التفسير المنير - ج ١٥

الدكتور وهبة الزحيلي

الإعراب :

(وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) الواو للعطف على (أَنْزَلَ). والأولى جعل الواو للحال من الكتاب ، على تقدير : أنزل الكتاب على عبده غير مجعول له عوج (قَيِّماً). وهو أولى من جعله معطوفا على (أَنْزَلَ) لما فيه من الفصل بين بعض الصلة وبعض ، فلو كان للعطف ، كان المعطوف فاصلا بين أبعاض المعطوف عليه ، ولذلك قيل في الآية تقديم وتأخير ، والتقدير : أنزل الكتاب قيما ، ولم يجعل له عوجا.

(قَيِّماً) قال في الكشاف : الأحسن أن ينتصب بمضمر ، ولا يجعل حالا من (الْكِتابَ) ، منعا من الفصل بين الحال وصاحبه. وقيل : حال من (الْكِتابَ).

(لِيُنْذِرَ بَأْساً) اللام متعلقة بأنزل ، و (بَأْساً) : مفعول ثان لينذر ، والمفعول الأول محذوف ، تقديره : لينذركم بأسا شديدا من لدنه.

(مِنْ لَدُنْهُ) قرئ بضم الدال على الأصل ، وبإسكانها على وزن عضد وحذف الضمة فيقال : عضد ولدن ، وبإشمامها بالضم للتنبيه على أن أصلها هو الضم.

(ماكِثِينَ فِيهِ) حال من الهاء والميم في (لَهُمْ).

(كَبُرَتْ كَلِمَةً) تمييز منصوب ، أي : كبرت الكلمة كلمة. و (تَخْرُجُ) جملة فعلية صفة (كَلِمَةً).

(إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) أي ما يقولون إلا كذبا. وكذبا منصوب بيقولون ، مثل : قلت شعرا أو خطبة.

(أَسَفاً) منصوب على المصدر ، في موضع الحال ، أو مفعول لأجله.

(زِينَةً لَها) مفعول ثان لجعلنا بمعنى صيّرنا. وإن جعل بمعنى خلقنا فهم مفعول به له.

البلاغة :

(يُبَشِّرَ وَيُنْذِرَ) بينهما طباق.

(لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا : اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) فيه إطناب بذكر الخاص بعد العام. وفي كل منهما حذف بديع ، فحذف من الجملة الأولى المفعول الأول أي لينذر الكافرين بأسا ، وحذف من الجملة الثانية المفعول الثاني ، وهو عذابا ، فحذف لدلالة الأول عليه ، وحذف من الأول المنذرين لدلالة الثاني عليه.

٢٠١

(باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) استعارة تمثيلية ، شبه حاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المشركين بحال من فارقته الأحباب ، فهمّ بإهلاك نفسه حزنا عليهم.

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ) استفهام إنكاري بمعنى النهي ، أي لا تبخع نفسك لإعراضهم عن الإيمان أسفا.

المفردات اللغوية :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) الحمد : الوصف بالجميل ثابت لله تعالى ، وهو تعليم للعباد كيف يثنون على الله ويحمدونه على أجزل نعمائه عليهم وهي نعمة الإسلام ، وما أنزل على عبده محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم وفوزهم (الْكِتابَ) القرآن (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) ولم يجعل له شيئا من العوج قط ، والعوج في المعاني كالعوج في الأعيان ، والمراد نفي الاختلاف والتناقض عن معانيه وألفاظه.

(قَيِّماً) مستقيما معتدلا ، لا إفراط فيه ولا تفريط ، فلا إفراط فيما اشتمل عليه من التكاليف منعا للمشقة والحرج ، ولا تفريط فيه بإهمال ما يحتاج إليه. وفائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة هو التأكيد ، فرب مستقيم لا يخلو من أدنى عوج عند التأمل. وقيل : قيما على سائر الكتب ، مصدقا لها ، شاهدا بصحتها ، وقيل : قيما بمصالح العباد ، وما لا بد لهم منه من الشرائع ، فيكون وصفا له بالتكميل بعد وصفه بالكمال.

(لِيُنْذِرَ) ليخوف بالكتاب الكافرين وهو متعلق بأنزل (بَأْساً) عذابا في الآخرة (مِنْ لَدُنْهُ) من قبله أو من عنده. حذف المفعول الأول لفعل (لِيُنْذِرَ) ـ وهذا من بديع الحذف وجليل الفصاحة ـ لأن المنذر به هو الغرض المسوق إليه ، فاقتصر عليه ، ودل عليه ذكر المنذرين في قوله : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا : اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) من غير ذكر المنذر به لتقدم ذكره ، كما ذكر المبشر به في قوله : (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) والأجر الحسن : الجنة.

(ما لَهُمْ بِهِ) بهذا القول أو باتخاذ الولد (وَلا لِآبائِهِمْ) من قبلهم ، والمعنى : أنهم يقولونه عن جهل مفرط وتوهم كاذب ، أو تقليد لما سمعوه من أوائلهم (كَبُرَتْ كَلِمَةً) عظمت ، والمخصوص بالذم محذوف أي مقالتهم المذكورة (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) ما يقولون في ذلك إلا مقولا كذبا.

