التفسير المنير - ج ١٥

الدكتور وهبة الزحيلي

مَشْهُوداً) تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ، أو شواهد القدرة من تبدل بالظلمة الضياء ، وبالنوم اليقظة والحركة ، وبهذا تكون الآية جامعة الصلوات الخمس.

(فَتَهَجَّدْ بِهِ) فصل صلاة التهجد ، والضمير للقرآن. والتهجد : ترك الهجود أي النوم للصلاة ، أي الاستيقاظ من النوم للصلاة (نافِلَةً لَكَ) فريضة زائدة لك على الصلوات المفروضة ، أو فضيلة لك ، لاختصاص وجوبه بك ، دون أمتك (أَنْ يَبْعَثَكَ) يقيمك (رَبُّكَ) في الآخرة (مَقاماً مَحْمُوداً) يحمدك فيه الأولون والآخرون ، وهو مقام الشفاعة العظمى في فصل القضاء ؛ لما روى أبو هريرة رضي‌الله‌عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي».

(أَدْخِلْنِي) المدينة (مُدْخَلَ صِدْقٍ) إدخالا مرضيا لا أرى فيه ما أكره (وَأَخْرِجْنِي) من مكة (مُخْرَجَ صِدْقٍ) إخراجا لا ألتفت بقلبي إليه (سُلْطاناً نَصِيراً) قوة تنصرني بها على أعدائك ، والسلطان : الحجة البينة ، والنصير : الناصر والمعين (وَقُلْ) عند دخولك مكة (جاءَ الْحَقُ) الإسلام (وَزَهَقَ الْباطِلُ) ذهب أو بطل وزال ، أو اضمحل الشرك والكفر (زَهُوقاً) مضمحلا زائلا. روى الشيخان عن ابن مسعود أنه عليه الصلاة والسلام دخل مكة يوم الفتح ، وفيها ثلاث مائة وستون صنما ، فجعل يطعنها بعود في يده ، ويقول ذلك ـ أي (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) ـ حتى سقطت ، وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة ، وكان من صفر ـ نحاس ـ فقال : يا علي ، ارم به ، فصعد ، فرمى به وكسره.

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مِنَ) : لبيان الجنس وقيل : للتبعيض (ما هُوَ شِفاءٌ) من الضلالة (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) به ، والمعنى على أن (مِنَ) للبيان فإن كله كذلك : ننزل القرآن الذي فيه تقويم دينهم واستصلاح نفوسهم ، كالدواء الشافي للمرضى ، والمعنى على أن (مِنَ) للتبعيض : أن منه ما يشفي من المرض كالفاتحة وآيات الشفاء. (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) ولا يزيد الكافرين إلا خسارة ، لتكذيبهم وكفرهم به.

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ) بالصحة والسعادة على جنس الإنسان ، وقيل : الكافر (أَعْرَضَ) عن الشكر وعن ذكر الله (وَنَأى بِجانِبِهِ) لوى جانبه (عطفه) عن الطاعة وولاه ظهره متبخترا (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) من مرض أو فقر أو شدة (كانَ يَؤُساً) قنوطا من رحمة الله أو شديد اليأس من روح الله.

(قُلْ : كُلٌ) قل يا محمد : كل منا ومنكم (يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة ، فالشاكلة : الطبيعة والعادة والدين (أَهْدى سَبِيلاً) أسدّ طريقا وأقوم منهجا ، فيكافئه حسبما يستحق.

(وَيَسْئَلُونَكَ) أي اليهود (عَنِ الرُّوحِ) أي عن ماهيتها وحقيقتها وهي ما يحيى به

١٤١

البدن ، وهو اسم جنس على الظاهر (قُلِ) لهم (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي من الإبداعات الكائنة بكن من غير مادة ولا تولد من أصل ، وقيل : مما استأثره الله بعلمه ، لما روي أن اليهود قالوا لقريش : سلوه عن أصحاب الكهف ، وعن ذي القرنين ، وعن الروح ، فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبي ، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض ، فهو نبي ، فبين لهم القصتين ، وأبهم أمر الروح ، وهو مبهم في التوراة (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) بالنسبة إلى علمه تعالى ، وهو ما تستفيدونه بحواسكم.

سبب النزول :

نزول الآية (٨٠):

(وَقُلْ : رَبِّ أَدْخِلْنِي) الآية : أخرج الترمذي وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكة ، ثم أمر بالهجرة ، فنزلت عليه : (وَقُلْ : رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ، وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ...).

نزول الآية (٨٥):

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) : أخرج البخاري عن ابن مسعود قال : كنت أمشي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة ، وهو متوكئ على عسيب ، فمر بنفر من قريش ، فقال بعضهم : لو سألتموه ، فقالوا : حدّثنا عن الروح ، فقام ساعة ، ورفع رأسه ، فعرفت أنه يوحى إليه ، حتى صعد الوحي ، ثم قال : (الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).

وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال : قالت قريش لليهود : علمونا شيئا نسأل هذا الرجل ، فقالوا : سلوه عن الروح ، فسألوه ، فأنزل الله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ، قُلِ : الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) لكن حديث البخاري يدل على أن الآية مدنية ، مع أن السورة كلها مكية ، وأن سؤال قريش يدل على أنها مكية.

قال ابن كثير : يجمع بين الحديثين بتعدد النزول ، أي قد تكون نزلت عليه

١٤٢

بالمدينة مرة ثانية ، كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك ، أو أنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه ، وهي آية : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ)(١). وكذا قال الحافظ ابن حجر. قال السيوطي : أو يحمل سكوته حين سؤال اليهود على توقع مزيد بيان في ذلك ، وإلا فما في الصحيح أصح ، ويرجح ما في الصحيح بأن رواية حاضر القصة ، بخلاف ابن عباس.

والحقيقة ، كما سنذكر في سبب نزول قصة أصحاب الكهف أن النفر من قريش قدموا إلى المدينة ، واستشاروا اليهود ، كما ذكر ابن إسحاق ، وتظل الآية مكية.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى كيد الكفار واستفزازهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما كانوا يرومون به ، أمره تعالى بالإقبال على عبادة ربه ، وألا يشغل قلبه بهم. وقد تقدم القول في الإلهيات والمعاد والنبوات ، فأردف ذلك بالأمر بأشرف العبادات والطاعات بعد الإيمان ، وهي الصلاة.

ثم وعده ربه في الآخرة بالمقام المحمود وهو الشفاعة العظمى باتفاق المفسرين ، ولما أمره تعالى بإقامة الصلاة والتهجد ووعده بالمقام المحمود ، أمره بأن يدعوه بما يشمل الأمور الدينية والأخروية بقوله : (وَقُلْ : رَبِّ أَدْخِلْنِي ...) والظاهر ـ كما قال أبو حيان ـ أنه عام في جميع موارده ومصادره دنيوية وأخروية. والصدق هنا : لفظ يقتضي رفع المذامّ ، واستيعاب المدح.

ثم أبان الله تعالى أن ما أنزل عليه من القرآن فيه شفاء النفوس والقلوب من الداء الحسي والمعنوي وهو مرض الاعتقاد ، ثم عرّض بما أنعم به ، وما حواه من

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ٦٠

١٤٣

لطائف الشرائع على الإنسان ، وإعراضه عنه تكبرا ، ثم رد على اليهود والمشركين المعرضين عن الإيمان ، السائلين عن الروح تعنتا وتعجيزا.

التفسير والبيان :

يأمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية الأولى بإقامة الصلوات المكتوبات في أوقاتها ، والمعنى : أيها الرسول ، أدّ الصلاة المفروضة عليك وعلى أمتك تامة الأركان والشروط ، من بعد زوال الشمس إلى ظلمة الليل ، وذلك يشمل الصلوات الأربعة : الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء. والدلوك : ميل الشمس وزوالها عن كبد السماء ووسطها وقت الظهر. وإنما وجه الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمراد أمته أيضا لمكانة المأمور به وهو الصلاة.

(وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) أي وأقم صلاة الفجر ، وتلك هي الصلاة الخامسة. وقد أبانت السنة المتواترة من أقوال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأفعاله مقادير أوقات الصلاة بدءا وانتهاء ، على النحو المعروف اليوم.

(إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) أي إن صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل والنهار ، ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء في وقت تبادل المهام والوظائف. وسميت صلاة الصبح قرآنا وهو القراءة ؛ لأنها ركن ، كما سميت الصلاة ركوعا وسجودا وقنوتا. ويجوز أن يكون (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) حثا على طول القراءة في صلاة الفجر ، ولذلك كانت الفجر أطول الصلوات قراءة(١).

روى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) قال : «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار».

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٢٤٣

١٤٤

وجاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الصبح ، وفي صلاة العصر ، فيعرج الذين باتوا فيكم ، فيسألهم ربهم ـ وهو أعلم بهم ـ كيف تركتم عبادي؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون ، وتركناهم وهم يصلون».

وقال عبد الله بن مسعود : يجتمع الحرسان في صلاة الفجر ، فيصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء.

وقد يكون المراد بقوله (مَشْهُوداً) الترغيب في أن تؤدى هذه الصلاة بجماعة ، والمعنى كونها مشهودة بالجماعة الكثيرة ، أو شهود كمال قدرة الله تعالى ، من اختلاط الظلمة بالضوء ، والظلمة مناسبة للموت والعدم ، والضوء مناسب للحياة والوجود ، وينتقل العالم من الظلمة إلى الضوء ، ومن الموت بالمنام إلى الحياة ، ومن السكون إلى الحركة ، ومن العدم إلى الوجود (١).

