التفسير المنير - ج ١٥

الدكتور وهبة الزحيلي

قومكم وفارقتموهم عزلة مادية بالمفارقة بالأبدان والمقر والمقام ، وعزلة معنوية بمخالفتهم في دينكم واعتزالكم معبوديهم غير عبادة الله وحده.

وقوله : (إِلَّا اللهَ) إما استثناء متصل أو منقطع كما ذكرنا ، ويجوز أن يكون كلاما معترضا ، إخبارا من الله تعالى عن الفئة أنهم لم يعبدوا غير الله.

وفارقوا قومكم جسديا ، والجؤوا إلى الكهف (الغار الواسع في الجبل) بعد فراقهم روحيا ، وأخلصوا العبادة لله في مكان خال بعيد عن أهل الشرك ، فإن فعلتم ذلك يبسط الله عليكم رحمة يستركم بها من قومكم ، ويسهل لكم من أمركم مرفقا ، أي أمرا ترتفقون به وتنتفعون.

حالهم في الكهف وانحسار الشمس عنهم :

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ ...) أي وترى يا محمد أو كل واحد يصلح للخطاب الشمس حين طلوعها تميل عن كهفهم جهة اليمين ، بأن تقلص شعاعها بارتفاعها ، حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان ، وتراها عند الغروب تبتعد عنهم وتتركهم لا تقربهم وتعدل عنهم جهة الشمال ، والحال أنهم في متسع من الكهف ووسطه ، فيأتيهم الهواء باردا لطيفا.

وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية تحقيقا ، بل الإخبار بكون الكهف في مكان لا تؤثر فيه الشمس أثناء طلوعها وغروبها ، أي أنهم طوال نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها ، مع أنهم في مكان واسع منفتح معرّض لإصابة الشمس ، لولا أن الله يحجبها عنهم.

مكان الكهف :

ذكر المؤرخون أقوالا في تعيين مكان الكهف ، فقيل : هو واد قريب من أيلة في العقبة جنوب فلسطين ، وقيل : عند نينوى في الموصل شمال العراق

٢٢١

وقيل : في جنوب تركيا من بلاد الروم سابقا ، وكلها أقوال يعوزها الدليل.

قدرة الله تعالى وعنايته ولطفه :

(ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) أي إن بقاء هؤلاء الفتية في الكهف سنين عديدة ، وما صنعه الله بهم من تنحية الشمس عنهم عند الطلوع والغروب ، بانعكاس أشعتها وتقليص وهجها عنهم ، آية من آيات الله العجيبة الكثيرة الدالة على كمال قدرته وسعة علمه ، وعلى أنه تعالى يصون المخلصين من عباده ، وأن التوحيد دين الحق ، وأن عبادة الأصنام والأوثان ضلال وشرك وزيغ ، وأن صون أهل الكهف بلطف من الله وعناية منه ، لذا قال :

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) أي من يوفقه الله تعالى للاهتداء بآياته وحججه ، ويدله دلالة مؤدية إلى الحق ، ويوفقه إلى ما يحبه ويرضاه ، كأهل الكهف ، فهو المهتدي إلى طريق الحق ، الفائز بالحظ الأوفر في الدارين.

والمراد من ذلك إما الثناء على أصحاب الكهف والشهادة لهم بإصابة المطلوب ، أو التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة ، ولكن السعيد من وفقه الله تعالى للتأمل بها والاستبصار بها والاهتداء بها (١). والخلاصة : أن الله هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية.

(وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) أي ومن يضلل الله بأن لم يوفقه للاهتداء بآياته ، لسوء اختياره واستعداده ، وتوجيه رأيه إلى جادة الانحراف ، فلن تجد له أبدا حليفا أو ناصرا معينا يرشده ويهديه إلى الخير وطرق الصلاح في الدنيا والآخرة ، ولا هادي له ، كأمثال الكفرة منكري البعث ؛ لأن التوفيق والخذلان بيد الله ، يوفق من يشاء ويخذل من يشاء.

__________________

(١) تفسير الألوسي : ١٥ / ٢٢٣ ـ ٢٢٤

٢٢٢

وتفويض الهداية والإضلال إلى الله تعالى يخفف من معاناة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع قومه ، ويسرّي عنه حزنه وألمه على إعراضهم عن قبول دعوته.

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) أي وتظنهم إذا رأيتهم أيقاظا لانفتاح أعينهم وهم نيام ، لئلا يسرع إليها البلى ، كأنهم ينظرون إلى من يشاهدهم.

(وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) أي ونقلبهم مرة في ناحية اليمين ومرة في ناحية الشمال ، حتى لا تؤثر الأرض في أجسادهم ، ولكي تتعرض جلودهم للهواء.

