن لفظة الثالوث لا توجد في الكتاب المقدس ، وإنما تقرر ذلك في المجمع النيقاوي سنة (٣٢٥ م) ومجمع القسطنطينية سنة ٣٨١ م ، وحكما بأن (الابن والروح القدس) مساويان للأب في وحدة اللاهوت ، وأن (الابن) ولد منذ الأزل من الأب ، وأن (الروح القدس) منبثق من الأب. ومجمع طليطلة سنة ٥٨٩ م حكم بأن (الروح القدس) منبثق من الابن أيضا.

التفسير والبيان :

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي ذلك المتصف بالأوصاف السابقة الذي قصصناه عليك هو عيسى ابن مريم ، وهذا الكلام المذكور هو قول الحق والصدق الذي لا مرية فيه ولا شك ، وهو حقيقة عيسى ، لا ما يقوله اليهود : إنه ساحر ، ولا ما يقوله النصارى : إنه ابن الله أو هو الله كما يذكر في مقدمة الإنجيل الحالي : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ قالَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ، فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي الشاكّين [آل عمران ٣ / ٥٩ ـ ٦٠]. وهؤلاء الضالون والمغضوب عليهم يشكون

٩٥

ويتنازعون ويختلفون في عيسى عليه‌السلام : (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) [النساء ٤ / ١٥٦].

ثم نفى الله تعالى عنه أنه ولد له ، فقال :

(ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ ، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) أي ما صح ولا استقام ولا ينبغي ولا يليق بالله أن يتخذ ولدا ؛ إذ لا حاجة له به ، وهو حيّ أبدا لا يموت ، تنزه وتقدس الله عن مقالتهم هذه ، وعن كل نقص من اتخاذ الولد وغيره ، إنه إذا أراد شيئا أوجده فورا ، فإنه يأمر به فيصير كما يشاء ، فمن كان هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد؟ لأن ذلك من أمارات النقص والحاجة : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ، وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ ...) [النساء ٤ / ١٧١].

(وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي ومما أمر به عيسى قومه وهو في مهده أن أخبرهم بقوله : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ).

ثم أمرهم بعبادة الله قائلا :

(فَاعْبُدُوهُ ، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي فاعبدوا الله وحده لا شريك له ، وهذا الذي جئتكم به عن الله هو الطريق القويم الذي لا اعوجاج فيه ، ولا يضلّ سالكه ، من اتبعه رشد وهدي ، ومن خالفه ضلّ وغوى.

جاء في الآية (١٠) من الإصحاح الرابع في إنجيل متى : «قال له يسوع : اذهب يا شيطان ؛ لأنه مكتوب : للرب إلهك تسجد ، وإياه وحده تعبد».

وبما أنه لا يصحّ أن يقول الله : (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) فلا بدّ وأن يكون قائل هذا غير الله تعالى؟ قال أبو مسلم الأصفهاني : الواو في (وَإِنَّ اللهَ) عطف على قول عيسىعليه‌السلام : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ) كأنه قال : إني عبد الله ، وإنه ربي وربكم فاعبدوه.

٩٦

وبالرغم من وضوح أمر عيسى وأنه عبد الله ورسوله ، اختلفوا فيه ، كما قال تعالى : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي اختلف قول أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله وأنه عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، فاليهود قالوا : إنه ولد زنى ، وإنه ساحر ، وكلامه هذا سحر ، وإنه ابن يوسف النجار ، واختلفت فرق النصارى فيه ، فقالت النسطورية منهم : هو ابن الله ، وقالت الملكية : هو ثالث ثلاثة ، وقالت اليعقوبية (١) : هو الله تعالى.

فعذاب شديد لهؤلاء الكافرين المختلفين في أمره ، من شهود يوم القيامة ، وما فيه من الحساب والعقاب ، حيث يشهدون حينئذ ذلك اليوم العظيم الهول.

وهذا تهديد ووعيد شديد لمن كذب على الله ، وافترى وزعم أن له ولدا ، ولكن الله تعالى أنظرهم إلى يوم القيامة ، وأجّلهم حلما وثقة بقدرته عليهم ، فإنه الذي لا يعجل على من عصاه ، كما جاء في الصحيحين : «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى ، وَهِيَ ظالِمَةٌ ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود ١١ / ١٠٢].

وفي الصحيحين أيضا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم يجعلون له ولدا ، وهو يرزقهم ويعافيهم» وقد قال الله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها ، وَهِيَ ظالِمَةٌ ، ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) [الحج ٢٢ / ٤٨] وقال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) [إبراهيم ١٤ / ٤٢].

__________________

(١) النسطورية : نسبة إلى عالم يسمى نسطور ، والملكية أو الملكانية : نسبة إلى الملك قسطنطين الفيلسوف العالم ، واليعقوبية : نسبة إلى عالم يسمى يعقوب.

٩٧

والخلاصة في صحة الاعتقاد بعيسى عليه‌السلام هو ما جاء في الحديث الصحيح عند الشيخين عن عبادة بن الصامت رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وأن الجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل».

