التفسير المنير - ج ١٦

الدكتور وهبة الزحيلي

شبهة المشركين في إنكار البعث

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢))

الإعراب :

(جِثِيًّا) حال إن كان جمع (جاث) ، ومنصوب على المصدر إن كان مصدرا ، لا جمعا ، أي (جثوا) وأصله (جثوو) فأبدلوا منعا للاستثقال من الضمة كسرة ، وقلبوا الواو الأخيرة ياء.

(أَيُّهُمْ أَشَدُّ) بالرفع ، على رأي أكثر البصريين : في موضع نصب ب (لَنَنْزِعَنَ) والضمة ضمة بناء. وعلى رأي الكوفيين : مبتدأ مرفوع ، و (أَشَدُّ) خبره ، والضمة ضمة إعراب ، و (لَنَنْزِعَنَ) ملغى لم يعمل. ومن قرأ بالنصب أيهم نصبها ب (لَنَنْزِعَنَ) وجعلها معربة ، وهي لغة بعض العرب.

(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) : إن : بمعنى (ما) أي ما أحد منكم ، وأحد : مبتدأ ، و (مِنْكُمْ) صفته ، و (وارِدُها) خبره. ولا يجوز إعمال (إِنْ) هنا لدخول حرف الاستثناء الذي يبطل عمل (ما).

البلاغة :

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ) أي الكافر ؛ لأنه المنكر للبعث ، فهو عام أريد به الخاص.

(مِتُ) و (حَيًّا) بينهما طباق.

١٤١

(أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ) الاستفهام للإنكار والتوبيخ.

المفردات اللغوية :

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ) المنكر للبعث : أبيّ بن خلف أو الوليد بن المغيرة النازل فيه الآية. فإن الأول أخذ عظاما بالية ، ففتّها ، وقال : يزعم محمد أنّا نبعث بعد الموت. أو المراد بالإنسان : بعض الناس المعهود وهم الكفرة ، أو المراد به الجنس ، فإن المقول مقول فيما بينهم ، وإن لم يقل كلهم ، كقولك : بنو فلان قتلوا فلانا ، والقاتل واحد منهم.

(أَإِذا ما مِتُّ ، لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) من الأرض ، أو من حال الموت. وتقديم الظرف ؛ لأن المنكر وقت الحياة لأمر بعد الموت ، وهو منصوب بفعل دل عليه (أُخْرَجُ) لا به ، فإن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها ، والاستفهام بمعنى النفي ، أي لا أحيا بعد الموت. و (ما) زائدة للتأكيد ، وكذا اللام في (لَسَوْفَ) للتأكيد.

(أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ) عطف على (يَقُولُ) وهو رد على مقاله السابق. ويذكر أصله : يتذكر أي يتفكر (أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ ، وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) فيستدل بابتداء الخلق على الإعادة.

(فَوَ رَبِّكَ) قسم باسمه تعالى مضاف إلى نبيه ، تحقيقا للأمر ، وتفخيما لشأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لَنَحْشُرَنَّهُمْ) لنجمعنهم أي الكفار المنكرين للبعث (وَالشَّياطِينَ) عطف أو مفعول معه. لما روي أن الكفرة يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم ، كل مع شيطانه في سلسلة. وهذا وإن كان مخصوصا بالكفار ، ساغ نسبته إلى الجنس البشري بأسره ، فإنهم إذا حشروا ، وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين ، فقد حشروا جميعا معهم (حَوْلَ جَهَنَّمَ) من خارجها (جِثِيًّا) على الركب ، جمع جاث : وهو البارك على ركبتيه.

(شِيعَةٍ) أمة أو جماعة أو فرقة منهم شايعت دينا وتعاونت على الباطل (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) أي تكبرا وجرأة وعصيانا ومجاوزة للحد ، أي من كان أعصى وأعتى منهم ، فنطرحهم في جهنم. وفي ذكر الأشد تنبيه على أنه تعالى يعفو عن كثير من أهل العصيان. ولو خص ذلك بالكفرة ، فالمراد أنه يميز طوائفهم أعتاهم فأعتاهم ، ويطرحهم في النار ، على الترتيب ، أو يدخل كلا طبقتها التي تليق بهم.

(أَوْلى بِها) أحق بجهنم ، الأشد وغيره منهم (صِلِيًّا) أي أحق بالصلي ، وهو الدخول فيها والاحتراق ، من صلي بالنار : إذا قاس حرها. (وَإِنْ مِنْكُمْ) وما منكم أحد ، التفات إلى الإنسان (وارِدُها) مارّ بها وهي خامدة ، على الصراط الممدود عليها. وأما قوله : (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) أي عن عذابها (حَتْماً) واجبا (مَقْضِيًّا) قضي بوقوعه ، فلا ينقص وعده مطلقا.

١٤٢

سبب النزول : نزول : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ) :

قال الكلبي : نزلت في أبي بن خلف حين أخذ عظاما بالية ، يفتّها بيده ، ويقول : زعم لكم محمد أنّا نبعث بعد ما نموت.