واختلفوا في مدة التقليب ، فقيل : يقلّبون في العام مرتين ، وقيل : مرة في العام ، ولا دليل لكل من القولين ، ولا يرشد إليها العقل ، ولم يشر إليها القرآن ، ولم يرد فيه خبر صحيح ، فيبقى النص على إطلاقه. قال ابن عباس : لو لم يقلّبوا لأكلتهم الأرض.

(وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) وكان كلبهم الذي تبعهم بإلهام الله للحراسة باسطا ذراعيه بفناء الكهف أو بباب الكهف يحرس عليهم الباب ، وهذا من سجيته وطبيعته ، كأنه يحرسهم ، وقد أصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال ، وهذه فائدة صحبة الأخيار.

(لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) أي لو نظرت عليهم لأدبرت عنهم فرارا وهربا ، ولملئت منهم رعبا وفزعا ؛ لأن الله تعالى ألقى عليهم المهابة والوقار ، بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم ، إلى أن انتهى أجل لبثهم راقدين ، وتحققت فيهم الحكمة البالغة ، والرحمة الواسعة ، وأقام الله فيهم الدليل المادي الحسي على قدرته على البعث والإعادة ، وعلى أن يوم القيامة آت لا ريب فيه.

٢٢٣

بعثتهم من نومهم صحاح الأبدان بعد ثلاث مائة سنة وتسع سنين :

قال تعالى : (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ ...) أي كما زدناهم هدى وأنمناهم ، وحفظنا أجسادهم من البلى والفناء ، وأبقيناهم أحياء من غير أكل ولا شرب مدة طويلة من الزمان ، ونقلبهم ، فكذلك بعثناهم ، أي أحييناهم من تلك النومة التي تشبه الموت ، لنعرّفهم مدى قدرتنا وعجيب فعلنا في الناس ، وليتبصروا في أمرهم وليتساءلوا بينهم ، واللام هنا لام العاقبة أو الصيرورة : فقال قائل منهم : كم لبثتم ، أي كم رقدتم في نومكم؟ لإحساسهم بطول الرقاد. (قالُوا : لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) أي أجاب بعضهم قائلا : لبثنا في تقديرنا يوما كاملا أو جزءا من اليوم ؛ لأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول النهار ، واستيقاظهم كان في أخر النهار ، لذا استدركوا فقالوا : (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ).

(قالُوا : رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) أجاب بعض آخر : ربكم أعلم بأمركم ، وبمقدار لبثكم ، وهذا استشعار منهم وتردد بكثرة نومهم ، لما رأوا حالهم متغيرة ، أي فالله أعلم منكم ، وأنتم لا تعلمون مدة لبثكم ، وهذا أدب الإيمان اليقظ في الرد على جواب البعض الأول.

الوكالة في شراء الطعام :

ثم تذاكروا فيما بينهم وقرروا البحث في المهم من أمرهم وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب ، فقالوا :

(فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) أي فأرسلوا أحدكم بدراهمكم أو فضتكم هذه التي استصحبوها معهم من منازلهم ، لتغطية حوائجهم ، إلى المدينة وهي «طرسوس» أي مدينتكم التي خرجتم منها ، كما أكد الرازي (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢١ / ١٠٣

٢٢٤

(فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً ، فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ) أي فليبصر أي الأطعمة أجود وأنفع وأطيب وأيسر سعرا ، فليأتكم بمقدار مناسب منه.

(وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) أي وليكن لطيفا رفيقا في الطلب وفي خروجه ودخوله المدينة ، وفي شرائه ، ولا يخبرن أو لا يعلمن أحدا من أهل المدينة بمكانكم.

(إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) أي إن أصحاب دقيانوس الملك إن اطلعوا على مكانكم ، يقتلوكم بالرجم بالحجارة ، أو يجبروكم ويكرهوكم على العودة إلى دينهم ـ دين الوثنية وعبادة الأصنام.

(وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) أي وإن وافقتموهم على العود إلى ملتهم أو دينهم ، فلا فلاح لكم أبدا في الدنيا والآخرة.

اطلاع الناس عليهم :

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ ..) أي وكما أنمناهم ثم بعثناهم ، أطلعنا الناس عليهم وعلى أحوالهم ، وهم أولئك الذين كان لديهم شك في قدرة الله على إحياء الموتى ، وفي البعث ، وفي أمر القيامة ، فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك ، وليدركوا ويعلموا أن وعد الله بالبعث حق وصدق وثابت ، وأن حدوث الساعة أي القيامة أمر لا شك فيه ، فمن شاهد حال أهل الكهف علم صحة الخبر وصدق وعد الله بالبعث ؛ لأن حالهم في نومتهم ، وانتباهتهم بعدها كحال من يموت ثم يبعث.

