التفسير المنير - ج ١٦

الدكتور وهبة الزحيلي

بعدها للحساب ، وفي هذا اليوم بالذات يحشر المجرمون أيضا وهم المشركون والعصاة المأخوذون بذنوبهم التي لم يغفرها الله لهم ، زرق العيون والوجوه من شدة ما هم فيه من الأهوال ، والغيظ والندامة.

(يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ ، إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) أي يتسارون بينهم ، فيقول بعضهم لبعض سرا : ما لبثتم في الدنيا إلا قليلا بمقدار عشرة أيام أو نحوها أو عشر ليال ، يستقصرون مدة مقامهم في الدنيا أو في القبور ، بمقارنتها بأيام الآخرة الطويلة الأمد وبأعمار الآخرة.

وإنما خص العشرة واليوم الواحد بالذكر ؛ لأن القليل في أمثال هذه المواضع لا يعبر عنه إلا بالعشرة والواحد.

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ ، إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً : إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) أي نحن أعلم بما يتناجون وبما يقولون في مدة لبثهم ، حين يقول أعدلهم قولا ، وأكملهم رأيا وعقلا ، وأعلمهم عند نفسه : ما لبثتم إلا يوما واحدا ؛ لأن دار الدنيا كلها ، وإن طالت في أنظار الناس ، كأنها يوم واحد ، وغرضهم من ذلك درء قيام الحجة عليهم لقصر المدة ، كما قال تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ، يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) [الروم ٣٠ / ٥٥] وقال سبحانه : (قالَ : كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ، قالُوا : لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ، فَسْئَلِ الْعادِّينَ) [المؤمنون ٢٣ / ١١٢ ـ ١١٣].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن في قصص القرآن من أخبار الأمم وأحوالهم عبرة وعظة ، يستعبر بها أو يتعظ العقلاء المكلفون ، وسلوة للنبي ، ودليلا على صدقه ، وزيادة في معجزاته.

٢٨١

٢ ـ والقرآن العظيم كله تذكير ومواعظ للأمم والشعوب والأفراد ، وشرف وفخر للإنسانية وللعرب خاصة ، ونعمة عظمي لكل إنسان.

٣ ـ وكما أن القرآن نعمة ، ففيه أيضا وعيد شديد لمن أعرض عنه ، ولم يؤمن به ، ولم يعمل بما فيه ، فهو ـ أي المعرض ـ يتحمل الإثم العظيم والحمل الثقيل يوم القيامة ، حيث يقيم في جزائه ، وجزاؤه جهنم ، وبئس الحمل الذي حملوه يوم القيامة.

والوزر : هو العقوبة الثقيلة ، سميت وزرا ، تشبيها في ثقلها على المعاقب بثقل حمل الحامل ، أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم.

وصفة ذلك الوزر كما تبين شيئان : أحدهما ـ أنه مخلد مؤبد ، وثانيهما ـ أنه ما أسوأ هذا الوزر حملا ، أي محمولا.

٤ ـ إن يوم القيامة هو اليوم الذي ينفخ في الصور النفخة الثانية للبعث والحشر والحساب. والصور : قرن ينفخ فيه يدعى به الناس إلى الحشر.

٥ ـ يكون النفخ في الصور سببا لحشر المجرمين ، أي المشركين ، زرق العيون والأبدان من شدة العطش وشدة الأهوال التي يكابدونها.

٦ ـ يتسار المجرمون يوم القيامة قائلين : ما لبثتم في الدنيا إلا عشر ليال ، يستقصرون مدة مقامهم في الدنيا لشدة ما يرون من أهوال يوم القيامة ، ويخيل إلى أمثلهم أي أعدلهم قولا ، وأعقلهم وأعلمهم عند نفسه : أنهم ما لبثوا في الدنيا إلا يوما واحدا أي مثل يوم أو أقل.

٢٨٢

أحوال الأرض والجبال والناس يوم القيامة

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢))

البلاغة :

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) كناية عن أمر الدنيا والآخرة.

(عِلْماً ظُلْماً هَضْماً) سجع مؤثر غير متكلف.

المفردات اللغوية :

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) عن حال أمرها وكيف تكون يوم القيامة ، وقد سأل عنها رجل من ثقيف. (فَقُلْ) لهم. (يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) يفتتها ذرأت ويجعلها كالرمل السائل ، ثم يطيرها كالريح. (فَيَذَرُها) فيتركها ويذر مقارها أو يذر الأرض. (قاعاً) أرضا منبسطة لا بناء ولا نبات. (صَفْصَفاً) أرضا ملساء مستوية. (عِوَجاً) انخفاضا. (وَلا أَمْتاً) ارتفاعا.

