التفسير المنير - ج ١٥

الدكتور وهبة الزحيلي

وقال في الكشاف : وما منع الناس الإيمان والاستغفار إلا انتظار أن تأتيهم سنة الأولين وهي الإهلاك ، أو انتظار أن يأتيهم عذاب الآخرة قبلا أي عيانا (١).

ومجيء العذاب بيد الله لا من قبل الرسول ، لذا قال تعالى :

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي إن مهمة الرسل إما تبشير من آمن بهم بالثواب على الطاعة ، وإما إنذار من كذبهم وخالفهم بالعقاب على المعصية لكي يؤمنوا طوعا.

ومع هذه الأحوال يوجد الجدال بالباطل من الكفار لدحض الحق ، فقال تعالى مخبرا عنهم :

(وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) أي ويجادل الكفار جدالا بالباطل لا بالحق ، ليضعفوا بجدالهم الحق ، الذي جاءتهم به الرسل ، وليس ذلك بحاصل لهم ، فهم يقترحون الآيات بعد ظهور المعجزات ، ويقولون للرسل : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ، وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [المؤمنون ٢٣ / ٢٤].

(وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً) أي اتخذوا آيات الله وهي القرآن والحجج والبراهين وخوارق العادات التي بعث بها الرسل ، وما أنذروهم وخوفوهم به من العذاب هزوا أي استهزاء وسخرية ، وهو أشد التكذيب ، وكل ذلك يدل على استيلاء الجهل والقسوة.

وبعد أن حكى الله تعالى عن الكفار جدالهم بالباطل ، وصفهم بعده بالصفات الموجبة للخزي والخذلان ، فقال :

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٢٦٣

٢٨١

الصفة الأولى :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ، فَأَعْرَضَ عَنْها ، وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) أي لا أحد أظلم ممن أعرض عن آيات الله ، ونسي ما قدم من الكفر والمعصية ، أو لا ظلم أعظم من كفر من يشاهد الآيات والبينات الدالة على الحق والإيمان ، ثم يعرض عنها ، ومع إعراضه عن التأمل في الدلائل والبينات يتناسى ما قدمت يده من الأعمال المنكرة والمذاهب الباطلة ، وعلى رأسها الكفر بالله ، والمراد من النسيان التشاغل والتغافل عن كفره المتقدم.

الصفة الثانية :

(إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ، وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي وعلة إعراضهم ونسيانهم بسبب جعل أغطية وغشاوة على قلوب هؤلاء ، لئلا يفهموا هذا القرآن والبيان ، وجعل صمم معنوي في آذانهم عن الرشاد وسماع الحق وتدبره.

(وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) أي وإن دعوت يا محمد هؤلاء إلى دعوة الحق والهداية والاستقامة ، فلن تجد منهم استجابة ، ولن يهتدوا بهديك هدي القرآن أبدا مهما قدمت من الدلائل وتأملت الخير منهم.

وذلك كله لفقدهم الاستعداد لقبول الإيمان والرشاد ، بما أصروا عليه من الكفر والعصيان ، كما جاء في آيات أخرى مثل قوله تعالى : (كَلَّا ، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين ٨٣ / ١٤] وقوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [البقرة ٢ / ٧]. وهذه الآيات هي في قوم علم الله أنهم سيموتون على الكفر من مشركي مكة.

ثم ذكر الله تعالى ما يتصف به من رحمة وحلم وإرجاء للعقاب عن العصاة ، وأنه لا يعجل لهم العذاب ، تاركا الفرصة لهم ليتوبوا ، فقال :

(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) أي

٢٨٢

وربك يا محمد غفور ستّار ، ذو رحمة واسعة ، لو يؤاخذ الناس فورا بما كسبوا من السيئات واقترفوا من الخطيئات ، لعجل لهم العذاب في الدنيا ، على وفق أعمالهم. والغفور : البليغ المغفرة ، فهي صيغة مبالغة ، وذو الرحمة : الموصوف بالرحمة.

ونظير الآية قوله : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ، ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر ٣٥ / ٤٥] وقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) [الرعد ١٣ / ٦].