وسمى إعلام الناس بهم إعثارا ؛ لأن من غفل عن شيء ثم عثر به ، نظر إليه وعرفه ، فكان الإعثار سببا في العلم ، والمعنى : أعثرنا عليهم حين يتنازعون بينهم.

٢٢٥

(إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) أي أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان حين كان بعضهم يتنازع مع بعض في أمر القيامة ، فمن مثبت لها ومن منكر ، ومن مؤمن بها وكافر ، فجعل اطلاعهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم ، وفرح الملك وشعبه بآية الله على البعث ، وزال أمر الخلاف في أمر القيامة.

آراء القوم في شأنهم بعد اطلاعهم عليهم :

(فَقالُوا : ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً ..) أي انقسم القوم في شأن أهل الكهف حين توفاهم الله تعالى فريقين : فريق ـ قيل هم الكفار منهم ـ قالوا : نسدّ عليهم باب كهفهم ، ونتركهم على حالهم ؛ فإنهم كانوا على ديننا ، فنتخذ عليهم بنيانا ، أي على باب كهفهم ، لئلا يدخل إليهم الناس ، ضنا بتربتهم ، ومحافظة عليها. وقوله : (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) جملة معترضة ، أي أعلم بشأنهم للرد على المتنازعين في عقيدتهم وبيان أنسابهم وأسمائهم ومدة لبثهم.

وفريق آخر تغلبوا على الفريق الأول بالرأي وهم المسلمون وملكهم قالوا ـ وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم ـ : لنتخذن على باب الكهف مسجدا يصلي فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم.

عددهم :

(سَيَقُولُونَ : ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ..) أي إن الناس بعدئذ اختلفوا في عددهم ، وهم من خاض في قصتهم في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل الكتاب والمؤمنين ، إنهم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم ، فأخر الجواب إلى أن يوحى إليه ، فنزلت الآية إخبارا ببيان عددهم وأن المصيب منهم من يقول : (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ).

بعضهم قال : هم (ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) ، وآخرون قالوا : هم (خَمْسَةٌ

٢٢٦

سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) ، وهم في هذا يقولون : (رَجْماً بِالْغَيْبِ) أي قولا بلا علم ، وإنما هو مجرد ظن وتخمين ، لا دليل عليه ، ولا يقين معه ، بدليل اتباع القولين الأولين بقوله (رَجْماً بِالْغَيْبِ).

وقال جماعة آخرون : إنهم (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) ، ولما حكى تعالى هذا القول ، وسكت عليه أو قرره ، دل على صحته ، وأنه هو الواقع في الأمر نفسه.

قل يا محمد : ربي أعلم بعددهم ، ما يعلمهم إلا قليل من الناس ، وأكثر أهل الكتاب الذين ذكروا أعدادهم على ظن وتخمين. وقوله (رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى ؛ إذ لا داعي إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم.

قال ابن عباس : أنا من القليل الذي استثنى الله عزوجل ، كانوا سبعة ، وكذا روى ابن جرير عن عطاء أنه كان يقول : عدتهم سبعة.

والمهم في الأمر ليس معرفة العدد ، وإنما المهم الاعتبار بالقصة ، والانتفاع بما دلت عليه من إثبات قدرة الله تعالى على البعث والإعادة.

وتساءل صاحب الكشاف : فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) ولم دخلت عليها دون الجملتين الأوليين؟ ثم أجاب : هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة ، وفائدتها تأكيد اتصال الصفة بالموصوف ، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر ، أي أن الذين قالوا : (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) قالوه عن ثبات وعلم ، ولم يرجموا بالظن كما فعل غيرهم.

(فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) أي فلا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلا جدلا ظاهرا غير متعمق فيه ، وهو أن تقص عليهم ما أوحى

٢٢٧

الله إليك فحسب ، ولا تزيد ، من غير تجهيل لهم ، ولا تعنيف في الرد عليهم ، كما قال تعالى: (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل ١٦ / ١٢٥] وقال : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت ٢٩ / ٤٦].

(وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) أي ولا تسأل أحدا منهم عن قصتهم سؤال متعنت ؛ لأن ذلك خلاف ما وصيت به من المداراة والمجاملة ، ولا سؤال مسترشد ؛ لأن الله قد أرشدك ، بأن أوحى إليك قصتهم.

وهذا يدل على عدم جواز الرجوع إلى أهل الكتاب في شيء من العلم.