وقال ابن عباس : نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه.

المناسبة :

بعد أن أمر سبحانه بالعبادة والمصابرة عليها ، ذكر أنها تنجيهم يوم الحشر الذي لا ريب فيه ، فإن إعادة الإنسان أهون من بدء خلقه.

وكذلك لما كان هدف السورة إثبات قدرة الله على الإحياء والإماتة ، وإثبات يوم القيامة ، ذكر هنا بعض شبهات الكفار المكذبين للبعث ، ورد عليها بالأدلة القاطعة.

وذكر أيضا ما يلقاه الكفار من الذل والعذاب ، وأردف ذلك ببيان أن جميع البشر يردون على النار ، فلا ينجو منها إلا من آمن واتقى وعمل صالحا.

التفسير والبيان :

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ : أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) أي ويقول الكافر المشرك منكر البعث متعجبا مستبعدا إعادته بعد موته : هل إذا مت وأصبحت ترابا ، سوف أخرج حيا من القبر ، وأبعث للحساب؟! وأسند الكلام لكل مشرك كافر ، وإن لم يقله إلا بعضهم ، لرضاهم بمقالته.

ونظير الآية : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ : أَإِذا كُنَّا تُراباً ، أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [الرعد ١٣ / ٥] وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً ، وَنَسِيَ خَلْقَهُ ، قالَ : مَنْ يُحْيِ

١٤٣

الْعِظامَ ، وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ : يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس ٣٦ / ٧٧ ـ ٧٩].

والدليل على إمكان الإعادة :

(أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ ، وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) أي ألا يتفكر هذا الجاحد في أول خلقه ، فقد خلقناه من العدم ، دون أن يكون شيئا موجودا ، فيستدل بالابتداء على الإعادة ، والابتداء أعجب وأغرب من الإعادة.

والمعنى : أنه تعالى قد خلق الإنسان ، ولم يكن شيئا قبل خلقه ، بل كان معدوما بالكلية ، أفلا يعيده ، وقد صار شيئا ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ، ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم ٣٠ / ٢٧]. وجاء في الحديث الصحيح : «يقول الله تعالى : كذّبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني ، وآذاني ولم يكن له أن يؤذيني ، أما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهون علي من آخره ، وأما أذاه إياي فقوله : إن لي ولدا ، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن لي كفوا أحد».

ثم هدد تعالى منكري البعث تهديدا من وجوه قائلا.

١ ـ ٢ : (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ، ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) أي أقسم الرب تبارك وتعالى بذاته الكريمة أنه لا بد أن يحشرهم جميعا وشياطينهم الذين كانوا يعبدون من دون الله ، بأن يخرجهم من قبورهم أحياء ويجمعهم إلى المحشر مع شياطينهم الذين أغووهم وأضلوهم. ثم ليحضرنهم حول جهنم بعد طول الوقوف ، جاثين قاعدين على ركبهم ، لما يصيبهم من هول الموقف وروعة الحساب ، كما قال تعالى : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) [الجاثية ٤٥ / ٢٨]. وهذا الإحضار يكون قبل إدخالهم جهنم ، ويكون على أذل صورة لقوله : (جِثِيًّا).

١٤٤

٣ ـ (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) أي لننتزعن ونأخذن من كل فرقة دينية أو طائفة من طوائف الغي والفساد أعصاهم وأعتاهم وأكثرهم تكبرا وتجاوزا لحدود الله ، وهم قادتهم ورؤساؤهم في الشر.

فهذه وجوه التهديد : أولها ـ الحشر مع الشياطين ، وثانيها ـ الإحضار قعودا حول جهنم في صورة الذليل العاجز ، وثالثها ـ تمييز البعض من البعض ، فمن كان أشدهم تمردا في كفره ، خص بعذاب أعظم ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل ١٦ / ٨٨] وقال : (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت ٢٩ / ١٣].

(ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) أي أنه تعالى أعلم بمن يستحق من العباد أن يصلى نار جهنم ، ويخلد فيها ، وبمن يستحق تضعيف العذاب ، كما قال سبحانه : (لِكُلٍّ ضِعْفٌ ، وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف ٧ / ٣٨].

ثم أخبر الله تعالى عن ورود الناس جميعا نار جهنم ، فقال :

(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ، كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) أي ما منكم من أحد من الناس إلا سوف يرد إلى النار ، والورود : هو المرور على الصراط ، كان ذلك المرور أمرا محتوما ، قد قضى سبحانه أنه لا بد من وقوعه لا محالة. وقيل : الورود : الدنو من جهنم وأن يصيروا حولها ، وهو موضع المحاسبة ، وقيل : الورود : الدخول ، لحديث : «الورود الدخول ، لا يبقى برّ ولا فاجر ، إلا دخلها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما ، كما كانت على إبراهيم». والأصح أن الورود : المرور ، للحديث التالي :

روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : يرد الناس جميعا الصراط ، وورودهم قيامهم حول النار ، ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم ، فمنهم من يمر مثل

