التفسير المنير - ج ١٦

الدكتور وهبة الزحيلي

منزل القرآن هو أيضا مالك السموات والأرض وما بينهما من الموجودات ، ومالك كل سيء ومدبره ، ومتصرف فيه ، ومالك ما تحت التراب من شيء. فله الكون كله ملكا وتدبيرا وتصرفا.

(وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) أي إن تجهر بدعاء الله وذكره ، فالله تعالى عالم بالجهر والسر ، وما هو أخفى منه مما يخطر بالبال ، أو يجري في حديث النفس ، فالعلم بكل ذلك سواء بالنسبة لله عزوجل. والمعنى : إن تجهر بذكر الله ودعائه ، فاعلم أنه غني عن ذلك ، فإنه يعلم السر وما هو أخفى من السر.

وأما إجراء الأدعية والأذكار على اللسان ، فلمساعدة القلب على ذلك ، ولتصور المعنى ، وشغل الحواس بالمطلوب وصرفها عن التفكر في غير ذلك ، كما قال تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً ، وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) [الأعراف ٧ / ٢٠٥].

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) إن صفات الكمال المتقدمة هي لله المعبود الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه ، وله أحسن الأسماء والصفات الدالة على كل الكمال والتقديس والتمجيد ، وهي التسعة والتسعون التي ورد بها الحديث الصحيح ، والتي تقدم ذكرها في سورة الأعراف [الآية : ١١٠] وله أيضا الأفعال الصادرة عن كمال الحكمة والصواب.

وبه يتبين أن هذه الآيات وصفت منزل القرآن على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه خالق الأرض والسماء ، وأنه الرحمن صاحب النعم ، وأنه الذي استوى على العرش وصاحب التصريف في الكون ، وأن له الكون كله ملكا وتدبيرا وتصرفا ، وأنه العالم بكل شيء ، سواء عنده السر والجهر ، وأنه الله الذي لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى والصفات العليا والأفعال السديدة.

١٨١

فهل بعد إيراد هذه الصفات من يدعي أن القرآن من عند غير الله ، وهل يصح اتخاذ صنم من حجر أو خشب أو معدن شريكا لله؟

لذلك كله بادر عمر بن الخطاب في جاهليته بعقل متفتح إلى الإسلام والإيمان ، لما قرأت عليه أخته هذه الآيات.

وقد نزلت سورة طه قبل إسلام عمر رضي‌الله‌عنه.

إسلام عمر :

روى ابن إسحاق في سيرته : أن عمر قبل إسلامه كان شديد العداوة للإسلام ، وقد خرج في يوم متوشحا سيفه ، يريد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلقيه نعيم بن عبد الله. فقال : أين تريد يا عمر؟ فقال : أريد محمدا هذا الصابئ ، الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها ، وعاب دينها ، وسب آلهتها فأقتله ، فقال له نعيم : والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر ، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض ، وقد قتلت محمدا؟! أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم؟!

فقال : وأي أهل بيني؟ قال : ختنك (زوج أختك) وابن عمك سعيد بن زيد ، وأختك فاطمة بنت الخطاب ، فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه ، فعليك بهما.

قال : فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه ، وعندهما خباب بن الأرت ، معه صحيفة فيها أول سورة يقرئهما إياها ، فلما سمعوا حس عمر ، تغيب خباب في مخدع لهما ، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة ، فجعلتها تحت فخذها ، وقد سمع عمر قراءة خباب ، فلما دخل قال : ما هذه الهينمة (الكلام الخفي الذي لا يفهم) الذي سمعت؟

قالا له : ما سمعت شيئا ، قال : بلى والله ، لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على

١٨٢

دينه. وبطش بختنه سعيد بن زيد ، فقامت إليه أخته فاطمة لتكفه عن زوجها ، فضربها فشجها.

فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه : نعم ، قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله ، فاصنع ما بدا لك.

ولما رأى عمر ما صنع ، ندم وارعوى ، وقال لأخته : أعطني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤونها آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد.

فقالت له أخته : إنا نخشاك عليها ، قال لها : لا تخافي ، وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها ، فلما قال ذلك طمعت في إسلامه ، فقالت له : يا أخي ، إنك نجس على شركك ، وإنه لا يمسها إلا الطاهر.

فقام عمر واغتسل فأعطته الصحيفة وفيها طه فلما قرأ منها صدرا ، قال : ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع خباب خرج إليه ، فقال له :

يا عمر ، والله ، إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه ، فإني سمعته أمس ، وهو يقول : «اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام ، أو بعمر بن الخطاب» فالله الله يا عمر ، فقال عمر : دلني يا خباب على محمد حتى آتيه. فأسلم ورضي‌الله‌عنه.