إرشاد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأمته بتعليق الخبر بمشيئة الله :

(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ : إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً ..) أي لا تقولن أيها الرسول لأجل شيء عزمت على فعله في المستقبل : إني سأفعل ذلك غدا إلا بأن تقرنه بمشيئة الله عزوجل ، فتقول : إن شاء الله ، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «قال سليمان بن داود عليهما‌السلام : لأطوفهن الليلة على سبعين امرأة ـ وفي رواية مائة امرأة ـ تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله ، فقيل له ـ وفي رواية قال له الملك ـ : قل : إن شاء الله ، فلم يقل ، فطاف بهن ، فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والذي نفسي بيده ، لو قال : إن شاء الله ، لم يحنث ، وكان دركا لحاجته». وفي رواية : «ولقاتلوا في سبيل الله فرسانا أجمعون».

وقد عرفنا سبب نزول هذه الآية في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف : «غدا أجيبكم» فتأخر الوحي خمسة عشر يوما.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) أي واذكر مشيئة ربك ، وقل : إن شاء الله إذا فرط منك نسيان لذلك ، والمعنى إذا نسيت كلمة الاستثناء ، ثم تنبهت ، فتداركها بالذكر ، سواء طال الفصل أو قصر ، عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : ولو بعد

٢٢٨

سنة ما لم تحنث. والاستثناء بالمشيئة عند عامة الفقهاء لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولا. وأوضح ابن جرير معنى قول ابن عباس : وهو أنه إذا نسي أن يقول في كلامه أو في حلفه : إن شاء الله ، وتذكر ولو بعد سنة ، فالسنة له أن يقول ذلك ، ليكون آتيا بسنة الاستثناء ، حتى ولو كان بعد الحنث. لا أن يكون رافعا لحنث اليمين ومسقطا للكفارة.

(وَقُلْ : عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) أي وقل يا محمد : عسى أن يوفقني ربي لشيء آخر بدل المنسي أو أقرب خيرا ومنفعة ، فإذا سئلت عن شيء لا تعلمه ، فاسأل الله تعالى فيه ، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك.

مدة لبثهم في الكهف :

أخبر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن مقدار لبث أهل الكهف في كهفهم ، منذ أرقدهم إلى أن بعثهم الله ، فقال :

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) أي إنهم أقاموا في الكهف مقدار ثلاث مائة سنة وتسع سنوات هلالية ، وهي ثلاث مائة سنة شمسية ، فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين ، فلهذا قال بعد الثلاث مائة : (وَازْدَادُوا تِسْعاً). وأكد ذلك الإخبار بقوله :

(قُلِ : اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ...) أي إذا سئلت عن مدة لبثهم ، وليس عندك علم في ذلك من الله تعالى ، فقل في مثل هذا : (اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ، لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي لا يعلم ذلك إلا هو ، ومن أطلعه عليه من خلقه ، فلا تتعجل بالأخبار ما لم يكن عندك دليل عليها ، والحق ما أخبرك به ، لا ما يقولونه ؛ إذ له غيب السموات والأرض ، وهو العالم بكل شيء ، وأعلم من الذين اختلفوا في مقدار مدة لبثهم.

٢٢٩

وبما أن الله أخبر عن مدة لبثهم ، فهو الحق الذي لا شك فيه. وفائدة تأخير إيراد هذه الجملة الدلالة على أنهم تنازعوا في مدة اللبث ، كما تنازعوا في عددهم ، وجاء هذا التذييل هنا كالتذييل المتقدم في حكاية عددهم : (قُلْ : رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ).

والخلاصة : إن الخبر اليقين في بيان عدد أهل الكهف ومدة لبثهم هو من عند الله تعالى ؛ لأنه أعلم بالأشياء وبالحقائق ، وأما أقوال الناس فهي ظنون لا دليل عليها ، وتستند إلى الشائعات ، ولله وحده علم ما غاب في شؤون السموات والأرض ، وخفي من أحوال أهلها.

(أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) هذا من صيغ التعجب والمبالغة ، أي إن الله تعالى لبصير بهم ، سميع لهم ، وذلك في معنى المبالغة في المدح والتعجب ، كأنه قيل : ما أبصره وأسمعه ، أي ما أبصر الله لكل موجود ، وأسمعه لكل مسموع ، لا يخفى عليه من ذلك شيء. قال قتادة في هذه الصيغة : فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع.

(ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ) أي ما للناس من دون الله متول يلي أمورهم ، وليس له وزير ولا نصير.

(وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) أي أن الله تعالى له الخلق والأمر ، لا معقّب لحكمه ، ولا يشاركه في قضائه أحد من الناس ، وليس له شريك ولا مشير.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من بيان قصة أصحاب الكهف ما يأتي :

١ ـ ليس حال هذه القصة هي الآية العجاب من آيات الله فقط ، وإنما خلق السموات والأرض وما فيهما أشد عجبا وأعظم روعة ، وأدل على قدرة الله عزوجل ، فلا يعظم ذلك أيها النبي بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة.

