التفسير المنير - ج ١٥

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة الإسراء

مكية ، وهي مائة وإحدى عشرة آية.

تسميتها :

سميت سورة الإسراء لافتتاحها بمعجزة الإسراء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة إلى المدينة ليلا ، كما سميت أيضا سورة بني إسرائيل ، لإيرادها قصة تشردهم في الأرض مرتين بسبب فسادهم (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) [٤ ـ ٨].

فضلها :

أخرج أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عن عائشة رضي‌الله‌عنها : «أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزّمر».

وأخرج البخاري وابن مردويه عن ابن مسعود «أنه قال في بني إسرائيل ـ أي هذه السورة ـ والكهف ، ومريم ، وطه ، والأنبياء : هن من العتاق الأوّل ، وهن من تلادي» أي فهي مشتركة في قدم النزول ، وكونها مكيات ، واشتمالها على القصص.

مناسبتها لما قبلها :

يظهر وجه ارتباطها بسورة النحل من عدة نواح :

١ ـ إنه تعالى بعد أن قال في آخر سورة النحل : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى

٥

الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) فسّر في هذه السورة شريعة أهل السبت وشأنهم ، وذكر جميع ما شرعه لهم في التوراة ، فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أنه قال : «إن التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل».

٢ ـ بعد أن أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على أذى المشركين في ختام سورة النحل بنسبته إلى الكذب والسحر والشعر ، سلّاه هنا ، وأبان شرفه وسمو منزلته عند ربه بالإسراء ، وافتتح السورة بذكره تشريفا له ، وتعظيما للمسجد الأقصى الذي أشير إلى قصة تخريبه.

٣ ـ في السورتين بيان نعم الله الكثيرة على الإنسان ، حتى سميت سورة النحل «سورة النعم» وفصلت هنا أنواع النعم العامة والخاصة ، كما في الآيات [٩ ـ ١٢] و [٧٠].

٤ ـ في سورة النحل أبان تعالى أن القرآن العظيم من عنده ، لا من عند بشر ، وفي هذه السورة ذكر الهدف الجوهري من ذلك القرآن.

٥ ـ في سورة النحل ذكر تعالى قواعد الاستفادة من المخلوقات الأرضية ، وفي هذه السورة ذكر قواعد الحياة الاجتماعية من بر الأبوين ، وإيتاء ذوي القربى والمساكين وأبناء السبيل حقوقهم من غير تقتير ولا إسراف ، وتحريم القتل والزنى وأكل مال اليتيم ، وإيفاء الكيل والميزان بالقسط ، وإبطال التقليد من غير علم.

ما اشتملت عليه السورة :

١ ـ تضمنت السورة الإخبار عن حدث عظيم ومعجزة لخاتم الأنبياء والمرسلين وهي معجزة الإسراء من مكة إلى المسجد الأقصى في جزء من الليل ، والتي هي دليل باهر على قدرة الله عزوجل ، وتكريم إلهي لهذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ وأخبرت عن قصة بني إسرائيل في حالي الصلاح والفساد ، بإعزازهم حال

٦

الاستقامة وإمدادهم بالأموال والبنين ، وتشردهم في الأرض مرتين بسبب عصيانهم وإفسادهم ، وتخريب مسجدهم. ثم عودهم إلى الإفساد باستفزازهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإرادتهم إخراجه من المدينة : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) [٧٦].

٣ ـ وأبانت بعض الأدلة الكونية على قدرة الله وعظمته ووحدانيته ، مثل آية (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ ..) [١٢].

٤ ـ وضعت هذه السورة أصول الحياة الاجتماعية القائمة على التحلي بالأخلاق الكريمة والآداب الرفيعة ، وذلك في الآيات : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ...) [٢٣ ـ ٣٩].