هذا ما ذكره ابن إسحاق مطولا ، وروى القصة بإيجاز الدارقطني في سننه عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه قال : خرج عمر متقلدا بسيف ؛ فقيل له : إن ختنك وأختك قد صبوا (١) ، فأتاهما عمر وعندهما رجل من المهاجرين يقال له خباب ، وكانوا يقرءون طه فقال : أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرؤه ـ وكان عمر رضي‌الله‌عنه يقرأ الكتب ـ فقالت له أخته : إنك رجس ولا يمسه إلا

__________________

(١) يقال : صبا : خرج من دين إلى دين ، وبابه «خضع».

١٨٣

المطهرون ، فقم فاغتسل أو توضأ ، فقام عمر رضي‌الله‌عنه وتوضأ وأخذ الكتاب فقرأ طه.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ ليس إنزال القرآن العظيم لإتعاب النفوس وإضناء الأجسام ، وإنما هو كتاب تذكرة ينتفع به الذين يخشون ربهم. وفي هذا رد على كفار قريش ـ كما تقدم في سبب النزول ـ الذين قالوا : ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى ، فأنزل الله تعالى طه.

ويوضح ذلك ما قاله الكلبي : لما نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوحي بمكة ، اجتهد في العبادة ، واشتدت عبادته ، فجعل يصلي الليل كله زمانا حتى نزلت هذه الآية ، فأمره الله تعالى أن يخفف عن نفسه ، فيصلي وينام ، فنسخت هذه الآية قيام الليل ، فكان بعد هذه الآية يصلي وينام.

وهكذا لم يكن إنزال القرآن لإتعاب النفس في العبادة ، وإذاقتها المشقة الفادحة ، وإنما القرآن كتاب يسر ، وما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا بالحنيفية السمحة.

٢ ـ الله تعالى منزل القرآن هو خالق الأرض والسموات العليا ، وهو الرحمن المنعم بجلائل النعم ودقائقها الذي اعتلى عرشه ، فكان مطلق التصرف في الخلق والكون ، وله جميع ما في السموات وما في الأرض وما بينهما من الموجودات وما تحت الأرض من معادن وذخائر وأموال وغير ذلك ، والأرضون سبع والسموات سبع أيضا ، وهو العالم بكل شيء ، يستوي عنده السر والجهر وما هو أخفى من السر ، قال ابن عباس : السر : ما حدث به الإنسان غيره في خفاء ، وأخفى منه : ما أضمر في نفسه مما لم يحدث به غيره.

١٨٤

وهو سبحانه الإله الوحيد في هذا الكون ، لا إله غيره ، ولا رب سواه ، له الأسماء الحسنى التسع والتسعون ، والصفات العليا ، والأفعال الحميدة الحكيمة السديدة.

وقد وحد الله نفسه سبحانه ؛ وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا المشركين إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ، فكبر ذلك عليهم ، فلما سمعه أبو جهل يذكر الرحمن ، قال للوليد بن المغيرة : محمد ينهانا أن ندعو مع الله إلها آخر ، وهو يدعو الله والرحمن ؛ فأنزل الله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) وأنزل : (قُلِ : ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ، أَيًّا ما تَدْعُوا ، فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الإسراء ١٧ / ١١٠] وهو واحد وأسماؤه كثيرة ؛ ثم قال (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى).

قصة موسى عليه‌السلام

ـ ١ ـ

تكليم ربه إياه (أو مناجاة موسى) وابتداء الوحي إليه في

الوادي المقدس

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦))

١٨٥

الإعراب :

(إِنِّي أَنَا رَبُّكَ إِنِّي) بالكسر على الابتداء ؛ لأن النداء في معنى القول ، وإن : تكسر بعد القول ؛ لأنها في تقدير الابتداء. وتقرأ بالفتح أني لوقوع (نُودِيَ) عليها ، أي نودي يا موسى بأني ، فحذف الياء تخفيفا. و (أَنَا) تأكيد لياء المتكلم.

(طُوىً) من قرأ بتنوين ، جعله منصرفا اسما للمكان غير معدول ، كجعل وصرد ، ومن لم ينون جعله ممنوعا من الصرف إما للتأنيث والتعريف ، أو للتعريف والعدل عن طاو كعدول عمر عن عامر. وإعرابه : بدل من الوادي في كلا الوجهين.

(إِنَّنِي أَنَا اللهُ) بدل مما يوحى.

(لِذِكْرِي) إما مضاف إلى المفعول ، أي لتذكرني ، وإما مضاف إلى الفاعل ، أي لأذكرك.

(أَكادُ أُخْفِيها أُخْفِيها) إما أن الهمزة فيه همزة السلب ، أي أريد إخفاءها ، مثل : أشكيت الرجل ، إذا أزلت شكايته ، وإما أن المعنى : أكاد أخفيها عن نفسي ، فكيف أظهرها لكم. ولام (لِتُجْزى) متعلقة ب (أُخْفِيها).

(فَتَرْدى) إما منصوب جوابا للنهي بالفاء ، بتقدير (أن) مثل : (لا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ ..) [طه ٢٠ / ٨١] وإما مرفوع على تقدير : فإذا أنت تردى ، مثل (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ) [النساء ٤ / ٧٣].