ثم استشهد تعالى بترك مؤاخذة أهل مكة عاجلا من غير إمهال ، مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال :

(بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) أي إن الله أراد غير ذلك من تعجيل العذاب ، وجعل للعذاب موعدا حدده وهو إما يوم القيامة ، وإما في الدنيا وهو يوم بدر وسائر أيام الفتح ، لن يجدوا عنه ملجأ ومنجى ، وليس له محيد ولا معدل عنه ، والخلاصة : أن تأخير العقاب أو العذاب إمهال لا إهمال.

وشاهد آخر : (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ...) أي وتلك القرى ، أي أهلها من الأمم الغابرة ، كعاد وثمود ومدين وقوم لوط ، أهلكناهم لما ظلموا بسبب كفرهم وعنادهم ، وجعلنا لهلاكهم موعدا لا محيد عنه ، ومدة معلومة لا تزيد ولا تنقص ، أي وكذلك أنتم أيها المشركون احذروا أن يصيبكم ما أصابهم ، فقد كذبتم رسولكم ، ولستم بأعز علينا منهم. والمهلك : الإهلاك أو وقته ، والموعد : وقت أو مصدر. والمراد : إنا عجلنا هلاكهم ، ومع ذلك حددنا له وقتا ، رجاء أن يتوبوا.

٢٨٣

فقه الحياة أو الأحكام :

أوضحت الآيات المبادئ التالية :

١ ـ بيان القرآن من دلائل الربوبية والوحدانية ومن العبر والقرون الخالية بيان ضاف واف محقق لغاية الاهتداء به على أكمل وجه.

٢ ـ الإنسان وبخاصة الكافر كثير الجدال والمجادلة لطمس معالم الحق ، والإبقاء على ما ارتضاه لنفسه من اتباع الأهواء ، وتقليد الأسلاف والآباء ، واحتضان الكفر ، والاحتفاظ بالزعامة الدنيوية والمكاسب المادية.

٣ ـ الإنسان قاصر النظر غالبا ، فما منع الناس بعد مجيء القرآن والإسلام ومحمد عليه الصلاة والسلام عن الإيمان واستغفار ربهم والإنابة إليه إلا معاينة أحد الأمرين : الإتيان بما هو عادة الأولين في عذاب الاستئصال ، ومعاينة العذاب ، كما طلب المشركون فعلا ، وقالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال ٨ / ٣٢]. أو مجيء العذاب عيانا مواجهة.

٤ ـ إن مجيء العذاب بيد الله وحده على وفق ما يرى من الحكمة والعدل ، وأما الأنبياء المرسلون فمهمتهم التبشير بالجنة لمن آمن ، والتخويف بالعذاب لمن كفر ، ومع كل هذه الدلائل الهادية إلى الرشاد يجادل الكفار بالباطل لدحض الحق وهو الإيمان بالله وبقرآنه ، والإبقاء على مهازل الكفر وأباطيله ، واتخاذ القرآن وما أنذروا به من الوعيد هزوا أي لعبا وباطلا.

٥ ـ لا أحد أظلم ممن وعظ بآيات ربه ، فتهاون بها وأعرض عن قبولها ، وترك كفره ومعاصيه ، فلم يتب منها ، فالنسيان بمعنى الترك.

٦ ـ علم الله من قوم معينين من أهل مكة ونحوهم أنهم لم يؤمنوا ، فأخبر

٢٨٤

تعالى عنهم أنه منعهم من دخول الإيمان في قلوبهم وأسماعهم ، فلن تفلح معهم بعدئذ دعوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الإيمان ، ولن يهتدوا أبدا إليه ، لإصرارهم على الكفر ، وفقدهم الاستعداد لقبول الهداية.

٧ ـ من صفات الله تعالى أنه الغفور لذنوب عباده ، الرحيم بهم إن آمنوا وتابوا وأنابوا إليه ، بدليل قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ٤ / ٤٨].

ومن رحمته ألا يعجل المؤاخذة أو العقاب على الكفر والمعاصي ، ولكنه يمهل ويؤخر ، رجاء أن يتوب العباد ، ويجعل للعذاب موعدا أي أجلا مقدرا يؤخرون إليه ، كما قال : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) [الأنعام ٦ / ٦٧] وقال : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) [الرعد ١٣ / ٣٨] أي إذا حلّ لم يتأخر عنهم ، إما في الدنيا وإما في الآخرة ، ولا ملجأ ولا منجى للناس حينئذ من ذلك العذاب.