(يَوْمَئِذٍ) يوم نسف الجبال ، على إضافة اليوم إلى وقت النسف ، ويجوز أن يكون بدلا ثانيا من يوم القيامة. (يَتَّبِعُونَ) يتبع الناس بعد القيام من القبور. (الدَّاعِيَ) داعي الله إلى المحشر ، بصوته ، وهو إسرافيل يقول : هلموا إلى عرض الرحمن. (لا عِوَجَ لَهُ) لا يعوج له مدعو ولا يعدل عنه ، أي لا يقدر ألا يتبع ، أو لا عوج لدعائه ، فلا يميل إلى ناس دون ناس.

٢٨٣

(وَخَشَعَتِ) سكنت وذلت. (إِلَّا هَمْساً) الهمس : الصوت الخفي ، أو صوت وطء الأقدام في نقلها إلى المحشر.

(إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) الاستثناء من الشفاعة ، أي إلا شفاعة من أذن له ، فمن : مرفوع على البدلية بتقدير حذف المضاف إليه ، أي لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن ، وهذا هو المتبادر إلى الذهن ، أو أن الاستثناء من أعم المفاعيل ، أي إلا من أذن في أن يشفع له ، فإن الشفاعة تنفعه ، فتكون (مَنْ) : منصوبا على المفعولية ، ورجح الرازي الاحتمال الثاني ، أي لا تنفع الشفاعة أحدا إلا شخصا مرضيا. (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) أي ورضي لمكانه عند الله قوله في الشفاعة ، أو رضي لأجله قول الشافع في شأنه. والخلاصة : أن الإذن إما أن يكون للشافع دون تعيين ، وإما أن يكون للشافع من أجل المشفوع له ، ورضي قوله لأجله ، أي رضي للمشفوع له قولا.

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) يعلم كل أمر من أمور الآخرة والدنيا ، أو يعلم كل شؤون عباده في الدنيا والآخرة. فالمراد من قوله : (وَما خَلْفَهُمْ) إما أمور الدنيا على رأي ، وإما أمور الآخرة وما يستقبلونه ، على رأي الأكثرين. (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) أي لا يحيط علمهم بمعلوماته.

(وَعَنَتِ) خضعت وانقادت ، ومنه العاني : الأسير. (الْقَيُّومِ) القائم بتدبير عباده ومجازاتهم. (خابَ) خسر. (مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) شركا. (الصَّالِحاتِ) الطاعات. (فَلا يَخافُ ظُلْماً) منع الثواب عن المستحق بالوعد. (وَلا هَضْماً) ولا نقصا من حسناته.

سبب النزول :

نزول الآية (١٠٥):

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) : أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : قالت قريش : يا محمد ، كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة؟ فنزلت : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) الآية.

المناسبة :

بعد أن وصف الله تعالى أهوال يوم القيامة ، حكى سؤال من لم يؤمن بالحشر عن مصير الجبال ، ثم ضم إليه بيان حالة الأرض حينئذ ، وحالة الناس الذين

٢٨٤

يسرعون إلى إجابة الداعي إلى المحشر مع خشوع وخضوع ، دون أن تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن ورضي للشافع قولا لمكانه عند الله ، أو رضي للمشفوع له قولا.

التفسير والبيان :

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ : يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) أي ويسألك المشركون أيها الرسول عن حال الجبال يوم القيامة ، هل تبقى أو تزول؟ فقل : يزيلها الله ويذهبها عن أماكنها ، ويدكها دكا ، ويجعلها هباء منثورا.

(فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً ، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) أي فيترك مواضعها بعد نسفها أرضا ملساء مستوية ، بلا نبات ولا بناء ، ولا انخفاض ولا ارتفاع ، فلا تجد مكانا منخفضا ولا مرتفعا ، ولا واديا ولا تلة أو رابية.

(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ) أي حينئذ يتبع الناس داعي الله إلى المحشر ، مسارعين إلى الداعي ، حيثما أمروا بادروا إليه ، لا معدل لهم عن دعائه ، فلا يقدرون أن يميلوا عنه أو ينحرفوا منه ، بل يسرعون إليه ، كما قال تعالى : (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) [القمر ٥٤ / ٨].

(وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) أي سكتت الأصوات رهبة وخشية وإنصاتا لسماع قول الله تعالى ، فلا تسمع إلا همسا ، أي صوتا خفيا.

(يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ ، إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) أي في ذلك اليوم لا تنفع شفاعة أحد إلا من أذن له الرحمن أن يشفع ، ورضي قوله في الشفاعة ؛ لأن الله تعالى هو المالك المتصرف في الخلق جميعا في الدنيا والآخرة. ونظير الآية قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)

٢٨٥

[البقرة ٢ / ٢٥٥] ، وقوله سبحانه : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [النجم ٥٣ / ٢٦] ، وقوله عزوجل : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى ، وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء ٢١ / ٢٨] ، وقوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا ، لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) [النبأ ٧٨ / ٣٨].