البلاغة :

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى)؟ للتشويق والحث على الإصغاء ، وهو استفهام تقرير.

(لِتَشْقى يَخْشى أَخْفى تَسْعى) سجع حسن.

المفردات اللغوية :

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ) تشويق لسماع قصته بقصد التأسي به ، والحديث : ما يبلغ الإنسان من الكلام ، سواء بالسمع أو بالوحي. وهو استفهام تقرير.

(إِذْ رَأى) ظرف للحديث ؛ لأنه حدث ، أو مفعول لفعل مقدر وهو اذكر. (لِأَهْلِهِ) لامرأته. (امْكُثُوا) هنا ، والمكث : الإقامة ، قال ذلك في أثناء مسيره من مدين إلى مصر.

(آنَسْتُ) أبصرت. (آتِيكُمْ) أجيئكم. (بِقَبَسٍ) بشعلة من النار مقتبسة على رأس فتيلة أو عود وقال : (لَعَلِّي) لعدم الجزم بوفاء الوعد. (هُدىً) هاديا يدلني على الطريق ، وكان أخطأها لظلمة الليل.

١٨٦

(فَلَمَّا أَتاها) أتى النار ، وجد نارا بيضاء تتقد في شجرة خضراء. (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) أي للتواضع والأدب. (الْمُقَدَّسِ) المطهر أو المبارك ، وهو تعليل للأمر باحترام البقعة. (اخْتَرْتُكَ) اصطفيتك للنبوة من قومك. (لِما يُوحى) إليك مني ، أو للوحي ، واللام تحتمل التعلق بكل من الفعلين. (أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) دال على أن الأمر مقصور على تقرير التوحيد الذي هو منتهى العلم ، والأمر بالعبادة التي هي كمال العمل. (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) لتكون ذاكرا لي ، خصها بالذكر ، لما فيها من تذكر المعبود ، وشغل القلب واللسان بذكره ، وقيل: لذكر صلاتي ، لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي عن أنس : «من نام عن صلاة ، أو نسيها ، فليصلها إذا ذكرها» ، إن الله تعالى يقول : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي).

(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) كائنة لا محالة. (أَكادُ أُخْفِيها) أبالغ في إخفائها ولا أظهرها بأن أقول : إنها آتية ، أو أريد إخفاء وقتها عن الناس ، ويظهر لهم قربها بعلاماتها. (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) أي لتجزى فيها كل نفس بما تسعى من خير أو شر. (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها) لا يصرفنك عن الإيمان بها. (هَواهُ) ما تهواه نفسه في إنكارها. (فَتَرْدى) فتهلك إن صددت عنها.

المناسبة :

لما عظم الله تعالى حال القرآن وحال الرسول فيما كلفه به من التبليغ ، أتبع ذلك بما يقوي قلب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإبلاغ من ذكر أحوال الأنبياء عليهم‌السلام كما قال تعالى : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) [هود ١١ / ١٢٠]. وبدأ بقصة موسى ليأتم به في تحمل أعباء النبوة ، وتبليغ الرسالة ، والصبر على مقاساة الشدائد ، فإن هذه السورة من أوائل ما نزل ، وكان موسى أشد الناس صبرا على تحمل مكاره قومه. وفي سياق هذه القصة تسلية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما يلاقيه من مشاق أحكام النبوة.

التفسير والبيان :

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) أي وهل بلغك خبر موسى وقصته مع فرعون وملئه ، وكيف كان ابتداء الوحي إليه ، وتكليمه إياه؟ وبدئ بالاستفهام لتثبيت الخبر ، وتقريره في نفس المخاطب ، فذلك أسلوب مؤثر في إلقاء الكلام العربي.

١٨٧

قال المفسرون : استأذن موسى عليه‌السلام شعيبا في الرجوع إلى والدته ، فأذن له ، فخرج ، فولد له ابن في الطريق في ليلة شاتية مثلجة ، وكانت ليلة الجمعة ، وقد حاد عن الطريق ، فقدح موسى عليه‌السلام النار ، فلم تور المقدحة شيئا ، فبينا هو يزاول ذلك ، إذ نظر نارا من بعيد عن يسار الطريق ، فظن أنها نار من نيران الرعاة ، من جانب جبل الطور الواقع عن يمينه (١) ، كما قال تعالى :

(إِذْ رَأى ناراً ، فَقالَ لِأَهْلِهِ : امْكُثُوا ، إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) أي هل أتاك خبر موسى حين رأى نارا ، وكانت رؤيته للنار في ليلة مظلمة لما خرج مسافرا من مدين إلى مصر ، والصحيح كما قال الرازي أنه رأى نارا ، لا تخيل نارا ، ليكون صادقا في خبره ؛ إذ الكذب لا يجوز على الأنبياء.