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) هذا فرض آخر خاص بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو صلاة التهجد ، والمعنى : قم للصلاة في جزء من الليل وهو أول أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقيام الليل ، زيادة على الصلوات المفروضة (المكتوبة). روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل : أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال : «صلاة الليل» ولهذا أمر الله تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام الليل ، فإن التهجد : ما كان بعد نوم. وثبت عن جماعة من الصحابة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتهجد بعد نومه.

وقوله (نافِلَةً لَكَ) أي عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس ، مخصوصة بك دون الأمة ، وهي فريضة عليك خاصة ، دون غيرك ، وأما أمتك فهي لهم مندوبة أو تطوع لهم. وهذا هو الراجح. وقيل : المراد أن قيام الليل في

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢١ / ٢٨

١٤٥

حقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نافلة على الخصوص ؛ لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وأما غيره من أمته فإن النوافل تكفّر ذنوبهم. ورد ابن جرير هذا القول ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مأمورا بالاستغفار (وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) [النصر ١١٠ / ٣] وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يزيد في الاستغفار في اليوم على مائة مرة ، وكلما اشتد قرب العبد من ربه ، كلما زاد خوفه منه ، وإن كان السيد قد أمّنه ، وذلك مقام يعرفه أهله.

(عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) أي افعل هذا الذي أمرتك به ، لنقيمك يوم القيامة مقاما محمودا ، يحمدك فيه الخلائق كلهم ، وخالقهم تبارك وتعالى ، كما قال ابن كثير.

وأجمع المفسرون ـ كما ذكر الواحدي ـ على أنه مقام الشفاعة العظمى في إسقاط العقاب. وهو ـ كما ذكر ابن جرير ـ مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم القيامة للشفاعة بالناس ، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم.

وكلمة (عَسى) في كلام العرب تفيد التوقع ، وهي هنا للوجوب ؛ لأنها تفيد الإطماع ، ومن أطمع إنسانا في شيء ثم حرمه ، كان غارّا ، وهذا المعنى مستحيل على الله تعالى ، فهذه الكلمة من الكريم إطماع محقق الوقوع ، وهي من الله باتفاق المفسرين واجب.

والمقام المحمود : هو المكان المرموق ، والمركز المعلوم المعدّ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو كما بينا مقام الشفاعة التي يتخلى عنها كل نبي ورسول ، أما الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول : «أنا لها أنا لها» ، فيشفع بالخلق جميعا لتقديمهم للحساب ، وتخليصهم من وهج الشمس الشديد التي تدنو من الرؤوس ، ويتمنون الانصراف ولو إلى النار.

روى مسلم بسنده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) قال : «هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه».

١٤٦

وروى النسائي والحاكم عن حذيفة رضي‌الله‌عنه قال : «يجمع الله الناس في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، حفاة عراة كما خلقوا ، قياما لا تكلّم نفس إلا بإذنه ، فينادي : يا محمد ، فيقول : لبّيك وسعديك ، والخير في يديك ، والشر ليس إليك ، والمهديّ: من هديت ، وعبدك بين يديك ، وبك وإليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، تباركت وتعاليت ، سبحانك ربّ البيت ، فهذا هو المقام المحمود الذي ذكره الله عزوجل».

وروى البخاري عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قال حين يسمع النداء : اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته ، حلت له شفاعتي يوم القيامة».

وروى أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي بن كعب ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا كان يوم القيامة كنت إمام الأنبياء وخطيبهم ، وصاحب شفاعتهم ، غير فخر».

وبمناسبة أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالهجرة أنزل الله : (وَقُلْ : رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ...) أي وقل يا محمد داعيا : ربّ أدخلني في الدنيا والآخرة إدخالا مرضيا حسنا ، لا يكره فيه ما يكره ، يوصف صاحبه بأنه صادق في قوله وفعله ، وأخرجني إخراجا مرضيا حسنا ، مكللا بالكرامة ، آمنا من السخط ، يستحق الخارج منه أن يوصف بأنه صادق.

وهذا يشمل كل مدخل للنبي وكل مخرج كدخوله المدينة وخروجه من مكة ، ودخوله القبر وخروجه منه للبعث ، ودخوله مكة فاتحا وخروجه منها آمنا.

وخصص بعضهم الآية بأنها نزلت حين أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالهجرة ، يريد إدخال

١٤٧

المدينة والإخراج من مكة ، أو إدخاله مكة منتصرا فاتحا وإخراجه منها آمنا من المشركين.

(وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) أي واجعل لي حجة بينة تنصرني على من خالفني ، أو ملكا وعزا قويا ، ناصرا للإسلام على الكفر ، ومظهرا له عليه ، قال الحسن البصري : وعده ربه لينزعن ملك فارس وعز فارس ، وليجعلنه له ، وملك الروم وعز الروم وليجعلنه له.