ثم أخبر الله تعالى عن قوة سمع الكفار وحدة بصرهم يوم القيامة على الضدّ في الدنيا ، فقال: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا ، لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي ما أقوى سمع الكفار وأشد بصرهم يوم يأتوننا للحساب والجزاء ، إنهم يكونون أسمع شيء وأبصره ، كما قال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا ..) [السجدة ٣٢ / ١٢] أي يقولون ذلك حين لا ينفعهم ولا يجدي عنهم شيئا.

لكن هؤلاء الظالمون الكافرون يعرفون الحق في الآخرة ، وفي الدنيا صم بكم عمي عن الحق ، لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون ، فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون ، ويكونون مطيعين حيث لا ينفعهم ذلك ، ويتمنون الرجوع إلى الدنيا ليتداركوا تقصيرهم.

ثم أمر الله بإنذارهم ، فقال لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ، إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ ، وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي وأنذر أيها الرسول الخلائق من المشركين وغيرهم يوم يتحسرون جميعا ، فالمسيء يتحسر على إساءته ، والمحسن على عدم استكثاره من الخير ، حين فرغ من الحساب ، وطويت الصحف ، وفصل بين أهل الجنة ، وأهل النار ، وصار الأولون في الجنة ، والآخرون في النار ، وهم الآن في الدنيا غافلون عما أنذروا به يوم الحسرة والندامة ، غافلون عما يعمل بهم في ذلك اليوم وعما يلاقونه من أهوال ، وهم لا يصدقون بالقيامة والحساب والجزاء.

٩٨

روى الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، يجاء بالموت كأنه كبش أملح (أبيض وأسود) فيوقف بين الجنة والنار ، فيقال : يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ قال : فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم ، هذا الموت ، فيؤمر به فيذبح ، ويقال : يا أهل الجنة ، خلود ولا موت ، ويا أهل النار ، خلود ولا موت ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ ، وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وأشار بيده وقال : أهل الدنيا في غفلة الدنيا».

(إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها ، وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) أي وأعلمهم أيها الرسول بأن الله يرث الأرض ومن عليها ، فلا يبقى بها أحد من أهلها يرث الأموات ما خلّفوه من الديار والمتاع ، ثم إلى الله يردون يوم القيامة ، فيجازي كلا بعمله ، المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات الكريمات ما يأتي :

١ ـ إن ما أخبر به القرآن عن كيفية خلق عيسى هو الحق القاطع الذي لا شك فيه ، وكل ما عداه من تقولات ومزاعم اليهود والنصارى باطل ساقط لا يليق بالأنبياء والرسل ، وكيف يتقبل النصارى الزعم بأن عيسى ربّ وإله ، وهم يتهمونه بأنه ابن زانية بغي؟! وإن الاختلاف في شأن عيسى وانقسام أهل الكتاب فيه أحزابا لا داعي له.

٢ ـ ليس عيسى ابنا لله كما يزعم النصارى ، فما ينبغي لله ولا يجوز أن يتخذ ولدا ، لعدم حاجته إليه ، فهو منزه عن الشريك والولد وكل نقص ، وإن الله تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له : (كُنْ فَيَكُونُ) فهو القادر على كل

٩٩

شيء ، وقول الله وكلامه قديم غير محدث ، فلو كان قوله : (كُنْ) محدثا لافتقر حدوثه إلى قول آخر ، ولزم التسلسل ، وهو محال.

٣ ـ لقد أمر عيسى عليه‌السلام قومه بوحدانية الله وعبادته ، فالله ربه وربهم ورب كل شيء ، وهو المستحق العبادة ، لا أحد سواه ، وهذا هو الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه.

وقد دلّ قوله : (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) على أن مدبر الناس ومصلح أمورهم هو الله تعالى ، على خلاف قول المنجمين : إن مدبر الناس ومصلح أمورهم في السعادة والشقاوة هي الكواكب.

ودلّ أيضا على أن الإله واحد ؛ لأن لفظ الله اسم علم له سبحانه ، فلما قال : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) أي لا رب للمخلوقات سوى الله تعالى ، دلّ ذلك على التوحيد.

٤ ـ اختلفت الفرق من أهل الكتاب في أمر عيسى عليه‌السلام ، فاليهود اتهموه بالسحر وقدحوا في نسبه ، والنصارى فرق ثلاث ، قالت النسطورية منهم : هو ابن الله ، والملكانية : ثالث ثلاثة ، وقالت اليعقوبية : هو الله ، فأفرطت النصارى وغلت ، وفرطت اليهود وقصّرت.

٥ ـ العذاب الشديد والهلاك لأولئك الكفار المختلفين في شأن عيسى عليه‌السلام عند شهود (أي حضور) يوم القيامة.

٦ ـ عرّف الله حال القوم الذين يأتونه ليعتبروا وينزجروا ، فما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة ، وما أصمهم وأعماهم في الدنيا ، فهم في ضلال مبين في عالم الدنيا ، وفي الآخرة يعرفون الحق ، ففي الدنيا يكون الكافر أصم وأعمى ، ولكنه سيبصر ويسمع في الآخرة إذا رأى العذاب ، ولكنه لا ينفعه ذلك.

١٠٠