٨ ـ أهلك الله تعالى جماعة من أهل القرى الغابرة للعبرة والزجر نحو قرى عاد وثمود ومدين وقوم لوط ، لما ظلموا وكفروا ، وجعل لهلاكهم وقتا معلوما وأجلا محددا لا يتجاوزوه.

قصة موسى عليه‌السلام مع الخضر

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ

٢٨٥

الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤))

الإعراب :

(سَرَباً) مفعول ثان (لاتخذ) ومفعوله الأول (سَبِيلَهُ).

(أَنْ أَذْكُرَهُ) أن وصلتها في موضع نصب على البدل من هاء (أَنْسانِيهُ) أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان ، وهو بدل اشتمال. (عَجَباً) مفعول ثان لاتخذ.

(قَصَصاً) منصوب على المصدر بفعل مقدّر ، دل عليه (فَارْتَدَّا) أي فارتدا يقصان الأثر قصصا. (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) مفعول ثان. (عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ) حال من كاف (أَتَّبِعُكَ).

(مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) ما : اسم موصول بمعنى الذي ، و (عُلِّمْتَ) : جملة فعليه صلة «ما» والعائد محذوف تقديره : من الذي علّمته رشدا ، فحذف الهاء وهي المفعول الثاني لعلّمت تخفيفا ، و (رُشْداً) : المفعول الثاني لتعلّمني.

٢٨٦

(وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً كَيْفَ) : في موضع نصب على الظرف ، وعامله (تَصْبِرُ) و (خُبْراً) : منصوب على المصدر بفعل دل عليه. (ما لَمْ تُحِطْ بِهِ) وتقديره : ما لم تخبره خبرا.

البلاغة :

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا) تنكير. (عَبْداً) للتفخيم ، والإضافة في (عِبادِنا) للتشريف.

(حُقُباً سَرَباً نَصَباً عَجَباً) سجع يناسب أواخر الآيات.

المفردات اللغوية :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) واذكر حين قال موسى بن عمران نبي بني إسرائيل لفتاه يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف عليهم‌السلام الذي كان يتبعه ويخدمه ويتعلم منه. (لا أَبْرَحُ) لا أزال سائرا. (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) حتى أصل ملتقى بحري فارس والروم (ملتقى المحيط الهندي والبحر الأحمر عند مصيق باب المندب) مما يلي المشرق. وقيل : إنه ملتقى بحر الروم والمحيط الأطلسي عند طنجة (ملتقى البحر الأبيض المتوسط عند مضيق جبل طارق أمام طنجة). (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) دهرا طويلا في بلوغه إن بعد ، والحقب : جمع حقبة وهو زمان من الدهر غير محدود ، قيل : ثمانون سنة ، وقيل : سبعون.

(مَجْمَعَ بَيْنِهِما) مكان الاجتماع بين البحرين. (نَسِيا حُوتَهُما) نسي يوشع حمله عند الرحيل ، ونسي موسى تذكيره. (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) فاتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكا ، مثل السرب : وهو الشق الطويل لا نفاد له ، فصار الماء عليه كالقنطرة ، قيل : أمسك الله جرية الماء على الحوت ، فصار كالطافي عليه.

(فَلَمَّا جاوَزا) ذلك المكان بالسير إلى وقت الغداء من اليوم الثاني. (قالَ) موسى. (لِفَتاهُ : آتِنا غَداءَنا) الغداء : هو ما يؤكل أول النهار ، والمراد به هنا : الحوت. (نَصَباً) تعبا وإعياء.

(قالَ : أَرَأَيْتَ) أي تنبّه. (إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) أي أرأيت ما دهاني ، إذ لجأنا إلى الصخرة بذلك المكان ، التي رقد عندها موسى. (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) فقدته أو نسيت ذكره. (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان ، وهو اعتذار عن نسيانه بشغل الشيطان له بوساوسه. (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) أي اتخذ الحوت طريقا عجبا أي يتعجب منه موسى وفتاه.

٢٨٧

(قالَ : ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) قال موسى : ذلك أي فقد الحوت هو الذي كنا نطلبه ، فإنه علامة لنا على وجود من نطلبه. (فَارْتَدَّا) رجعا. (عَلى آثارِهِما) أي على طريقهما الذي جاءا منه. (قَصَصاً) أي يقصان الطريق قصصا ، أي يتبعان آثارهما اتباعا ، أو مقتصين ، حتى أتيا الصخرة.