وعلة تقييد الشفاعة بالإذن والرضا هي :

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ، وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) أي يعلم ما بين أيدي عباده من أمر القيامة وأحوالها ، وما خلفهم من أمور الدنيا ، وقيل بالعكس : يعلم ما بين أيديهم من أمر الدنيا والأعمال ، وما خلفهم من أمر الآخرة والثواب والعقاب ، والمراد أنه تعالى يحيط علما بالخلائق كلهم ، ولا تحيط علوم الخلائق بذاته ولا بصفاته ولا بمعلوماته.

ورجح الرازي معنى أن العباد لا يحيطون بما بين أيديهم وما خلفهم علما ؛ لأن الضمير يعود إلى أقرب المذكورات وهو (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ولأنه تعالى أورد ذلك مورد الزجر ليعلم أن سائر ما يقدمون عليه وما يستحقون به المجازاة معلوم لله تعالى (١).

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ، وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) أي ذلت وخضعت واستسلمت جميع النفوس والخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت ، القيوم الذي لا ينام ، وهو قيم على كل شيء يدبره ويحفظه ، أي قائم بتدبير شؤون خلقه وتصريف أمورهم ، وقد خسر من حمل شيئا من الظلم والشرك. وخص الوجوه بالذكر ؛ لأن الخضوع بها يبين وفيها يظهر. جاء في الحديث الصحيح : «إياكم

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٢ / ١١٩

٢٨٦

والظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، والخيبة كل الخيبة من لقي الله ، وهو به مشرك ، فإن الله تعالى يقول : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان ٣١ / ١٣]».

وبعد ذكر الظالمين ووعيدهم ثنى بالمتقين وحكمهم ، فقال : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) أي ومن يعمل الأعمال الصالحة (أي الفرائض) مقرونا عمله بالإيمان بربه ورسله وكتبه واليوم الآخر ، فلا يظلم ولا يهضم حقه ، أي لا يزاد في سيئاته بأن يعاقب بغير ذنب ، ولا ينقص من ثواب حسناته.

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ تتبدد الجبال يوم القيامة بأمر الله تعالى ، فتقلع قلعا من أصولها ، ثم تصير كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا ، ويذر مواضعها أرضا ملساء بلا نبات ولا بناء ، لا ترى في الأرض يومئذ واديا ولا رابية ولا مكانا منخفضا ولا مرتفعا ، وعليه فإنه تعالى وصف الأرض بصفات ثلاث : كونها قاعا أي مستوية ملساء ، وصفصفا أي لا نبات عليها ، ولا عوج فيها ولا أمتا ، أي لا منخفض ولا مرتفع.

٢ ـ يسير الناس يوم القيامة وراء قائد المحشر ، ويتبعون إسرافيل عليه‌السلام إذا نفخ في الصور ، لا معدل لهم عن دعائه ، لا يزيغون ولا ينحرفون ، بل يسرعون إليه ولا يحيدون عنه.

وتذل الأصوات وتسكن من أجل الرحمن ، فلا تسمع إلا صوتا خفيا ، أو حسا خفيا.

٣ ـ لا تنفع الشفاعة أحدا إلا شفاعة من أذن له الرحمن ، ورضي قوله في الشفاعة.

٢٨٧

٤ ـ يعلم الله جميع أمور الخلائق وما يتعرضون له من أمر الساعة (القيامة) ومن أمر الدنيا ، ولا أحد يحيط علما بذات الله وصفاته ومعلوماته.

والخلاصة : وصف الله تعالى يوم القيامة بست صفات هي :

نسف الجبال نسفا تاما ، واتباع الناس داعي الله إلى المحشر وهو إسرافيل الذي ينفخ في الصور ، وخشوع الأصوات من شدة الفزع وخضوعها فلا تسمع إلا الصوت الخفي ، وعدم قبول الشفاعة من الملائكة والأنبياء وغيرهم عند الله إلا شفاعة من أذن له الرحمن ورضي قوله في الشفاعة ، وإحاطة علم الله بجميع أحوال الخلائق وأمورهم في الدنيا والآخرة ، فيعلم تعالى ما بين أيدي العباد وما خلفهم ، ولا يحيطون بالله علما ، وتذل الوجوه أي النفوس ويصير الملك والقهر لله تعالى دون غيره.