(باخِعٌ) مهلك نفسك أو قاتلها (عَلى آثارِهِمْ) أي من بعدهم ، أي من بعد توليهم عن الإيمان (الْحَدِيثِ) القرآن (أَسَفاً) غيظا وحزنا منك ، لحرصك على إيمانهم. والأسف : المبالغة في الحزن والغضب (ما عَلَى الْأَرْضِ) من الحيوان والنبات والشجر والأنهار وغير ذلك (لِنَبْلُوَهُمْ) لنختبر الناس ، ناظرين إلى نتيجة الاختبار (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) في تعاطيه ، وهو من زهد فيه ، ولم يغتر به ، وصرفه على ما ينبغي من الإتقان (صَعِيداً) ترابا (جُرُزاً) يابسا لا نبات فيه.

٢٠٢

التفسير والبيان :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ ...) يحمد الله تعالى نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه ؛ إذ أخرج الناس من الظلمات إلى النور ، حيث جعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ ، بل يهدي إلى صراط مستقيم ، فمعنى قوله : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) أي لم يجعل فيه اعوجاجا ولا زيغا ولا ميلا بل جعله معتدلا مستقيما.

والحمد معناه : الشكر والثناء بالجميل على الفعل الجميل الصادر بالاختيار من الله تعالى. والله تعالى محمود على كل حال ، ويحمد نفسه أحيانا عند فواتح السور وخواتمها ، لتعليم العباد كيف يحمدونه على نعمه الجليلة التي أنعم بها عليهم ، ومن أهمها نعمة الإسلام وما أنزل على عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم وفوزهم.

(قَيِّماً ، لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ ..) أي مستقيما ، وأتى بهذه الصفة بعد نفي الاعوجاج للتأكيد ، فربّ مستقيم مشهود له بالاستقامة لا يخلو من أدنى عوج عند الفحص والاختبار. وقيل : معناه : قيما على سائر الكتب ، مصدقا لها ، شاهدا بصحتها. وقيل : قيما بمصالح العباد ، وما لا بد لهم منه من الشرائع.

(لِيُنْذِرَ) أي ليخوف الذين كفروا بالكتاب عذابا شديدا ، وعقوبة عاجلة في الدنيا وهو النكال ، وآجلة في الآخرة وهو نار جهنم. وقوله : (مِنْ لَدُنْهُ) أي صادرا من عند الله تعالى.

(وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ) بهذا القرآن ، الذين دعموا إيمانهم بالعمل الصالح ، أن لهم مثوبة جميلة عند الله ، وهي الجنة دار المتقين الأبرار ، ودار الخلود أبدا للمحسنين الأخيار ، فالأجر الحسن : الجنة.

٢٠٣

(ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) أي مستقرين في ثوابهم عند الله وهو الجنة إلى الأبد ، وخالدين فيه دائما ، لا زوال له ولا انقضاء.

(يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا ...) أي ويحذر الكفار الذين زعموا أن لله ولدا ، وهم مشركو العرب الذين قالوا : نحن نعبد الملائكة بنات الله ، واليهود الذين اتخذوا عزيرا ابن الله ، والنصارى الذين قالوا : المسيح ابن الله.

وإنما خصّ ذكر هؤلاء مع دخولهم في الإنذار العام المتقدم للكافرين ، للدلالة على أن أقبح أنواع الكفر والمعصية إثبات الولد لله تعالى.

(ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ) أي ما لهم ولا لآبائهم أي أسلافهم علم ثابت بهذا القول الذي افتروه وهو اتخاذ الولد لله أو الوالد ، وإنما هو صادر عن جهل مفرط وتقليد للآباء ، ومن تسويل الشيطان. وانتفاء العلم بالشيء : إما للجهل بالطريق الموصل إليه ، وإما لأنه في نفسه محال لا يصلح محلا للعلم به.

(كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) أي عظمت تلك الكلمة التي ينطقون بها ، ويخرجونها من أفواههم متجرئين على النطق بها ، وهي كلمة الكفر ، فليس لها مستند سوى قولهم ، ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم ، ولهذا قال : (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) أي ما يقولون إلا قولا مجرد كذب وزور ، ولا حقيقة له أصلا.

ثم سرّى الله تعالى عن رسوله عليه الصلاة والسلام وواساه في حزنه على المشركين لتركهم الإيمان وبعدهم عنه بقوله :

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ ..) أي فلعلك قاتل نفسك ومهلكها لأن لم يؤمنوا بهذا القرآن ، أسفا وحسرة عليهم ، ولعل هنا للاستفهام الإنكاري المتضمن معنى النهي ، أي لا تهلك نفسك أسفا لعدم إيمانهم ، ولا تقتلها غضبا

٢٠٤

وجزعا وحزنا عليهم ، بل أبلغهم رسالة الله ، فمن اهتدى فلنفسه ، ومن ضلّ فإنما يضل عليها. والآثار جمع أثر أي على أثر توليهم وإعراضهم عنك.

وللآية نظائر كثيرة منها : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر ٣٥ / ٨] ومنها : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٣] ومنها : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) [النحل ١٦ / ١٢٧].

ثم أخبر تعالى أنه جعل الدنيا دارا فانية زائلة ، وأنها دار اختبار لا دار قرار ، فقال :

(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها ...) أي إنا جعلنا ما على الأرض من زخارف الدنيا من إنسان وحيوان ونبات ومعادن ومنازل ومباهج ومفاتن زينة زائلة لها ولأهلها ، لنعاملهم معاملة المختبرين ، ليعرف المحسن عمله من الفاسد ، فنجازي المحسن بالثواب ، والمسيء بالعقاب. وحسن العمل : الزهد في الدنيا ، وترك الاغترار بها ، وجعلها وسيلة وجسرا للآخرة.

أخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها ، فينظر كيف تعملون».

