التفسير المنير - ج ١٥

الدكتور وهبة الزحيلي

تقريع على نسبة الولد والشريك إلى الله تعالى

(أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤))

البلاغة :

(أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ)؟ الهمزة للإنكار والتوبيخ.

(لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ) وارد على سبيل الفرض والاحتمال.

المفردات اللغوية :

(أَفَأَصْفاكُمْ) اختاركم وخصكم يا أهل مكة ، والإصفاء : جعله خالصا له (إِناثاً) بنات لنفسه بزعمكم (لَتَقُولُونَ) بذلك (قَوْلاً عَظِيماً) عظيم الإنكار ، بإضافة الأولاد إليه (صَرَّفْنا) بينا (فِي هذَا الْقُرْآنِ) من الأمثال والوعد والوعيد (لِيَذَّكَّرُوا) يتعظوا ويتذكروا (وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) وما يزيدهم ذلك إلا نفورا عن الحق وقلة طمأنينة إليه ، والنفور : البعد عن الشيء.

(قُلْ) لهم أي للمشركين (لَوْ كانَ مَعَهُ) أي مع الله (لَابْتَغَوْا) طلبوا (إِلى ذِي الْعَرْشِ) أي الله (سَبِيلاً) طريقا ، وللكلام معنيان : الأول ـ هو أنا لو فرضنا وجود آلهة مع الله تعالى ، لغلب بعضهم بعضا ، والثاني ـ لو كانت هذه الأصنام كما تقولون أيها الكفار من أنها تقربكم إلى الله زلفى ، لطلبت لأنفسها أيضا قربة إلى الله تعالى ، وسبيلا إليه ، وأعدت لأنفسها المراتب العالية ، فلما لم تقدر على اتخاذ سبيل لأنفسها إلى الله ، فكيف يعقل أن تقربكم إلى الله؟!

٨١

(سُبْحانَهُ) تنزيها له (وَتَعالى) تعاظم (عَمَّا يَقُولُونَ) من الشركاء. (عُلُوًّا كَبِيراً) تعاليا متباعدا غاية البعد عما يقولون ، فإنه في أعلى مراتب الوجود ، وهو كونه واجب الوجود والبقاء لذاته ، وأما اتخاذ الولد فمن أدنى مراتبه ، فإنه من خواص ما يمتنع بقاؤه.

(تُسَبِّحُ لَهُ) تنزهه (وَإِنْ) ما (مِنْ شَيْءٍ) من المخلوقات (إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) إلا ينزهه تنزيها مقترنا بحمده ، فيقول : سبحان الله وبحمده (لا تَفْقَهُونَ) لا تفهمون (تَسْبِيحَهُمْ) لأنه ليس بلغتكم (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وشرككم ، غفورا لمن تاب منكم.

المناسبة :

بعد أن حذر الله تعالى من الشرك ، نبّه إلى جهل من أثبت لله شريكا ، وندّد بالمشركين وقرّع الذين أثبتوا لله ولدا ، وجعلوا البنين لأنفسهم ، مع علمهم بعجزهم ونقصهم ، ونسبوا البنات لله ، مع علمهم بأن الله تعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له ، والجلال الذي لا غاية له ، مما يدل على نهاية جهلهم.

ثم أبان أنه ضرب في القرآن الأمثال للناس ليتدبروا ويتأملوا فيها ، وذكر أنه لو كانت هذه الأصنام تقرب إلى الله زلفى ، لطلبت لنفسها القربة إلى الله ، ولكنها لم تفعل ذلك ، فبان خطؤهم في ادعائهم أن الملائكة بنات الله ، وتبين إبطال تعدد الآلهة ، وإثبات الوحدانية لله ، والتنزيه له ، لأن كل ما في الكون تدل أحواله على توحيد الله وتقديسه وعزته ، ولكنكم بسبب الجهل والغفلة لا تدركون دلالة تلك الأدلة.

التفسير والبيان :

بعد أن فند الله تعالى زعم من نسب لله شريكا ، شنع هنا على من نسب له الولد ، وردّ الله تعالى في هذه الآية على المشركين الذين جعلوا الملائكة إناثا ، ثم ادعوا أنهن بنات الله ، ثم عبدوهن ، مقرعا لهم ومنكرا عليهم ، ومبينا خطأهم العظيم قائلا : أيكرمكم ربكم فيخصكم بالذكور من الأولاد ، ويختار لنفسه على

٨٢

زعمكم البنات ، وأنتم تئدوهن ولا ترضونهن لأنفسكم. ثم يشدد الإنكار عليهم قائلا : إنكم في زعمكم أن لله ولدا ، وهو من الإناث اللاتي تأنفون أن يكن لكم ، لتفترون على الله الكذب ، وتقولون على الله قولا عظيما إثمه ، موجبا العذاب عليكم ، منافيا لأبسط مبادئ العقول بنسبة الضعيف للقوي ، والقوي للضعيف. (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) [النجم ٥٣ / ٢٢] أي جائرة.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَقالُوا : اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً ، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا ، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا ، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً ، وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً ، لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [مريم ١٩ / ٨٨ ـ ٩٥].