فقال لزوجه وولده وخادمه مبشرا لهم : أقيموا مكانكم ، إني رأيت نارا من بعيد ، لعلني أوافيكم منها بشعلة مضيئة أو بشهاب ، أو جذوة كما في آية أخرى ، لعلكم تستدفئون (أو تصطلون) بها ، مما يدل على وجود البرد ، أو أجد عند النار من يهديني إلى الطريق ويدلني عليها ، كما قال تعالى : (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ ، لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) [القصص ٢٨ / ٢٩]. والهدى : ما يهتدى به ، وهو اسم مصدر ، فكأنه قال : أجد على النار ما أهتدي به من دليل أو علامة. ومعنى الاستعلاء على النار : أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها ، ولأن المصطلين بها إذا أحاطوا بها كانوا مشرفين عليها.

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ : يا مُوسى ، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ، فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) أي فلما أتى النار التي آنسها ، واقترب منها نودي من قبل الرب تبارك وتعالى ، كما قال: (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ

__________________

(١) تفسير الرازي ٢١ / ١٥

١٨٨

الشَّجَرَةِ : أَنْ يا مُوسى : إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [القصص ٢٨ / ٣٠]. وقال هاهنا : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) أي نودي : يا موسى ، إن الذي يكلمك ويخاطبك هو ربك ، فاخلع حذاءك ؛ لأن ذلك أبلغ في التواضع ، وأقرب إلى التشريف والتكريم ، وحسن التأدب ، إنك بالوادي المطهر المسمى (طُوىً) من أرض سيناء.

(وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) أي وأنا الله الذي اخترتك للرسالة والنبوة ، فاستمع سماع قبول واستعداد ووعي لما ينزل عليك من الوحي ، كما قال تعالى : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) [الأعراف ٧ / ١٤٤] أي على جميع الناس الموجودين في زمانك.

ثم ذكر الموحى به فقال تعالى :

(إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا ، فَاعْبُدْنِي ، وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) أي إن الذي يناديك هو الله ، وهو تأكيد لما سبق ، وهذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له. ووحدني وقم بعبادتي من غير شريك ؛ لأن اختصاص الألوهية به سبحانه موجب لتخصيصه بالعبادة ، والمعنى : أنا الإله الحق الواحد ، المستحق للعبادة دون سواي.

وأد الصلاة المفروضة على النحو الذي آمرك به ، مستكملة الأركان والشروط لتذكرني فيها وتدعوني دعاء خالصا إلي. وخص الصلاة بالذكر ، لكونها أشرف طاعة وأفضل عبادة. أو المعنى : أقم الصلاة عند تذكرك بالواجب وذكرك لي ؛ لما رواه الإمام أحمد عن أنس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها ، فليصلها إذا ذكرها ، فإن الله تعالى قال : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)» وفي الصحيحين عن أنس أيضا قال : قال رسولاللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من نام عن صلاة أو نسيها ، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها ، لا كفارة لها إلا ذلك».

وأخرج الترمذي وابن ماجه وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله

١٨٩

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها ، فإن الله قال : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)».

واقتصر الحديث على حالتي النوم أو النسيان ؛ لأن شأن المؤمن ألا يقصر في واجبه بأداء الصلاة ، فإذا تركها عمدا كان قضاؤها ألزم وأوجب ؛ إذ لا كفارة لها إلا أداؤها أو قضاؤها.

ثم أخبر عن الساعة أو مجيء يوم القيامة ومصير الخلائق بعد توحيد الله وعبادته ، باعتبارها مقر الحساب على الأعمال ، فقال :

(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) أي إن الساعة قائمة لا محالة ، وكائنة لا بد منها ، أكاد أخفيها من نفسي ، فكيف يعلمها غيري ، فاعمل لها الخير من عبادة الله والصلاة ، ولأن مجيء الساعة أمر حتم لازم لأجزي كل عامل بعمله ، ولتجزى كل نفس بما تسعى فيه من أعمالها ، كما قال تعالى : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور ٥٢ / ١٦] وقال سبحانه : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة ٩٩ / ٧ ـ ٨].

والله أخفى الساعة أي القيامة ، وأجل الإنسان ، ليعمل الإنسان بجد ونشاط ، ولا يؤخر التوبة ، ويترقب الموت كل لحظة. وكلمة (أَكادُ) أي أقارب ، وهي زائدة ، أي إن الساعة آتية أخفيها.

(فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها ، وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى) أي فلا يصرفنك يا موسى عن الإيمان بالساعة (القيامة) والتصديق بها ، والاستعداد لها من لا يصدق بها من الكفرة ، واتبع أهواءه وتصوراته المغلوطة ، بالانهماك في الملذات المحرمة الفانية ، فإنك إن تفعل ذلك تهلك.

والخطاب ليس مقصورا على موسى الرسول عليه‌السلام ، وإنما بدئ به لتعليم غيره ، فهو شامل جميع الناس البالغين العقلاء.