١٤٥

البرق ، ومنهم من يمر مثل الريح ، ومنهم من يمر مثل الطير ، ومنهم من يمر كأجود الخيل ، ومنهم من يمر كأجود الإبل ، ومنهم من يمر كعدو الرجل ، حتى إن آخرهم مرا رجل نوره على موضع إبهامي قدميه ، يمر فيتكفّأ به الصراط ، والصراط دحض مزلّة (١) ، عليه حسك كحسك القتاد (٢) ، حافتاه ملائكة معهم كلاليب من نار ، يختطفون بها الناس. وهذا المروي عن ابن مسعود سمعه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وروى ابن جرير عن ابن مسعود أيضا قال : الصراط على جهنم مثل حد السيف ، فتمر الطبقة الأولى كالبرق ، والثانية كالريح ، والثالثة كأجود الخيل ، والرابعة كأجود البهائم ، ثم يمرون ، والملائكة يقولون : اللهم سلّم سلّم.

(ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ، وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) أي بعد أن مر الخلائق كلهم على الصراط والنار ، ننجي الذين اتقوا ما يوجب النار ، وهو الكفر بالله ومعاصيه ، ننجيهم من الوقوع في النار ، فيمرون على الصراط بإيمانهم وأعمالهم. ونبقي الكافرين والعصاة في النار ، جاثين على ركبهم ، لا يستطيعون الخروج ، ولا يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود ، أما العصاة من المؤمنين فيخرجون بعد العذاب على معاصيهم ، فيخرج الله من النار من قال يوما من الدهر : لا إله إلا الله ، ولم يعمل خيرا قط.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات الكريمات ما يأتي :

١ ـ يتعجب الكافر منكر البعث ويستبعد إعادته بعد موته ، ولكن لا داعي لتعجبه ، فإن الله قادر على كل شيء ، ولو تأمل قليلا لأدرك أن من خلق

__________________

(١) دحض مزلة : بمعنى واحد ، وهو الموضع الذي تزل فيه الأقدام ولا تستقر.

(٢) أي عليه شوك كشوك نبات بنجد يقال له : السعدان.

١٤٦

الإنسان من العدم ، قادر على إعادته مرة أخرى ، والإعادة أهون من ابتداء الخلق في ميزان عقل الإنسان ، أما بالنسبة لله فهما سواء عليه.

٢ ـ الحشر وجمع الخلائق للحساب أمر ثابت أيضا بعد البعث من القبور ، ويحشر كل كافر مقرونا مع شيطان في سلسلة.

٣ ـ يحضر الله الكفار جاثين على ركبهم حول جهنم ، فهم لشدة ما هم فيه من الأهوال لا يقدرون على القيام.

٤ ـ يستخرج الله من كل أمة وأهل دين باطل أعتى الناس وأعصاهم ، وهم القادة والرؤساء ، لمضاعفة العذاب عليهم.

٥ ـ الله تعالى أعلم بمن هو أحق بدخول النار ، من الإنس والجن ، وبمن يخلد فيها ، وبمن يستحق تضعيف العذاب.

٦ ـ إن ورود جميع الخلائق على النار ، أي المرور على الصراط ، لا الدخول في النار ، أمر واقع لا محالة. وقد فسر ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار والسّدّي والحسن البصري الورود بالمرور على الصراط. قال الحسن : ليس الورود الدخول ، إنما تقول : وردت البصرة ولم أدخلها ، فالورود : أن يمروا على الصراط ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) [الأنبياء ٢١ / ١٠١] قالوا : فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده منها. وقوله سبحانه بعد هذه الآية : (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) ولو وردوا جهنم لسمعوا حسيسها ، وقوله عزوجل : (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) [النمل ٢٧ / ٨٩]. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة : «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد ، تمسّه النار إلا تحلّة القسم» أي لكن تحلة القسم لا بد منها في قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) وهو الجواز على الصراط أو الرؤية أو الدخول دخول سلامة ، فلا يكون في ذلك شيء من مسيس النار.

١٤٧

٧ ـ بنجي الله المتقين ، ويخلصهم من نار جهنم ، ويترك الكافرين فيها قعودا مخلدين على الدوام. والمذهب المقبول : أن صاحب الكبيرة وإن دخلها ، فإنه يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو. وقالت المرجئة : لا يدخل ، وقالت الخوارج : يخلد. والقائلون بأن الورود الدخول ، احتجوا بهذه الآية : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ..) لأنه لم يقل : وندخل الظالمين ، وإنما قال : (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ).

قال خالد بن معدان : إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا : ألم يقل ربنا : إنا نزد النار؟ فيقال : لقد وردتموها فألفيتموها رمادا. وعقب القرطبي عليه قائلا : وهذا القول يجمع شتات الأقوال ، فإن من وردها ولم تؤذه بلهبها وحرها ، فقد أبعد عنها ، ونجّي منها. نجانا الله تعالى منها بفضله وكرمه ، وجعلنا ممن وردها ، فدخلها سالما ، وخرج منها غانما (١).