٥ ـ نددت السورة بنسبة المشركين البنات إلى الله زاعمين أن البنات من الملائكة : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً ، إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) [٤٠] ثم أنكرت عليهم وجود آلهة مع الله [٤١ ـ ٤٤] ثم فندت مزاعمهم بإنكار البعث والنشور [٤٩ ـ ٥٢] [٩٨ ـ ٩٩] وحذرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من موافقته المشركين في بعض معتقداتهم [٧٣ ـ ٧٦].

٦ ـ أوضحت السورة سبب عدم إنزال الأدلة الحسية الدالة على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم [الآية ٥٩] ، ومدى تعنت المشركين في إنزال آيات اقترحوها غير القرآن من تفجير الأنهار ، وجعل مكة حدائق وبساتين ، وإسقاط قطع من السماء ، والإتيان بوفود الملائكة ، وإيجاد بيت من ذهب ، والصعود في السماء [الآيات ٨٩ ـ ٩٧].

٧ ـ أنبأت السورة عن قدسية مهمة القرآن وسمو غاياته : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [٩] (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [٨٢] وعجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله [٨٨] مما يدل على إعجازه.

٧

٨ ـ أعلنت السورة مبدأ تكريم الإنسان بأمر الملائكة بالسجود له وامتناع إبليس [٦١ ـ ٦٥] وتكريم بني آدم ورزقهم من الطيبات [٧٠].

٩ ـ عددت أنواعا جليلة من نعم الله على عباده : [١٢ ـ ١٧] ثم لوم الإنسان على عدم الشكر : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ ..) [٨٣] ومن أخص النعم : هبة الروح والحياة [٨٥].

١٠ ـ عقدت مقارنة بين من أراد العاجلة ومن أراد الباقية [١٨ ـ ٢١].

١١ ـ ذكرت أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإقامة الصلاة والتهجد في الليل [٧٨ ـ ٧٩] ودخوله المدينة وخروجه من مكة [٨٠].

١٢ ـ أشارت إلى جزء من قصة موسى مع فرعون وبني إسرائيل [١٠١ ـ ١٠٤].

١٣ ـ أبانت حكمة نزول القرآن منجمّا (مفرقا بحسب الوقائع والحوادث والمناسبات) [١٠٥ ـ ١٠٦].

١٤ ـ ختمت السورة بتنزيه الله عن الشريك والولد ، والناصر والمعين ، واتصاف الله بالأسماء الحسنى التي أرشدنا إلى الدعاء بها [١١٠ ـ ١١١].

والخلاصة : إن السورة اهتمت بترسيخ أصول العقيدة والدين كسائر السور المكية ، من إثبات التوحيد ، والرسالة والبعث ، وإبراز شخصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتأييده بالمعجزات الكافية للدلالة على صدقه ، وتفنيد شبهات كثيرة للمشركين.

٨

الإسراء وإنزال التوراة على موسى

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً(٣))

الإعراب :

(سُبْحانَ) منصوب بفعل مضمر متروك إظهاره ، تقديره : أسبح الله سبحان ، ثم نزل (سُبْحانَ) منزلة الفعل ، فسدّ مسدّه.

(لَيْلاً) منصوب على الظرف.

(أَلَّا تَتَّخِذُوا) أي قلنا لهم : لا تتخذوا ، وحذف القول كثير في كلامهم ، وتكون «أن» على هذا زائدة ، ويجوز أن تجعل «أن» بمعنى «أي» فيكون تقديره : وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا ، أي لا تتخذوا ، فيكون (أَلَّا تَتَّخِذُوا) تفسيرا لهدى. ولا يمتنع أن يكون التقدير : وجعلناه هدى لبني إسرائيل بألا تتخذوا. وقرئ بالياء ، ويكون المعنى : جعلناه لهم هدى ، لئلا يتخذوا وكيلا من دوني.

(ذُرِّيَّةَ) بالنصب إما بدل من (وَكِيلاً) أو منصوب على النداء ، أو منصوب على أنه مفعول أول لتتخذوا ، و (وَكِيلاً) : المفعول الثاني ، أو منصوب بتقدير : أعني ، أو على الاختصاص. ومن قرأ بالرفع فهو بدل من واو (أَلَّا تَتَّخِذُوا).