١٩٠

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يأتي :

١ ـ ضرورة تعلم قصص الأنبياء والاطلاع عليها للعبرة والعظة ، وقد حث القرآن على ذلك في مطلع الإخبار عن قصة موسى عليه‌السلام ، بصيغة الاستفهام الذي هو استفهام إثبات وإيجاب. ولفظ الاستفهام (وَهَلْ أَتاكَ) وإن كان لا يجوز على الله تعالى ، لأنه ليس بحاجة إليه ، لكن المقصود به كما تقدم تقرير الجواب في قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه الصيغة أبلغ في ذلك ، كما يقول المرء لصاحبه على سبيل التشويق ولفت النظر والانتباه : هل بلغك خبر كذا؟ فيتطلع السامع إلى معرفة الخبر.

٢ ـ على الزوج واجب الإنفاق على الأهل (المرأة) من غذاء وكساء ومسكن ووسائل تدفئة وقت البرد ، لذا بادر موسى عليه‌السلام إلى الذهاب في الليلة المظلمة الشاتية لإحضار شعلة نار أو جذوة (جمر من النار) للدفء ، وللحاجة الشديدة إليه ، وبخاصة حالة النفساء.

٣ ـ كان ذهاب موسى عليه‌السلام من أجل استحضار النار سببا في تكليم الله له ، وابتداء الوحي عليه ، وإيتائه النبوة والرسالة.

٤ ـ اقتضى أدب الخطاب الإلهي تكليفه بخلع نعليه ، ففعل فورا. جاء في الخبر : أن موسى عليه‌السلام خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي.

لذا وجب خلع النعال في أثناء الصلاة أو عند دخول المسجد إذا كان فيها نجاسة أو قذر ، فإن كانت طاهرة جازت الصلاة فيها ، حتى لقد قال بعض العلماء : إن الصلاة في النعلين أفضل ، وهو معنى قوله تعالى : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف ٧ / ٣١].

١٩١

وكيفية تطهير النعلين من النجاسة على التفصيل الآتي : إن تحقق فيهما نجاسة مجمعا على تنجيسها كالدم والعذرة (الغائط) من بول بني آدم لم يطهرها إلا الغسل بالماء عند مالك والشافعي وأكثر العلماء ، وإن كانت النجاسة مختلفا فيها كبول الدواب وأرواثها الرطبة ، فيطهرها المسح بالتراب عند الأوزاعي وأبي ثور ، وقال أبو حنيفة : يزيل النجاسة اليابسة الحك والفرك ، ولا يزيل الرطبة إلا الغسل ، أما البول فلا يجزئ فيه إلا الغسل. وعند المالكية قولان ، أرجحهما أن المسح يطهر ، وقال الشافعي : لا يطهر شيئا من ذلك كله إلا الماء.

٥ ـ حسن الاستماع واجب مطلوب في الأمور المهمة ، وأهمها الوحي المنزل من عند الله. وقد مدح الله من يحسن استماع كلام الله ، فقال : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ، فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ، أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) [الزمر ٣٩ / ١٨] وذم من يعرض عن الاستماع فقال : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ) الآية [الإسراء ١٧ / ٤٧] فمدح المنصت لاستماع كلام الله مع حضور العقل ، وأمر عباده بذلك أدبا لهم ، فقال : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ ، فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف ٧ / ٢٠٤] وقال هاهنا : (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) لأن بذلك ينال الفهم عن الله تعالى.

قال وهب بن منبه : من أدب الاستماع : سكون الجوارح وغض البصر ، والإصغاء بالسمع ، وحضور العقل ، والعزم على العمل ، وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى ، وهو أن يكف العبد جوارحه ، ولا يشغلها ، فيشتغل قلبه عما يسمع ، ويغض طرفه ، فلا يلهو قلبه بما يرى ، ويحصر عقله ، فلا يحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع إليه ، ويعزم على أن يفهم فيعمل بما يفهم.

٦ ـ اشتمل أول الوحي على موسى على أصلين في العقيدة وهما الإقرار بتوحيد الله ، والإيمان بالساعة (القيامة) وعلى أهم فريضة بعد الإيمان وهي الصلاة.

١٩٢

وكان إخفاء الساعة للتهويل والتخويف ، وترك المماطلة والتسويف في الإقبال على التوبة والعمل الصالح ، فإن الإنسان إذا جهل وقت الساعة كان منها على حذر وخوف. وهذا أيضا سبب إخفاء الله وقت الموت.