ثم ذكر الله تعالى سبب التوجيه بالإعراض عن الكفار ، فقال :

(وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) أي وإنا لنصير الأرض وما عليها بعد الزينة إلى الخراب والدمار ، فقوله : (صَعِيداً جُرُزاً) يعني كالأرض البيضاء التي لا نبات فيها ولا ينتفع بها ، بعد أن كانت خضراء معشبة. وذلك مثل قوله تعالى : (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه ٢٠ / ١٠٧]. والصعيد : الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات. والجرز في اللغة : اليابسة التي لا تنبت ، أو الأرض التي لا نبات فيها.

٢٠٥

والمقصود من الآية تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقول له : لا تحزن فإنا سنهلكهم ونبيدهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

أوضحت الآيات أن أعظم نعمة من الله على عباده إنزال القرآن الكريم ، الدواء الناجع لمشكلات البشرية ، والمنقذ من الظلمات إلى النور ، والحق العدل المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا التواء.

ومهمته أيضا إنذار الكافرين وتخويفهم بالعذاب الشديد في نار جهنم والنكال في الدنيا ، وخصوصا المشركين الذين اتخذوا لله ولدا وهم كفار العرب الذين قالوا : الملائكة بنات الله ، واليهود الذين قالوا : عزير ابن الله ، والنصارى الذين قالوا : المسيح ابن الله. ولا دليل لهم ولا لأسلافهم على ما يقولون ، وتلك كلمة كبيرة الإثم ، شديدة الشناعة ، عظيمة الجرم.

وللقرآن مهمة أخرى هي تبشير المؤمنين الذين يعملون الصالحات من التصديق بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتزام الأوامر واجتناب النواهي بالأجر الحسن وهو الجنة التي يخلد فيها أهلها ، فهي دار الخلد التي لا يموتون فيها.

ولا يغترن أحد بالدنيا وما فيها من زينة وزخارف ومباهج ، فتلك للاختبار والامتحان ، ليعرف الصالحون الأبرار من المفسدين الفجار ، ثم مآلها إلى الفناء والزوال والدمار والخراب ، والرجوع إلى الملك الإله الدّيّان ، ليجزي كل إنسان بعمله.

وإذا كان هذا هو المصير المحتوم ، فلا تأس ولا تحزن أيها الرسول على ما ترى وتسمع في الدنيا ، ولا حاجة لإتعاب نفسك وإهلاكها وقتلها بسبب توليهم وإعراضهم عنك ، وعدم إيمانهم بالقرآن ، وأسفا أي حزنا وغضبا على كفرهم.

٢٠٦

قصة أصحاب الكهف

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً

٢٠٧

(١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦))

الإعراب :

(مِنْ آياتِنا عَجَباً) (٩) (مِنْ آياتِنا) حال ، و (عَجَباً) : خبر كان ، وهو وصف بالمصدر ، أو على ذات عجب.

٢٠٨

(سِنِينَ عَدَداً) (١١) (سِنِينَ) : ظرف منصوب ، و (عَدَداً) : وصف لسنين منصوب ، على معنى : ذات عدد ، أو منصوب على المصدر.

(أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) (١٢) : أي : مبتدأ مرفوع ، (أَحْصى) : فعل ماض خبر المبتدأ ، والجملة من المبتدأ والخبر سدت مسدّ مفعولي (لِنَعْلَمَ) و (أَمَداً) : ظرف زمان منصوب ، وعامله : (أَحْصى) ، وهو الأوجه ، وقيل : (لَبِثُوا). ولما لبثوا : حال من (أَمَداً) أو مفعول لأجله. (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) : صفة مصدر محذوف ، فهو منصوب على المصدر ، أي قولا شططا ، أو منصوب بقلنا ، مثل : قلنا شعرا.

(لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ) (١٥) : أي هلا يأتون على دعواهم بأنها آلهة ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وهؤلاء : مبتدأ ، و (قَوْمُنَا) : عطف بيان ، وجملة (اتَّخَذُوا) : خبر.

(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) (١٦) : (إِذِ) : تتعلق بفعل مقدر ، أي واذكروا إذ اعتزلتموهم. و (ما) : إما مصدرية (أي وإذ اعتزلتموهم وعبادتهم إلا عبادة الله ، فحذف المضاف) وإما اسما موصولا (أي وإذ اعتزلتموهم والذي يعبدونه) وإما نافية (أي وإذ اعتزلتموهم غير عابدين إلا الله ، فتكون الواو واو الحال) و (ما) : في الوجهين الأوليين : في موضع نصب بالعطف على الهاء والميم في (اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) وفي الوجه الثالث : في موضع نصب على الحال. وقوله (إِلَّا اللهَ) يجوز أن يكون استثناء متصلا ؛ لأنهم كانوا كأهل مكة يقرون بالخالق ويشركون معه ، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا.

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ...) (١٧) : (الشَّمْسَ) : مفعول (تَرَى) ، و (إِذا طَلَعَتْ) و (إِذا غَرَبَتْ) : ظرفان يتعلقان بترى ، و (عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ) : يتعلق بترى. و (تَزاوَرُ) : جملة فعلية حال من (الشَّمْسَ). و (ذاتَ الشِّمالِ) : يتعلق بتقرضهم. (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) : جملة اسمية حال.