وقد أنجز له وعده ، وأجيبت دعوته ، فتحقق له العصمة الشخصية : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة ٥ / ٦٧] وانتشار الإسلام وتفوقه على الأديان كلها : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [التوبة ٩ / ٣٣] وانتصار الدولة والملك : (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) [المائدة ٥ / ٥٦] (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) [النور ٢٤ / ٥٥].

وطلبه السلطة والملك ليس لشهوة السلطة وإنما لحماية حرمات الإسلام ؛ لأنه لا بد للحق من قهر لمن عاداه وناوأه ، وناصر وحام له ، لذا قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ ، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ...) الآية [الحديد ٤٧ / ٢٥] فقرن الله بين الرسالة والبيان وبين الحديد والقوة ، وفي الأثر عن عثمان : «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمتنع كثير من الناس بالقرآن وما فيه من الوعد الأكيد والتهديد الشديد ، وهذا هو الواقع.

ثم هدد كفار قريش وأوعدهم بقوله : (وَقُلْ : جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) أي وقل للمشركين : جاء الحق من الله الذي لا مرية فيه ، وهو الإسلام ، وما بعثه الله به من القرآن والإيمان ، والعلم النافع ، واضمحل وهلك الباطل وهو الشرك ،

١٤٨

فإن الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء ، كما قال تعالى : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ ، فَيَدْمَغُهُ ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) [الأنبياء ٢١ / ١٨].

(إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) أي إن الباطل كان مضمحلا لا قرار له ، غير ثابت في كل وقت.

وقد تلا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية حين كسر الأصنام ، وهو يفتح مكة.

روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد الله بن مسعود ، قال : دخل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكة ، وحول البيت ستون وثلاث مائة نصب ، فجعل يطعنها بعود في يده ، ويقول : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) ، (جاءَ الْحَقُّ ، وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) [سبأ ٣٤ / ٤٩]. وقال الحافظ أبو يعلى عن جابر بن عبد الله رضي‌الله‌عنه قال : دخلنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكة ، وحول البيت ثلاث مائة وستون صنما تعبد من دون الله ، فأمر بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأكبّت على وجوهها ، وقال : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً).

ثم أخبر الله عن كتابه الذي أنزله على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه شفاء ورحمة ، فقال : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي وننزل عليك أيها النبي قرآنا فيه شفاء ، فكل شيء نزل من القرآن فهو شفاء للمؤمنين ، يزدادون به إيمانا ، ويستصلحون به دينهم ، فهو يذهب ما في القلوب من أمراض الشك والنفاق ، والشرك والزيغ والإلحاد ، والجهل والضلالة ، فالقرآن يشفي من ذلك كله ؛ وهو أيضا رحمة لمن آمن به وصدقه واتبعه ؛ لأنه يرشد إلى الإيمان والحكمة والخير ، فيؤدي إلى دخول الجنة والنجاة من العذاب ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه الديلمي في الفردوس : «من لم يستشف بالقرآن ، فلا شفاه الله».

(وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) أي لا يزيد سماع القرآن الكافر الظالم نفسه إلا بعدا عن الإيمان وكفرا بالله ؛ لتأصل الكفر في نفسه.

١٤٩

ونظير الآية : (قُلْ : هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت ٤١ / ٤٤] وأيضا قوله سبحانه : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ، وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) [التوبة ٩ / ١٢٤ ـ ١٢٥].

قال قتادة : إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) أي لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه ، فإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين.

ثم يخبر الله تعالى عن نقص الإنسان من حيث هو ، إلا من عصمه الله فقال : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) أي وإذا أمددنا الإنسان بنعمة من مال وعافية ورزق ونصر ونال ما يريد ، أعرض عن طاعة الله وعبادته ، ونأى بجانبه ، وهذا تأكيد للإعراض ؛ لأن الإعراض : التولي بالوجه ، والنأي بالجانب : لوي الجانب وتولية الظهر ، والمراد بذلك الاستكبار والتباعد ؛ لأن ذلك عادة المتكبرين.

(وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً) أي وإذا أصابه الشر وهو المصائب والحوادث ، كان يئوسا قنوطا من رحمة الله ومن الخير بعدئذ. والآية مثل قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً ، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ ، مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ ، كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [يونس ١٠ / ١٢]. وقوله سبحانه : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ، ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ ، إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ، لَيَقُولَنَّ : ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي ، إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) [هود ١١ / ٩ ـ ١٠].

(قُلْ : كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) قل يا محمد : كل أحد يعمل على مذهبه وطريقته التي تشاكل وتشبه حاله من الهدى والضلالة.

١٥٠

(فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) أي فالله ربكم الذي ربّاكم وأوجدكم وأنعم عليكم أعلم من كل أحد بمن هو أسدّ مذهبا وأوضح طريقا واتباعا للحق ، وسيجزي كل عامل بعمله. وفي الآية تهديد ووعيد للمشركين.