وإقامة الصلاة واجب في الوقت المخصص لها ، ويجب قضاؤها كما دلت الأحاديث النبوية المتقدمة في حالتي النوم والنسيان. وأما من ترك الصلاة متعمدا ، فالجمهور أيضا على وجوب القضاء عليه ، وإن كان عاصيا آثما بتأخيرها عن وقتها ، فالمتعمد آثم ، والناسي والنائم غير آثمين. وحجة الجمهور قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) [البقرة ٢ / ٤٣] ولم يفرق بين أن يكون في وقتها أو بعده ، وهو أمر يقتضي الوجوب. وأيضا فقد ثبت الأمر بقضاء النائم والناسي ، مع أنهما غير آثمين ، فالعامد أولى. ثم إن النسيان هو الترك ، قال الله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة ٩ / ٦٧] و (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [الحشر ٥٩ / ١٩] سواء كان مع ذهول أو لم يكن ؛ لأن الله تعالى لا ينسى ، وإنما معناه تركهم. وكذلك الذكر يكون بعد نسيان وبعد غيره ، قال الله تعالى لا ينسى ، وإنما معناه تركهم. وكذلك الذكر يكون بعد نسيان وبعد غيره ، قال الله تعالى في الحديث القدسي المتفق عليه عن أبي هريرة : «إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي» وهو تعالى لا ينسى ، فيكون ذكره بعد نسيان ، وإنما معناه : علمت ، فكذلك يكون معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا ذكرها» أي علمها.

وأيضا فإن ديون الآدميين إذا كانت متعلقة بوقت ، ثم جاء الوقت ، لم يسقط قضاؤها بعد وجوبها ، وهي مما يسقطها الإبراء ، فإذا شغلت الذمة بدين وجب إبراء الذمة منه ، أداء أو قضاء ، وديون الله أحق بالوفاء.

ثم إن ترك يوم من رمضان متعمدا بغير عذر يوجب القضاء ، فكذلك الصلاة (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١١ / ١٧٨.

١٩٣

ومذهب المالكية : أن من ذكر صلاة وقد حضر وقت صلاة أخرى ، بدأ بالتي نسي إذا كان خمس صلوات فأدنى ، وإن فات وقت هذه. وإن كان أكثر من ذلك بدأ بالتي حضر وقتها.

وهذا هو مذهب الحنفية إلا أنهم قالوا : الترتيب عندنا واجب في اليوم والليلة إذا كان في الوقت سعة للفائتة ولصلاة الوقت. فإن خشي فوات الوقت بدأ بها ، فإن زاد على صلاة يوم وليلة لم يجب الترتيب عندهم.

وقال الشافعي : الاختيار أن يبدأ بالفائتة ما لم يخف فوات هذه ، فإن لم يفعل وبدأ بصلاة الوقت أجزأه.

وذكر الأثرم أن الترتيب عند أحمد واجب في صلاة ستين سنة فأكثر ، وقال : لا ينبغي لأحد أن يصلي صلاة ، وهو ذاكر لما قبلها ؛ لأنها تفسد عليه.

ودليل تقديم الفائتة قبل الحاضرة : ما روي في الصحيح عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاتته العصر يوم الخندق ، حتى غربت الشمس ، فصلى العصر بعد غروب الشمس ، ثم صلى بعدها المغرب. وروى الترمذي عن ابن مسعود : أن المشركين شغلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق ، حتى ذهب من الليل ما شاء الله تعالى ، فأمر بالأذان بلالا فقام فأذن ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ثم أقام فصلى المغرب ، ثم أقام فصلى العشاء.

واختلف العلماء إذا ذكر فائتة في مضيق وقت حاضرة على ثلاثة أقوال :

ـ فذهب مالك والليث والزهري : إلى أنه يبدأ بالفائتة وإن خرج وقت الحاضرة.

وذهب الحسن البصري والشافعي وفقهاء الحديث والمحاسبي وابن وهب من المالكية : إلى أنه يبدأ بالحاضرة.

ـ وقال أشهب : يتخير فيقدم أيتهما شاء.

١٩٤

وأما من ذكر صلاة وهو في صلاة : فإن كان وراء الإمام ، فكل من قال بوجوب الترتيب ومن لم يقل به يقول : يتمادى مع الإمام حتى يكمل صلاته. ثم اختلفوا فقال أبو حنيفة وأحمد : يصلي التي ذكر ، ثم يصلي التي صلى مع الإمام ، إلا أن يكون بينهما أكثر من خمس صلوات.

وقال مالك : من ذكر صلاة وهو في صلاة قد صلى منها ركعتين ، سلم من ركعتين ، فإن كان إماما انهدمت عليه وعلى من خلفه وبطلت. ولو ذكرها في صلاة قد صلى منها ثلاث ركعات ، أضاف إليها رابعة وسلم ، وصارت نافلة غير فاسدة.

والفائتة بسبب النوم يبدأ عقب الصحو بصلاتها ، لحديث مسلم والدار قطني عن أبي قتادة : «ليس في النوم تفريط ، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى ، فمن فعل ذلك فليصلها حين يتنبه لها ، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها» والصحيح ترك العمل بإعادة الصلاة في الجملة الأخيرة ؛ لحديث الدار قطني عن عمران بن حصين : «أينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم».