(باسِطٌ ذِراعَيْهِ) .. (فِراراً) (١٨) : (ذِراعَيْهِ) : منصوب بباسط ، وإنما أعمل اسم الفاعل ، وإن كان للماضي ؛ لأنه أراد به حكاية الحال ، مثل الإشارة للحاضر في قوله تعالى : (هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) [القصص ٢٨ / ١٥] ولم يكن المشار إليهما حاضرين حين قص القصة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنما حكى تلك الحال. و (فِراراً) و (رُعْباً) : منصوبان على المصدر.

(كَمْ لَبِثْتُمْ) (١٩) : (كَمْ) : هنا ظرفية في موضع نصب بلبثتم ، أي كم يوما لبثتم ، ويوما المحذوف : تمييز ، ودليل التقدير : كم يوما : أنه قال في الجواب : (قالُوا : لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ).

٢٠٩

(فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) (١٩) (أَيُّها) : مبتدأ ، و (أَزْكى) : خبر المبتدأ ، و (طَعاماً) : تمييز ، والجملة مفعول (فَلْيَنْظُرْ).

(إِذْ يَتَنازَعُونَ) (٢١) : (إِذْ) : ظرف زمان في موضع نصب : وعامله (لِيَعْلَمُوا).

(سَيَقُولُونَ : ثَلاثَةٌ ، رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) (٢٢) : (ثَلاثَةٌ) : خبر مبتدأ أي هم ثلاثة. و (رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) : جملة اسمية صفة (ثَلاثَةٌ). وكذلك التقدير في قوله : (خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) وقوله (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ). وإنما جاء بالواو في قوله : (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) ولم يجئ به على الصفة كالعدد قبله ؛ لأن السبعة : أصل المبالغة في العدد ، كما كانت السبعين كذلك في قوله تعالى : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [التوبة ٩ / ٨٠] ولو جاء بالواو في (ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) لكان جائزا و (رَجْماً بِالْغَيْبِ) : مفعول لأجله.

(إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٢٤) : في موضع نصب (بفاعل) بتقدير حذف حرف الجر ، أي : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا بأن يشاء الله ، وأن وصلتها في تأويل المصدر ، وتقديره : لمشيئة الله ، إلا أنه حذف حرف الجر من (أَنْ) فاتصل الفعل به.

(ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) (٢٥) : بالتنوين تكون (سِنِينَ) منصوبا على البدل من (ثَلاثَ) أو عطف بيان على (ثَلاثَ) أو تكون بدلا مجرورا من (مِائَةٍ) لأن المائة في معنى (سِنِينَ). ومن لم ينون : أضاف (مِائَةٍ) إلى (سِنِينَ) تنبيها على الأصل الذي كان يجب استعماله. و (تِسْعاً) : مفعول به ، مثل (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) [يوسف ١٢ / ٦٥] وليس بظرف ، أي وازدادوا لبث تسع سنين ، فحذف المضاف.

(أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) (٢٦) : أي ما أسمعه وأبصره ، وتقديره : أسمع به ، إلا أنه حذف اكتفاء بالأول عنه. وموضع (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) الرفع لإرادة التعجب.

البلاغة :

(إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا) استئناف مبني على سؤال من قبل المخاطب ، وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة.

(يَهْدِ) و (يُضْلِلْ أَيْقاظاً) و (رُقُودٌ ذاتَ الْيَمِينِ) و (ذاتَ الشِّمالِ) بين كل طباق.

(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) بينهما طباق معنوي ؛ لأن معنى الأول : أنمناهم والثاني أيقظناهم.

(إِذْ قامُوا فَقالُوا) بينهما جناس ناقص.

٢١٠

(أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) صيغة تعجب.

(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) استعارة تبعية ، شبهت الإنامة الثقيلة بضرب الحجاب على الآذان ، كما تضرب الخيمة على السكان.

(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) استعارة تبعية أيضا ؛ لأن الربط هو الشد ، والمراد شددنا على قلوبهم كما تشد الأوعية بالأوكية.

المفردات اللغوية :

(أَمْ حَسِبْتَ) ظننت ، و (أَمْ) : للانتقال من كلام إلى آخر ، بمعنى : بل وهمزة الاستفهام ، أي بل أحسبت ، والخطاب في الظاهر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمراد به كل مخاطب (الْكَهْفِ) الغار أو النقب المتسع في الجبل (وَالرَّقِيمِ) لوح حجري كتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم وقيل : اسم الجبل أو الوادي الذي فيه كهفهم (كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) كانوا في قصتهم من جملة آياتنا محل تعجب ، أي كانوا عجبا دون باقي الآيات ، أو أعجبها.

(أَوَى) اتخذه مأوى (الْفِتْيَةُ) جمع فتى ، وهو الشاب الكامل ، وهم فتية من الأشراف أرادهم دقيانوس على الشرك ، فأبوا وهربوا إلى الكهف ، خائفين على إيمانهم من قومهم الكفار (مِنْ لَدُنْكَ) من قبلك (رَحْمَةً) توجب لنا المغفرة والرزق والأمن من العدو (وَهَيِّئْ) يسّر ، وأصل التهيئة : إحداث هيئة الشيء (رَشَداً) هداية إلى الطريق الموصل للمطلوب ، والمعنى : هيّئ لنا من الأمر الذي نحن عليه من مفارقة الكفار طريقا نصير به راشدين مهتدين ، أو اجعل أمرنا كله رشدا. (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) أنمناهم نوما ثقيلا بحيث لا يسمعون ، وأصله : ضربنا على آذانهم حجابا يمنع السماع (سِنِينَ عَدَداً) معدودة.