والآية مثل قوله تعالى : (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ : اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ ، وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) [هود ١١ / ١٢١ ـ ١٢٢].

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ...) أي ويسألك المشركون عن حقيقة الروح التي تحيى بها الأبدان ، فقل : الروح من شأن ربي ، يحدث بتكوينه وإيجاده ، وقد استأثر بعلمه ، فلا يعلمه إلا هو ، ولا يستطيعه إلا هو ، وما أوتيتم أيها الناس من العلوم والمعارف إلا علما قليلا ، مصدره إحساس الحواس وملاحظة المرئيات ، أما ما وراء ذلك فلا قدرة لكم عليه ، ولا اطلاع لأحد على حقيقته.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ دلت آية (أَقِمِ الصَّلاةَ ...) على فرضية الصلوات الخمس المفروضة ، وعلى أوقاتها في الجملة التي فصلتها وحددتها السنة النبوية.

٢ ـ في قوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) فوائد وهي أن الصلاة لا تتم إلا بالقراءة ، ووجوب إقامة صلاة الفجر من أول طلوعه. وأبانت السنة أن تكون القراءة في هذه الصلاة أطول من القراءة في سائر الصلوات ، فالمقصود من قوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) الحث على تطويل القراءة فيها ، ووصف قرآن الفجر بأنه مشهود معناه أن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصبح خلف الإمام ، وهو دليل قوي على أن التغليس (الصلاة وقت الظلمة) أفضل ، وهذا قول مالك والشافعي.

١٥١

وقال أبو حنيفة : الأفضل الجمع بين التغليس والإسفار ، فإن فاته ذلك فالإسفار أولى من التغليس.

واجتماع ملائكة الليل والنهار في صلاة الصبح وكذا في صلاة العصر ، كما جاء في الحديث المتقدم لا يعني أن هاتين الصلاتين ليستا من صلاة الليل ولا من صلاة النهار ، كما فهم بعض العلماء ، وإنما هما من النهار ، بدليل الصيام فيه.

٣ ـ كانت صلاة التهجد (قيام الليل) مطلوبة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نافلة زيادة وكرامة له ، واختلف العلماء في تخصيص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالذّكر دون أمته ، فقال جماعة : كانت صلاة الليل فريضة واجبة عليه ؛ لقوله (نافِلَةً لَكَ) أي فريضة زائدة على الفريضة الموظفة على الأمة ، ثم نسخت ، فصارت نافلة ، أي تطوعا وزيادة على الفرائض.

وقال آخرون : صلاة الليل تطوع في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي حق أمته ، فيكون الأمر بالتنفل على جهة الندب ، ويكون الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فكل طاعة يأتي بها سوى المكتوبة تكون زيادة في الدرجات ، وأما غيره من الأمة فتطوعهم كفارات لذنوبهم ، وتدارك الخلل الذي يقع في الفرض.

٤ ـ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المقام المحمود وهو الشفاعة العظمى للناس يوم القيامة ، ولأجل ذلك

قال فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري : «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، ولا فخر» قال النقّاش : لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاث شفاعات : العامة ، وشفاعة في السبق إلى الجنة ، وشفاعة في أهل الكبائر.

وقال ابن عطية : والمشهور أنهما شفاعتان فقط : العامة ، وشفاعة في إخراج المذنبين من النار. وهذه الشفاعة الثانية ثابتة أيضا للأنبياء وللعلماء. وذكر أبو الفضل عياض خمس شفاعات : العامة ، ولإدخال قوم الجنة دون حساب ، ولإخراج عصاة الأمة من النار ، وللحيلولة دون إدخال بعض المذنبين من

١٥٢

موحّدي الأمة النار ، ولزيادة الدرجات في الجنة لأهلها.

وقال القاضي عياض : وعرف بالنقل المستفيض سؤال السلف الصالح لشفاعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورغبتهم فيها ، وعلى هذا لا يلتفت لقول من قال : إنه يكره أن تسأل الله أن يرزقك شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنها لا تكون إلا للمذنبين ، فإنها قد تكون كما قدمنا لتخفيف الحساب وزيادة الدرجات.

ومع الشفاعة لواء الحمد ، روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، وما من نبي يومئذ ، آدم فمن سواه إلا تحت لوائي».

٥ ـ وللنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المقام السامي المرضي الحسن في الدنيا والآخرة ، فيشمل كل دخول وخروج كإدخاله المدينة مهاجرا ، ومكة فاتحا ، وفي القبر مغفورا له آمنا ، وإخراجه من مكة مهاجرا ، وإخراجه من القبر للبعث مطمئنا موصوفا بالصدق.

٦ ـ ومن خصائص النبي عليه الصلاة والسلام قوة الحجة ، والسلطان والقهر والقدرة والعصمة من الناس ، فكانت له حجة بينة ظاهرة ينتصر بها على جميع من خالفه ، ورزقه الله السلطة والتفوق والنصر على أعدائه ، وأظهر دينه على الدين كله أي على الأديان والشرائع ، وعصمه من أذى الناس ومكرهم.