ثم نبّه الله تعالى إلى كون هذه المناقشة وذلك الكلام غاية في الوضوح بقوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا ...) أي ولقد بينا في هذا القرآن الحجج والبينات والمواعظ ، وأوضحنا الأمثال لهم ، وحذرنا وأنذرنا ليتعظوا وينزجروا عما هم فيه من الشرك والظلم والإفك ، وهم مع ذلك ما يزيدهم التذكير إلا نفورا عن الحق وبعدا عنه.

ثم رد الله تعالى على المشركين الذين يتخذون شريكا لله ، فقال :

(قُلْ : لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ ...) قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يزعمون أن لله شريكا من خلقه ، ويتخذون مع الله إلها آخر : لو كان الأمر كما تقولون ، وأن الله معه آلهة تعبد لتقرب إليه ، وتشفع لديه ، لكان أولئك المعبودون المتخذون آلهة يعبدونه ، ويتقربون إليه ، ويبتغون إليه الوسيلة والقربة بعبادتهم ، فاعبدوه أنتم وحده ، كما يعبده من تدعونه من دونه ، ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه ، فإنه تعالى لا يحب ذلك ولا يرضاه ، بل يكرهه ويأباه ، وقد نهى عن ذلك على ألسنة أنبيائه ورسله ، ثم نزه نفسه الكريمة عن ذلك فقال :

٨٣

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) أي تنزه الله تعالى عما لا يليق به ، وتعالى ، أي ارتفع وعلا عما يقول هؤلاء المشركون المعتدون الظالمون في زعمهم أن معه آلهة أخرى ، تعاليا كبيرا ، بل هو الله الأحد الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد.

وفي وصف العلو بالكبر إشارة إلى وجود التغاير المطلق بين ذاته وصفاته تعالى ، وبين نسبة الصاحبة والولد والشركاء والأضداد والأنداد إليه ، لوجود المنافاة بين القديم والمحدث ، وبين الغني والمحتاج ، منافاة لا يتصور الزيادة عليها ، كما قال تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا ، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) [مريم ١٩ / ٩٠ ـ ٩١].

ثم أبان الله تعالى مبلغ عظمته فقال : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ ...) أي تقدسه وتنزهه السموات السبع والأرض ومن فيهن من المخلوقات عما يقول هؤلاء المشركون ، وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وألوهيته ، وما من شيء من المخلوقات (الحيوانات والجمادات والنباتات) إلا يسبح بحمد الله تعالى ، أي يشهد ويدل بخلقه من غيره على وجوب وجود الله تعالى الخالق لكل الأكوان ، فالتسبيح من الناس هو قولهم : سبحان الله ، وهذا حقيقة ، ومن الجمادات وغيرها : معناه الدلالة على تنزيه الله تعالى ، وهذا مجاز. وقال بعضهم : إنه حقيقة أيضا.

(وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) أي ولكن لا تفهمون أيها البشر تسبيحهم ، لأنه بخلاف لغاتكم ، كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال : كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. وقال قتادة : كل شيء فيه روح يسبح ، من شجر أو غيره.

(إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) إنه تعالى كان وما يزال حليما لا يعاجل بالعقوبة من عصاه ، وإنما يمهل ويؤجل ، ويغفر لمن تاب منكم.

٨٤

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن نسبة الملائكة بجعلها بنات الله افتراء كبير وقول عظيم الإثم عند الله عزوجل. وهذا تنديد بقول بعض العرب الذين قالوا : الملائكة بنات الله.

٢ ـ بالرغم من بيان القرآن الشافي للحجج والبينات الدالة على توحيد الله ووحدانيته المطلقة ، والاتعاظ بما فيها ، فإن المشركين المعاندين الظالمين لا يزدادون بعد هذا البيان إلا التباعد عن الحق ، والغفلة عن النظر والاعتبار ، لسوء نظرهم وخلل تفكيرهم ، واعتقادهم في القرآن أنه حيلة وسحر ، وكهانة وشعر.

٣ ـ لو كان هناك آلهة شفعاء مع الله كما يزعم المشركون ، لكانت هذه الآلهة بحاجة إلى التقرب إلى الله ، بالعبادة والتعظيم ، لتجعل لنفسها مكانة عند الله ، وتلتمس الزّلفة عنده ، لأنهم دونه ، والمشركون اعتقدوا أن الأصنام تقرّبهم إلى الله زلفى ، فإذا اعتقدوا في الأصنام أنها محتاجة إلى الله سبحانه وتعالى ، فقد بطل أنها آلهة ، وكان الأحرى بعبدتها أن يعبدوا الإله الحقيقي وهو الله جل جلاله.

وهذا ردّ على عباد الأصنام ، كما أن الآية الأولى ردّ على الذين يجعلون الملائكة بنات الله.