(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أيقظناهم (لِنَعْلَمَ) علم مشاهدة (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) الفريقين المختلفين منهم أو من غيرهم في مدة لبثهم وهما الحزب القائل : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ، والحزب القائل : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ). (أَحْصى) فعل ماض ، أو أفعل بمعنى أضبط (لِما لَبِثُوا) للبثهم (أَمَداً) غاية ومدة لها حد (نَحْنُ نَقُصُ) نخبرك (بِالْحَقِ) بالصدق (الْفِتْيَةُ) شبان جمع فتى (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) قويناهم على قول الحق ، والصبر على هجر الوطن والأهل والمال (إِذْ قامُوا) بين يدي ملكهم : دقيانوس الجبار ، وقد أمرهم بالسجود للأصنام (مِنْ دُونِهِ) من غيره (شَطَطاً) أي قولا ذا شطط ، أي إفراط في الكفر إن دعونا إلها غير الله على سبيل الفرض لقول الشطط : هو الخارج عن المعقول المفرط في الظلم (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا) إخبار في معنى الإنكار (لَوْ لا) هلا (يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ) على عبادتهم (بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) بحجة ظاهرة أو ببرهان ظاهر ،

٢١١

فإن الدين لا يؤخذ إلا به ، وفيه دليل على أن مالا دليل عليه من الديانات مردود ، وإن التقليد فيه غير جائز (فَمَنْ أَظْلَمُ) لا أحد أظلم (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بنسبة الشريك إليه تعالى.

(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) خاطب بعض الفتية بعضهم الآخر بذلك (وَما يَعْبُدُونَ) عطف على الضمير المنصوب في الفعل المتقدم ، أي ولأجل أنكم اعتزلتم القوم ومعبوديهم إلا الله ، فإنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون الأصنام كسائر المشركين (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ) يبسط الرزق لكم ، ويوسع عليكم من رحمته في الدارين (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) ما ترتفقون به أي تنتفعون ، من غداء وعشاء. وقد جزموا بذلك لقوة ثقتهم بفضل الله تعالى.

(تَزاوَرُ) بتخفيف الزاي والتشديد أي تميل عنه ، ولا يقع شعاعها عليهم ، فيؤذيهم ؛ لأن الكهف كان جنوبيا ، أو لأن الله تعالى زورها عنه (ذاتَ الْيَمِينِ) جهة اليمين (تَقْرِضُهُمْ) تتركهم وتتجاوز عنهم ، فلا تصيبهم البتة (فَجْوَةٍ) متسع من الكهف أي في وسطه ، ينالهم برد الريح ونسيمها (ذلِكَ) المذكور وهو شأنهم أو تحول الشمس عنهم (مِنْ آياتِ اللهِ) دلائل قدرته (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) أي من يهد الله بالتوفيق ، فهو المهتدي الذي أصاب الفلاح ، والمراد به إما الثناء عليهم ، أو التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة ، ولكن المنتفع بها من وفقه الله تعالى للتأمل فيها والاستبصار بها (وَمَنْ يُضْلِلْ) ومن يخذله ، فلن تجد له من يليه ويرشده.

وبعبارة أخرى : من اهتدى بآيات الله واختار الإيمان بالدليل ، فقد هداه الله ووفقه لاختياره ، ومن لم يأخذ بأسباب الهدى فقد ضل وانحرف ، ولن تجد له من يرشده ويهديه.

(وَتَحْسَبُهُمْ) لو رأيتهم (أَيْقاظاً) أي منتبهين ؛ لأن أعينهم منفتحة (رُقُودٌ) نيام ، جمع راقد (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) لئلا تأكل الأرض لحومهم (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ) يديه واسم كلبهم : قطمير (بِالْوَصِيدِ) بفناء الكهف ، وقيل : بباب الكهف ، وكان يتقلب في النوم واليقظة مثلهم (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) فنظرت إليهم (مِنْهُمْ رُعْباً) منعهم الله بالرعب من دخول أحد عليهم. والرعب : الخوف الذي يملأ الصدر. عن معاوية رضي‌الله‌عنه : أنه غزا الروم ، فمرّ بالكهف ، فقال : لو كشف لنا عن هؤلاء ، فنظرنا إليهم ، فقال له ابن عباس رضي‌الله‌عنه : ليس لك ذلك ، وقد منع الله تعالى من هو خير منك ، فقال : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) فلم يسمع ، وبعث ناسا ، فلما دخلوا ، جاءت ريح ، فأحرقتهم.

(وَكَذلِكَ) كما فعلنا بهم ما ذكرنا (بَعَثْناهُمْ) أيقظناهم (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) عن حالهم ومدة لبثهم (قالُوا : لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) لأنهم دخلوا عند طلوع الشمس ، وبعثوا عند غروبها ، فظنوا أنه غروب يوم الدخول ، فقولهم مبني على غالب ظنهم ؛ لأن النائم لا يحصي مدة لبثه ، لذا أحالوا العلم إلى الله تعالى ، فقالوا : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) ويجوز أن يكون ذلك قول

٢١٢

بعضهم ، وهذا إنكار الآخرين عليهم. ولما علموا أن الأمر ملتبس مجهول عليهم اتجهوا إلى ما يهمهم وقالوا : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ) بفضتكم ، الورق : الفضة ، مضروبة كانت أو غيرها (إِلَى الْمَدِينَةِ) هي طرسوس أو أفسوس (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) فلينظر أيّ أطعمة المدينة أحل وأطيب ، وأكثر وأرخص (وَلْيَتَلَطَّفْ) وليتكلف اللطف في المعاملة حتى لا يغبن أو في التخفي حتى لا يعرف (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) ولا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور.

(إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) إن يطلعوا عليكم أو يظفروا بكم ، والضمير لأهل المدينة (يَرْجُمُوكُمْ) يقتلوكم بالرجم (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) يصيروكم إليها كرها ، من العود بمعنى الصيرورة (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) إن عدتم في ملتهم.

(وَكَذلِكَ) كما بعثناهم (أَعْثَرْنا) أطلعنا (عَلَيْهِمْ) قومهم والمؤمنين (لِيَعْلَمُوا) أي قومهم (أَنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث (حَقٌ) ثابت ؛ لأن نومهم وانتباههم كحال من يموت ، ثم يبعث ، والقادر على إنامتهم المدة الطويلة ، وإبقائهم على حالهم بلا غذاء ، قادر على إحياء الموتى (وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) لا شك فيها (إِذْ) معمول لأعثرنا أي أعثرنا عليهم حين يتنازعون (يَتَنازَعُونَ) أي المؤمنين والكفار ، والتنازع : التخاصم (أَمْرَهُمْ) أمر الفتية ، في البناء حولهم (فَقالُوا) أي الكفار (ابْنُوا عَلَيْهِمْ) أي حولهم (بُنْياناً) يسترهم. (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) جملة معترضة إما من الله رد على المتنازعين في زمانهم ، أو من المتنازعين فيهم على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو من المتنازعين للرد إلى الله ، بعد ما تذكروا أمرهم.

(قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) هم رؤساء البلد أهل الرأي وهم المؤمنون حين أماتهم الله ثانيا بالموت (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ) حولهم (مَسْجِداً) معبدا يصلى فيه ، وكانوا نصارى على المشهور ؛ وفعل ذلك على باب الكهف.

(سَيَقُولُونَ) أي المتنازعون في عدد الفتية في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي يقول بعضهم (ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) أي هم ثلاثة (وَيَقُولُونَ) يقول بعضهم (خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) والقولان لنصارى نجران (رَجْماً بِالْغَيْبِ) أي ظنا ورميا بالخبر الخفي الذي لا اطلاع لهم عليه ، والرحم : القول بالظن ، والغيب : ما غاب عن الإنسان ، والمراد هنا : القول بالظن والتخمين (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) قال ابن عباس : أنا من القليل ، وذكرهم سبعة.

(فَلا تُمارِ) تجادل (إِلَّا مِراءً) المراء : المحاجة فيما فيه مرية وشك وتردد (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) لا تطلب الفتيا من أحد من أهل الكتاب : اليهود ، أو لا تسأل أحدا منهم عن قصتهم سؤال مسترشد ، فإن فيما أوحي إليك لمندوحة عن غيره ، مع أنه لا علم لهم بها ، بل ولا سؤال متعنت ، تريد افتضاح المسؤول وتزييف ما عنده ، فإنه مخلّ بمكارم الأخلاق.

٢١٣

(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ : إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) لا تقل لأجل شيء : سأفعله غدا أو فيما يستقبل من الزمان (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي إلا متلبسا بمشيئة الله تعالى بأن تقول : إن شاء الله. وهذا نهي تأديب من الله تعالى لنبيه ، حين قالت اليهود لقريش : سلوه عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين ، فسألوه ، فقال : ائتوني غدا أخبركم ، ولم يقل : إن شاء الله ، فأبطأ عليه الوحي بضعة عشر يوما ، حتى شق عليه ، وكذبته قريش ، فنزلت الآية.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ) أي مشيئته ، معلقا الأمر بها (إِذا نَسِيتَ) التعليق بها ، ويكون ذكرها بعد النسيان كذكرها مع القول ، ما دام في المجلس ، كما قال الحسن وغيره ، وعن ابن عباس : ولو بعد سنة ما لم يحنث (لِأَقْرَبَ مِنْ هذا) من خبر أهل الكهف في الدلالة على نبوتي (رَشَداً) هداية ، وقد تم المراد ، وهداه الله لأعظم من ذلك ، كقصص الأنبياء الغابرين ، والإخبار عن المغيبات في المستقبل إلى قيام الساعة.

(ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) هي عند أهل الكتاب شمسية ، وتزيد القمرية عليها عند العرب تسع سنين ، فقال : (وَازْدَادُوا تِسْعاً) أي تسع سنين ، فالثلاث مائة الشمسية : ثلاث مائة وتسع قمرية (أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) ممن اختلفوا فيه (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي علمه (أَبْصِرْ بِهِ) بالله ، وهي صيغة تعجب (وَأَسْمِعْ) كذلك ، بمعنى : ما أبصره وما أسمعه ، وهما على جهة المجاز ، والمراد : أنه تعالى لا يغيب عن بصره وسمعه شيء (ما لَهُمْ) لأهل السموات والأرض (وَلِيٍ) ناصر (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) ولا يشرك في قضائه أحدا منهم ، ولا يجعل له فيه مدخلا ؛ لأنه غني عن الشريك.

سبب النزول :

سبق ذكر سبب نزول قصة أصحاب الكهف عند قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ : الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء ١٧ / ٨٥]. وذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه القصة مفصلا موضحا ، فقال : كان النضر بن الحارث من شياطين قريش ، وكان يؤذي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وينصب له العداوة ، وكان قد قدم الحيرة ، وتعلّم أحاديث رستم وإسفنديار ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا جلس مجلسا ذكر فيه الله ، وحدّث قومه ما أصاب من كان قبلهم من الأمم ، وكان النضر يخلفه في مجلسه إذا قام ، فقال : أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه ، فهلموا ، فأنا أحدثكم بأحسن من حديثه ، ثم يحدثهم عن ملوك فارس.