البلاغة :

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى) براعة استهلال ؛ لأنه لما كان الإسراء أمرا خارقا للعادة ، بدأ السورة بما يشير إلى كمال القدرة وتنزهه تعالى عن صفات النقص.

(بِعَبْدِهِ) إضافة تشريف وتكريم.

٩

(لِنُرِيَهُ) فيه التفات عن الغيبة إلى التكلم ، لتعظيم تلك البركات الدينية والدنيوية والآيات.

(وَآتَيْنا مُوسَى) التفات أيضا عن الغيبة إلى الحضور.

المفردات اللغوية :

(سُبْحانَ) اسم علم كعثمان للرجل بمعنى التسبيح (المصدر) الذي هو التنزيه عن كل صفات العجز والنقص ، مما لا يليق بجلال الله وكماله (أَسْرى) وسرى : سار بالليل خاصة ، وكان ذلك قبل الهجرة بسنة ، وحكمة الإسراء لبيت المقدس : أنه مجمع أرواح الأنبياء ، وموطن نزول الوحي على الرسل والأنبياء ، فشرفه الله بزيارته ، وصلى بالأنبياء إماما. (بِعَبْدِه) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والعبد يشمل الروح والجسد معا ، وقد وصفه الله هنا بالعبودية ؛ لأنه أشرف المقامات ، كما وصفه في مقام الوحي بالوصف نفسه : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم ٥٣ / ١٠] وكذلك وصفه بالوصف ذاته في مقام الدعوة : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ) [الجن ٧٢ / ١٩].

(لَيْلاً) فائدة ذكره : الإشارة بتنكيره إلى تقليل مدته (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي مسجد مكة بعينه ؛ لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان ، إذ أتاني جبريل بالبراق». أو المراد به الحرم المكي كله أي مكة ، وسماه المسجد الحرام ؛ لأن كله مسجد ، لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان نائما في بيت أم هانئ ، بعد صلاة العشاء ، فأسري به ورجع من ليلته ، وقص القصة عليها ، وقال : «مثل لي النبيون ، فصليت بهم».

(الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) بيت المقدس ، ووصف بالأقصى ، لبعده بالنظر لمن هو في الحجاز (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) ببركات الدين والدنيا ؛ لأنه مهبط الوحي ، ومتعبد الأنبياء من لدن موسى عليه‌السلام ، ومحفوف بالأنهار والأشجار والثمار (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) عجائب قدرتنا ، كذهابه في برهة من الليل ، مسيرة شهر ، ومشاهدته بيت المقدس ، وتمثل الأنبياء عليهم‌السلام له ، ووقوفه على مقاماتهم (السَّمِيعُ) لأقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الْبَصِيرُ) بأفعاله ، فيكرمه ويقربه على حسب ذلك ، فاجتمع بالأنبياء ، وعرج إلى السماء ، ورأى عجائب الملكوت ، وناجى ربه تعالى.

وقال ابن عطية : هذا وعيد من الله للكفار على تكذيبهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمر الإسراء ، أي هو السميع لما تقولون ، البصير بأفعالكم.

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة (أَلَّا تَتَّخِذُوا) أي لئلا تتخذوا ، أو بألا تتخذوا ، أو على ألا تتخذوا ، ومن قرأ بالياء فهو بمعنى : لئلا يتخذوا (وَكِيلاً) ربا أو كفيلا يفوضون إليه أمرهم ، دون غيره (مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) في السفينة (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) كثير الشكر ، يحمد الله تعالى في جميع أحواله.

١٠

سبب نزول آية الإسراء :

ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقريش الإسراء به وتكذيبهم له ، فأنزل الله ذلك تصديقا له.