٢٣٠

٢ ـ كان إيواء الفتية المؤمنين إلى الكهف من أبناء أشراف مدينة «دقيانوس» الملك الكافر فرارا بدينهم من فتنة الكافرين عبدة الأصنام. وهذا دليل صريح في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال ، خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة. وقد خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فارّا بدينه ، وكذلك أصحابه ، كما نص الله تعالى في سورة براءة. إنهم هجروا أوطانهم ، وتركوا أرضهم وديارهم وأهاليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم ، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين.

وهذه الحالة المستثناة لجواز العزلة عن الناس باتفاق العلماء مقصورة على حال خشية الفتنة في الدين. وأما ما عدا ذلك فالمخالطة أفضل من العزلة ، روى البغوي وأحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «المؤمن الذي يخالط الناس ، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم ، ولا يصبر على أذاهم».

٣ ـ لما فر أصحاب الكهف ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء ، ولجؤوا إلى الله تعالى قائلين : (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) أي آتنا مغفرة ورزقا ، وهيّئ لنا توفيقا للرشاد والسداد والصواب.

وقد اختلف الناس في زمان أصحاب الكهف في مكانهم ، أما الزمان الذي كانوا فيه : فقيل : إنهم كانوا قبل موسى عليه‌السلام ، وإن موسى ذكرهم في التوراة ، ولهذا السبب فإن اليهود سألوا عنهم ، وقيل : إنهم دخلوا الكهف قبل المسيح ثم بعثوا بعد عيسى وقبل محمد ، وقيل : إنهم دخلوا الكهف بعد المسيح. وأما مكان هذا الكهف فلا يعرف على وجه اليقين ، ويقال : إنه في بلاد الروم أي في جنوب تركيا اليوم في طرسوس ، وهو الظاهر.

٤ ـ كان من تدبير الله تعالى لأهل الكهف للمكث فيه راقدين (٣٠٩) سنوات

٢٣١

إلقاء النوم عليهم ومنعهم من السماع ؛ لأن النائم إذا سمع انتبه ، ثم بعثتهم من بعد نومهم ، ثم اطلاع الناس على شأنهم.

وكان إيقاظهم من أجل اختبار الناس لمعرفة مقدار مدة لبثهم ، وقوله (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) معناه : لنعلم ذلك موجودا ، وإلا فقد كان الله تعالى علم أي الفريقين أحصى الأمد. والفريقان أو الحزبان : الفتية الذين ظنوا لبثهم قليلا ، وأهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم ، حين كان عندهم التاريخ لأمر الفتية.

٥ ـ إن صفات هؤلاء الفتية أو الجماعة من الشبان : أنهم آمنوا بالله ، وألهم الله قلوبهم الصبر والثبات ، وزاد الله في إيمانهم بالتيسير للعمل الصالح ؛ من الانقطاع إلى الله تعالى ، ومباعدة الناس ، والزهد في الدنيا.

وكان من أثر شدة عزيمتهم وقوة صبرهم التي أعطاها الله لهم أنهم أعلنوا أمام الكفار : (رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً ، لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً).

وكانوا يتذاكرون شأن إيمانهم ، فقال بعضهم : هؤلاء أهل عصرنا وبلدنا ، عبدوا الأصنام تقليدا من غير حجة ، فهلا يأتون بحجة على عبادتهم الصنم؟!

٦ ـ لقد قال الله لهم أو قالوا لبعضهم : إذ اعتزلتم قومكم ، فأووا إلى الكهف تغمركم رحمة الله ، ويهيء الله لكم ما ترتفقون وتنتفعون به من شؤون الحياة.

٧ ـ كان من رحمة الله بهم ولطفه بهم بعد الرقاد أن الشمس تتنحى عنهم وتميل جهة اليمين وجهة الشمال ، أي عن يمين الكهف وعن شماله ، فلا تصيبهم في ابتداء النهار ولا في آخر النهار ، وكان الرائي يحسبهم أيقاظا ؛ لأن أعينهم كانت مفتوحة وهم نائمون ، وأن كلبهم باسط ذراعيه في باب الكهف لحراستهم ، وهو

٢٣٢

نائم مثلهم. ومن لطفه تعالى بهم أيضا تقليبهم ناحية اليمين وناحية الشمال لئلا تأكل الأرض لحومهم ، وكان التقليب من فعل الله ، ويجوز أن يكون من ملك بأمر الله ، فينسب إلى الله تعالى.

٨ ـ يجوز اتخاذ الكلاب للحاجة والصيد والحراسة ، ورد في صحيح مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية ، نقص من أجره كل يوم قيراطان».