٤ ـ ما من مخلوق في السموات والأرض إلا يسبح بحمد الله تعالى ، وتسبيح البشر العقلاء هو حقيقة بأن يقولوا : سبحان الله أي تنزيها لله تعالى وتمجيدا وتقديسا ، وتسبيح غير البشر مجاز ، والمراد به تسبيح الدلالة أي دلالة هذه المخلوقات بذاتها على وجود الإله الخالق ، فكل محدث يشهد على نفسه بأن الله عزوجل خالق قادر. وقالت طائفة : هذا التسبيح أيضا حقيقة ، وكل شيء بصفة

٨٥

عامة يسبح تسبيحا لا يسمعه البشر ولا يفقهه ، لأن الآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يفقه. وثبت في السنة أنه يخفف على الأموات بالأشجار في حديث الصحيحين عن ابن عباس مرفوعا المتضمن تعذيب صاحبي القبرين بسبب عدم الاستنزاه من البول والنميمة. قال القرطبي : وإذا خفف عنهم بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن؟! فالثابت أنه يصل إلى الميت ثواب ما يهدى إليه. وهو رأي المذاهب الأربعة.

أخرج أحمد وابن مردويه عن ابن عمر : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن نوحا عليه‌السلام لما حضرته الوفاة قال لابنيه : آمر كما بسبحان الله وبحمده ، فإنها صلاة كل شيء ، وبها يرزق كل شيء».

والخلاصة :

إن الرازي وجماعة يرون أن تسبيح الجمادات مجاز وهو تسبيح الدلالة ، وأن القرطبي وآخرين يرون أن كل شيء من الموجودات على الصحيح يسبح ، للأخبار الدالة عليه ، ولو كان ذلك التسبيح تسبيح دلالة فأي تخصيص لداود؟ كما حكى القرآن : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) [ص ٣٨ / ١٧ ـ ١٨] وإنما ذلك تسبيح المقال بخلق الحياة والإنطاق بالتسبيح ، وقد نصت السنة على ما دلّ عليه ظاهر القرآن من تسبيح كل شيء ، فالقول به أولى. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه ابن ماجه ومالك عن أبي سعيد الخدري ـ : «لا يسمع صوت المؤذن جنّ ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة».

٥ ـ من صفات الله السامية أنه حليم عن ذنوب عباده في الدنيا ، غفور للمؤمنين في الآخرة إذا تابوا وأنابوا إليه ، وحلمه أنه لا يعاجل المشركين بالعقوبة على غفلتهم وسوء نظرهم وجهلهم بالتسبيح والشرك.

٨٦

حماية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أذى المشركين إذا قرأ القرآن

(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨))

الإعراب :

(حِجاباً مَسْتُوراً) أي ذا ستر ، على النّسب ، مثل : امرأة حائض وطالق وطامث أي ذات حيض وطمث وطلاق ، أو بمعنى ساتر ، فيجيء مفعول بمعنى فاعل ، كما يجيء فاعل بمعنى مفعول ، مثل : سرّ كاتم ، وماء دافق ، أي سر مكتوم ، وماء مدفوق. (وَحْدَهُ) مصدر وقع موقع الحال ، أي واحدا.

(وَإِذْ هُمْ نَجْوى) إما جمع نجيّ ، كجريح وجرحى ، وقتيل وقتلى ، وإما مصدر ، مثل قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) [المجادلة ٥٨ / ٧].

(إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِذْ) بدل من (إِذْ) قبله.

المفردات اللغوية :

(حِجاباً) وحجبا : أي منعا من الوصول إلى الشيء ، والمراد : حاجبا. (مَسْتُوراً) أي ساترا لك عنهم ، فلا يرونك. (أَكِنَّةً) أغطية ، جمع كنان. (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي منعناهم أن يفهموه ، أو كراهة أن يفهموه. (وَقْراً) ثقلا وصمما يمنعهم عن استماعه استماع تأمل في لفظه ، وتدبر في معناه. (وَحْدَهُ) واحدا غير مشفوع به آلهتهم ، قال الزمخشري : وحد يحد وحدا وحدة نحو وعد يعد وعدا وعدة ، ووحده هنا : مصدر سادّ مسدّ الحال ، أصله : يحد وحده بمعنى واحدا وحده.

٨٧

(بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ) بسببه من الهزء. (إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) إلى قراءتك. (نَجْوى) يتناجون بينهم ، أي يتحدثون. (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ) في تناجيهم. (إِنْ) ما تتبعون. (مَسْحُوراً) مخبول العقل ، كقولهم : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) [المؤمنون ٢٣ / ٢٥]. (كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) بالمسحور والكاهن والشاعر. (فَضَلُّوا) جاروا عن طريق الهدى. (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) طريقا إليه.