فبعد أن عاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الإسراء والمعراج ، خرج إلى المسجد الحرام ، وأخبر به قريشا ، فتعجبوا منه لاستحالة ذلك في نظرهم ، وارتد ناس ممن آمن به ، وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، فقال : إن كان قال ، لقد صدق ، فقالوا : تصدقه على ذلك؟ قال : إني لأصدقه على أبعد من ذلك ، فسمي «الصديق». واستنعته طائفة سافروا إلى بيت المقدس ، فجلّي له ، فطفق ينظر إليه ، وينعته لهم ، فقالوا : أما النعت فقد أصاب ، فقالوا : أخبرنا عن عيرنا ، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها ، وقال : تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس ، يقدمها جمل أورق (١) ، فخرجوا ينشدون العير إلى الثنية ، فصادفوا العير ، كما أخبر ، ثم لم يؤمنوا ، وقالوا : ما هذا إلا سحر مبين.

رأي العلماء في الحادث :

الأكثر على أنه أسري بجسده إلى بيت المقدس ، ثم عرج به إلى السموات ، حتى انتهى إلى سدرة المنتهى ، ولذلك تعجبت قريش واستحالوه.

قال أبو حيان : والظاهر أن هذا الإسراء كان بشخصه ، ولذلك كذبت قريش ، وشنعت عليه ، وحين قص ذلك على أم هانئ قالت : لا تحدّث الناس بها ، فيكذبوك ، ولو كان مناما ، ما استنكر ذلك ، وهو قول جمهور أهل العلم ، وهو الذي ينبغي أن يعتقد. وحديث الإسراء مروي في المسانيد عن الصحابة في كل أقطار الإسلام ، وذكر أنه رواه عشرون من الصحابة (٢).

__________________

(١) الجمل الأورق من الإبل : الذي في لونه بياض إلى سواد ، وهو أطيب الإبل لحما ، وليس بمحمود عندهم في عمله وسيره.

(٢) البحر المحيط : ٦ / ٥.

١١

وما روي عن عائشة ومعاوية : أنه كان مناما فلم تثبت صحته ، ولو صح لم يكن في قولهما حجة ؛ لأنهما لم يشاهدا الحادث ، لصغر عائشة ، وكفر معاوية إذ ذاك ، ولأنهما لم يسندا ذلك إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا حدثا به عنه.

ومناسبة آية (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) لما قبلها : أنه لما ذكر تشريف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وإكرامه بالإسراء ، وإراءته الآيات ، ذكر تشريف موسى وإكرامه بإيتائه التوراة من قبله.

التفسير والبيان :

أنزّه الله تنزيها من كل سوء ، الذي أسرى بعبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جزء من الليل ، من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس ، وعاد إلى بلده في ليلته ، وأبرئه تبرئة تامة عن كل صفات العجز والنقص وعما يقوله المشركون من وجود شريك أو ولد له ، وأثبت له القدرة الكاملة الفائقة ، فهو القادر على تحقيق ما هو أغرب من الخيال والتصور ، فلا غرابة إن أسرى بعبده تلك المسافة البعيدة في جزء من الزمن غير طويل ، تشريفا لنبيه ، ورفعا لقدره وإعلاء لمجده ، ليكون معجزة دائمة له مع مرور الزمان.

والمراد (بِعَبْدِهِ) بإجماع المفسرين محمد عليه الصلاة والسلام ، وأتى بقوله (لَيْلاً) بلفظ التنكير لتقليل مدة الإسراء ، وأنه أسرى به في بعض الليل ؛ لأن التنكير يدل على معنى البعضية ، والمسافة من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة بحسب وسائط النقل القديمة ، وذلك قبل الهجرة بسنة ، كما قال مقاتل (١) ، وذكر الحربي : أنه أسري به ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخرة قبل الهجرة بسنة.

__________________

(١) وهو قول الزهري وعروة ، فيكون الإسراء في شهر ربيع الأول. وأورد الحافظ عبد الغني بن سرور المقدسي في سيرته حديثا لا يصح سنده أن الإسراء كان ليلة السابع والعشرين من رجب (البداية والنهاية لابن كثير : ٣ / ١٠٨ ـ ١٠٩).