شبهة أخرى للمشركين بحسن الحال في الدنيا

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦))

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١١ / ١٣٩.

١٤٨

الإعراب :

(بَيِّناتٍ) حال.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا .. وَرِءْياً كَمْ) منصوب بأهلكنا ، أي وكم قرن أهلكنا ، فحذف (قَرْنٍ) لدلالة الكلام عليه. ورئيا يقرأ بالهمز وترك الهمز ، ويقرأ : وريئا على وزن «وريعا» بتقديم الياء على الهمزة. فمن قرأ بالهمز أتى به على الأصل لأنه من «رأيت» ومن قرأ وريا بغير همز ، أبدل من الهمزة ياء ؛ لانكسار ما قبلها ، وجاز انقلاب كل همزة ساكنة ياء إذا كان قبلها كسرة. ومن قرأ وريئا قلب اللام إلى موضع العين ، واللام ياء ، والعين همزة ، كقولهم : قسيّ. وقرئ : وزيا ، والزي معروف ، وأصله : زويّ ، إلا أنه قلبت منه الواو ياء ، لسكونها وانكسار ما قبلها.

(فَلْيَمْدُدْ) لفظه الأمر ، ومعناه الخبر ، كما يأتي لفظ الخبر ومعناه الأمر ، مثل (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ ..) أي ليرضعن. وجواب (حَتَّى إِذا رَأَوْا ..) قوله : (فَسَيَعْلَمُونَ) و (إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ) انتصب كل منهما على البدل من (ما) في قوله تعالى : (رَأَوْا ما يُوعَدُونَ).

البلاغة :

(مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) لف ونشر مرتب ، حيث رجع الأول إلى (خَيْرٌ مَقاماً) والثاني إلى (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا).

(خَيْرٌ مَقاماً) و (شَرٌّ مَكاناً) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) أي على المؤمنين والكافرين (آياتُنا) من القرآن (بَيِّناتٍ) واضحات المعاني والإعجاز (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) نحن وأنتم (خَيْرٌ مَقاماً) مكانا ومنزلا (نَدِيًّا) أي ناديا ، أي مجتمعا ومجلسا وهو مجتمع القوم يتحدثون فيه ، ومنه دار الندوة لتشاور المشركين. وهم يعنون : نحن ، فنكون خيرا منكم. والمعنى : أنهم لما سمعوا الآيات الواضحات ، وعجزوا عن معارضتها ، أخذوا في الافتخار بما لهم من حظوظ الدنيا ، والاستدلال بذلك على فضلهم وحسن مكانهم عند الله ، لقصور نظرهم على الحال ، وعلمهم بظاهر من الحياة الدنيا.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) أي كثيرا ما أهلكنا من القرون أي الأمم الماضية ، والقرن : أهل كل عصر ، وهذا رد مع التهديد (أَثاثاً) هو متاع البيت من الفرش والثياب وغيرها.

١٤٩

(وَرِءْياً) منظرا ، والمراد نضارة وحسنا ، مشتق من الرؤية ، والمعنى : فكما أهلكناهم لكفرهم ، نهلك هؤلاء.

(فَلْيَمْدُدْ) معناه الإخبار ، أي يمد ، أي يمهله بطول العمر والتمتع به ، والتمكن من التصرف في الحياة ، وهو جواب شرط : (مَنْ كانَ). (مَدًّا) أي يستدرجه في الدنيا. (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) هو غاية المد (إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ) تفصيل للموعود ، فإنه إما العذاب في الدنيا كالقتل والأسر وغلبة المسلمين عليهم ، وإما يوم القيامة وما ينالهم فيه من الخزي والنكال ودخول جهنم (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً) من الفريقين ، بأن عاينوا الأمر على عكس ما قدّروه وهو جواب الشرط (وَأَضْعَفُ جُنْداً) أنصارا أو أعوانا ، أهم وجندهم الشياطين أم المؤمنون وجندهم الملائكة؟.

(وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) يزيد المهتدين بالإيمان بما ينزل عليهم من الآيات. وهي عطف على الجملة الشرطية المحكية بعد القول : (قُلْ : مَنْ كانَ ..) كأنه لما بيّن أن إمهال الكافر وتمتيعه بالحياة الدنيا ليس لفضله ، أراد أن يبيّن أن قصور حظ المؤمن منها ، ليس لنقصه ، بل لأن الله عزوجل أراد به ما هو خير ، وعوضه منه.

(وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) الطاعات التي تبقى آثارها ، ومنها الصلوات الخمس ، وقول : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر. (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) فائدة مما متّع به الكفرة من النعم الفانية التي يفتخرون بها (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) مرجعا وعاقبة ، بخلاف أعمال الكفار. والخيرية هنا في مقابلة قولهم : أي الفريقين خير مقاما.