٧ ـ أيد الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أنزله عليه من القرآن والإيمان والحق الذي لا مرية ولا جدال فيه ، فبه جاء الحق ، وهو الإسلام والقرآن ، واضمحل الباطل وهو الشرك والشيطان.

٨ ـ في آية (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) دليل على كسر نصب المشركين والأصنام وجميع الأوثان. قال القرطبي : ويدخل بالمعنى : كسر آلة الباطل

١٥٣

وما لا يصلح إلا لمعصية الله ، كالطنابير والعيدان والمزامير التي لا معنى لها إلا اللهو بها عن ذكر الله تعالى (١).

قال ابن المنذر : وفي معنى الأصنام الصّور المتخذة من المدر (الطين المتحجر) والخشب وشبهها ، وكل ما يتخذه الناس مما لا منفعة فيه إلا اللهو المنهي عنه. ولا يجوز بيع شيء منه إلا الأصنام التي تكون من الذهب والفضة والحديد والرصاص ، إذا غيّرت عما هي عليه وصارت سبيكة أو قطعا ، فيجوز بيعها والشراء بها.

٩ ـ القرآن الكريم شفاء ورحمة للمؤمنين ، ولا يزيد سماعه الكافرين الظالمين أنفسهم إلا خسارا لتكذيبهم وزيادتهم غيظا وغضبا وحقدا وحسدا. قال قتادة : ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان ، ثم قرأ : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) الآية.

وللعلماء قولان في كونه شفاء :

أحدهما ـ أنه شفاء للقلوب : بزوال الجهل عنها وإزالة الرّيب ، وكشف غطاء القلب من مرض الجهل لفهم المعجزات والأمور الدالة على الله تعالى.

الثاني ـ شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقى والتعوذ ونحوه.

وقد أقر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فيما رواه الأئمة ـ الاستشفاء بالقرآن ، والرقية بالفاتحة بقراءتها سبع مرات على لديغ ، وإعطاء قارئها عوضا عن الرقية ثلاثين شاة. وأجاز سعيد بن المسيب ما يسمى بالنّشرة : وهي أن يكتب شيئا من أسماء الله تعالى ، أو من القرآن ، ثم يغسله بالماء ، ثم يمسح به المريض ، أو يسقيه.

وقال الإمام مالك : لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله عزوجل على

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٠ / ٣١٤

١٥٤

أعناق المرضى على وجه التبرك بها ، إذا لم يرد معلّقها بتعليقها مدافعة العين ، أي قبل أن ينزل به شيء من العين. ووافقه على ذلك جماعة من أهل العلم.

وكره بعض أهل العلم تعليق التميمة على كل حال ، قبل نزول البلاء وبعده. قال القرطبي : والقول الأول أصح في الأثر والنظر إن شاء الله تعالى.

وعلى كل حال ، إن الفاعل الحقيقي المؤثر هو الله تعالى ، أما الأدعية المأثورة ، وتلاوة آيات الشفاء ، والفاتحة والمعوذات وغير ذلك فهي من وسائل الفرج والبرء بإذن الله تعالى ، بشرط تعظيم القرآن في الصدور ، والإيمان الصادق به ، والبعد عما لا يتناسب مع تعظيم آيات الله تعالى. ولا يعني هذا الاكتفاء بالرقى عن المداواة والعلاج بالأدوية الناجعة ، فذلك كله من الوسائل التي أذن الشرع بها ، بل وأوجبها لصيانة حق الحياة. أما ما يفعله بعض العوام من إهمال علاج المريض المحموم أو المبتلى بداء خطير مثلا ، اعتمادا على مجرد التلاوة لشيء من القرآن أو التميمة ، فهذا جهل بحقائق الدين ، وإهدار لقدسية العلم الذي عظمه الله ، ورفع شأن علمائه وأتباعه.

وأما ما روي عن ابن مسعود : «إن التمائم والرقى والتّولة من الشرك ، قيل : ما التّولة؟ قال : ما تحبّبت به لزوجها» فيجوز أن يريد بما ذكره تعليق غير القرآن أشياء مأخوذة عن العرّافين والكهّان ؛ إذ الاستشفاء بالقرآن معلّقا وغير معلّق لا يكون شركا.

١٠ ـ إن هؤلاء الذين يزيدهم القرآن خسارا صفتهم الإعراض عن تدبر آيات الله والكفران لنعمه. وكذلك شأن الإنسان عموما النسيان وكفران النعم إلا من عصمه الله ، فتراه إذا كان منعما مترفا بعد عن القيام بحقوق الله عزوجل ، وإذا ناله شدة من فقر أو سقم أو بؤس يئس وقنط ؛ لأنه لا يثق بفضل الله تعالى.