سبب النزول :

نزول الآية (٤٥):

(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) الآية : أخرج ابن المنذر عن ابن شهاب الزهري قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا تلا القرآن على مشركي قريش ، ودعاهم إلى الكتاب قالوا يهزؤون به : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت ٤١ / ٥] ، فأنزل الله في ذلك من قولهم : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) الآيات.

وروى ابن عباس : أن أبا سفيان ، والنضر بن الحارث ، وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويستمعون إلى حديثه ، فقال النضر يوما : ما أدري ما يقول محمد ، غير أني أرى شفتيه تتحرك بشيء ، وقال أبو سفيان : إني لأرى بعض ما يقوله حقا ، وقال أبو جهل : هو مجنون ، وقال أبو لهب : هو كاهن ، وقال حويطب بن عبد العزّى : هو شاعر ، فنزلت هذه الآية.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراد تلاوة القرآن ، قرأ قبلها ثلاث آيات ، وهي قوله في سورة الكهف : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ، وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) [٥٧] وفي النحل : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [١٠٨] وفي حم الجاثية : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [٢٣] إلى آخر الآية ، فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين(١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٠ / ٢٢١

٨٨

فهذه الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قرأ القرآن على الناس. روي أنه عليه الصلاة والسلام كان كلما قرأ القرآن ، قام عن يمينه رجلان ، وعن يساره آخران من ولد قصي يصفّقون ويصفرون ، ويخلّطون عليه بالأشعار.

نزول الآية (٤٦):

(وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ) : قيل : دخل ملأ قريش على أبي طالب يزورونه ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقرأ ، ومرّ بالتوحيد ، ثم قال : يا معشر قريش ، قولوا : لا إله إلا الله ، تملكون بها العرب ، وتدين لكم العجم ، فولّوا ، فنزلت هذه الآية.

قال أبو حيان : والظاهر أن الآية في حال الفارّين عند وقت قراءته القرآن ، ومروره بتوحيد الله تعالى ، والمعنى : إذا جاءت مواضع التوحيد ، فرّ الكفار إنكارا له ، واستبشاعا لرفض آلهتهم ، واطراحها (١).

المناسبة :

بعد أن تكلّم الله تعالى في المسائل الإلهية ، وجادل المشركين بضرب الأمثال لهم ، تكلّم في هذه الآية فيما يتعلّق بتقرير النّبوة ، والنّعي عليهم بعدم فهمهم للقرآن ونفورهم منه وهزئهم به ، وإيذائهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واتّهامهم له بأنه كاهن أو ساحر أو مجنون أو شاعر.

التفسير والبيان :

وإذا قرأت يا محمد القرآن على هؤلاء المشركين الذين لا يصدقون بالبعث ولا بالثواب والعقاب ، جعلنا بينك وبينهم حجابا مستورا ، أي حائلا مانعا يمنع

__________________

(١) البحر المحيط : ٦ / ٤٢.

٨٩

قلوبهم عن فهم معاني القرآن وتدبر آياته ، وجعلنا على قلوبهم أغطية بحيث لا يتسرّب إليها فهم مدارك القرآن ومعرفة أحكامه وأسراره وغاياته ، وفي آذانهم ما يمنع من سماع صوته. فمعنى قوله تعالى : (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي لئلا يفهموا القرآن ، والوقر : هو الثقل الذي يمنع من سماع القرآن سماع انتفاع واهتداء به.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَقالُوا : قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت ٤١ / ٥].

والحجاب المستور أي الساتر ، فهو يستر البصائر عن أن تبصر حقائق الأشياء ، ومعنى جعل الأكنة على القلوب : أي جعل القلوب في الأكنّة ، والأكنّة جمع كنان : الذي يغشى القلب ، فصار التغليف والحيلولة دون الفهم من الظاهر والباطن والأعلى والأسفل ، وأوصد الله الآذان وصمّها عن السّماع سماع وعي وفهم وتدبّر ، فهم كانوا عقلاء سامعين فاهمين ، والمراد بالآية منعهم عن الإيمان ، ومنعهم عن سماع القرآن بحيث لا يقفون على أسراره ، ولا يفهمون دقائقه وحقائقه ، وذلك لتأصّل الشرك في نفوسهم ، وعدم إعمال أفكارهم في حقائق الدّين.

وقد تقدّم ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا قرأ القرآن ، قام عن يمينه رجلان وعن يساره آخران من ولد قصيّ يصفّقون ، ويصفرون ، ويخلّطون عليه بالأشعار.

(وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ ..) أي وإذا وحّدت الله في تلاوتك وقلت : لا إله إلا الله ، ولم تقل : واللّات والعزّى ، ولّوا أي أدبروا راجعين على أدبارهم نافرين نفورا ، تكبّرا من ذكر الله وحده ، كما قال تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) [الزّمر ٣٩ / ٤٥] وذلك لأنهم مشركون ، فإذا سمعوا بالتّوحيد نفروا.