٢١٤

ثم إن قريشا بعثوه ، وبعثوا معه عتبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة ، وقالوا لهما : سلوهم عن محمد وصفته ، وأخبروهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى قدما إلى المدينة ، فسألوا أحبار اليهود عن أحوال محمد ، فقال أحبار اليهود :

سلوه عن ثلاث : عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم ، فإن حديثهم عجب ، وعن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه ، وسلوه عن الروح وما هو؟ فإن أخبركم فهو نبي ، وإلا فهو متقوّل ، فلما قدم النضر وصاحبه مكة قالا : قد جئناكم بفصل ما بيننا وبين محمد ، وأخبروا بما قاله اليهود ، فجاءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسألوه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أخبركم بما سألتم عنه غدا ، ولم يستثن ـ لم يقل : إن شاء الله ـ فانصرفوا عنه ، ومكث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فيما يذكرون ـ خمس عشرة ليلة ، حتى أرجف أهل مكة به ، وقالوا : وعدنا محمد غدا ، واليوم خمس عشرة ليلة ، فشق عليه ذلك ، ثم جاءه جبريل من عند الله بسورة أصحاب الكهف ، وفيها معاتبة الله إياه على حزنه عليهم ، وفيها خبر أولئك الفتية ، وخبر الرجل الطوّاف (١).

نزول الآية (٢٤): (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ ..)

أخرج ابن جرير عن الضحاك ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : حلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على يمين ، فمضى له أربعون ليلة ، فأنزل الله : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ ..) الآية.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى أنه جعل الزينة على ظهر الأرض ، وفي ذلك من العجائب والإبداع ما يفوق القصص وغرائبها ، أبان أن قصة أهل الكهف ليست

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢١ / ٨٣ ، تفسير الألوسي : ١٥ / ٢١٦

٢١٥

بالعجب وحدها من بين آياتنا ، وأنها أقل عجبا من تزيين الأرض بالنبات ، والحيوان والبشر ، والشجر والأنهار وغير ذلك.

التفسير والبيان :

إجمال القصة :

هذا هو الخبر اليقين عن قصة أصحاب الكهف الذين بقوا أحياء ثلاث مائة وتسع سنوات في حال سبات (نوم) وهي من العجائب التي أشارت إليها الكتب السالفة.

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ...) تعجب القوم من قصة أصحاب الكهف ، وسألوا عنها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سبيل الامتحان ، فقال تعالى : أم حسبت أنهم كانوا عجبا من آياتنا فقط ، فلا تحسبن ذلك ، فإن آياتنا كلها عجب ، فليست قصة أصحاب الكهف وإبقاء حياتهم مدة طويلة أعجب من حال الدنيا ، فإن زينة الأرض وعجائبها أعظم وأبدع وأعجب من هذه القصة ، فإن من قدر على تزيين الأرض ثم جعلها ترابا ، وعلى خلق السموات والأرض ، قادر على كل شيء ، ومن قدرته أن يحفظ طائفة من الناس دون طعام وشراب زمانا معلوما.

وبعبارة أخرى موجزة : لا تحسب أن قصة أصحاب الكهف والرقيم وهو اسم كلبهم أو واديهم أو كتاب بنيانهم كانوا آية عجبا من آياتنا ، لا تظن ذلك فآياتنا كلها عجيبة وغريبة. والرقيم في الظاهر من الآية كما رجح ابن جرير وابن كثير : الكتاب.

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ..) اذكر أيها الرسول حين لجأ أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم ، لئلا يفتنوهم عنه ، إلى غار في جبل ليختفوا عن

٢١٦

قومهم عبدة الأصنام ، فقالوا حين دخلوا سائلين الله تعالى الرحمة واللطف بهم : (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها ، وتسترنا عن قومنا (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) أي اجعل عاقبتنا رشدا ، بأن توفر المصلحة لنا ، وتجعلنا راشدين غير ضالين ، مهتدين غير حائرين ، أو اجعل أمرنا رشدا كله.

(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) أي ألقينا النوم الثقيل عليهم حين دخلوا إلى الكهف ، فلم يعودوا يسمعون أي صوت ، وناموا سنين كثيرة معدودة.

(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) أي ثم بعثناهم من رقدتهم تلك ، وأيقظناهم من نومتهم ليظهر للناس معلومه سبحانه ، أي الطائفتين المتنازعتين فيهم أحصى مدة لبثهم وغاية بقائهم نياما ، فيظهر لهم عجزهم ، ويعرفوا ما صنع الله بهم ، فيتيقنوا من كمال قدرة الله على البعث وغيره.

تفصيل القصة :

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) أي نحن نخبرك خبرهم على وجه الصدق ، وهذا يعني أن الأخبار المتداولة عنهم بين العرب لم تكن صحيحة.

(إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ ..) أي إنهم شباب صدقوا بتوحيد ربهم ، وشهدوا أن لا إله إلا هو ، وزدناهم توفيقا للهداية بالإصرار على العقيدة والإقبال على الله وإيثار العمل الصالح.

وفي هذا إيماء إلى أن الشباب أقبل للحق وأهدى للسبل من الشيوخ الذين عتوا وانغمسوا في دين الباطل ، ولهذا ـ كما ذكر ابن كثير ـ كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شبابا ، وأما المشايخ من قريش فبقوا على دينهم ، ولم

٢١٧

يؤمن منهم إلا القليل. أخرج الطبراني وابن المنذر عن ابن عباس قال : ما بعث الله نبيا إلا وهو شاب ، وقرأ : (قالُوا : سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) [الأنبياء ٢١ / ٦٠] (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) [الكهف ١٨ / ٦٠] (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ).