١١ ـ إذا أفلس نداء العقل والقلب والوجدان ، لتعطيل الفكر والبصر

١٥٥

بآيات الله كالمشركين ، فلم يبق معهم إلا التهديد والوعيد ، وإهمال هؤلاء المعطلين عقولهم ، وتركهم يعملون على شاكلتهم من الهدى والضلال وما هو الأولى بالصواب في اعتقادهم. والله تعالى أعلم بالمؤمن والكافر وما سيحصل من كل واحد منهم. قال أبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه : قرأت القرآن من أوله إلى آخره ، فلم أر فيه آية أرجى وأحسن من قوله تبارك وتعالى : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) فإنه لا يشاكل بالعبد إلا العصيان ، ولا يشاكل بالرب إلا الغفران.

١٢ ـ سأل المشركون عن الروح الذي هو سبب الحياة ، فأجابهم القرآن جوابا مبهما يدل على أن خلق الروح من الله ، وهو أمر عظيم وشأن كبير من أمر الله تعالى ، تاركا تفصيله ، ليعرف الإنسان يقينا عجزه عن علم حقيقة نفسه ، مع العلم بوجودها ، وإذا كان الإنسان في معرفة نفسه جاهلا حقيقتها ، كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى ، وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك ومعرفة مخلوق مجاور له ، للدلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز ، وبذلك ثبت أن أكثر الماهيات والحقائق مجهولة للإنسان ، ولكن لا يلزم من كونها مجهولة نفيها.

وأما حقيقة الروح فللعلماء فيها قولان :

القول الأول للرازي وابن القيم في كتاب الروح : إن الروح جوهر بسيط مجرد ، وجسم نوراني مخالف بطبعه للجسم المحسوس ، سار فيه سريان الماء في الورد ، لا يحدث إلا بمحدث ، وهو قوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ).

والقول الثاني للغزالي وأبي القاسم الراغب الأصفهاني : الروح ليس بجسم ولا جسماني ، متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف.

١٣ ـ لم يؤت العالم كله من العلم إلا القليل ، ويظل الكثير مختصا بعلم الله تعالى ، قال القرطبي : والصحيح أن المراد بالخطاب في قوله تعالى :

١٥٦

(وَما أُوتِيتُمْ) العالم كله ، وليس المراد : السائلين فقط ، أو اليهود بجملتهم ، كما قال بعضهم.

فالله تعالى لم يطلع الناس من علمه إلا على القليل ، ولا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى. والخلاصة : أن علم الناس في علم الله قليل ، والذي يسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى ، ولم يطلعكم عليه ، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى.

إعجاز القرآن

(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩))

الإعراب :

(وَلَئِنْ شِئْنا) اللام لام القسم ، أو الموطئة للقسم ، و (لَنَذْهَبَنَ) : جوابه النائب مناب جواب الشرط ، أي إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من المصاحف والصدور.

(لَئِنِ اجْتَمَعَتِ) اللام لام القسم أو الموطئة للقسم ، وإن : حرف شرط ، وجوابه محذوف قام مقامه قوله : (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) وليس هذا جوابا للشرط ، لإثبات نون (يَأْتُونَ) وإنما هو جواب قسم مقدر هيّأته لام (لَئِنْ). والتقدير : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، فو الله لا يأتون بمثله.

(إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) الاستثناء منقطع ، أي لكن رحمة من ربك تركه ولم يذهب به ، ويجوز أن يكون متصلا.

١٥٧

المفردات اللغوية :

(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَ) أي إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من المصاحف والصدور (وَكِيلاً) يتوكل ويلتزم استرداده محفوظا مسطورا ، بعد الذهاب به (إِلَّا رَحْمَةً) استثناء متصل ، أي إلا إن نالتك رحمة الله ، فلعلها تسترده عليك ، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا بمعنى : لكن رحمة من ربك أبقيناه ، فيكون ذلك امتنانا بإبقائه بعد المنة في تنزيله (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) عظيما ، بإبقائه في حفظه ، كإرساله وإنزاله ، وكذلك بإعطائك المقام المحمود ، وغير ذلك من الفضائل.

(عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) في الفصاحة والبلاغة ، وحسن النظم ، وكمال المعنى (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) وفيهم العرب العرباء ، وأرباب البيان ، وأهل النثر والنظم. وهو جواب قسم محذوف ، دل عليه اللام الموطئة للقسم. (ظَهِيراً) معينا في تحقيق المراد. وهو رد لقولهم : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) [الأنفال ٨ / ٣١].

(صَرَّفْنا) بينا ، وكررنا ورددنا بوجوه مختلفة ، زيادة في التقرير والبيان. (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) من كل معنى هو كالمثل في غرابته ووقوعه موقعا في الأنفس أو هو صفة لمحذوف أي مثلا من جنس كل مثل ، ليتعظوا (أَكْثَرُ النَّاسِ) أهل مكة وغيرهم (إِلَّا كُفُوراً) جحودا للحق.