عربية القرآن ووعيده وعدم التعجل بقراءته قبل إتمام الوحي

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤))

المفردات اللغوية :

(وَكَذلِكَ) معطوف على (كَذلِكَ نَقُصُ) أي مثل إنزال ما ذكر ، أو مثل إنزال هذه الآيات المتضمنة للوعيد. (أَنْزَلْناهُ) أي القرآن. (قُرْآناً عَرَبِيًّا) كله على هذه الوتيرة. (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) كررنا وفصلنا فيه آيات الوعيد ويشمل بيان الفرائض والمحارم. (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) المعاصي ومنها الشرك ، فتصير التقوى لهم ملكة. والتقوى : اتقاء المحارم وترك الواجبات. (أَوْ يُحْدِثُ) القرآن (لَهُمْ ذِكْراً) عظة وعبرة حين يسمعونها ، فيثبطهم عنها ، ولهذا أسند التقوى إليهم ، والإحداث إلى القرآن.

(فَتَعالَى اللهُ) تعاظم وتنزه وتقدس في ذاته وصفاته عن مماثلة المخلوقين ، فلا يماثل كلامه كلامهم ، كما لا يماثل ذاته ذاتهم. (الْمَلِكُ) النافذ أمره ونهيه. (الْحَقُ) الثابت في ذاته وصفاته.

٢٨٨

(وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) أي لا تستعجل في قراءة القرآن حتى يتم وحيه. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) أي حتى يفرغ جبريل من إبلاغه لك. (وَقُلْ : رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) أي سل الله زيادة العلم بدل الاستعجال ، فإن ما أوحى إليك يثبت في قلبك لا محالة.

سبب النزول :

نزول الآية (١١٤):

(وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) : أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نزل عليه جبريل بالقرآن ، أتعب نفسه في حفظه ، حتى يشق على نفسه ، فيخاف أن يصعد جبريل ، ولم يحفظه ، فأنزل الله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) الآية. وثبت في الصحيح عن ابن عباس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعالج من الوحي شدة ، فكان مما يحرك به لسانه ، فأنزل الله هذه الآية. يعني أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا جاءه جبريل بالوحي ، كلما قال جبريل آية قالها معه من شدة حرصه على حفظ القرآن ، فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه لئلا يشق عليه.

المناسبة :

كما أنزل الله آيات الوعيد من أهوال يوم القيامة ، أنزل القرآن كله بلغة عربية مبينة ، ليفهمه العرب ، ثم أبان تعالى نفع هذا القرآن للناس بالتحصن بالتقوى والاتعاظ والاعتبار بهلاك الأمم المتقدمة ، وأنه سبحانه متصف بصفات الكمال ومنزه عن صفات النقصان ، وأنه ضامن غرس القرآن في صدر نبيه ، وصونه عن النسيان والسهو.

التفسير والبيان :

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي ومثل ذلك الإنزال لآيات الوعد

٢٨٩

والوعيد وأحوال يوم القيامة ، أنزلنا القرآن كله بلغة العرب ليفهموه ، فهو بلسان عربي مبين فصيح ، لا ليس فيه ولا عي.

(وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ ، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) أي وبينا فيه أنواع الوعيد تخويفا وتهديدا ، كي يخافوا الله ، فيتجنبوا معاصيه ، ويحذروا عقابه ، أو يحدث لهم في قلوبهم عبرة وعظة يعتبرون بها ويتعظون ، ويقبلون على فعل الطاعات.

وبعد تعظيم القرآن عظم تعالى نفسه ، فقال :

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) أي تقدس وتنزه الله الملك المتصرف بالأمر والنهي ، الثابت الذي لا يزول ولا يتغير عن إلحاد الملحدين ، وعما يقول المشركون ، فإنه الملك حقا الذي بيده الثواب والعقاب ، وحقه وعدله : ألا يعذب أحدا قبل الإنذار وبعثة الرسل والإعذار إلى خلقه ، لئلا يبقى لأحد حجة ولا شبهة.

(وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) أي ولا تتعجل أو تبادر إلى قراءة القرآن قبل أن يفرغ جبريل من الوحي ، حرصا منه على ما كان ينزل عليه منه ، بل أنصت ، فإذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه بعده. ومثله قوله تبارك وتعالى في سورة القيامة : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) [١٦ ـ ١٩] أي أن نجمعه في صدرك ثم تقرأه على الناس من غير أن تنسى منه شيئا.

(وَقُلْ : رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) أي سل ربك زيادة العلم ، روى الترمذي وابن ماجه والبزار عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «اللهم انفعني بما علمتني ، وعلمني ما ينفعني ، وزدني علما ، والحمد لله على كل حال ، وأعوذ بالله من حال أهل النار».

٢٩٠

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يلي :

١ ـ نزل القرآن بلغة العرب ، فهو فخر وشرف لهم إلى الأبد ، كما قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف ٤٣ / ٤٤].