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا) هو في رأي الجمهور الخضر ، واسمه بليا بن ملكان. (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أي ولاية ، في رأي أكثر العلماء ، وقيل : وحيا ونبوة. (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) من قبلنا معلوما من المغيبات.

(هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ) على شرط أن تعلّمني. (مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) أي تعلمني بعض ما علمت علما ذا رشد ، أو صوابا أرشد به ، والرشد : إصابة الخير. ولا ينافي نبوته وكونه صاحب شريعة أن يتعلم من غيره ما لم يكن شرطا في أبواب الدين ، فإن الرسول ينبغي أن يكون أعلم ممن أرسل إليه ، فيما بعث به من أصول الدين وفروعه ، لا مطلقا. وقد راعى موسى في ذلك الطلب للتعلم غاية التواضع والأدب ، فاستجهل نفسه ، واستأذن أن يكون تابعا للعبد الصالح ، وسأل منه أن يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليه ؛ لأن الزيادة في العلم مطلوبة.

(ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) علما بالشيء ومعرفة ، ومنه الخبير : العالم بدقائق العلم ، والمعنى: ما لم تخبر حقيقته. (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) أي وغير عاص لك أمرا تأمرني به ، وقيد الوعد على الصبر بالمشيئة ؛ لأنه لم يكن على ثقة من نفسه فيما التزم ، وهي عادة الأنبياء ألا يثقوا بأنفسهم طرفة عين. وفيه دليل على أن أفعال العباد واقعة بمشيئة الله تعالى.

(فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) تنكره مني في علمك ، أي فلا تفاتحني بالسؤال عن شيء أنكرته مني ، ولم تعلم وجه صحته. (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) بيانا ، أي حتى أبتدئك ببيانه ، وأذكره لك بعلته ، فقبل موسى شرطه ، رعاية لأدب المتعلم مع العالم.

(فَانْطَلَقا) يمشيان على ساحل البحر. (رَكِبا فِي السَّفِينَةِ) التي مرت بهما. (خَرَقَها) ثقبها الخضر ، بأن اقتلع لوحا أو لوحين منها من جهة البحر بفأس ، حينما سارت في ثبج البحر ولججه. (قالَ : أَخَرَقْتَها) قال له موسى : (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها؟) فإن خرقها سبب لدخول الماء فيها ، المفضي إلى غرق أهلها. (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) أتيت أمرا عظيما منكرا ، من أمر الأمر ، أي عظم وكثر ، روي أن الماء لم يدخلها.

(لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) بالذي نسيته أو بشيء نسيته ، يعني وصيته بأن لا يعترض عليه ، وهو اعتذار بالنسيان ، أخرجه في معرض النهي عن المؤاخذة مع قيام المانع لها. (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) لا تكلفني عسرا ومشقة ، في صحبتي إياك ، أي عاملني بالعفو واليسر.

٢٨٨

(فَانْطَلَقا) بعد خروجهما من السفينة يمشيان (حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً) لم يبلغ الحنث ، يلعب مع الصبيان ، وكان أحسنهم وجها (فَقَتَلَهُ) الخضر ، إما بالذبح بالسكين ، أو باقتلاع رأسه بيده بفتل عنقه ، أو الضرب برأسه الحائط ، أقوال مروية. وأتى بالفاء العاطفة هنا للدلالة على أنه لما لقيه قتله من غير تروّ واستكشاف حال (قالَ : أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ)؟ أي قال موسى مستنكرا ـ وهو جواب إذا ـ كيف تقتل نفسا طاهرة من الذنوب ، لم تبلغ حد التكليف ، وقرئ (زَكِيَّةً ، بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي بغير حق من قصاص لك عليها (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) أي لقد ارتكبت شيئا منكرا ، والمنكر : الذي تنكره العقول والنفوس.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله قصة أصحاب الكهف لإثبات قدرته على البعث ، وذكر أمثلة ثلاثة لتقرير حقيقة أن الحق والعزة والعلو لا ترتبط بكثرة المال والسلطان ، وإنما بالعقيدة والإيمان ، ليدرك تلك الحقيقة المشركون الذين افتخروا على فقراء المؤمنين ، وأبوا مجالستهم ، بعد هذا أردف الله تعالى بقصة ثانية هي قصة موسى مع الخضر ، ليتعلم منه العلم ، وذلك ليفهم المشركون أن موسى النبي كليم الله مع كثرة علمه وعمله ، أمر أن يتعلم من العبد الصالح الخضر ، مما يدل على أن التواضع خير من الكبر.