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ ..) نحن يا محمد أعلم بالنّحو الذي يستمعون به

٩٠

حين يستمعون إليك هزءا وسخرية وتكذيبا ، وأعرف بما يتناجى به رؤساء كفار قريش ، ويتسارّون ، حين جاؤوا يستمعون قراءتك سرّا قائلين : إنك رجل مسحور ، أو مجنون ، أو كاهن ، لذا قال تعالى :

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ ..) أي تأمل يا محمد كيف مثّلوا لك الأمثال ، وأعطوك الأشباه ، فقالوا : هو مسحور ، وهو شاعر مجنون ، فحادوا عن سواء السّبيل ، ولم يهتدوا إلى الحقّ لضلالهم ، ولم يجدوا إليه مخلصا يتخلّصون من متاهة ما هم فيه من الضّياع. وهذا وعيد لهم وإيناس لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ الثّابت الذي دلّ عليه القرآن والسّيرة أن الله تعالى حجب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أبصار كفار قريش عند قراءة القرآن ، فكانوا يمرّون به ولا يرونه.

٢ ـ حجب الله القرآن عن أبصار المشركين وعقولهم وأفهامهم ، وجعل على قلوبهم أغطية لئلا يفقهوه أو كراهية أن يفقهوه ، أي أن يفهموا ما فيه من الأوامر والنّواهي ، والحكم والمعاني ، وجعل أيضا في آذانهم وقرا أي صمما وثقلا أن يسمعوه ، وإذا ذكر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربه عند تلاوة القرآن فقال : لا إله إلا الله وحده ، ولّى المشركون نافرين نفورا من سماع كلمة الحقّ والتّوحيد.

٣ ـ الله تعالى أعلم بالنّحو الذي يستمع فيه المشركون إلى القرآن حين يقول الظالمون منهم كأبي جهل والوليد بن المغيرة وأمثالهما للناس لتنفيرهم عن النّبي : ما تتبعون إلا رجلا مسحورا ، قد خبله السّحر ، فاختلط عليه أمره ، يقولون بينهم متناجين : هو ساحر وهو مسحور ، بعد أن قرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التّوحيد ، وقال : «قولوا : لا إله إلا الله لتطيعكم العرب ، وتدين لكم العجم» فأبوا.

٩١

٧ ـ تعجيب من الله لرسوله من صنع المشركين كيف يقولون تارة : ساحر ، وتارة مجنون ، وتارة شاعر ، فضلوا الطريق ، فأصبحوا لا يستطيعون حيلة في صدّ النّاس عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وضلّوا عن الحقّ ، فلا يجدون سبيلا إلى الهدى.

إنكار المشركين البعث والرّد عليهم

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢))

الإعراب :

(أَإِذا كُنَّا عِظاماً) عامل (إِذا) مقدّر ، أي أإذا كنّا عظاما ورفاتا بعثنا؟ ولا يجوز أن يعمل فيه (لَمَبْعُوثُونَ) لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها. (أَوْ خَلْقاً) مصدر أو حال أي بعثا جديدا.

(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) : (يَوْمَ) منصوب بفعل مقدر ، تقديره : اذكروا يوم يدعوكم ، أو نعيدكم يوم يدعوكم ، دل عليه قوله تعالى : (مَنْ يُعِيدُنا) [الإسراء ١٧ / ٥١] فعلى التقدير الأول يكون مفعولا ، وعلى التقدير الثاني يكون ظرفا ، وهو أوجه الوجهين.

والباء في (بِحَمْدِهِ) للحال أي تستجيبون حامدين له.

البلاغة :

(أَإِذا كُنَّا عِظاماً) استفهام إنكاري. (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) كرر الهمزة لتأكيد الإنكار ، ثم أكّده بإنّ واللام ، لإفادة قوة الإنكار.

(قُلْ : كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) تعجيز وإهانة.

٩٢

المفردات اللغوية :

(وَقالُوا) أي قال المشركون منكرين للبعث. (وَرُفاتاً) بقايا ما تكسّر وبلي من كلّ شيء. (قُلْ : كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) أي قل لهم يا محمد : كونوا أي شيء ، حجارة أو حديدا ، ولا تكونوا عظاما ، فإنه يقدر على إحيائكم ، والمعنى : أنكم تستبعدون أن يجدد الله خلقكم ، ويردّه إلى حال الحياة ، وإلى رطوبة الحي وغضاضته ، بعد ما كنتم عظاما يابسة ، مع أن العظام بعض أجزاء الحيّ ، بل هي عمود خلقه الذي يبنى عليه سائره ، فالله قادر على أن يردّها إلى حالتها الأولى. ولو كنتم أبعد شيء عن الحياة ورطوبة الحي ، بأن تكونوا حجارة يابسة ، أو حديدا ، مع أنها تتصف بالصّلابة ، لكان الله قادرا على أن يردّكم إلى حال الحياة.

(أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) يعني : أو خلقا مما يكبر عندكم عن قبول الحياة ، ويعظم في زعمكم على الخالق إحياؤه ، فإنه يحييه ، وينفخ فيه الرّوح. (مَنْ يُعِيدُنا) إلى الحياة؟ (فَطَرَكُمْ) خلقكم. (أَوَّلَ مَرَّةٍ) ولم تكونوا شيئا ؛ لأن القادر على البدء قادر على الإعادة ، بل هي أهون. (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) سيحرّكون رؤوسهم تعجّبا واستهزاء. (وَيَقُولُونَ) استهزاء. (مَتى هُوَ) أي البعث. (أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) خبر أو ظرف أي في زمان قريب. (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) يناديكم من القبور على لسان إسرافيل. (فَتَسْتَجِيبُونَ) أي تجيبون الداعي. (بِحَمْدِهِ) حال منهم ، أي حامدين الله تعالى على كمال قدرته ، أو منقادين لبعثه انقياد الحامدين عليه. (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) وتستقصرون مدة لبثكم في القبور كالذي مرّ على قرية ، أو مدّة حياتكم ، لما ترون من الهول.

المناسبة :

بعد أن تكلّم الله تعالى في الإلهيّات ، ثم أتبعه بذكر شبهات المشركين في النبوّات ، ذكر في هذه الآية شبهاتهم في إنكار البعث والمعاد والقيامة ، وردّ عليها بما ينقضها.

ومن المعلوم أن مدار القرآن على المسائل الأربعة ، وهي : الإلهيّات ، والنّبوّات ، والمعاد ، والقضاء والقدر.

٩٣

التفسير والبيان :

وقال المشركون منكر والبعث والمعاد استفهام إنكار لذلك حين سماع القرآن وسماع أمر البعث : أإذا كنّا عظاما بالية في قبورنا ، ورفاتا أي ترابا بسبب تكسر العظام وصيرورتها كالتّراب ، أإنا لمبعوثون عائدون يوم القيامة بعد ما بلينا وصرنا عدما لا نذكر خلقا صحيحا جديدا كما كنّا قبل الممات ، كما أخبر عنهم القرآن في موضع آخر : (يَقُولُونَ : أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ؟ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً ، قالُوا : تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) [النازعات ٧٩ / ١٠ ـ ١٢]. وقوله تعالى : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ، قالَ : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ ، وَهِيَ رَمِيمٌ ، قُلْ : يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس ٣٦ / ٧٨ ـ ٧٩].

فأمر الله تعالى نبيّه أن يجيبهم بقوله :

(قُلْ : كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً ...) أي قل يا محمد لهم : إن إعادة الميت إلى الحياة أمر يسير سهل ، وهو أهون على الله من الخلق أول مرة ، أي أهون في تصورنا وحكمنا على الأشياء وإلا فالخلق لأي شيء على الله يسير في أي حال ؛ لأن المادة المركبة إذا وجدت عناصرها وعرفت خواصها يسهل إحداث أشياء مماثلة لها ، ولو فرض أنكم أيها المشركون كنتم أبعد شيء من الحياة ، وأشدّ الأشياء صلابة من حجارة أو حديد ؛ إذ هما أشدّ امتناعا من العظام والرّفات عن قبول الحياة ، أو أي خلق يعظم في تصوّركم وعقولكم كالسّماء والأرض والجبال عن قبول الحياة ، فإن الله قادر على إحيائه وبعثه من جديد ؛ لأن المواد الجامدة متساوية في قبولها ما يطرأ عليها من حياة أو عقل ؛ إذ لو لم يكن هذا القبول والاحتمال قائما حاصلا ، لما حصل العقل والحياة لها في أول الأمر ، والله قادر على كل الممكنات ، وعالم بجميع الجزئيات ، فإعادة الحياة إلى تلك الأجزاء المادية ممكن قطعا ، سواء صارت عظاما ورفاتا ، أو صارت شيئا أبعد في تصور الحياة وقبولها ، وهي أن تصير حجارة أو حديدا.

٩٤

وهذا من قبيل المبالغة وربط الأشياء بأقصى ما يمكن تصوره في الدّلالة على قدرة الله تعالى على الإحياء والإعادة.

وبعد استبعاد الإعادة استبعدوا حدوثها كما قال تعالى :

(فَسَيَقُولُونَ : مَنْ يُعِيدُنا؟ ..) أي فسيقولون لك يا محمد : من يعيدنا إلى الحياة إذا كنّا حجارة أو حديدا أو خلقا آخر شديدا ، فقل لهم : المعيد هو الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا مذكورا ، ثم صرتم بشرا عديدين منتشرين في الدّنيا ، فإنه سبحانه وتعالى قادر على إعادتكم ، ولو صرتم إلى أي حال : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ، ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الرّوم ٣٠ / ٢٧].

والمتوقع حين سماع ذلك هو كما قال تعالى : (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) أي لتأصل إنكار البعث في نفوسهم سيحركون رؤوسهم استهزاء وتكذيبا.