٢ ـ اشتمل القرآن على ما فيه كفاية لجميع مستويات البشر ، الأخيار والأشرار ، من التخويف والتهديد ، والثواب والعقاب ، والعبرة والعظة ، حتى يخاف الناس ربهم ، فيجتنبوا معاصيه ، ويحذروا عقابه.

٣ ـ عظم الله القرآن وعظم ذاته ، فلما عرف تعالى العباد عظيم نعمه ، وإنزال القرآن ، نزه نفسه عن الأولاد والأنداد ، جل الله عن ذلك ، فهو الملك المتصرف في الأكوان ، الحق ، أي ذو الحق ، وتقدس لأنه هو حق ثابت دائم لا يتغير ، ووعده حق ، ووعيده حق ، ورسله حق ، والجنة حق ، وكل شيء منه حق.

٤ ـ علم الله نبيه كيف يتلقى القرآن ، قال ابن عباس : كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبادر جبريل ، فيقرأ قبر أن يفرغ جبريل من الوحي ، حرصا على الحفظ ، وشفقة على القرآن مخافة النسيان ، فنهاه الله عن ذلك ، وأنزل : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ). وهذا كقوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) [القيامة ٧٥ / ١٦].

٥ ـ أمر الله نبيه بأن يدعو بقوله : (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) أي فهما. قال الحسن البصري : نزلت في رجل لطم وجه امرأته ، فجاءت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تطلب القصاص ، فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها القصاص ، فنزل (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) [النساء ٤ / ٣٤] ولهذا قال : (وَقُلْ : رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) أي فهما ومعرفة ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكم بالقصاص وأبى الله ذلك ، لكن قال الرازي : وهذا

٢٩١

بعيد ، أما قوله تعالى : (وَقُلْ : رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) فالمعنى أنه سبحانه وتعالى أمره بالفزع إلى الله سبحانه في زيادة العلم التي تظهر بتمام القرآن أو بيان ما نزل عليه.

وفي الآية : الترغيب في تحصيل العلم والترقي فيه إلى ما شاء الله ؛ لأن رتبة العلم أعلى الرتب ، وبحره واسع لا يحيط به إنسان.

قصة آدم في الجنة وإخراجه منها وإلزامه بالهداية الربانية

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ

٢٩٢

رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧))

الإعراب :

(أَلَّا تَجُوعَ فِيها) الجملة في موضع نصب ؛ لأنها اسم إن. (وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها) إما موضعها النصب بالعطف على (أَلَّا تَجُوعَ) أي : إن لك عدم الجوع وعدم الظمأ في الجنة ، وإما موضعها الرفع بالعطف على الموضع ، مثل : إن زيدا قائم ، وعمرو ، بالعطف على موضع إن. ومن كسر وإنك فعلى الابتداء والاستئناف ، مثل إن الأولى.

البلاغة :

(أَعْمى) و (بَصِيراً) بينهما طباق.

(فَتَشْقى) ، (تَعْرى) ، (تَضْحى) سجع حسن غير متكلف.

(أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) فيه ما يسمى قطع النظير عن النظير ، ففصل بين الظمأ والجوع ، وبين الضحو والكسوة بقصد تحقيق تعداد هذه النعم ، ومراعاة فواصل الآيات.

المفردات اللغوية :

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ) أي وصيناه وأمرناه ألا يأكل من هذه الشجرة ، يقال : عهد إليه : إذا أمره وأوصاه به ، ولام (وَلَقَدْ) جواب قسم محذوف ، وإنما عطف قصة آدم على قوله: (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) للدلالة على أن أساس بني آدم على العصيان ، وأنهم متأصلون في النسيان. (مِنْ قَبْلُ) من قبل هذا الزمان وقبل أكله من الشجرة وقبل وجود هؤلاء المخالفين. (فَنَسِيَ) العهد وتركه ولم يعن به حتى غفل عنه. (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ولم نعلم له تصميما على الذنب ؛ لأنه أخطأ ولم يتعمده. ونجد من الوجود بمعنى العلم ، له مفعولان ، والعزم : التصميم على الشيء والثبات عليه.

(وَإِذْ قُلْنا) أي اذكر حاله في مثل ذلك الوقت ، ليتبين لك أنه نسي ولم يكن من أولي العزيمة والثبات. (إِبْلِيسَ) هو أبو الجن ، كان يصحب الملائكة ، ويعبد الله معهم. (أَبى) امتنع عن السجود لآدم ، قائلا : أنا خير منه ، وهي جملة مستأنفة لبيان ما منعه من السجود ، وهو الاستكبار.