وكلب الماشية المباح اتخاذه عند الإمام مالك : هو الذي يسرح معها ، لا الذي يحفظها في الدار من السرّاق. وكلب الزرع : هو الذي يحفظها من الوحوش بالليل أو بالنهار ، لا من السرّاق. وقد أجاز غير مالك اتخاذ الكلاب لسرّاق الماشية والزرع.

٩ ـ ينتفع الإنسان بصحبة الأخيار ومخالطة الصلحاء والأولياء ، بدليل جعل كلب أهل الكهف مثلهم ، إنه كلب أحب قوما ، فذكره الله معهم. روى مسلم في صحيحة عن أنس بن مالك قال : بينا أنا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خارجان من المسجد ، فلقينا رجل عند سدّة المسجد فقال : يا رسول الله ، متى الساعة؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أعددت لها؟ قال : فكأن الرجل استكان ، ثم قال : يا رسول الله ، ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة ، ولكني أحب الله ورسوله ، قال : «فأنت مع من أحببت».

وأكثر المفسرين : على أنه كلب حقيقة ، وكان لصيد أحدهم أو لزرعه ، أو غنمه ، واسم «قطمير» كلب أنمر ، والصحيح أنه زبيري.

١٠ ـ ألقى الله عليهم الهيبة أو المهابة والوقار ، فلو شاهدهم إنسان أشرف على الهرب منهم ، وامتلأ قلبه خوفا ورعبا منهم. قال ابن عطية : والصحيح في أمرهم أن الله عزوجل حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها ، لتكون لهم ولغيرهم فيهم

٢٣٣

آية ، فلم يبل لهم ثوب ولم تغير صفة ، ولم ينكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء ، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهمّ.

١١ ـ بعد الرقاد والتقليب أيقظهم الله من نومهم على ما كانوا عليه من هيئاتهم في ثيابهم وأحوالهم ، وليصيروا إلى التساؤل فيما بينهم عن مدة نومهم ، فقال بعضهم : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) وقال آخرون : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ).

١٢ ـ دل قوله تعالى : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً ..) الآية على مشروعية الوكالة ، وعلى حسن السياسة والتلطف في دخول المدينة وخروجها وشراء الطعام من أهلها ، حتى لا يعلم أهل المدينة بهم ، فيقتلوهم بالحجارة ، وهو أخبث القتل.

والوكالة معروفة في الجاهلية والإسلام ، وقد وكل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعض الصحابة في تزويجه من بعض النسوة ، ووكل عروة البارقي في شراء أضحية ، ووكل علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه أخاه عقيلا عند عثمان رضي‌الله‌عنهما.

والوكالة عقد نيابة أذن الله سبحانه فيه للحاجة إليه ، وقيام المصلحة في ذلك ؛ إذ ليس كل أحد يقدر على تناول أموره إلا بمعونة من غيره ، أو بترفّه ، فيستنيب من يريحه. ودل القرآن في غير هذه الآية على جواز الوكالة ، مثل قوله تعالى : (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) [التوبة ٩ / ٦٠] وقوله : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا) [يوسف ١٢ / ٩٣].

والوكالة جائزة عند الجمهور لمن له عدر ومن لا عذر له ، وقال أبو حنيفة وسحنون : لا تجوز لمن لا عذر له. ودليل الجمهور حديث البخاري عن أبي هريرة المتضمن توكيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إعطاء بعض أنواع الإبل وفاء لدينه ، وقال : «ان خيركم أحسنكم قضاء».

٢٣٤

١٣ ـ تضمنت هذه الآية : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ ..) أيضا جواز الشركة ؛ لأن الورق كان لجميعهم ، كما تضمنت جواز الوكالة ؛ لأنهم بعثوا من وكّلوه بالشراء ، وتضمنت جواز أكل الرفقاء وخلطهم طعامهم معا ، وإن كان بعضهم أكثر أكلا من الآخر ، ومثله قوله تعالى : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) [البقرة ٢ / ٢٢٠].

١٤ ـ أطلع الله تعالى الناس على أهل الكهف للعبرة والعظة والاسترشاد وإقامة الحجة على قدرة الله على الحشر وبعث الأجساد من القبور ، والحساب.

١٥ ـ إن اتخاذ المساجد على القبور ، والصلاة فيها ، والبناء عليها ، غير جائز في شرعنا ، لما روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال : «لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زوّارات القبور ، والمتخذين عليها المساجد ، والسّرج».

ويجوز الدفن في التابوت ، لا سيما إذا كانت الأرض رخوة ، وقد دفن دانيال ويوسفعليهما‌السلام في تابوت ، وكان تابوت دانيال من حجر ، وتابوت يوسف من زجاج. لكن يكره في شرعنا.

