التفسير المنير - ج ١٥

الدكتور وهبة الزحيلي

(وَإِنْ عُدْتُمْ) إلى الفساد. (عُدْنا) إلى العقوبة ، وقد عادوا بتكذيب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسلّط عليهم بقتل قريظة ، ونفي بني النضير ، وفرض الجزية عليهم. (حَصِيراً) محبسا وسجنا ، لا يقدرون على الخروج منها أبدا ، وقيل : بساطا ، كما يبسط الحصير.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى إنعامه على بني إسرائيل بإنزال التوراة عليهم ، لتكون لهم هدى يهتدون بها ، ذكر أنهم ما اتبعوا هداها ، بل أفسدوا في الأرض بقتل الأنبياء وسفك الدّماء ، فسلّط الله عليهم البابليين بقيادة بختنصّر ، فقتلوهم ونهبوا أموالهم ، وخربوا بيت المقدس ، وسبوا أولادهم ونساءهم ، وذلك أول الفسادين وعقابه.

ثم لما تابوا ، أعاد الله لهم الدولة والغلبة ، وأمدّهم بالأموال والبنين ، ثم عادوا إلى فسادهم وعصيانهم ، فقتلوا زكريا ويحيى عليهما‌السلام ، فسلّط الله عليهم الفرس ، فقتلوهم ، وسلبوهم ، وخربوا بيت المقدس مرة أخرى ، ثم وعدهم الله بالنصر إن أطاعوا ، وبالعقاب بنار جهنم إن عصوا وأفسدوا.

التفسير والبيان :

هذه الآيات بيان لتأريخ بني إسرائيل وإخبار عما يرتكبون من وقائع وأحداث دامغة ، ومفاسد عظيمة ، والمعنى : وأعلمنا بني إسرائيل وأخبرناهم وأوحينا إليهم وحيا مقضيّا مقطوعا بحصوله فيما أنزلناه في التوراة على موسى أنهم سيفسدون في الأرض : أرض الشام وبيت المقدس أو أرض مصر ، أو في كلّ أرض يحلّون فيها مرتين ، ويعصون الله ، ويخالفون شرع ربّهم في التوراة مخالفتين لا مخالفة واحدة ، وهما :

الأولى ـ مخالفة التوراة وتغييرها ، وقتل بعض الأنبياء ، مثل شعيا عليه‌السلام ، وحبس إرميا حين أنذرهم سخط الله تعالى.

٢١

والثانية ـ قتل زكريا ويحيى ومحاولة قتل عيسى عليهم‌السلام.

ثم إنهم يتجبّرون ويطغون ويفجرون ويستعلون على الناس بغير الحق استعلاء عظيما ، ويظلمونهم ظلما شديدا ، فقوله تعالى : (عُلُوًّا كَبِيراً) أراد به التّكبر والبغي والطغيان.

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما ..) أي فإذا حان موعد أولى المرتين من الإفساد ، وجاء وعد الفساق ووقت العقاب الموعود به على المرة الأولى ، سلّطنا عليكم جندا من خلقنا أولي بأس شديد ، أي قوة وشدّة وأصحاب عدّة في الحروب وعدد ، وهم أهل بابل بقيادة بختنصّر ، حين كذبوا إرمياء وجرحوه وحبسوه ، كما قال ابن عباس وغيره. وقال قتادة : أرسل عليهم جالوت فقتلهم ، فهو وقومه أولو بأس شديد. وقال مجاهد : هم جند من فارس ، والظاهر الرأي الأول ، والمهم العبرة والعظة من تسلّط فئة على فئة باغية ، ولا يهم بيان الأشخاص والجماعات.

(فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ ..) ، أي أوغلوا في البلاد وتملكوها ، وتردّدوا فيها وفي أوساطها ذهابا وإيابا ، لا يخافون أحدا ، يقتلون ويسلبون وينهبون ، ويقتلون العلماء والكبراء ، وكان من آثارهم إحراق التوراة ، وتخريب بيت المقدس ، وسبي عدد كثير من بني إسرائيل ، وكان ذلك وعدا منجزا نافذا ، وقضاء كائنا لا خلف فيه ، أو قضاء حتما جزما لا يقبل النقض والنسخ ؛ لأنهم تمردوا وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء.