٢٩٣

(فَتَشْقى) تتعب بمتاعب الدنيا الكثيرة. واقتصر على نسبة الشقاء لآدم ؛ لأن الرجل هو المسؤول عن كفاية زوجته ، وهو الذي يسعى. (تَظْمَؤُا) تعطش. (تَضْحى) تصيبك الشمس ، يقال : ضحا وضحي : إذا أصابته الشمس بحرها ، والمراد : لا يحصل لك شمس الضحى لانتفاء الشمس في الجنة. والمقصود من الآية : (أَلَّا تَجُوعَ ..) بيان وتذكير لما في الجنة من أسباب الكفاية ، وأساسيات الكفاية هي الشبع والري والكسوة والسكنى.

(شَجَرَةِ الْخُلْدِ) أي التي يخلد من يأكل منها ، فلا يموت أصلا. (لا يَبْلى) لا يفنى ولا يضعف ، وهو لازم الخلد. (فَأَكَلا مِنْها) أي آدم وحواء. (فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) ظهرت لهما عوراتهما من القبل والدبر ، وسمي كل منهما سوأة لأن انكشافه يسوء صاحبه. (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أي شرعا وأخذا يلزقان ورق التين على سوآتهما ليستترا به. (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) بالأكل من الشجرة. (فَغَوى) فضل عن الرشد حيث اغتر بقول عدوه. (ثُمَّ اجْتَباهُ) اصطفاه وقربه إليه بالتوفيق للتوبة. (فَتابَ عَلَيْهِ) فقبل توبته لما تاب. (وَهَدى) إلى الثبات على التوبة والأخذ بأسباب العصمة.

(اهْبِطا مِنْها) أي آدم وحواء من الجنة. (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أي بعض الذرية عدو للبعض الآخر بالظلم والتحارب والتنافس الشديد على أمر المعاش. (فَإِمَّا) فيه إدغام نون (إن) الشرطية في (ما) المزيدة. (هَدى) كتاب ورسول. (هُدايَ) هدى الوحي الإلهي. (فَلا يَضِلُ) في الدنيا. (وَلا يَشْقى) في الآخرة.

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) الهداية بكتبي السماوية المذكرة بي والداعية إلى عبادتي. وأعرض : أي امتنع فلم يؤمن بالذكر. (ضَنْكاً) مصدر وهو الضيق الشديد ، والمعنى هنا : ضيقة. (وَنَحْشُرُهُ) أي المعرض عن الذكر الإلهي ومنه القرآن. (أَعْمى) أي أعمى البصر أو القلب فلم ينظر في البراهين الإلهية ، ويؤيد الأول : (قالَ : رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) أي في الدنيا وعند البعث. (قالَ) أي الأمر (كَذلِكَ) مثل ذلك فعلت ، ثم فسره بقوله : (أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها) تركتها ولم تؤمن بها. (وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) أي ومثل تركك إياها ـ أي الآيات ـ تترك اليوم في العمى والعذاب. والآيات : الأدلة والبراهين الإلهية.

(وَكَذلِكَ) أي ومثل جزائنا من أعرض عن الذكر. (نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) نعاقب من أشرك وأسرف في الانهماك في الشهوات ، والإعراض عن الآيات. (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ) بل كذبها وخالفها. (أَشَدُّ) من عذاب الدنيا وعذاب القبر وضنك العيش والعمى. (وَأَبْقى) أدوم. وذلك كقوله تعالى : (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ ، وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) [الرعد ١٣ / ٣٤].

٢٩٤

المناسبة :

هذه هي المرة السادسة لذكر قصة آدم في القرآن ، بعد البقرة ، والأعراف ، والحجر ، والإسراء ، والكهف.

ومناسبة هذه الآيات لما قبلها أنه بعد أن عظم أمر القرآن ، وأبان ما فيه من الوعيد لتربية التقوى والعظة والعبرة ، أردفه بقصة آدم ، للدلالة على أن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم ، وأنهم ينسون الأوامر الإلهية ، كما نسي أبوهم آدم. ثم ذكر إباء إبليس السجود لآدم للتحذير من هذا العدو الذي أخرج بوساوسه آدم من الجنة ، ثم بين جزاء المطيع للهدي الإلهي ، وجزاء المعرض عنه ، وأنه سيحشر أعمى عن الحجة التي تنقذه من العذاب ، بسبب إعراضه في الدنيا عن الآيات البينات التي تهديه إلى سبيل الرشاد.

التفسير والبيان :

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ ، فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) أي وو الله لقد وصينا آدم بألا يأكل من الشجرة ، فنسي ما عهد الله به إليه ، وترك العمل بمقتضى العهد ، فأكل من تلك الشجرة ، ولم يكن عنده قبل ذلك عزم وتصميم على ذلك ؛ إذ كان قد صمم على ترك الأكل ، ثم فتر عزمه ، عند ما وسوس إليه إبليس بالأكل ، فلم يصبر عن أكل الشجرة.

روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إنما سمي الإنسان ؛ لأنه عهد إليه ، فنسي. والمراد بالعهد : أمر من الله تعالى أو نهي منه ، والمراد هنا : عهدنا إليه ألا يأكل من الشجرة ولا يقربها. والآية دليل على أن النسيان وعدم العزم هما سبب العصيان ، وأن التذكر وقوة العزم هما سبب الخير والرشد.

ثم ذكر الله تعالى خلق آدم وتكريمه وتشريفه ، فقال :

٢٩٥

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) أي واذكر أيها النبي لقومك حين أمرنا الملائكة بالسجود لآدم سجود تشريف وتكريم وتفضيل على كثير من خلق الله ، فسجدوا إلا إبليس امتنع واستكبر ورفض المشاركة في السجود ؛ لأنه كان حسودا ، فلما رأى آثار نعم الله تعالى في حق آدم عليه‌السلام حسده ، فصار عدوا له ، كما قال تعالى :

(فَقُلْنا : يا آدَمُ ، إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ، فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ ، فَتَشْقى) أي فقلنا له عقب إبائه السجود : يا آدم ، إن إبليس عدو لك ولزوجك ، فلم يسجد لك وعصاني ، فلا تطيعاه ، ولا يكوننّ سببا لإخراجكما من الجنة ، فتتعب في حياتك الدنيا في الأرض في تحصيل وسائل المعاش كالحرث والزرع ، فإنك هاهنا في عيش رغيد هنيء ، بلا كلفة ولا مشقة ، كما قال تعالى : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى ، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) أي إن لك في الجنة تمتعا بأنواع المعايش ، وتنعما بأصناف النعم من المآكل الشهية والملابس البهية ، فلا تجوع ولا تعرى ، ولا تعطش في الجنة ، ولا يؤذيك الحرّ ، كما يكون لسكان الأرض ، فإن أصول المتاعب في الدنيا : هي تحصيل الشبع (ضد الجوع) والكسوة (ضد العري) والريّ (ضد الظمأ) والسكن (ضد العيش في العراء أو تحت حرّ الشمس).

ويلاحظ أن نعم الجنة كما جاء في الآية لا عناء فيها في هذه الأصول الأربعة ، فلا جوع فيها ولا عري ولا ظمأ ولا إصابة بحرّ الشمس. فأيهما يفضل العقلاء : ما فيه تعب وعناء أو ما ليس فيه تعب؟!

وبعد بيان مدى تكريم آدم وتعظيمه وتحذيره من عدوه ، أبان تعالى تورطه في وسوسة الشيطان ، فقال :

(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ ، قالَ : يا آدَمُ ، هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ

٢٩٦

وَمُلْكٍ لا يَبْلى) أي قال الشيطان لآدم بنوع من الخفية : ألا أرشدك إلى شجرة الخلد : وهي الشجرة التي من أكل منها لم يمت أصلا ، وإلى ملك دائم لا يزول ولا ينقضي. وكان ذلك كذبا من إبليس ليستدرجهما إلى معصية الله تعالى : (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف ٧ / ٢١] (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) [الأعراف ٧ / ٢٢].

جاء في الحديث ذكر شجرة الخلد ، أخرج الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي عن أبي هريرةرضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ، ما يقطعها ، وهي شجرة الخلد».

(فَأَكَلا مِنْها ، فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما ، وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ، وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) أي فأكل آدم وحواء من الشجرة التي منعا من الأكل منها ، فانكشفت عورتهما وسقط عنهما لباسهما ، فشرعا يلصقان عليهما ويلزقان ورق التين ، فيجعلانه على سوآتهما ، وعصى آدم ربه أو خالف أمر ربه بالأكل من الشجرة المنهي عن الآكل منها ، فضلّ عن الصواب ، وفسد عليه عيشه.

ولا شك بأن مخالفة الأمر الواجب معصية ، وأن الجزاء حق وعدل بسبب المعصية ، لكنها معصية من نوع خاص بترتيب وتدبير وإرادة الله عزوجل ، وفي حال نسيان آدم عهد الله إليه بألا يأكل من الشجرة ، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «حاجّ موسى آدم ، فقال له : أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم : يا موسى ، أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه ، أتلومني على أمر كتبه الله عليّ ، قبل أن يخلقني ، أو قدره الله علي قبل أن يخلقني؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فحجّ آدم موسى».

٢٩٧

لهذا تاب الله تعالى على آدم من معصيته ، فقال :

(ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ ، فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) أي ثم اصطفاه ربه وقرّبه إليه ، بعد أن تاب من المعصية واستغفر ربه منها ، وأنه قد ظلم نفسه ، فتاب الله عليه من معصيته ، وهداه إلى التوبة وإلى سواء السبيل ، كما قال تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ ، فَتابَ عَلَيْهِ ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة ٢ / ٣٧] وقال هو وزوجه : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا ، لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الأعراف ٧ / ٢٣].