١٢

وروى ابن سعد في طبقاته أن الإسراء كان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا.

والمكان الذي أسري به منه : هو المسجد الحرام بعينه ، كما يدل عليه ظاهر لفظ القرآن ، وما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت ، بين النائم واليقظان ، إذ أتاني جبريل بالبراق».

وقال الأكثرون : المراد بالمسجد الحرام : الحرم ؛ لإحاطته بالمسجد ، والحرم كله مسجد ، كما قال ابن عباس ، وقد أسري به من دار أم هانئ بنت أبي طالب سنة ٦٢١ م.

والمسجد الأقصى بالاتفاق : هو بيت المقدس ، وسمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام ، وكان أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض يعظم بالزيارة.

والأكثرون من المسلمين اتفقوا على أنه أسري بجسد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وفي رأي ضعيف : أنه ما أسري إلا بروحه ، وذلك محكي عن حذيفة وعائشة ومعاوية. والأصح هو الرأي الأول وأنه تعالى أسرى بروح محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجسده ، من مكة إلى بيت المقدس ، لأن كلمة العبد في قوله : (بِعَبْدِهِ) اسم للجسد والروح ، فوجب أن يكون الإسراء حاصلا لمجموع الجسد والروح ، ولأن الخبر المروي عن أنس بن مالك وهو الحديث المشهور المروي في الصحاح عن المعراج والإسراء يدل على الذهاب من مكة إلى بيت المقدس ، ثم منه إلى السموات العلا.

والخلاصة : أن الآية هنا دالة قطعا على إثبات الإسراء ، وآية سورة النجم دالة على المعراج : وهو العروج والصعود إلى السموات ، إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام ، بعد وصوله إلى بيت المقدس.

وقد وصف الله المسجد الأقصى بأنه مبارك ما حوله ، والبركة تشمل بركات

١٣

الدين والدنيا ، أما الأولى فهو أنه مهبط الأنبياء ، وأما الثانية فهو إحاطته بخيرات الدنيا ، لما اشتمل عليه من أنهار وأشجار وأثمار تكون سببا في توفير المعايش والأقوات.

والهدف من الإسراء : أن يري الله عبده آياته الكبرى ، وأدلته العظمى على وجوده ووحدانيته وعظم قدرته ، فكانت فائدة الإسراء مختصة بالله تعالى وعائدة إليه على سبيل التعيين.

ولا عجب في ذلك كله ، فالله سبحانه هو السميع لكل قول ، البصير بكل نفس ، الذي يضع الأمور في مواضعها على وفق الحكمة ، وبمقتضى الحق والعدل. ومن ذلك : سماعه أقوال المشركين وتعليقاتهم على حادث الإسراء واستهجانهم لوقوعه ، واستهزاؤهم بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إسرائه من مكة إلى القدس. وبصره بما يفعل أولئك المشركون ، وبما يكيدون لنبي الله ورسالته (١).

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ..) بعد أن ذكر الله إكرام محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من نسل إسماعيل بالإسراء وإمامة الأنبياء في المسجد الأقصى ، ذكر في هذه الآية إكرام موسى عليه‌السلام قبل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكتاب الذي آتاه وأعطاه إياه ، وهو التوراة ، الذي جعله الله هدى وهداية ، ليخرج بني إسرائيل بواسطة ذلك الكتاب من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والدين الحق ، وقلنا : لا تتخذوا من دوني وكيلا ، أي لا تتخذوا من دون الله وكيلا تفوضون إليه أموركم ، فقوله : (وَكِيلاً) معناه : ربا تكلون إليه أموركم.

__________________

(١) يلاحظ أن الاية انتقل فيها من الغيبية إلى الخطاب ، ومن الخطاب إلى الغيبية ، فقوله سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ في ذكر الله على سبيل الغيبة ، وقوله : بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا انتقال إلى الحضور ، وقوله : إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ يدل على الغيبة. ثم انتقل إلى الحضور بقوله : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يدل على الحضور أي الخطاب. وهذا يسمى الالتفات.