١٦ ـ قوله تعالى : (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) تنبيه على أن هذا العدد هو الحق ؛ لسكوت النص على التعقيب عليه ، خلافا لما قال تعالى في الجملتين المتقدمتين : (رَجْماً بِالْغَيْبِ).

وقوله سبحانه (قُلْ : رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) أمر دال على أن يردّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علم عدّتهم إلى الله عزوجل ، ثم أخبر أن عالم ذلك من البشر قليل.

وقوله (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) دليل على أن الله تعالى لم يبين لأحد عددهم ، فلهذا قال : (إِلَّا مِراءً ظاهِراً) أي ذاهبا ، ودليل على أنه لم يبح له في هذه الآية المراء والجدال إلا بالتي هي أحسن ، كما جاء في آية أخرى.

٢٣٥

وفي قوله سبحانه (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب في شيء من العلم.

١٧ ـ السّنة والأدب الشرعيان يقتضيان تعليق الأمور المستقبلية بمشيئة الله تعالى ؛ للآية (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ : إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً ، إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ). والآية ليست في الأيمان ، وإنما هي في سنة الاستثناء في غير اليمين ، بأن يقول : إن شاء الله.

ويؤمر الإنسان بالذكر بعد النسيان ، أي بذكر مشيئة الله عند التذكر ولو بعد حين ، سنة أو أقل ، أو أكثر.

١٨ ـ أخبر تعالى في قوله : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ...) عن مدة لبث أهل الكهف ، وهي ثلاث مائة وتسع سنوات ، كانوا في هذه المدة نياما ، لا أمواتا. وأمر الله تعالى برد العلم بمدتهم إلى الله عزوجل ، كما أمر بذلك في معرفة عددهم ؛ لأن الله تعالى أعلم بكل شيء ، وأعلم بغيب السموات والأرض وما فيها من أحوال المخلوقات ، ولا شريك له ولا مشير ، ولا نصير ولا معين ولا وزير.

والظاهر أن أهل الكهف ماتوا موتا حقيقيا ، وإن كان لا مانع شرعا من بقاء أجسادهم محفوظة ، لم يطرأ عليها البلى والفناء ؛ لأن أجساد الأنبياء والشهداء والعلماء الصالحين لا تفنى ولا تبلى.

١٩ ـ العبرة من القصة : دلت هذه القصة على أن الله قادر على البعث والقيامة ؛ لأن إثبات البعث والقيامة يدور على أصول ثلاثة : أحدها ـ أنه تعالى قادر على كل الممكنات ، والثاني ـ أنه تعالى عالم بجميع المعلومات الكليات والجزئيات ، والثالث ـ أن كل ما كان ممكن الحصول في بعض الأوقات كان ممكن الحصول في سائر الأوقات.

٢٣٦

وهذه القصة تدل على أن الله تعالى عالم قادر على كل شيء ، فثبت القول بإمكان البعث والقيامة.

توجيهات للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللمؤمنين

(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١))

٢٣٧

الإعراب :

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) : (الْحَقُ) خبر مبتدأ محذوف ، و (مِنْ رَبِّكُمْ) حال. (يَشْوِي الْوُجُوهَ) صفة ثانية لماء أو خال من المهل.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ) وصلته : اسم (إِنَ) ، وخبرها إما (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) وإما (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) أي لا نضيع أجرهم ، فأقيم المظهر مقام المضمر ، وإما أن خبرها مقدر ، أي إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يجازيهم الله بأعمالهم ، بدليل (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً).

البلاغة :

(بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) و (فَلْيُؤْمِنْ فَلْيَكْفُرْ) بينهما طباق.

(بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) و (نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) مقابلة بين النار والجنة.

(بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) تشبيه مرسل مفصل لذكر أداة الشبه ووجه التشبيه.

المفردات اللغوية :

(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) من القرآن ، ولا تسمع لقولهم : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) [يونس ١٠ / ١٥]. (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) لا مغير لأحكامه ، فلا أحد يقدر على تبديلها وتغييرها غيره. (مُلْتَحَداً) ملجأ تعدل إليه إذا هممت به. (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) احبسها وثبّتها مع الفقراء. (بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) أي في طرفي النهار ، وخصا بالبيان لغفلة الناس واشتغالهم بدنياهم حينئذ. (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) يريدون بعبادتهم رضا الله وطاعته ، لا شيئا من أعراض الدنيا. (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) أي لا يجاوزهم نظرك إلى غيرهم ، والمراد لا تهمل شأنهم وتهتم بالأغنياء ، وعبر بقوله تعالى (عَيْناكَ) عن صاحبهما. (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي تقصد مجالسة الأغنياء وأصحاب النفوذ والثروة. (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ) جعلناه غافلا وهو حينئذ عيينة بن حصن وأصحابه مثل أمية بن خلف. (عَنْ ذِكْرِنا) أي القرآن. (وَاتَّبَعَ هَواهُ) في الشرك. (فُرُطاً) أي تجاوزا حد الاعتدال ، وتقدما على الحق ، ونبذا له. وكانوا قد دعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى طرد الفقراء عن مجلسه لصناديد قريش. وفيه تنبيه إلى أن الداعي لهذا الاستدعاء غفلة القلب عن المعقولات ، والانهماك في المحسوسات حتى خفي عليهم أن الشرف بحلية النفس ، لا بزينة الجسد.