المناسبة :

بعد أن أقام الله تعالى الحجة على مشركي قريش المنكرين للبعث ، أتبعه مع الوعيد والتهديد بذكر شبهة أخرى لهم : هي أنهم قالوا : لو كنتم أنتم على الحق ، ونحن على الباطل ، لكان حالكم في الدنيا أحسن وأطيب من حالنا ؛ لأن الحكيم لا يليق به أن يوقع أولياءه المخلصين في العذاب والذل ، وأعداءه المعرضين عن طاعته في العز والراحة ، ولما كان الأمر بالعكس ، فإنا نحن المتمتعين بالنعمة ورفاهية العيش على الحق ، وأنتم الواقعون في الخوف والذل والفقر على الباطل!!

فرد الله عليهم بأن الكفار السابقين كانوا أحسن منكم حالا ، وأكثر مالا ،

١٥٠

وقد أهلكهم الله بعذاب الاستئصال ، فليس نعيم الدنيا قرينة على محبة الله ، ولا سوء الدنيا علامة على غضب الله.

ثم رد عليهم ردا ثانيا بقوله : (قُلْ : مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ ..) ومضمونه : لا بد أن يأتيهم عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة ، وحينئذ سيعلمون أن نعم الدنيا لا تنقذهم من ذلك العذاب.

روي أن قائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث وأشباهه من قريش ، حينما رأوا أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خشونة عيش ورثاثة ثياب ، وهم في غضارة العيش ورفعة الثياب.

التفسير والبيان :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا : أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) إذا تليت على الكفار آيات الله القرآنية واضحات الدلالة والبرهان ، مبينات المقاصد ، صدوا عن ذلك وأعرضوا وقالوا مفتخرين على المؤمنين ومحتجين على صحة ما هم عليه من الدين الباطل : أي الفريقين (المؤمنين والكافرين) خير منزلا ومسكنا ، وأكبر جاها ، وأكثر أنصارا؟ والندي : النادي والمجلس ، وهو مجتمع الرجال للحديث ومجلسهم ، والعرب تسمي المجلس النادي ، فكيف نكون على الباطل ، وأولئك الضعفاء الفقراء المختفون المستترون في دار الأرقم على الحق؟ كما أخبر تعالى عنهم في آية أخرى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا : لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ ..) [الأحقاف ٤٦ / ١١]. وهذا اغترار بظاهر الحال في الدنيا ، متوهمين أن من كان غنيا ثريا كان على الحق والصواب ، ومن كان فقيرا كان على الباطل.

فرد الله تعالى عليهم شبهتهم بقوله :

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) هذا هو الجواب الأول

١٥١

عن شبهتهم ، أي وكثيرا ما أهلكنا قبلهم من الأمم السابقة المكذبين رسلهم بكفرهم ، وكانوا أحسن من هؤلاء متاعا ومنظرا. والأثاث : المال أجمع ، من الإبل والغنم والبقر والمتاع ، أو متاع البيت خاصة من الفرش واللباس والستائر والبسط والأرائك والسرر (الأسرّة). والرئي : المنظر في تقدير الناس من جهة حسن اللباس أو حسن الأبدان وتنعمها.

والمعنى : أن مظاهر الثراء والنفوذ والكرامة لا تدل على حسن الحال عند الله ، فقد أهلك الله المترفين ، ونجى الفقراء الصالحين. وهذا تهديد ووعيد لكل من يتوهم من العوام وجهلة الأغنياء من المسلمين أن حسن حالهم في الدنيا دليل على رضا الله عنهم وحسن حالهم في الآخرة.

ثم أكد الله تعالى التهديد والوعيد وبالغ فيه ، فقال :

(قُلْ : مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) وهذا هو الجواب الثاني عن شبهة الكفار ، أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم المدعين أنهم على الحق وأنكم على الباطل : من كان في الضلالة منّا ومنكم ، ومن كان يخبط في الدنيا على هواه ، فإن الله تعالى جعل جزاءه أن يتركه في ضلالته ، ويدعه في طغيانه ، ويمهله فيما هو ، ويمدّه ويستدرجه ليزداد إثما ، حتى يلقى ربه ، وينقضي أجله.

وهذه سنة الله في استدراج الظالمين والعصاة ، يتركهم الله في ضلالهم ، بل ويزيدهم من نعم الدنيا وملذات الحياة ، إمعانا في إبقائهم على سوء حالهم الذي اتخذوه منهجا لهم ، كما قال تعالى: (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) [آل عمران ٣ / ١٧٨] وقال سبحانه : (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأنعام ٦ / ١١٠].

(حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ ، فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) أي حتى إذا شاهدوا رأي العين ما يوعدون به ، إما العذاب في الدنيا الذي يصيبهم بالقتل والأسر ، كما حصل يوم بدر ، وإما مجيء يوم

١٥٢

القيامة بغتة وما يشتمل عليه من العذاب الأخروي ، فحينئذ يعلمون من هو شر مكانا وأضعف جنودا ، على عكس ما كانوا يظنون في الدنيا من خيرية المقام وحسن الندي (المجلس) ، ويتبين لهم حقيقة الأمر ، أنهم هم شر مكانا ، لا خير مكانا ، وأضعف جندا ، لا أقوى ولا أحسن من فريق المؤمنين. وهذا رد على قولهم السابق : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا). ونظير الآية : (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَما كانَ مُنْتَصِراً) [الكهف ١٨ / ٤٣].