١٤

وبين الإسراء بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بيت المقدس ، وإيتاء موسى التوراة بمسيره إلى الطور تناسب واضح.

ثم أبان الله تعالى تشريفه لبني إسرائيل وإتمام نعمته عليهم ، لحملهم على اتباع الرسل ، فقال : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ..) أي يا ذرية أو نسل وحفدة أولئك الذين نجاهم الله من الغرق مع نوح ، وهداهم إلى طريق التوحيد والحق والخير ، تشبّهوا بأصولكم ، فأنتم أولى الناس بالتوحيد واتباع سيرة الأنبياء والمرسلين ، وفي مقدمتهم أبوكم نوح عليه‌السلام الذي كان عبدا مبالغا في الشكر لنعم الله وعرفان قدره وعظمته ، وإنما يكون العبد شكورا إذا كان موحدا لا يرى حصول شيء من النعم إلا من فضل الله ، فاقتفوا أثره ، واتبعوا منهجه وسنته ، واقتدوا به كما أن آباءكم اقتدوا به.

ووصف نوح بكونه (عَبْداً) ووصف نبينا محمد بأنه «عبد» دليل واضح على مرتبة الأنبياء ، وهي مرتبة العبودية الخالصة لله ، فإن معجزة الإسراء والمعراج الخارقة لا يصح وصفها بغير حقيقتها ، ولا وضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منزلة تتجاوز موضعه الحقيقي وهو كونه عبدا لله ، أي خاضعا لعزة الله وسلطانه ، خلافا لما وصفت به النصارى المسيح ، ووضعوه في غير موضعه الصحيح.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ ثبوت حادثة الإسراء بنص القرآن الكريم بدلالة قطعية ، وثبت الإسراء أيضا في جميع مصنفات الحديث ، وروي عن عشرين صحابيا ، فهو من المتواتر.

روى مسلم في صحيحة عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أتيت بالبراق ـ وهو دابة ، أبيض طويل فوق الحمار ، ودون البغل ،

١٥

يضع حافره عند منتهى طرفه ـ قال : فركبته حتى أتيت بيت المقدس ، فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء ، ثم دخلت المسجد ، فصليت فيه ركعتين ، ثم خرجت ، فجاءني جبريلعليه‌السلام بإناء من خمر ، وإناء من لبن ، فاخترت اللبن ، فقال جبريل عليه‌السلام : اخترت الفطرة ، ثم عرج بنا إلى السماء ..» الحديث.

وروى مسلم أيضا حديثا آخر عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى بالأنبياءعليهم‌السلام وفيه : «.. فأممتهم ، فلما فرغت من الصلاة ، قال لي قائل : يا محمد ، هذا مالك صاحب النار ، فسلّم عليه ، فالتفت إليه ، فبدأني بالسلام».

٢ ـ كان الإسراء بالروح والجسد يقظة راكبا البراق ، لا في الرؤيا والمنام ، بدليل نص الآية (بِعَبْدِهِ) وهو مجموع الروح والجسد ، ولو كان مناما لقال : «بروح عبده» ولم يقل: (بِعَبْدِهِ) ، وقوله تعالى : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم ٥٣ / ١٧] يدل على ذلك ، ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة ، ولما قالت له أم هانئ : لا تحدّث الناس فيكذبوك ، ولا فضّل أبو بكر بالتصديق ، ولما أمكن قريشا التشنيع والتكذيب ، وقد كذبته قريش فيما أخبر به ، حتى ارتدّ أقوام كانوا آمنوا ، فلو كان بالرؤيا لم يستنكر (١).

وأما المعراج أو العروج إلى السموات وإلى ما فوق العرش ، فلا تدل هذه الآية عليه ، وإنما تدل عليه أوائل سورة النجم (٢).

والخلاصة : إن تلك الرؤيا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت رؤيا عيان ، لا رؤيا منام.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٠ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

(٢) تفسير الرازي : ٢٠ / ١٥٣.