(وَيَقُولُونَ : مَتى هُوَ؟) أي يقولون : متى هذا البعث والإعادة؟ عنّا الحزن [فاطر ٣٥ / ٣٤] وهي رواية ضعيفة ، والمراد من الحمد في الأصح كما نحا الطبري : هو حمد الله من النبي على صدق خبره بحدوث القيامة.

(قُلْ : عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) أي إن ذلك قريب منكم سيأتيكم لا محالة ، فكلّ ما هو آت قريب ، كما قال سبحانه : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) [المعارج ٧٠ / ٦ ـ ٧]. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي عن أنس : «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى. فقوله تعالى : (عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) معناه أنه هو قريب ؛ لأن (عَسى) واجب ، نظيره : (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشورى ٤٢ / ١٧].

(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) أي يكون ذلك البعث يوم يدعوكم الرّب تبارك وتعالى ، فتستجيبون له من قبوركم حامدين طائعين منقادين ، وتقومون كلكم إجابة لأمره وطاعة لإرادته ، وهذا مبالغة في انقيادهم للبعث فقوله تعالى :

٩٥

(بِحَمْدِهِ) أي بأمره ، كما قال تعالى : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [الروم ٣٠ / ٢٥] ، أي إذا أمركم بالخروج من الأرض فأمره لا يخالف.

روى أنس مرفوعا : «ليس على أهل : لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ، كأني بأهل لا إله إلا الله يقومون من قبورهم ، ينفضون التراب عن رؤوسهم ، يقولون : لا إله إلا الله» وفي رواية الطبراني عن ابن عمر : يقولون : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر ٣٥ / ٣٤] وهي رواية ضعيفة ، والمراد من الحمد في الأصح كما نحا الطبري : هو حمد الله من النبي على صدق خبره بحدوث القيامة.

(وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) أي وتحسبون عند البعث يوم تقومون من قبوركم أنكم ما لبثتم في الدار الدنيا إلا زمنا قليلا ، كقوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) [النازعات ٧٩ / ٤٦] ، وقوله تعالى : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ ، إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً : إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) [طه ٢٠ / ١٠٤] ، وقوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) [الروم ٣٠ / ٥٥].

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يلي :

١ ـ لم يقتصر فساد عقيدة المشركين على الشرك واتخاذ آلهة أخرى مع الله تعالى ، وإنما أنكروا وقوع البعث والمعاد ، وكانت هذه الآية مبيّنة غاية الإنكار منهم.

٢ ـ لا داعي للعجب من قدرة الله تعالى ، فإن البشر إذا عجبوا من إعادة الحياة للعظام البالية والرّفات الفانية ، فلقصور إدراكهم ، وضعف قدراتهم ، ونقص قواهم ، وأما الله تعالى فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، حتى لو فرض أنهم حجارة أو حديد في غاية الشدة والقوة ، لأعادهم كما بدأهم ، بل

٩٦

لو كانوا ما شاؤوا فسيعادون إلى الحياة مرة أخرى ؛ لأن القدرة التي أنشأهم بها يعيدهم بها.

٣ ـ لا يسع البشر حين دعوتهم بالخروج من قبورهم إلا الامتثال والطاعة والانقياد ، وذلك يحصل بلحظة سريعة جدا ، كما قال تعالى : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل ١٦ / ٧٧].

ويستجيب الناس بأمر الله وقدرته ودعائه إياهم ، وبحمده ، أي باستحقاقه الحمد على الإحياء. ورجح المالكية أن المراد بقوله تعالى : (بِحَمْدِهِ) : بدعائه إياهم.

٤ ـ يقدّر الناس بعد البعث أنهم ما لبثوا في الدنيا إلا زمنا قليلا لطول لبثهم في الآخرة.

مجادلة المخالفين باللين وبالتي هي أحسن

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥))

الإعراب :

(يَقُولُوا : الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يَقُولُوا) : جواب «قولوا» المقدرة ، أي قل لعبادي : قولوا التي هي أحسن ، يقولوها.

٩٧

البلاغة :

(يَرْحَمْكُمْ) و (يُعَذِّبْكُمْ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(وَقُلْ : لِعِبادِي) المؤمنين. (يَقُولُوا) للكفار الكلمة الحسنى وباللين ، ولا يخاشنوا المشركين. (يَنْزَغُ) يفسد بينهم بالوسوسة ، ويهيج الشّر. (عَدُوًّا مُبِيناً) بيّن العداوة.

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ، إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) بالتوبة والإيمان. (أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) أي وإن يشأ يعذّبكم تعذيبا بالموت على الكفر ، وهذه الآية : تفسير للتي هي أحسن ، وما بينهما اعتراض ، أي قولوا لهم هذه الكلمة ، ولا يصرحوا بأنهم من أهل النار ، فإنه يهيجهم على الشّر ، مع أن ختام أمرهم غيب لا يعلمه إلا الله. (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) موكولا أو مفوضا إليك أمرهم ، تقسرهم على الإيمان ، وإنما أرسلناك مبشّرا ونذيرا ، فدارهم ، وأمر أصحابك بالاحتمال منهم.