وكان هذا الدّرس القاسي البليغ محقّقا الثّمرة والغاية ، فاتّعظ بنو إسرائيل مما حدث ، وثابوا لرشدهم ، وعدلوا عن غيّهم وضلالهم ، وتمسّكوا بمبادئ كتابهم ودينهم ، فكان ذلك مؤذنا بنصر جديد كما قال تعالى :

(ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ..) أي ثم أعدنا لكم الدولة والغلبة عليهم ،

٢٢

ورددنا لكم القوة ، وأهلكنا أعداءكم ، وجعلناكم أكثر نفيرا ، أي عددا من الرجال ، وأمددناكم بالأموال والأولاد والسّلاح بفضل طاعة الله والاستقامة على أمره : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران ٣ / ١٤٠] ولذا قال تعالى :

(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ..) أي إن أحسنتم العمل ، فأطعتم الله واتّبعتم أوامره واجتنبتم نواهيه ، أو إن أحسنتم بفعل الطاعات ، فقد أحسنتم إلى أنفسكم ؛ لأنكم بالطاعة تنفعونها ، فيفتح الله عليكم أبواب الخيرات والبركات ، ويدفع عنكم أذى أهل السوء في الدّنيا ، ويثيبكم في الآخرة ، وإن أسأتم بفعل المحرّمات أسأتم إلى أنفسكم ؛ لأنكم بالمعصية تضرّونها ، فبشؤم تلك المعاصي يعاقبكم الله بالعقوبات المختلفة ، من تسليط الأعداء في الدّنيا ، وإيقاع العذاب المهين في الآخرة. وقوله تعالى : (فَلَها) أي فعليها ، كما قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصلت ٤١ / ٤٦].

وهذه سنّة الله في خلقه ، إن عصوا سلّط الله عليهم القتل والنّهب والسّبي ، وإن تابوا أزال عنهم تلك المحنة ، وأعاد لهم الدولة ، (جَزاءً وِفاقاً) [النبأ ٧٨ / ٢٦] ، (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت ٤١ / ٤٦].

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ ...) أي فإذا حان موعد المرة الأخيرة ، وجاء وقت العقاب على الكرة الثانية من الإفساد والإقدام على قتل زكريا ويحيى عليهما‌السلام ، أرسلنا أعداءكم ليسوؤا وجوهكم ، أي ليظهروا المساءة في وجوهكم بالإهانة والقهر ، وليدخلوا المسجد ، أي بيت المقدس قاهرين ، كما دخلوه في أول مرة للتخريب والتدمير وإحراق التوراة ، (وَلِيُتَبِّرُوا) ، أي يدمّروا ويخرّبوا ، (ما عَلَوْا) ، أي ظهروا عليه ، (تَتْبِيراً) ، أي تخريبا وهلاكا شديدا ، فلا يبقون شيئا من آثار الحضارة والعمران ، ويبيدون الأرض ومن عليها ، ويهلكون الحرث والزرع والثمر ، وقد سلّط الله عليهم في هذه المرة

٢٣

الفرس ، فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف المسمى بيردوس أو خردوس ، كما ذكر البيضاوي.

والخلاصة : إن بختنصّر هو الذي أغار على بني إسرائيل أولا فخرّب بيت المقدس ، وكان ذلك في زمن إرميا عليه‌السلام ، وهذا موافق لتأريخ اليهود ، أما في المرة الثانية فإن المغير هو بيردوس ملك بابل ، كما ذكر البيضاوي ، وهو أسبيانوس ، قيصر الروم كما ذكر اليهود في تاريخهم ، وكان بين الإغارتين نحو من خمس مائة سنة.

ثم فتح الله تعالى باب الأمل أمامهم مرة أخرى ، فقال : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) أي لعل ربّكم أن يرحمكم يا بني إسرائيل ، ويعفو عنكم بعد انتقامه منكم في المرة الثانية من تسليط الأعداء عليكم ، إن تبتم وأقلعتم عن المعاصي ، فيصرفهم عنكم ، وقد وفى الله بوعده ، فأعزّهم بعد الذّلة ، وأعاد لهم الملك ، وجعل منهم الأنبياء.

ثم أنذرهم الله بقوله : (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) ، أي وإن عدتم إلى الإفساد والمعاصي في المرة الثالثة ، عدنا إلى إذلالكم ، وتسليط الأعداء عليكم وعقوبتكم بأشدّ مما مضى في الدّنيا ، مع ما ندخره لكم في الآخرة من العذاب والنّكال ، ولهذا قال تعالى :

(وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) ، أي مستقرّا وسجنا لا محيد عنه ، كما قال ابن عباس ، وقال الحسن البصري : فراشا ومهادا وبساطا ، كما قال تعالى : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الأعراف ٧ / ٤١] ولأن العرب تسمّي البساط الصغير حصيرا.

والخلاصة : إن لبني إسرائيل بسبب عصيانهم ذلّ الدّنيا وعذاب جهنّم في الآخرة. وهذا عبرة لكلّ مخالف أوامر الله تعالى.

٢٤

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات الكريمة إلى ما يأتي :

١ ـ صدق إخبار الله لبني إسرائيل أنهم سيقدمون على الفساد والمعاصي ، لما علم الله منهم في علمه السابق الأزلي أنهم أرباب انحراف وفساد وتخريب ، والمراد بالفساد : مخالفة أحكام التوراة.