ولما ذكر الله تعالى إمداد أهل الضلالة في ضلالهم ، أخبر عن زيادة الهدى للمهتدين ، فقال:

(وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ، وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا) أي إن الله يزيد المهتدين إلى الإيمان توفيقا وهدى للخير ؛ لأن الخير يدعو إلى الخير.

وهذه مقابلة أو مقارنة واضحة بين المؤمنين والكافرين ، فالله يجعل جزاء المؤمنين أن يزيدهم يقينا ، كما يجعل جزاء الكافرين أن يمدهم في ضلالتهم ، كما قال تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً ، وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ، وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) [التوبة ٩ / ١٢٤ ـ ١٢٥].

وإن الطاعات المؤدية إلى السعادة الأبدية ، لا الأموال والأمتعة والأندية ، خير جزاء ، وخير مرجعا وعاقبة ، وأجدى نفعا لصاحبها.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستدل بالآيات على ما يأتي :

١ ـ إن معايير الدين ومفاهيمه الصحيحة تختلف عن تصورات الجهلة والعوام

١٥٣

من الكفار والعصاة ، فهؤلاء يرون أن الغنى وحسن الحال وكثرة أهل المجلس أو النادي دليل على خيريتهم وأفضليتهم على المؤمنين. وغرضهم إدخال الشبهة على المستضعفين وإيهامهم أن من كثر ماله فهو المحق في دينه ، وكأنهم لم يروا في الكفار فقيرا ولا في المسلمين غنيا ، ولم يعلموا أن الله تعالى نحّى أولياءه عن الاغترار بالدنيا ، وفرط الميل إليها.

٢ ـ لقد أهلك الله تعالى كثيرا من الأمم والجماعات هم أكثر متاعا وأموالا ، وأحسن منظرا لحسن لباسهم وظهور آثار النعمة على وجوههم وأجسامهم.

٣ ـ من كان والغا في الضلالة ، متأصلا في الكفر ، يتركه الله في طغيان جهله وكفره ، حتى يطول اغتراره ، فيكون ذلك أشد لعقابه ، فليعش ما شاء ، وليوسع لنفسه في العمر ، فمصيره إلى الموت والعقاب ، وهذا غاية في التهديد والوعيد.

٤ ـ ستتكشف الحقائق والأحوال يوم القيامة ، فيظهر أن الكفار شر مكانا وأسوأ منزلا ، وأضعف جندا من المؤمنين ، وهذا رد لقولهم الذي حكاه القرآن : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا).

٥ ـ يثبّت الله المؤمنين على الهدى ، ويزيدهم توفيقا ونصرة ، وينزل من الآيات ما يكون سبب زيادة اليقين مجازاة لهم.

٦ ـ الباقيات الصالحات أي أعمال الخير والطاعة المالية والبدنية أفضل عند الله ثوابا وجزاء وأكثر منفعة لأهلها ، وخير مرجعا ، فكل أحد يرد إلى عمله الذي عمله.

١٥٤

مقالة المشركين في البعث والحشر استهزاء وطعنا

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠))

الإعراب :

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ) رأيت هنا بمعنى علمت ، يتعدى إلى مفعولين ، والذي مع صلته: في موضع المفعول الأول.

(أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) في موضع المفعول الثاني.

(وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) أي نرث منه ما يقول ، فحذف حرف الجر ، فصار (نَرِثُهُ).

البلاغة :

(سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) مجاز عقلي من إسناد الشيء إلى سببه ، أي نأمر الملائكة بالكتابة.

(عَهْداً مَدًّا فَرْداً ضِدًّا عَدًّا وَفْداً وَلَداً إِدًّا) سجع رصين.

المفردات اللغوية :

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا) أي أخبر عن العاص بن وائل ، والفاء جاءت لإفادة معناها وهو التعقيب ، كأنه قال : أخبر أيضا بقصة هذا الكافر ، وأذكر حديثه عقيب حديث أولئك الذي قال فيه لخباب بن الأرت : لأوتين .. حينما قال له : تبعث بعد الموت ، في أثناء مطالبته له بمال (لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) أي فإذا بعثت جئتني فأعطيك أو أقضيك مالا وولدا (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) أي أعلمه وأن يؤتى ما قاله ، واستغني بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل ، فحذفت. من قولهم : اطلع الجبل : إذا ارتقى إلى أعلاه ، والمعنى : أظهر له علم الغيب (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) بأن يؤتى

١٥٥

ما قاله ، وقيل : عهدا : عملا صالحا ، فإن وعد الله بالثواب عليه كالعهد عليه. والمعنى : أن ما ادّعى أن يؤتاه وتألى عليه ، لا يتوصل إليه بأحد هذين الطريقين : إما علم الغيب ، وإما عهد من عالم الغيب ، فبأيهما توصل إلى ذلك؟