٢٣٨

(وَقُلِ) خطاب للنبي ولأصحابه. (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) الحق ومنه القرآن : ما يكون من جهة الله تعالى ، لا ما يقتضيه الهوى. (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) تهديد لهم ووعيد ، قال البيضاوي : وهو لا يقتضي استقلال العبد بفعله ، فإنه وإن كان بمشيئته ، فمشيئته ليست إلا بمشيئة الله تعالى. (أَعْتَدْنا) أعددنا وهيأنا. (لِلظَّالِمِينَ) الكافرين. (سُرادِقُها) هو الفسطاط ، وهو لفظ فارسي معرب ، شبّه به ما يحيط بهم من لهب النار. (كَالْمُهْلِ) كعكر الزيت ، أو كالشيء المذاب من المعادن كالنحاس والرصاص. (يَشْوِي الْوُجُوهَ) من حره إذا قدّم أو قرّب منها للشرب. (بِئْسَ الشَّرابُ) المهل هو. (وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) أي وساءت النار متكأ ، وهو لمقابلة قوله تعالى الآتي (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) وإلا فلا ارتفاق لأهل النار. و (مُرْتَفَقاً) : تمييز منقول عن الفاعل ، أي قبح مرتفقها.

(إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) خبر (إِنَّ الَّذِينَ) وفيها إقامة الظاهر مقام المضمر ، أي لا نضيع أجرهم ، أي نثيبهم بما تضمنه. ويجوز أن يكون الخبر (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) وما بينهما اعتراض. وهذا على الوجه الأول استئناف لبيان الأجر ، أو خبر ثان. (جَنَّاتُ عَدْنٍ) إقامة واستقرار. (مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ) الأولى للابتداء ، والثانية للبيان ، صفة لأساور ، وهي جمع أسورة أو أسوار في جمع سوار ، أي فهي جمع الجمع. وتنكير لفظها لتعظيم حسنها عن الإحاطة به.

(سُنْدُسٍ) مارقّ من الديباج ، وهو فارسي معرب. (وَإِسْتَبْرَقٍ) ما غلظ منه ، وهو رومي معرّب. جاء في آية من سورة الرحمن (بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) [٥٤] وجمع بين النوعين للدلالة على أن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. (الْأَرائِكِ) السرر ، جمع أريكة وهي السرير الذي عليه الحجلة (الناموسية في عرفنا). (نِعْمَ الثَّوابُ) الجنة ونعيمها.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٨):

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) : عن سلمان الفارسي قال : جاءت المؤلفة القلوب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس وذووهم ، فقالوا : يا رسول الله ، إنك لو جلست في صدر المجلس ، ونحّيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم ، يعنون. سلمان وأبا ذرّ وفقراء المسلمين ، وكانت عليهم جباب الصوف ، ولم يكن عليهم غيرها ، جلسنا إليك ، وحادثناك وأخذنا عنك ، فأنزل الله

٢٣٩

تعالى : (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ ، لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ، وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ ، يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) حتى بلغ (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً) يتهددهم بالنار ، فقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلتمسهم ، حتى إذا أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله تعالى قال : «الحمد لله الذي لم يمتني ، حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي ، معكم المحيا ومعكم الممات» (١).

وفي رواية أخرى : أن عيينة بن حصن الفزاري أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن يسلم ، وعنده جماعة من فقراء أصحابه ، فيهم سلمان الفارسي ، وعليه شملة قد عرق فيها ، وبيده خوص يشقّه ، ثم ينسجه ، فقال له : أما يؤذيك ريح هؤلاء ، ونحن سادات مضر وأشرافها ، فإن أسلمنا أسلم الناس ، وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء ، فنحّهم حتى نتّبعك ، أو اجعل لهم مجلسا ، ولنا مجلسا ، فنزلت الآية.

وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا : جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورجل يقرأ سورة الحجر ، أو سورة الكهف ، فسكت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم».

نزول آية (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ ..) :

أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ ..) قال: نزلت في أمية بن خلف الجمحي ، وذلك أنه دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أمر كرهه الله من طرد الفقراء عنه ، وتقريب صناديد أهل مكة ، فنزلت.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي ١٧١.

٢٤٠