٢ ـ تكرر العقاب مرتين والإنقاذ من العذاب والذّل مرتين أيضا فيه رحمة من الله بعباده ؛ لأن العقاب قد يكون سبيلا للإصلاح والتّربية والتّهذيب ، ولأن التّغلّب على الأزمات والتّخلّص من المهانة والإذلال فيه تجديد للنّفس ، وعون على فتح باب الأمل ، وطرد اليأس من النّفوس.

وقد عوقب اليهود أولا على يد بختنصّر ، وثانيا على يد ملك بابل : بيردوس الفارسي ، أو قيصر الروم ؛ لأنهم في المرة الأولى قتلوا إرميا أو شعيا نبي الله عليه‌السلام وجرحوه وحبسوه ، وفي المرة الثانية قتلوا يحيى وزكريا عليهما‌السلام قتلهما هيردوس أو لاخت أحد ملوك بني إسرائيل ، وعزموا على قتل عيسى عليه‌السلام ، وكان العقاب شديدا في الحالتين ، ومن أهم صنوفه إحراق التوراة وهدم بيت المقدس.

وكانت النّجاة بإعادة العزّة والدّولة لبني إسرائيل كما كانت بالإمداد بالأموال والبنين ، وجعلهم أكثر عددا ورجالا من عدوّهم ؛ لأنهم صاروا بعد الهزيمة الأولى أكثر التزاما للطاعة وأصلح أحوالا ، جزاء من الله تعالى لهم على عودهم إلى الطاعة.

٣ ـ إن نفع الإحسان والاستقامة على الطاعة لله عائد للإنسان نفسه ، وكذلك سوء الإساءة ومخالفة أوامر الله مردود للإنسان ذاته : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ

٢٥

ظُلْماً لِلْعِبادِ) [غافر ٤٠ / ٣١] ، (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) [آل عمران ٣ / ١٠٨].

٤ ـ تشير آية (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) إلى أن رحمة الله تعالى غالبة على غضبه ؛ لأنه تعالى لما حكى عنهم الإحسان أعاده مرتين فقال : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرة واحدة فقال تعالى : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) ولو لم يكن جانب الرّحمة غالبا ، لما فرق بين التعبيرين (١).

أكّد تعالى ذلك بقوله : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) فهو وعد من الله بكشف العذاب عنهم إن تابوا وأنابوا إليه.

٥ ـ إن عدل الله يقضي بأن من عاد إلى العصيان عاد الله إلى عقابه : (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) ومن عاد إلى التوبة والرّشد والهداية والاستقامة عادت رحمة الله إليه : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ).

٦ ـ ليس عذاب العصاة مقصورا على الدّنيا بالإذلال والإهانة والقتل والنّهب والسّبي ، وإنما هناك عذاب آخر ادّخره الله لهم في جهنّم ، بإحاطة نارها بهم ، وجعلها مقرّا ومحبسا وسجنا لهم ، أو مهادا وفراشا وبساطا.

٧ ـ إن ذكر ما قضي إلى بني إسرائيل دليل على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لمطابقة ما أخبر به القرآن الواقع الحادث.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٠ / ١٥٨.

٢٦

أهداف القرآن الكريم

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١))

الإعراب :

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) فيه حذف ، أي ويدعو الإنسان بالشّر دعاء مثل دعائه بالخير ، ثم حذف المصدر وصفته ، وأقيم ما أضيفت الصفة إليه مقامه.

المفردات اللغوية :

(يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) يهدي إلى الطريقة التي هي أعدل وأصوب. (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ...) عطفا على (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) أي يبشّر المؤمنين ببشارتين : ثوابهم وعقاب أعدائهم ، أو عطفا على (يُبَشِّرُ) بإضمار : ويخبر أن (أَعْتَدْنا) أعددنا. (أَلِيماً) مؤلما هو النار. (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ) أي يدعو عند غضبه بالشّر على نفسه وأهله وماله. (دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) أي كدعائه له. (وَكانَ الْإِنْسانُ) جنس الإنسان. (عَجُولاً) بالدعاء على نفسه ، وعدم النّظر في عاقبته.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى ما أكرم به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو الإسراء وأكرم موسى عليه‌السلام بالتوراة ، وأنها هدى لبني إسرائيل ، وما سلط عليهم بذنوبهم من عذاب الدّنيا والآخرة ، مما يستدعي ردع العقلاء عن معاصي الله ، ذكر ما شرّف الله به رسوله أيضا من القرآن الناسخ لحكم التوراة وكل كتاب إلهي ، وأبان أهدافه من الهداية للطريقة أو الحالة التي هي أقوم ، والتّبشير بالثواب العظيم لمن أطاعه ، وإنذار الكافرين بالعذاب الأليم.