(كَلَّا) كلمة زجر أو ردع وتنبيه على أنه مخطئ فيما تصوّره لنفسه ، أي لا يؤتى ذلك (سَنَكْتُبُ) نأمر بكتب ، أو سنظهر له أنا كتبنا قوله. (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) سنطيل له العذاب الذي يستحقه ، أو نزيد عذابه ونضاعفه له ، لكفره وافترائه واستهزائه على الله ، ولذلك أكده بالمصدر (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) نرث منه ما يقول من المال والولد ، أي نسلبه منه بموته ، ونأخذه أخذ الوارث ، والمراد بما يقول : مدلوله ومصداقه : وهو ما أوتيه من المال والولد (وَيَأْتِينا فَرْداً) ويأتينا يوم القيامة لا يصحبه مال ولا ولد ، كان له في الدنيا ، فضلا عن أن يؤتى.

سبب النزول :

أخرج الأئمة منهم أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) والترمذي والطبراني وابن حبّان عن خبّاب بن الأرتّ قال : كنت رجلا قينا ـ حدادا ـ وكان لي على العاص بن وائل دين ، فأتيته أتقاضاه ، فقال : لا ، والله ، لا أقضيك حتى تكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقلت : لا ، والله ، لا أكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى تموت ثم تبعث ، قال : فإني إذا متّ ثم بعثت جئتني ، ولي ثمّ مال وولد ، فأعطيك ، فأنزل الله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا ..) الآية.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى الدلائل على صحة البعث ، ثم أورد شبهة المنكرين وأجاب عنها ، أورد هنا ما قالوه على سبيل الاستهزاء ، طعنا في القول بالحشر والبعث.

التفسير والبيان :

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا ، وَقالَ : لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) أي ألا أخبرك بقصة هذا الكافر الذي تجرأ على الله وقال : لأعطينّ في الآخرة مالا وولدا. وإيراد هذه القصة على سبيل التعجب للبشر.

١٥٦

ثم فنّد الله تعالى قوله بعدم اعتماده على دليل غيبي أو عهد من الله ، فقال : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) أي إن دعواه تلك تعتمد على أحد أمرين : إما علم الغيب وإما عهد من الله ، فهل اطلع على الغيب حتى يعلم أنه في الجنة ، أو أخذ العهد الموثق من الله بذلك؟ والعهد عند الله للرحمة : أن يدخل المؤمن الجنة إذا قال : لا إله إلا الله ، وعمل الصالحات. وقوله : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) إشارة إلى أن الحصول على علم الغيب أمر صعب شاق ؛ لأن الله لا يطلع على غيبه إلا من ارتضى من رسول.

ثم هدده تعالى بقوله :

(كَلَّا ، سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ ، وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا ، وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً كَلَّا) كلمة ردع وزجر لما قبلها ، وتأكيد لما بعدها ، ولم ترد في النصف الأول من القرآن. والإتيان بسين التسويف في قوله : (سَنَكْتُبُ) مع أنه يكتب من غير تأخير لمحض التهديد من المتوعد.

أي ليس الأمر على ما قال ، بل سنحفظ ما يقول ، فنجازيه به في الآخرة ، ونزيده عذابا فوق عذابه ، ونمده بالعذاب مدا في الدار الآخرة على قوله ذلك وكفره بالله في الدنيا ، مكان ما يطلبه من المدد بالمال والولد ، جزاء عمله ، ونميته فنرثه المال والولد الذي يقول : إنه يؤتاه ، ونسلبه إياه ، ويأتينا يوم القيامة فردا لا مال له ولا ولد مما كان معه في الدنيا ، لأنّا نسلبه منه ، فكيف يطمع أن نعطيه؟! وهذا كقوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ) [الأنعام ٦ / ٩٤].

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه قصة رجل آخر هو العاص بن وائل ، وهي من أعاجيب القصص التي

١٥٧

تدل على سخف الكافر ، وسذاجة تفكيره ، وتمنيه الأماني المعسولة ، وهو سيجد نقيضها تماما في عالم الآخرة.

إنه بالرغم من كفره الشديد بآيات الله ، وإنكاره البعث واستهزائه به ، يتأمل أن يعطى في الآخرة المال الوفير والولد الكثير ، وليس لديه برهان أو وثيقة على ما يقول. ومثل هذا القول يحتاج إلى أحد أمرين : إما الاطلاع على الغيب أو اتخاذ عهد موثق عند الله.

فهل علم الغيب حتى يعلم أنه في الجنة أم لا ، أم عاهد الله تعالى بالتوحيد والعمل الصالح والوعد أن يدخله الجنة؟!!