ـ ٢ ـ

انقلاب عصا موسى حية (المعجزة الأولى)

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١))

١٩٥

الإعراب :

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ ما) : مبتدأ ، و (تِلْكَ) : خبره ، و (بِيَمِينِكَ) : في موضع نصب على الحال ، أي ما تلك كائنة بيمينك ، مثل : (وَسارَ بِأَهْلِهِ) أي سار غير منفرد.

(سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى سِيرَتَهَا) منصوب ب (سَنُعِيدُها) بتقدير حذف حرف جر ، أي : سنعيدها إلى سيرتها ، فحذف حرف الجر ، فاتصل الفعل به فنصبه ، أي منصوب بنزع الخافض.

البلاغة :

(قالَ : هِيَ عَصايَ ، أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها ، وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) إطناب ، وكان مقتضى الجواب : هي عصاي ، ولكنه استرسل في الجواب ، تلذذا بالخطاب.

المفردات اللغوية :

(وَما تِلْكَ)؟ استفهام يتضمن تنبيها لما يريه فيها من العجائب (يا مُوسى) تكرار لزيادة الاستئناس والتنبيه (أَتَوَكَّؤُا) أعتمد عليها في المشي إذا عييت ، أو عند الوقوف على رأس القطيع ونحو ذلك (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) وأخبط ورق الشجر بها على رؤوس غنمي ، ليسقط ، فتأكله (مَآرِبُ) منافع وحاجات أخر ، جمع مأربه ، كحمل الزاد والسقاء وطرد الهوام.

(حَيَّةٌ) ثعبان عظيم لآية أخرى ، والحية في الأصل : تطلق على الصغير والكبير والذكر والأنثى. والثعبان : العظيم من الحيات ، والجان : الصغير منها (تَسْعى) تمشي على بطنها سريعا (خُذْها) بأن يدخل يده في فمها فتعود عصا (وَلا تَخَفْ) لما رآها حية تسرع وتبتلع الحجر والشجر ، خاف وهرب منها (سِيرَتَهَا الْأُولى) أي إلى حالتها الأولى وهي كونها عصا.

المناسبة :

بعد مناجاة الله لموسى ، بدأ تعالى بذكر براهين نبوته ، لتصديق رسالته ، وأولها انقلاب العصا حية ، أي انقلاب الجماد حيوانا ، وبالعكس ، وتلك آيات باهرات ومعجزات قاهرات أحدثها الله فيها لأجله ، وليست من خواصها.

التفسير والبيان :

معجزة العصا لموسى هي البرهان الأول الخارق للعادة الدال على أنه لا يقدر

١٩٦

على مثل هذا إلا الله عزوجل ، وأنه لا يأتي به إلا نبي مرسل ، قال تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى؟) هذا السؤال عن العصا سؤال تقرير ، سأله الله تعالى لموسى عليه‌السلام وهو العليم به ، للتنبيه على كمال قدرة الله ، والتأمل بما يحدثه من خوارق العادات ، والتأكد من أنها هي عصاه الحقيقية التي يعرفها ، وأنها هي التي ستتحول حية تسعى ، وإلا فقد علم الله ما هي. والمعنى : أما هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها ، فسترى ما نصنع بها الآن؟!

فأجابه موسى بالمطلوب وزاد عليه ؛ لأنه استمتع بخطاب الله تعالى ، فقال : (قالَ : هِيَ عَصايَ) قال موسى : هي عصاي ، وبه تم المراد ، ولكن موسى عليه‌السلام ذكر فائدتين لها ، وأجمل الكلام في الجملة الثالثة ، ليسأله ربه : وما هذه المآرب.

(أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها ، وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي ، وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) هذه عصاي أعتمد عليها في حال المشي ، وأخبط بها الشجر وأهزه ليسقط منه الورق لتأكله الغنم ، ولي فيها مصالح ومنافع وحوائج أخرى غير ذلك ، كحمل الزاد والسقي وطرد السباع عن الغنم ، وغير ذلك ، فمنافع العصا كثيرة معروفة.

فأمره الله بإلقائها لتظهر المعجزة :

(قالَ : أَلْقِها يا مُوسى) قال تعالى لموسى عليه‌السلام : ألق هذه العصا التي في يدك يا موسى.

(فَأَلْقاها ، فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) فألقاها موسى على الأرض ، فإذا هي قد صارت في الحال حية عظيمة ، ثعبانا طويلا ، يتحرك حركة سريعة ، وفي آية أخرى : فإذا هي تهتز كأنها جان ، وهو أسرع الحيات حركة ، ولكنه صغير ، قال تعالى : (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ ، وَلَّى مُدْبِراً ، وَلَمْ يُعَقِّبْ) [النمل ٢٧ / ١٠] لما ظهر لها من سرعة الحركة والقوة ، لا لصغرها ، فتبين أن هذه الحية في غاية الكبر وفي غاية سرعة الحركة. وقوله (تَسْعى) تمشي وتضطرب.