٢٧

التفسير والبيان :

لم لا تؤمنون بالقرآن يا بني إسرائيل ، والقرآن كالتوراة أنزله الله على رسوله محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو متّصف بثلاث صفات :

الصفة الأولى :

أنه يرشد للسبيل التي هي أقوم ، فهو يهدي لأقوم الطرق وأوضح السّبل ، وإلى الطريقة المثلى التي هي الدّين القيّم ، والملّة الحنيفية السمحة التي تقوم على أساس التوحيد الخالص لله ، وأنه الفرد الصمد ، صاحب الملك ، والعزّة والجبروت ، المعزّ المذلّ الّذي يحيى ويميت ، وتدعو إلى فضائل الأعمال ، وإلى خيري الدّنيا والآخرة. فقوله تعالى : (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) معناه : الطريقة التي هي أسدّ وأعدل وأصوب.

الصفة الثانية :

أنه يبشّر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا يوم القيامة ، جزاء عملهم.

الصفة الثالثة :

أنه ينذر الذين لا يصدقون بوجود الله ووحدانيته ، ولا بالمعاد والثواب والعقاب ، ولا يعملون الخير بأن لهم عذاب جهنم ، جزاء ما قدمت أنفسهم.

والمعنى أنه تعالى بشّر المؤمنين بنوعين من البشارة بثوابهم وبعقاب أعدائهم ، وإطلاق البشارة على البشارة بالعذاب من قبيل التهكّم ، كما في قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [ال عمران : ٣ / ٢١] ، أو من إطلاق اسم الشيء على ضدّه ، كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٢ / ٤٠].

٢٨

وبعد أن بيّن الله تعالى لبني إسرائيل وغيرهم صفات الهادي وهو القرآن ، بيّن حال المهدي وهو الإنسان ، ليقوي الترابط بينهما ، ويدل على وحدة المهديين بالكتب السماوية ، فقال تعالى :

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ ..) أي إن صفة الإنسان العجلة ، فيدعو في بعض الأحيان حين الغضب على نفسه أو ولده أو ماله بالشّر ، أي بالموت أو الهلاك والدّمار واللعنة ، كما يدعو ربّه بالخير ، أي بالعافية والسّلامة والرزق ، ولو استجيب دعاؤه لهلك ، ولكن الله بفضله ورحمته لا يستجيب دعاءه ، كما قال تعالى : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ ، لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) [يونس ١٠ / ١١] ، وروى أبو داود عن جابر أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا تدعوا على أنفسهكم ، ولا أموالكم أن توافقوا من الله ساعة إجابة ، يستجيب فيها».

والذي يحمل الإنسان على ذلك قلقه وعجلته ، ولهذا قال تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) أي يتعجل تحصيل المطلوب دون تفكير في عواقبه.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن القرآن الكريم أنزله الله تعالى على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبب اهتداء للبشرية قاطبة ، يرشدها لأقوم الطرق ، وأصح المناهج ، وأعدل المسالك ، وهي توحيد الله والإيمان برسله ، والدعوة إلى مكارم الأخلاق ، وأفضل مناهج الحياة.

٢ ـ وللقرآن هدف آخر وهو التّبشير والإنذار ، تبشير المؤمنين الذين يعملون الأعمال الصالحة بالجنّة ، وإنذار أعدائهم الكفار بالعقاب في نار جهنم ، والقرآن معظمة وعد ووعيد.

٣ ـ إن طبع الإنسان القلق والعجلة ، فيعجل بسؤال الشرّ كما يعجل بسؤال

٢٩

الخير ، فيدعو على نفسه وولده وماله عند الضجر بما لا ينبغي ، قائلا : اللهم أهلكه ونحوه ، كما يدعو ربّه أن يهب له العافية ويوسّع له في الرّزق ، فلو استجاب الله تعالى دعاءه على نفسه بالشّرّ ، هلك ، لكن بفضله لا يستجيب له في ذلك. ونظير الآية آية : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) كما تقدّم ، نزلت في النّضر بن الحارث ، كان يدعو ويقول : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال ٨ / ٣٢].

التذكير بنعم الله في الدنيا ودلائل القدرة الإلهية

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧))

الإعراب :

(مَنْشُوراً) حال. (بِذُنُوبِ) متعلق بقوله : (خَبِيراً بَصِيراً).

٣٠

البلاغة :

(آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) مجاز عقلي ؛ لأن النهار لا يبصر ، بل يرى فيه ، فهو مجاز من إسناد الشيء إلى زمانه.

(طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) أستعير الطائر لعمل الإنسان ؛ لأن العرب الذين كانوا يتفاءلون ويتشاءمون بالطير ، سموا نفس الخير والشر بالطائر بطريق الاستعارة.

(اقْرَأْ كِتابَكَ) فيه إيجاز بالحذف ، أي يقال له يوم القيامة : اقرأ كتابك ، وكذلك (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) فيه إيجاز بالحذف ، أي أمرناهم بطاعة الله فعصوا.

(اهْتَدى ضَلَ) بينهما طباق.