سبب النزول : نزول الآية (٨٨):

(قُلْ : لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ..) الآية : أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سلام بن مشكم في عامة من يهود سماهم ، فقالوا : كيف نتّبعك وقد تركت قبلتنا؟ وإن هذا الذي جئت به ، لا نراه متناسقا ، كما تناسق التوراة ، فأنزل علينا كتابا نعرفه ، وإلا جئناك بمثل ما تأتي به ، فأنزل الله : (قُلْ : لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) الآية.

المناسبة :

بعد أن امتن الله تعالى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنبوة وبإنزال وحيه عليه ، وبتنزيل القرآن شفاء للناس ، امتن عليه أيضا ببقاء القرآن محفوظا ، رحمة بالناس ، وذكّر

١٥٨

ما منحه تعالى من الدليل على نبوته الباقي بقاء الدهر ، وهو القرآن الذي عجز العالم عن الإتيان بمثله ، مع اشتماله على أصح القواعد ، وأقوم الحكم والأحكام والآداب المفيدة للدنيا والآخرة ، بل إن فصحاء اللسان الذي نزل به ، وبلغاءهم عجزوا عن الإتيان بسورة واحدة مثله ، ولو تعاون الثقلان عليه. ويحتمل اندراج الملائكة تحت لفظ (الجن) لأنه قد يطلق عليهم هذا الاسم ، كما في قوله تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) [الصافات ٣٧ / ١٥٨] وإن كان الأكثر استعماله في غير الملائكة من الأشكال الجنية المستترين عن أبصار الإنس.

التفسير والبيان :

بعد أن ذكر الله تعالى أنه ما آتى الناس من العلم إلا قليلا ، أبان أنه لو شاء أن يأخذ منهم هذا القليل لفعل ، فقال :

(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي ولو شاء ربك لذهب بهذا القليل ، وسلب هذا القرآن الذي أوحينا به إليك يا محمد من الصدور والمصاحف ، ولم نترك له أثرا ، فهو تعالى قادر على أن يمحو حفظه من القلوب ، وكتابته من الكتب.

(ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً) أي ثم لا تجد بعدئذ من تتوكل عليه وتستنصر به في رد شيء منه وإعادته محفوظا.

أخرج الحاكم والبيهقي والطبراني وسعيد بن منصور عن ابن مسعود قال : «إن هذا القرآن الذي بين أظهركم يوشك أن ينزع منكم ، قيل : كيف ينزع منا ، وقد أثبته الله في قلوبنا ، وثبتناه في مصاحفنا؟! قال : يسرى عليه في ليلة واحدة ، فينزع ما في القلوب ، ويذهب ما في المصاحف ، ويصبح الناس منه فقراء» ثم قرأ : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ).

(إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك ، ويجوز أن

١٥٩

يكون الاستثناء منقطعا ، بمعنى : ولكن رحمة من ربك تركته ولم أذهب به ، قال الرازي : وهذا امتنان من الله تعالى على جميع العلماء ببقاء القرآن بنوعين من المنة : أحدهما ـ تسهيل ذلك العلم عليهم. والثاني ـ إبقاء حفظه لهم (١).

(إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) أي إن فضل الله عليك أيها الرسول عظيم وكبير بإرسالك للناس بشيرا ونذيرا ، وبإنزال القرآن عليك وبحفظه في صدرك وفي المصاحف ، وبحفظ أتباعك ، وبسبب جعلك سيد ولد آدم ، وختم النبيين بك ، وإعطائك المقام المحمود.

والخلاصة : إن الله تعالى يذكر في هذه الآية نعمته وفضله على عبده ورسوله الكريم فيما أوحاه إليه من القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، وأما بقية النعم والأفضال فهي تبع لذلك ، فالقرآن الكريم مصدر العلوم والمعارف ، ومنبع الحضارات والثقافات التي ظهرت في ربوع المسلمين.

ثم نبه الله تعالى على شرف هذا القرآن العظيم وأهميته وخطورته ، فقال : (قُلْ : لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ..) قل يا محمد متحديا : والله لئن اجتمعت الإنس والجن كلهم ، واتفقوا وتعاونوا وتظاهروا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن المنزل ، في بلاغته ، وحسن نظمه وبيانه ، ومعانيه وأحكامه ، وفيهم العرب العاربة أرباب البيان والفصاحة ، لعجزوا عن الإتيان بمثله ، حتى ولو كان الجميع متعاونين متآزرين فيما بينهم لتلك الغاية ، فإن هذا أمر غير مستطاع ، وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثيل؟!

ثم أبان تعالى مضمون القرآن ، فقال :

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢١ / ٥٣ ـ ٥٤ ، وقال في الكشاف (٢ / ٢٤٥) : وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظا ، بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه.

١٦٠