واستدل بهذه الآية : (وَزِدْناهُمْ هُدىً) على زيادة الإيمان وتفاضله بين الناس ، وأنه يزيد وينقص ، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد ٤٧ / ١٧] وقال سبحانه : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [التوبة ٩ / ١٢٤] وقال عزوجل : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) [الفتح ٤٨ / ٤].

زمنهم أو عصرهم :

ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عيسى ابن مريم ، ورجح ابن كثير أنهم كانوا قبل النصرانية ، بدليل أن أحبار اليهود كانوا يحفظون أخبارهم ، ويعنون بها ، كما تقدم في سبب النزول ، وبدليل ما أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا في مملكة ملك من الجبابرة يدعو الناس إلى عبادة الأوثان ، فلما رأوا ذلك خرجوا من تلك المدينة ، فجمعهم الله تعالى على غير ميعاد ، فجعل بعضهم يقول لبعض : أين تريدون؟ أين تذهبون؟ فجعل بعضهم يخفي عن بعض ؛ لأنه لا يدري هذا علام خرج هذا ، ولا يدري هذا علام خرج هذا ، فأخذوا العهود والمواثيق أن يخبر بعضهم بعضا ، فإن اجتمعوا على شيء ، وإلا كتم بعضهم بعضا ، فاجتمعوا على كلمة واحدة ، فقالوا : (رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلى قوله : (مِرْفَقاً)

ثم انطلقوا حتى دخلوا الكهف ، فضرب الله تعالى على آذانهم ، فناموا وفقدوا في أهلهم ، فجعلوا يطلبونهم ، فلم يظفروا بهم ، فرفع أمرهم إلى الملك ، فقال : ليكونن لهؤلاء القوم بعد اليوم شأن ناس خرجوا لا ندري أين ذهبوا في غير جناية

٢١٨

ولا شيء يعرف ، فدعا بلوح من رصاص ، فكتب فيه أسماءهم ، ثم طرح في خزانته ، ثم كان من شأن قصتهم ما قصه الله سبحانه وتعالى (١).

إصرارهم على توحيد الله :

(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا : رَبُّنا ..) أي صبرناهم على مخالفة قومهم ، وثبتناهم على عقيدتهم ، وألهمناهم قوة العزيمة ، حتى تركوا ما كان عليه قومهم من العيش الرغيد والسعادة ، وقالوا حين مثلوا أمام ملكهم الجبار الذي يدعى (دقيانوس) والذي كان يحث الناس على عبادة الأصنام والطواغيت ، ويدعوهم إليها ويأمرهم بها : ربنا هو رب السموات والأرض ، لن ندعو إلها من دونه مطلقا ؛ إذ لا رب سواه ، ولا معبود غيره ، وأن الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا لله الذي خلق السموات والأرض.

وقد أعلنوا في الجملة الأولى : (رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) توحيد الألوهية ، وذلك يقرّ به عبدة الأصنام ، وفي الجملة الثانية : (لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) توحيد الربوبية ، وذلك ما ينفيه عبدة الأصنام ، بدليل ما حكى القرآن : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان ٣١ / ٢٥] وقوله : (ما نَعْبُدُهُمْ) ـ أي الأصنام ـ (إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر ٣٩ / ٣].

وقوله : (لَنْ) لنفي التأبيد ، أي لا يقع منا هذا أبدا ؛ لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلا ، لهذا عللوا اعتقادهم بقولهم :

(لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) أي إذا دعونا غير الله ، لقد قلنا باطلا وكذبا وبهتانا. والشطط في اللغة : مجاوزة الحد ، والبعد عن الحق. والمعنى : لقد قلنا إذن قولا شططا. وهذا يدل على أنهم دعوا لعبادة الأصنام ، ولامهم الملك على ترك عبادتها.

__________________

(١) تفسير الألوسي : ١٥ / ٢١٧

٢١٩

تنديدهم بعبادة قومهم الأصنام :

(هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ..) أي قال أصحاب الكهف عن قومهم الذين كانوا في زمان (دقيانوس) يعبدون الأصنام : هلا يأتون بحجة بيّنة على صحة ما يفعلون من عبادة تلك الآلهة الباطلة المزعومة؟! وهلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلا واضحا صحيحا؟!

وهذا يدل على أن الاستدلال بعدم الدليل على عدم المدلول طريقة صحيحة عقلا ومنطقا.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي لا أحد أشد ظلما من افتراء الكذب على الله ، ونسبة الشريك إليه ، فهم قوم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك.

وكان من لطف الله بهم أن ملكهم بعد أن هددهم وتوعدهم ، أمهلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه ، فوجدوها فرصة مواتية ، وهربوا فرارا بدينهم من الفتنة.

قال ابن كثير : وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس أن يفرّ العبد منهم خوفا على دينه ، كما جاء في حديث البخاري وأبي داود عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنما يتبع بها شعف الجبال ، ومواقع القطر ، يفرّ بدينه من الفتن» ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس ، ولا تشرع فيما عداها ، لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع.

العزلة بينهم وبين قومهم :

(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ ...) واذكروا يا أهل الكهف ذلك الخطاب الذي صدر من بعضكم لبعض حينما صممتم على الفرار بدينكم فاعتزلتم

٢٢٠