لم يكن كل ذلك ، لم يطلع على الغيب ، ولم يتخذ عند الرحمن عهدا ، وسيحفظ الله عليه قوله ، فيجازيه به في الآخرة ، وسيزيده عذابا فوق عذاب ، ويسلبه ما أعطاه في الدنيا من مال وولد ، ويأتي منفردا لا مال له ولا ولد ولا عشيرة تنصره ، ثم يزج به في نار جهنم جزاء عمله المنكر وكفره الظاهر.

الرد على عبّاد الأصنام بصيرورتهم لهم أعداء

واتخاذهم الشياطين أولياء

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧))

١٥٨

الإعراب :

(سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) عبادة : مصدر إما مضاف إلى الفاعل ، أي سيكفر المشركون بعبادتهم الأصنام ، كقوله تعالى : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام ٦ / ٢٣] وإما مضاف إلى المفعول ، أي ستكفر الأصنام بعبادة المشركين.

(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً يَوْمَ) منصوب على الظرف ، وعامله إما : (لا يَمْلِكُونَ) وإما (نَعُدُّ). و (وَفْداً) حال ، أي وافدين ، ووفد : واحدهم وافد كصحب وصاحب ، وركب وراكب ، وهو اسم جمع وليس بتكسير.

(إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً مَنِ) إما مرفوع على البدل من واو (يَمْلِكُونَ) وإما منصوب على الاستثناء المنقطع.

البلاغة :

(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً .. وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) : بين المتقين الأبرار والمجرمين الأشرار مقابلة.

(وَفْداً وِرْداً) : جناس غير تام ، لتغير الحرف الثاني.

المفردات اللغوية :

(وَاتَّخَذُوا) أي كفار مكة (مِنْ دُونِ اللهِ) الأوثان (آلِهَةً) يعبدونهم (عِزًّا) منعة وقوة ، أي ليتعززوا بهم حيث يجعلونهم شفعاء عند الله بألا يعذبوا (كَلَّا) ردع وإنكار لتعززهم بالأصنام (سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) سيجحد الآلهة عبادتهم ، ويقولون : ما عبدتمونا ، أي ينفون عبادتهم ، كما في آية أخرى : (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) [القصص ٢٨ / ٦٣] (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) [البقرة ٢ / ١٦٦]. (ضِدًّا) أعداء وأعوانا عليهم.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ) سلطانهم عليهم ، أو قيضنا لهم قرناء (تَؤُزُّهُمْ) تهيجهم إلى المعاصي وتغريهم بالتسويلات وتحبيب الشهوات. والأزّ والهز والاستفزاز : شدة الإزعاج والإغراء على المعاصي. والمراد : تعجيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أقاويل الكفر وتماديهم في الغي ، وتصميمهم على الكفر بعد وضوح الحق ، على ما نطقت به الآيات المتقدمة.

(فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) لا تطلب العجلة بهلاكهم أو تعذيبهم (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) أيام آجالهم عدا. والمعنى : لا تعجل بهلاكهم فإنه لم يبق لهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة. (نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ)

١٥٩

بإيمانهم (إِلَى الرَّحْمنِ) أي إلى دار كرامته وهي الجنة (وَفْداً) جمع وافد ، أي هم كما يفد الوافدون إلى الملوك لطلب الحوائج ، مكرّمين مبجّلين (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ) بكفرهم (وِرْداً) جمع وارد أي مشاة عطاشى مهانين ، يساقون باحتقار وإذلال كما تساق البهائم.

(لا يَمْلِكُونَ) أي الناس (عَهْداً) هو شهادة أن لا إله إلا الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، أي التبري من الحول والقوة وعدم رجاء أحد إلا الله.

المناسبة :

بعد الكلام عن الحشر والنشر والبعث ، ردّ الله تعالى على عبّاد الأصنام الذين اتخذوا أصنامهم آلهة ، ليعتزوا بها يوم القيامة ، ويكونوا لهم شفعاء وأنصارا ينقذونهم من الهلاك ، فأبان تعالى أنهم سيكونون لهم أعداء. ثم بيّن سبب الضلال وهو وسوسة الشياطين ، وطلب إلى رسوله ألا يستعجل بطلب عذاب المشركين ، فما هي إلا آجال أو أنفاس معدودة ثم يهلكون.

ثم قارن تعالى بين وفد المتقين القادمين إلى الجنة ، وورد المشركين المشاة بإهانة إلى النار.

التفسير والبيان :

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) أي عجبا لهؤلاء الكفار بآيات الله ، يتمنون على الله الأماني ، ويتألون على الله تعالى ، مع أنهم كفروا وأشركوا بالله ، واتخذوا من دون الله آلهة ، ليكونوا لهم أنصارا وأعوانا ، وشفعاء عند ربهم يقربونهم إليه.

ولكن ليس الأمر كما زعموا ولا كما طمعوا ، فقال تعالى :

(كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) أي ليس الأمر كما ظنوا وتأملوا في أنها تنقذهم من عذاب الله ، بل ستجحد يوم القيامة هذه الأصنام المتخذة آلهة عبادة الكفار لها ، يوم ينطقها الله سبحانه ؛ لأن الأصنام جمادات

١٦٠