(تَزِرُ وازِرَةٌ) جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(آيَتَيْنِ) علامتين دالتين على قدرة الله تعالى ، بتعاقبهما على نسق واحد. (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) أي جعلنا الآية التي هي الليل ممحوّة لا نور فيها ، والإضافة فيها للتبيين ، كإضافة العدد إلى المعدود. (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) مضيئة أو مبصرة للناس. (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) لتطلبوا في بياض النهار أسباب معاشكم ، وتتوصلوا به إلى استبانة أعمالكم. (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي ولتعلموا باختلافهما أو بحركتهما عدد السنوات وجنس الحساب. والفرق بين العدد والحساب : أن العدد إحصاء أمثال الشيء المكونة له ، والحساب : إحصاء طائفة معينة يتكون منها الشيء ، فالسنة بالنظر إلى أنها أيام (٣٦٥ يوما) فقط فذلك العدد ، وبالنظر إلى تكونها من اثني عشر شهرا ، وكل شهر ثلاثون يوما ، وكل يوم ٢٤ ساعة ، فذلك هو الحساب ، كما ذكر الشوكاني في فتح القدير (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) أي وكل شيء تحتاجون إليه من أمور الدين والدنيا ، بيّناه بيانا غير ملتبس.

(طائِرَهُ) عمله من خير أو شر. (فِي عُنُقِهِ) لزوم الطوق في عنقه ؛ إذ اعتادوا التفاؤل بالطير ، ويسمونه زجرا ، فإن مرّ بهم من اليسار إلى اليمين ، تيمنوا به ، وسموه سانحا ، وإن مرّ من اليمين إلى اليسار تشاءموا منه ، وسموه بارحا ، وسموا نفس الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه. هو صحيفة عمله. (مَنْشُوراً) أي غير مطوي. (حَسِيباً) محاسبا عادّا يعد عليه أعماله.

(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي أن ثواب اهتدائه له. (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي أن إثمه عليها. (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ) أي لا تحمل نفس آثمة وزر نفس أخرى ، والوزر :

٣١

الإثم. (مُعَذِّبِينَ) أحدا (حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) يبين له ما يجب عليه. (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) وإذا تعلقت إرادتنا بإهلاك قوم ، لإنفاذنا قضاءنا السابق. (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) منعميها أي رؤساءها ، بالطاعة على لسان رسلنا. (فَفَسَقُوا فِيها) فخرجوا عن أمرنا. (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) بالعذاب. (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) أي أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريبها.

(وَكَمْ) أي كثيرا. (الْقُرُونِ) الأمم. (خَبِيراً بَصِيراً) عالما ببواطنها وظواهرها.

سبب النزول :

نزول الآية (١٥):

(مَنِ اهْتَدى) قالت فرقة : نزلت الإشارة في الهدى إلى أبي سلمة بن عبد الأسود ، وفي الضلال إلى الوليد بن المغيرة. وقيل : نزلت في الوليد هذا قال : يا أهل مكة ، اكفروا بمحمد ، وإثمكم علي.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى ما أنعم به من نعم الدين على الناس وهو القرآن ، أتبعه ببيان ما أنعم عليهم من نعم الدنيا ، وهو في ذاته استدلال بالدلائل الواضحة على قدرة الله وحكمته.

وبعد أن أبان تعالى دلائل التوحيد والنبوة والمعاد ، وأوضح أحوال الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ، ذكر مبدأ رفيعا ومهما جدا ، وهو مبدأ المسؤولية الفردية أو الشخصية عن أعمال الإنسان ؛ وأن ذلك المبدأ قد تقرر بعد إرسال الرسل وبيان معالم الهدى ، فلا تكليف قبل الشرع ، ولا عقاب ولا عذاب قبل البيان والإنذار ؛ وأن العقاب العام للقرى والأمم لا يكون إلا بعد الأمر بالطاعات والخيرات ، ومخالفة ذلك الأمر ، والفسق.

التفسير والبيان :

وجعلنا الليل والنهار علامتين دالتين على قدرتنا وبديع صنعنا ، وفي

٣٢

تعاقبهما واختلافهما تحقيق لمصالح الإنسان ، ففي الليل سكنه وهدوءه وراحته ، وفي النهار حركته وشغله وتقلبه في أنحاء الدنيا للمعيشة والكسب ، والصناعة والعمل.

وجعلنا ظرف كل من الليل والنهار مناسبا للهدف المنشود والغاية المقصودة ، ففي الليل ظلام دامس ومحو للضوء يتلاءم مع راحة النفس والعين والسمع ، وفي النهار ضوء ونور يناسب الحركة والعمل وإبصار الأشياء.

فهذا امتنان من الله تعالى على خلقه بجعل الليل ممحو الضوء مطموسا مظلما لا يستبان فيه شيء ، وجعل النهار مبصرا ، أي تبصر فيه الأشياء وتستبان.

(لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) أي جعلنا تعاقب الليل والنهار لتتمكنوا كيف تتصرفون في أعمالكم ، وتطلبون الرزق من الله ربكم الذي يربيكم ويمدكم من فضله وإحسانه شيئا فشيئا ، وعلى وفق الزمان الدائر بكم صيفا وشتاء.

(وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي ولتعرفوا بتعاقب الليل والنهار عدد الأيام والشهور والأعوام ، وتعلموا بحساب الأشهر والليالي والأيام أوقات مصالحكم من الدورات الزراعية ، وآجال الديون والإجارات والمعاملات ، وأزمان العبادات من صلاة وصيام وحج وزكاة ، فلو لم يتغاير الليل والنهار ، لما تمكن الإنسان من الراحة التامة ليلا واكتساب المعايش والأرزاق نهارا ، ولو كان الزمان كله نسقا واحدا لما عرف الحساب على نحو صحيح يسير.

ونظير الآية قول الله تعالى : (قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ؟ أَفَلا تَسْمَعُونَ؟ قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ؟!) [القصص ٢٨ / ٧٠ ـ ٧٣]

٣٣

وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ ، أَوْ أَرادَ شُكُوراً) [الفرقان ٢٥ / ٦٢] وقال سبحانه : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً ، وَالْقَمَرَ نُوراً ، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ، ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [يونس ١٠ / ٥].

(وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) أي وكل شيء لكم به حاجة في مصالح دينكم ودنياكم قد بيناه وشرحناه بيانا نافعا ، وشرحا كاملا وافيا ، كما قال تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام ٦ / ٣٨] وقال : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل ١٦ / ٨٩].

وبعد ذكر الزمان وما يقع فيه من أعمال الناس ، ذكر تعالى مبدأ التبعية أي المسؤولية عن الأعمال من خير أو شر فقال : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) أي وجعلنا عمل كل إنسان ملازما له لزوم القلادة للعنق إن كان خبيرا ، ولزوم الغلّ للعنق لا يفك عنه إن كان شرّا. فالمراد بالطائر : العمل الصادر من الإنسان. والعرب تعبر عن تلازم الشيء بالشيء بما يوضع في العنق ، يقال : جعلت هذا في عنقك ، أي قلدتك هذا العمل ، وألزمتك الاحتفاظ به.

وجعل العمل ملازما للإنسان أمر محتوم وقضاء معلوم ، على وفق علم الله الأزلي السابق بالأشياء وبما يصدر عن الناس ، وهذا لا يعني الإجبار ونفي الاختيار الذي هو مناط الثواب والعقاب ، فكل إنسان مخير في اختيار ما هو خير يقتضي ثوابا حسنا وما هو شرّ يقتضي عقابا سيئا.

(وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً ...) أي سنخرج لكل إنسان يوم القيامة كتابا يراه ويستقبله منشورا أمامه ، فيه جميع أعماله خيرها وشرها. ذكر الحسن البصري حديثا قدسيا : «قال الله : يا بن آدم ، بسطنا لك صحيفة ، ووكّل بك ملكان كريمان : أحدهما عن يمينك ، والآخر عن يسارك ، فأما الذي عن يمينك

٣٤

فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك ، فاعمل ما شئت ، أقلل أو أكثر ، حتى إذا متّ طويت صحيفتك ، فجعلت في عنقك معك في قبرك ، حتى تخرج لك يوم القيامة».

(اقْرَأْ كِتابَكَ ، كَفى بِنَفْسِكَ ...) ويقال لك حين تلقى كتابك : اقرأ كتابك أي كتاب عملك في الدنيا ، كفى بنفسك حاسبا تحسب أعمالك وتحصيها. كان الحسن إذا قرأها قال : يا بن آدم ، أنصفك ـ والله ـ من جعلك حسيب نفسك. والقائل : هو الله تعالى على ألسنة الملائكة.

(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ...) أي إذا كان كل واحد مختصا بعمل نفسه ، فمن اهتدى إلى الحق والصواب واتبع شرع الله وهدي النبوة ، فإنما ينفع نفسه ، ومن ضلّ في عمله وحاد عن شرع الله وكفر به وبرسله ، فإنما يضرّ نفسه ؛ لأن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله ، لا يتجاوزه إلى غيره ، وعقاب العمل السيء ملازم صاحبه ، لا يفارقه.

ثم أكد تعالى معنى الشق الثاني بقوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تتحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ، بل على كل نفس إثمها دون إثم غيرها ، أو لا يحمل أحد ذنب أحد ، ولا يجني جان إلا على نفسه.

وهذا ردّ واضح على الذين يحرضون غيرهم على ارتكاب المنكر ، واقتراف الكفر ، ويزعمون أنهم يتحملون عاقبة ذلك. روي عن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة حين قال : اكفروا بمحمد وعليّ أوزاركم.

وهو ردّ أيضا على الجاهليين الذين كانوا يقولون : نحن لا نعذب في شيء ، وإن كان هناك عقاب فهو على آبائنا ، إذ نحن مقلدوهم فقط ، ويؤكد ذلك قوله تعالى : (قُلْ : لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا ، وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سبأ ٣٤ / ٢٥].