(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيخصّهم بما شاء على قدر أحوالهم ، ويختار منهم لنبوّته وولايته من يشاء. وهو ردّ لاستبعاد قريش أن يكون يتيم أبي طالب نبيّا ، وأن يكون العراة الجياع أصحابه.

(وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) بتخصيص كلّ منهم بفضيلة ، كموسى بالكلام ، وإبراهيم بالخلّة ، ومحمد بالإسراء (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) الزّبور : الكتاب الذي أنزل على داود عليه‌السلام.

سبب النزول :

نزول الآية (٥٣):

(وَقُلْ لِعِبادِي ..) : روي أن المشركين أفرطوا في إيذائهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت. وقيل : شتم عمر رجل منهم ، فهمّ به ، فأمره الله بالعفو.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى الحجة اليقينية في إبطال الشرك وهو قوله تعالى : (لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ ، إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) [٤٢] ، وذكر

٩٨

الحجة اليقينية في صحة البعث والمعاد بقوله تعالى : (قُلِ : الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أمر تعالى بمجادلة المخالفين باللين وبالطريق الأحسن وألا يخاشن المشركون ، وألا يكون ذكر الحجة مخلوطا بالشّتم والسّب حتى لا يقابلوكم بمثله ، وتحدث النّفرة ، فيقال لهم : ربّكم العليم بكم ، إن شاء عذّبكم ، وإن شاء رحمكم ، ولا يصرّح لهم بأنهم من أهل النّار ، فلا يحاولون الإيمان أو الإسلام.

ثم بيّن تعالى مهمة رسوله وهي التّبشير والإنذار ، وأنه ليس مفوضا في حمل الناس على الإسلام أو إجبارهم عليه ، وأنه تعالى العليم بكلّ شيء وبمن في السّموات والأرض ، فيختار للنّبوة من يراه أهلا لها.

التفسير والبيان :

يأمر الله تعالى رسوله بأن يبلّغ عباد الله المؤمنين أن يقولوا في مخاطبات الناس من المشركين وغيرهم ومحاوراتهم معهم الكلام الأحسن للإقناع ، والكلمة الطيّبة ، وهو ألا يكون بيان الحجة مخلوطا بالشّتم والسّب والأذى ، كما قال تعالى في آية أخرى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل ١٦ / ١٢٥] ، وقوله تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت ٢٩ / ٤٦].

وعلّة ذلك كما قال تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) أي إن لم يقولوا الكلام الأحسن والكلمة الطيبة ، فإن الشيطان يفسد الأمور بين المؤمنين والمشركين ، ويثير الفتنة والشّر ، ويوقع المخاصمة والمقاتلة ويغري بعضهم ؛ لأنه عدو لآدم وذريّته عداوة ظاهرة بيّنة ، ولهذا نهى الشرع أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة ، فإن الشيطان ينزغ في يده ، فربّما أصابه بها ، روى أحمد والشيخان عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يشيرنّ

٩٩

أحدكم إلى أخيه بالسلاح ، فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزغ في يده ، فيقع في حفرة من النار».

وسبب نزغ الشيطان للإنسان ما قاله تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) أي إن الشيطان عدوّ ظاهر العداوة للإنسان ، وقد أعلن عداوته منذ القدم كما حكى القرآن : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) [الأعراف ٧ / ١٧].

ثم فسّر الله تعالى الطريق الأحسن الألين الذي لا مخاشنة فيه بقوله : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ ..) أي ربّكم أيها الناس أعلم بمن يستحق منكم الهداية والتوفيق للإيمان ومن لا يستحق ، فإن شاء رحمكم فأنقذكم من الضلالة ووفقكم للطاعة والإنابة إليه ، وإن شاء عذّبكم فلا يهديكم للإيمان ، فتموتوا على شرككم ، فهذه هي الكلمة ونحوها التي تقال لهم ، ولا يقال لهم : إنكم من أهل النار ، وإنكم معذبون ، وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشّر. وقوله تعالى : (أَعْلَمُ) بمعنى عليم ، نحو قولهم : «الله أكبر» بمعنى كبير ، فلا مجال للمقارنة أو الموازنة بينه وبين غيره.

(وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) أي وما أرسلناك يا محمد عليهم حفيظا ورقيبا ووكيلا موكولا إليك أمرهم ، تحاسبهم على أعمالهم ، وتقرّهم على الإسلام وتجبرهم عليه ، إنما أرسلناك نذيرا وبشيرا فقط ، فمن أطاعك دخل الجنة ، ومن عصاك دخل النار ، فتلطّف في دعوتهم ولا تغلظ عليهم ، ودارهم ، ومر أصحابك بالمداراة والاحتمال.

(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وربّك أعرف بكل من هو في السموات والأرض ، وأعلم بأحوالهم ومقاديرهم كلّها علم إحاطة وانكشاف : (أَلا

١٠٠