١٩٧

ثم أمره تعالى بالعودة إلى مكانه ، فرجع موسى وهو شديد الخوف ، فقال :

(قالَ : خُذْها وَلا تَخَفْ ، سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) قال له ربه : خذها بيمينك ، ولا تخف منها ، سنعيدها بعد أخذك لها إلى حالتها الأولى التي تعرفها قبل ذلك.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ قوله تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) خطاب من الله تعالى لموسى وحيا ؛ لأنه قال : (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى). ولا بد للنبي في نفسه من معجزة يعلم بها صحة نبوة نفسه ، فأراه في العصا وفي نفسه ما أراه لذلك.

٢ ـ في جواب موسى في هذه الآية دليل على جواز كون الجواب على السؤال بأكثر مما سئل. جاء في الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن الأربعة وابن أبي شيبة عن أبي هريرة : سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ماء البحر للتوضؤ به ، فقال : «هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته». وسألته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امرأة عن الصغير حين رفعته إليه ، فقالت : ألهذا حج؟ قال : «نعم ، ولك أجر» أخرجه مسلم عن ابن عباس.

٣ ـ قوله تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ ..) خطاب من الله تعالى لموسى بلا واسطة ، لا يلزم منه أن يكون موسى أفضل من محمد ؛ لأن الله تعالى خاطب أيضا محمدا عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج في قوله : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم ٥٣ / ١٠] إلا أن الفرق بينهما أن الذي ذكره مع موسى عليه‌السلام أفشاه الله إلى الخلق ، والذي ذكره مع محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان سرا لم يطلع عليه أحدا من الخلق.

١٩٨

٤ ـ قال ابن عباس : إمساك العصا سنة للأنبياء وعلامة للمؤمن. وقال الحسن البصري : فيها ست خصال : سنة للأنبياء ، وزينة الصلحاء ، وسلاح على الأعداء ، وعون للضعفاء ، وغم للمنافقين ، وزيادة في الطاعات.

ومنافع العصا كثيرة ، منها اتخاذها قبلة في الصحراء ، وقد كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنزة (١) تركز له فيصلي إليها ، وكان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة ، فتوضع بين يديه ، فيصلي إليها ، وذلك ثابت في الصحيح. وفي الصحيحين : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان له مخصرة (٢).

والإجماع منعقد على أن الخطيب يخطب متوكئا على سيف أو عصا. وكان ابن مسعود صاحب عصا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنزته ؛ وكان يخطب بالقضيب ، وعلى ذلك الخلفاء وكبراء الخطباء ؛ وعادة العرب العرباء الفصحاء اللسن البلغاء : أخذ المخصرة والعصا والاعتماد عليها عند الكلام ، وفي المحافل والخطب.

٥ ـ لقد تحولت العصا الملقاة من يد موسى حية كبيرة سريعة الحركة بفعل الله عزوجل القادر على خرق العوائد ، فقلب الله أوصافها وأعراضها ، كذلك عادت الحية عصا إلى حالتها الأولى بفعل الله تعالى ، وكل ذلك كان معجزة لموسى عليه‌السلام وبرهانا حسيا قطعيا على نبوته.

وإنما أظهر الله هذه الآية لموسى ، لئلا يفزع منها إذا ألقاها عند فرعون.

وكان خوف موسى عند انقلابها لأول مرة حية ـ بعد أن علم أنه مبعوث من عند الله إلى الخلق ـ بمقتضى الطبع الإنساني الذي يخاف من الحيات لسميتها

__________________

(١) العنزة : مثل نصف الرمح أو أكبر شيئا ، وفيها سنان مثل سنان الرمح. والعنزة والحربة والنيزك والآلة بمعنى واحد.

(٢) المخصرة : ما يختصره الإنسان بيده ، فيمسكه من عصا أو عكازة أو مقرعة أو قضيب ، وقد يتكئ عليها.

١٩٩

وخطرها ؛ لأنه عليه‌السلام ما شاهد مثل ذلك قط. وعند الفزع الشديد قد يذهل الإنسان عن بعض خواصه. قال الشيخ أبو القاسم الأنصاري رحمه‌الله تعالى : وذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة ؛ لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه ، فلا يخافه البتة.

ـ ٣ ـ

اليد البيضاء (المعجزة الثانية)

(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥))

الإعراب :

(تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى) بيضاء : حال من ضمير (تَخْرُجْ) و (آيَةً) إما منصوبة على الحال بدلا من (بَيْضاءَ) أي تخرج مبينة عن قدرة الله تعالى ، وإما منصوبة بتقدير فعل ، أي آتيناك آية أخرى.

(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً لِي) في موضع نصب ظرف ل ـ (اجْعَلْ) أو صفة ل (وَزِيراً) فلما تقدم صار منصوبا على الحال.

(هارُونَ أَخِي هارُونَ) منصوب على البدل من قوله : (وَزِيراً) وهو ممنوع من الصرف للعلمية (التعريف) والعجمة ، و (أَخِي) عطف بيان ، أو بدل.

٢٠٠