وتقرير مبدأ المسؤولية الشخصية من مفاخر الإسلام ومبادئه التي صححت

٣٥

مفهوم العقاب عند الرومان والعرب وغيرهم ، إذ كانوا يعاقبون غير المجرم.

ويتضاعف العقاب والإثم على دعاة الضلال بسبب تأثيرهم في الآخرين ، دون إعفاء من يتبعونهم في ضلالهم من الوزر والعقاب ، لقوله تعالى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [النحل ١٦ / ٢٥] وقوله سبحانه : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت ٢٩ / ١٣] فعلى الدعاة إثم ضلالتهم في أنفسهم ، وإثم آخر بسبب إضلالهم غيرهم.

(وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) أي لكن مقتضى العدل والحكمة والرحمة أننا لا نعذب أحدا في الدنيا أو الآخرة على فعل شيء أو تركه إلا بعد إنذار ، ولا نعاقب الناس إلا بعد إعذار وبعث الرسل إليهم ، لإقامة الحجة عليهم بالآيات المبينة للأحكام والحلال والحرام والثواب والعقاب ، كما قال تعالى : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها : أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا : بَلى ، قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا : ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ ..) [الملك ٦٧ / ٨ ـ ٩] وقال عزوجل : (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها : أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ، قالُوا : بَلى ، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) [الزمر ٣٩ / ٧١] ونحو ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى لا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه ، ودعوته إلى الخير ، وتحذيره من الشرّ.

وأما كيفية وقوع العذاب بعد إرسال الرسل فهي كما أخبر تعالى :

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ...) أي إذا دنا وقت إهلاك قوم بعذاب الاستئصال أمرنا مترفيها بالطاعات والخيرات ، أي الأمر بالفعل ، فإذا خالفوا ذلك الأمر وفسقوا وخرجوا عن الطاعة وتمردوا ، حق أو وجب عليهم العذاب جزاء وفاقا لعصيانهم ، فدمرناهم تدميرا وأبدناهم إبادة تامة ، شملت جميع أهل

٣٦

تلك البلدة. والمترف : هو المتنعم ، وهو أولى بالشكر من غيره وأوجب عليه. ودمرناها : استأصلناها بالهلاك.

والإبادة الشاملة بسبب الأمر العام لجميع المكلفين ، أغنياء كانوا أو فقراء ، مترفين كانوا أو غير مترفين ، لكن خصّ الأمر بالمترفين ؛ لأنهم القادة وغيرهم تبع لهم ، وشأن العامة والأتباع تقليد الكبراء والزعماء دائما. قال ابن عباس في قوله : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها ، فَفَسَقُوا فِيها) أي سلطنا أشرارها ، فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب ، وهو كقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) [الأنعام ٦ / ١٢٣].

ثم أنذر الله تعالى كفار قريش وأمثالهم في تكذيبهم رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن كثيرا من الأمم وجب عليهم العذاب بذنوبهم ، فقال : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ ...) أي وكثيرا ما أهلكنا أمما من بعد نوح عليه‌السلام إلى زمانكم لما بغوا وعصوا ، وجحدوا آيات الله ، وكذبوا رسله ، كما أنتم الآن ، وأنتم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم ، وقد كذبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق ، فعقوبتكم أولى وأحرى.

وهذا وعيد وتهديد لمكذبي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل زمان بشديد العقاب ، وفيه دلالة على أن القرون التي مضت بين آدم ونوح كانت على الإسلام ، قال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون ، كلهم على الإسلام.

(وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أي وكفى بالله خبيرا بذنوب خلقه مطلعا عليها ، يحصي عليهم أعمالهم ومعاصيهم ، فلا يخفى عليه شيء من أفعال المشركين وغيرهم ، وهو عالم بجميع أعمالهم خيرها وشرها ، لا يخفى عليه منها خافية. والخبير : العليم بهم ، والبصير : الذي يبصر أعمالهم. وفي هذا تنبيه

٣٧

على أن الذنوب هي أسباب الدمار والهلاك لا غير ، وأن الله عالم بها ، ومعاقب عليها.

وكل ما ذكر حثّ للعقلاء على العمل الصالح النافع في الدنيا والآخرة ، ودفع إلى الجد وعدم الكسل.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن اختلاف الليل والنهار بالزيادة والنقص ، وتعاقبهما ، وضوء النهار وظلمة الليل ، دليل على وحدانية الله تعالى ووجوده وكمال علمه وقدرته.

٢ ـ ودورة الليل والنهار تعرفنا بعدد السنوات والأشهر والأيام المتماثلة ، وتعلمنا حساب المدة المكونة من طوائف ومجموعات ، كالسنة المكونة من اثني عشر شهرا ، والشهر من ثلاثين يوما ، واليوم من أربع وعشرين ساعة.