١٦

وتاريخ الإسراء مختلف فيه ، والظاهر أنه كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة.

ولا خلاف بين العلماء وأهل السير أن الصلاة إنما فرضت بمكة ليلة الإسراء حين عرج بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء ، وذلك منصوص عليه في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما (١). وإنما اختلفوا في هيئتها حين فرضت ، فروى البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : «فرض الله الصلاة ـ حين فرضها ـ ركعتين ، ثم أتمها في الحضر ، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى».

وروى مسلم وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : «فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة».

٣ ـ إن المقصود من الإسراء والمعراج أن يري الله نبيه الآيات العظمى الدالة على وجوده ووحدانيته وقدرته ، ومن تلك الآيات : الجنة والنار وأحوال السموات والكرسي والعرش ، فيصبح العالم في عينه حقيرا أمام عظمة الكون ، وتقوى نفسه على احتمال المكاره والجهاد في سبيل الله. ومن تلك الآيات التي أراه الله العجائب التي أخبر بها النبي الناس ، وإسراؤه في ليلة ، وعروجه إلى السماء ، ووصفه الأنبياء واحدا واحدا ، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره.

كما أن في الإسراء من مكة إلى بيت المقدس الإشارة إلى وحدة الأنبياء في الرسالة والهدف والتوجه إلى الله تعالى وحده ، وإن اختلفت القبلتان ، وتمايزت الشرائع ، وتمادى الزمان في فترات إرسال الأنبياء عليهم‌السلام ، فهم من أولهم آدم عليه‌السلام إلى خاتمهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعاة إلى توحيد الله وعبادته وإلى إصلاح

__________________

(١) جامع الأصول : ٦ / ١٣١.

١٧

الإنسان والمجتمع ، وإسعاد الفرد والجماعة ، وتصحيح مسيرة الناس قاطبة على أساس من الحق والعدل والاستقامة والأخلاق السوية.

٤ ـ كرّم الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإسراء والمعراج ، وكرم موسى عليه‌السلام بالكتاب وهو التوراة الذي جعله الله هدى وهداية لبني إسرائيل من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والإيمان بالله تعالى وحده ، وتحريم اتخاذ ربّ سواه يتوكلون عليه في أمورهم. والوكيل : من يوكل إليه الأمر.

٥ ـ ثم نادى الله سبحانه البشرية قاطبة بأن ينضموا جميعا تحت راية واحدة هي راية الإيمان بالله تعالى وحده ، قائلا : يا ذرية من حملنا مع نوح ، وهم جميع من على الأرض ، ومنهم موسى وقومه من بني إسرائيل : لا تشركوا مع الله إلها آخر.

وذكر الله تعالى نوحا لتذكير البشرية بنعمة الإنجاء من الغرق على آبائهم .. ومقصود الآية : إنكم أيها البشر من ذرية نوح ، وقد كان عبدا شكورا موحدا الله تعالى ، مقرا بآلائه ونعمه عليه ، ولا يرى الخير إلا من عنده ، فأنتم أحق بالاقتداء به ، دون آبائكم الجهال.

ويمكن مما ذكر تلخيص العظات والحقائق التالية :

أولا ـ أدى حادث الإسراء والمعراج في ليلة واحدة إلى تمحيص المؤمنين ، وتبيان صادق الإيمان ، ومريض القلب منهم.

ثانيا ـ كان اطلاع الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على آيات الكون الأرضية والسماوية ذات العجائب درسا واقعيا لتعليم الرسول بالمشاهدة والنظر ، ومن المعلوم أن التعليم المحسوس أوقع في النفس ، وأرسخ في الذهن.

ثالثا ـ إن بشرية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واحتياجه إلى الهواء في طبقات الجو والسموات

١٨

العليا والملأ الأعلى لم تمنع من إتمام تلك الرحلة ، لأن قدرة الله تعالى كفيلة بتوفير حاجياته ومتطلباته ، كما يزود الآن رواد الفضاء بالأكسجين.