(قالَ : اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً ، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أي قال الله تعالى لآدم وحواء : انزلا من الجنة إلى الأرض معا ، بعضكم يا معشر البشر في الدنيا عدو لبعض في أمر المعاش ونحوه ، مما يؤدي ذلك إلى وقوع الخصام والنزاع والاقتتال.

(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً ، فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ ، فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) أي فإن يأتكم أيها البشر مني هدى بواسطة الأنبياء والرسل وإنزال الكتب ، فمن اتبع الهدى ، فلا يضل عن الصواب في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة. قال ابن عباس : «ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن ، وعمل بما فيه ، ألا يضلّ في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة ، وتلا الآية». وقال أيضا : «من قرأ القرآن ، واتّبع ما فيه ، هداه الله من الضلالة ، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب ، ثم تلا الآية».

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ، فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) أي ومن أدبر عن ديني وتلاوة كتابي والعمل بما فيه ، فإن له في هذه الدنيا عيشا ضيقا ، ومعيشة شديدة منغصة ، إما بشح المادة وإما بالقلق والهموم والأمراض.

(وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) أي ونحشره ونبعثه في الآخرة مسلوب البصر ، أو أعمى عن الجنة وطريق النجاة ، أو أعمى البصر والبصيرة ، كما قال

٢٩٨

تعالى : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا ، مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) [الإسراء ١٧ / ٩٧].

(قالَ : رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً)؟ أي قال المعرض عن دين الله : يا ربّ ، لم حشرتني أعمى ، وقد كنت مبصرا في دار الدنيا؟

فأجابه الله تعالى :

(كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا ، فَنَسِيتَها ، وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) أي مثل ذلك فعلت أنت ، فكما تركت آياتنا وأعرضت عنها ولم تنظر فيها ، تترك في العمى والعذاب في النار ، ونعاملك معاملة المنسي ، كما قال تعالى : (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) [الأعراف ٧ / ٥١] فإن الجزاء من جنس العمل.

قال ابن كثير : فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه والقيام بمقتضاه ، فليس داخلا في هذا الوعيد الخاص ، وإن كان متوعدا عليه من جهة أخرى ، فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك. أخرج الإمام أحمد عن سعد بن عبادة رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ما من رجل قرأ القرآن ، فنسيه إلا لقي الله يوم يلقاه ، وهو أجذم» (١).

(وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) أي وهكذا نجازي ونعاقب المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة ، ولعذاب الآخرة في النار أشد ألما من عذاب الدنيا ، وأدوم عليهم ، فهم مخلدون فيه. قال تعالى : (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ ، وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) [الرعد ١٣ / ٣٤].

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ١٦٩.

٢٩٩

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت قصة آدم عليه‌السلام على ما يلي :

١ ـ قد يرتكب الإنسان معصية مخالفا أمر الله في حال النسيان والسهو عن عهد الله بطاعته ، والنسيان مرفوع عنا الحرج والإثم فيه. قال ابن زيد : نسي آدم ما عهد الله إليه في ذلك اليوم ، ولو كان له عزم ما أطاع عدوه إبليس.

٢ ـ أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم سجود تحية وتشريف وتكريم ، لا سجود عبادة ، وأبى إبليس السجود مع الملائكة تكبرا واستعلاء وحسدا.

٣ ـ لا شك بأن الجنة ذات نعيم مطلق ، فلا تعب ولا عناء في الحصول على الملذات والرغبات ، ومن أهمها الشبع والكساء والري والسكن أو المأوى ، على عكس حال الدنيا التي ترتبط أصول المعايش هذه فيها بالجهد والمشقة.

٤ ـ كانت وسوسة الشيطان لآدم بالأكل من الشجرة سببا في المخالفة والإخراج من الجنة والهبوط إلى الأرض.

٥ ـ لا يجوز الحديث عن ذنوب الأنبياء إلا بالقدر المذكور في القرآن الكريم أو السنة النبوية الثابتة ، قال بعض العلماء من المالكية : إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم (أي بعض الأنبياء) ونسبها إليهم ، وعاتبهم عليها ، وأخبروا بذلك عن نفوسهم ، وتنصّلوا منها ، واستغفروا منها وتابوا ، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها ، وإن قبل ذلك آحادها ، وكل ذلك مما لا يزرى بمناصبهم ، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور ، وعلى جهة الخطأ والنسيان ، أو تأويل دعا إلى ذلك ، فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات ، وفي حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم ، وعلو أقدارهم ؛ إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس ، فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة ، مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة.

٣٠٠