٣ ـ النهار وقت مناسب للعمل والحركة والتقلب في الأرض لكسب المعايش وتحصيل الأرزاق.

٤ ـ كل إنسان معلّق بعمله ، وعمله مختص به ولازم له ، خيرا أو شرا.

٥ ـ إن كتاب الإنسان وسجله الذي يلقاه أمامه يوم القيامة حافل بكل ما قدم وما أخر. وكفى بالإنسان محاسبا لنفسه. قال الحسن البصري : يقرأ الإنسان كتابه أمّيا كان أو غير أمّي.

٦ ـ كل أحد إنما يحاسب عن نفسه لا عن غيره ، فمن اهتدى فثواب اهتدائه له ، ومن ضلّ فعقاب كفره عليه.

٧ ـ إقرار مبدأ المسؤولية الشخصية عدلا من الله ورحمة بعباده ، فلا يحمل

٣٨

أحد ذنب أحد ، ولا يجني جان إلا على نفسه. قال ابن عباس عن آية : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) : نزلت في الوليد بن المغيرة قال لأهل مكة : اتبعوني ، واكفروا بمحمد ، وعليّ أوزاركم ، فنزلت هذه الآية. ومعناها : أن الوليد لا يحمل آثامكم ، وإنما إثم كل واحد عليه.

أما ما روي عن عائشة رضي‌الله‌عنها في الرد على ابن عمر حيث قال النبي في حديث رواه الشيخان : «إن الميت ليعذّب ببكاء أهله» فلا وجه لإنكارها وتخطئتها ؛ إذ لا معارضة بين الآية والحديث ؛ فإن الحديث محمول على ما إذا كان النّوح من وصية الميت وسنته وبسببه ، كما كانت الجاهلية تفعله ، حتى قال طرفة :

إذا متّ فانعيني بما أنا أهله

وشقّي عليّ الجيب يا ابنة معبد

وقال :

إلى الحول ، ثم اسم السلام عليكما

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

٨ ـ لم يترك الله الخلق سدىّ ، بل أرسل الرسل ، وفي هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع ، وهذا في رأي الجمهور ، في حكم الدنيا ، بمعنى أن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا بعد الرسالة إليهم والإنذار ، ولا يهلك الله القرى قبل ابتعاث الرسل.

وقالت المعتزلة بأن العقل يقبّح ويحسّن ويبيح ويحظر.

٩ ـ تدل آية (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) على أن أهل الفترة (فترة انقطاع الرسل) الذين لم تصلهم رسالة ، وماتوا ولم تبلغهم الدعوة وهم أهل الجاهلية وأمثالهم في الجزر النائية الذين لم يسمعوا بالإسلام في زماننا هم ناجون ، من أهل الجنة. ومثلهم أولاد المشركين والكفار الذين ماتوا وهم صغار قبل التكليف ، وآباؤهم كفار ، وكذا المجنون والأصم والشيخ الخرف.

٣٩

أما الناس بعد البعثة ـ بعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فهم كما أبان الغزالي رحمه‌الله أصناف ثلاثة :

الأول ـ من لم تبلغهم دعوته ، ولم يسمعوا به أصلا ، فهؤلاء في الجنة.

الثاني ـ من بلغتهم دعوته ومعجزاته ولم يؤمنوا به كالكفار في زماننا ، فهؤلاء في النار.

الثالث ـ من بلغتهم دعوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأخبار مكذوبة أو بنحو مشوه ، فهؤلاء يرجى لهم الجنة.

١٠ ـ إن عذاب الاستئصال لا يكون إلا بشيوع المعاصي والذنوب والمنكرات ، فإذا أراد الله إهلاك قرية أمر مترفيها وغيرهم بالطاعة والرجوع عن المعاصي ، ففسقوا وظلموا وبغوا ، أي آثروا الفسوق على الطاعة ، خلافا للأمر ، فحق عليها القول بالتدمير والهلاك.

وعلى قراءة أمرنا بالتشديد يكون المعنى : سلطنا شرارها ، فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم.

وذكر قتادة والحسن أن معنى (أَمَرْنا) بكسر الميم : أكثرنا ، يقال : أمر القوم ـ بكسر الميم ـ : إذا كثروا ، ومنه الحديث الذي رواه أحمد والطبراني عن سويد بن هبيرة : «خير مال المرء : مهرة مأمورة ، أو سكّة مأبورة (١)» أي مهرة كثيرة النتاج والنّسل ، وصف من النخل مأبورة. وفي حديث هرقل ـ الحديث الصحيح : «لقد أمر أمر ابن أبي كبشة (٢) ، ليخافه ملك بني الأصفر» أي كثر.

__________________

(١) السّكّة : الطريقة المصطفة من النخل ، والمأبورة : الملقحة.

(٢) يريد : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان المشركون يقولون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ابن أبي كبشة» شبهوه بأبي كبشة : رجل من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان.

٤٠