وإن في غزو الفضاء الآن لدليلا مؤكدا على صحة الإسراء والمعراج ، وأن محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أول رواد الفضاء ، وأنه تجاوز أسرع ما توصلت إليه محطات الفضاء.

رابعا ـ إن جمع الأنبياء في المسجد الأقصى وإمامة نبينا بهم دليل واضح على وحدة رسالاتهم وختمها برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبلورتها وانصبابها في شريعته التي ختمت الشرائع السالفة.

أحوال بني إسرائيل في التاريخ

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨))

الإعراب :

(خِلالَ الدِّيارِ) ظرف مكان منصوب ، وعامله (فَجاسُوا) وقرئ : جاسوا وداسوا وهما بمعنى واحد ، وحاسوا.

١٩

(وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي المرة الآخرة ، فحذف الموصوف ، وأقيمت الصفة مقامه.

(وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا كَما) : مصدرية ظرفية زمانية ، أي وليتبّروا مدّة علوهم ، فحذف المضاف ، كقولك : أتيتك مقدم الحاج ، أي زمن مقدم الحاج ، فحذف المضاف.

البلاغة :

(وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا) جناس اشتقاق.

(أَحْسَنْتُمْ أَسَأْتُمْ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(وَقَضَيْنا) أعلمناهم وأخبرناهم بذلك من طريق الوحي. (فِي الْكِتابِ) التوراة. (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ) أرض الشّام بالمعاصي ، وهو جواب قسم محذوف. (مَرَّتَيْنِ) من الإفساد ، أولاهما ـ مخالفة أحكام التوراة وقتل أشعيا ، وثانيتهما ـ قتل زكريا ويحيى وقصد قتل عيسى. (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) لتستكبرنّ عن طاعة الله تعالى ، وتبغون بغيا عظيما ، وتظلمون الناس.

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) أولى مرّتي الفساد ، ووعد عقاب أولاهما. (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أصحاب قوة في الحرب والبطش ، وهم بختنصّر وجنوده ، وقيل: جالوت الخزري ، وقيل : سنحاريب ملك بابل وجنوده. (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) تردّدوا وسط دياركم لطلبكم وقتلكم وسببكم ، فقتلوا الكبار ، وسبوا الصغار ، وأحرقوا التوراة ، وخرّبوا المسجد الأقصى وبيت المقدس. (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) وكان وعد عقابكم نافذا ، لا بدّ منه.

(الْكَرَّةَ) الدّولة والغلبة. (عَلَيْهِمْ) بعد مائة سنة بقتل جالوت. (نَفِيراً) عشيرة. (إِنْ أَحْسَنْتُمْ) بالطاعة. (أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) لأن ثوابه لها. (وَإِنْ أَسَأْتُمْ) بالفساد. (فَلَها) إساءتكم ، ووبالها عليها. (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي جاء وعد المرة الآخرة. (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) أي بعثناهم ليسوؤا وجوهكم ، أي ليجعلوها بادية آثار السوء فيها ، بأن يحزنوكم بالقتل والسّبي حزنا يظهر في وجوهكم وحذف بعثناهم لدلالة ما ذكر أولا عليه. (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ) بيت المقدس فيخربوه ، وهو متعلّق بمحذوف هو : بعثناهم. (كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) كما خربوه أول مرة. (وَلِيُتَبِّرُوا) يهلكوا. (ما عَلَوْا) ما غلبوا عليه أو استولوا عليه من بلادكم ، أو مدة علوهم. (تَتْبِيراً) هلاكا ، وذلك بأن سلّط الله عليهم الفرس ، مرة أخرى ، فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف ، اسمه : جوذرز أو خردوس ، وقتل منهم ألوفا ، وسبى ذريّتهم ، وخرّب بيت المقدس.

(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) أي وقلنا في الكتاب : عسى ربّكم ، بعد المرة الثانية ، إن تبتم.

٢٠