قصة موسى والخضر في السنة النبوية :

روى البخاري ومسلم عن أبي بن كعب رضي‌الله‌عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل ، فسئل ، أي الناس أعلم؟ فقال : أنا ، فعتب الله عزوجل عليه ، إذ لم يردّ العلم إليه ، فأوحى الله إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين ، هو أعلم منك ، قال موسى : يا ربّ ، فكيف لي به؟ قال : تأخذ حوتا ، فتجعله في مكتل (قفة) فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ ، فانطلق موسى ، ومعه فتاه ـ يوشع بن نون ـ حتى إذا أتيا الصخرة ، وضعا رؤوسهما ، فناما واضطرب الحوت في المكتل ، فخرج منه ، فسقط في البحر (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً).

٢٨٩

وأمسك الله عن الحوت جرية الماء ، فصار عليه مثل الطاق ، فلما استيقظ ، نسي صاحبه أن يخبره بالحوت ، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : (آتِنا غَداءَنا ، لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) ـ قال : ولم يجد موسى النّصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به ـ فقال فتاه : (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ ، فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ، وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً).

قال : فكان للحوت سربا ، ولموسى وفتاه عجبا ، فقال موسى : (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ ، فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) قال : رجعا يقصان آثارهما ، حتى انتهيا إلى الصخرة ، فإذا هو مسجّى بثوب ، فسلّم عليه موسى ، فقال الخضر ، وأنى بأرضك السلام (١)! من أنت؟ قال : أنا موسى ، قال : موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم أتيتك لتعلمني مما علّمت رشدا (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً).

يا موسى ، إني على علم من علم الله ، لا تعلمه ، علّمنيه ، وأنت على علم من علم الله علّمكه ، لا أعلمه ، فقال موسى : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً ، وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) فقال له الخضر : (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً).

فانطلقا يمشيان على الساحل ، فمرت سفينة ، فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر ، فحملوهم بغير نول ـ أي أجر ـ فلما ركبا السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدّوم ، فقال له موسى : قوم قد حملونا بغير نول ، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها : (لِتُغْرِقَ أَهْلَها ، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وكانت الأولى من موسى نسيانا ، وجاء عصفور ، فوقع على حرف السفينة ، فنقر في البحر نقرة ، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك

__________________

(١) أي من أين السلام في هذه الأرض التي لا سلام فيها؟

٢٩٠

من علم الله تعالى إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر.

ثم خرجا من السفينة ، فبينما هما يمشيان على الساحل ، إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه فقتله ، فقال له موسى : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ ، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) قال : (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) قال سفيان : وهذه أشدّ من الأولى.

(قالَ : إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها ، فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها ، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما ، فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) فقال الخضر بيده هكذا ـ أي أشار بيده ـ فأقامه ، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ، ولم يضيفونا (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) قال الخضر : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً).

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يرحم الله موسى ، لوددت أنه كان صبر ، حتى يقص الله علينا من أخبارهما».

التفسير والبيان :

هذه هي القصة الثالثة التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة بعد قصة أصحاب الكهف ، وصاحب الجنتين والأموال ، وهي تلتقي أيضا مع ما ذكره الله تعالى من تشبيه الحياة الدنيا بماء السماء ، وتفاخر الناس بالمال والبنين ، كما تلتقي معهما في نبذ الافتخار والتكبر والتعالي على الآخرين ، ليكون ذلك درسا بليغا وعظة لرؤساء قريش الذين طلبوا تخصيص مجلس لهم ، وطرد الفقراء والمستضعفين من الجلوس معهم في مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنفة وكبرياء واستعلاء ، فقال تعالى :

٢٩١

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ ...) أي واذكر أيها النبي حين قال موسى لفتاه لا أزال سائرا حتى أصل إلى المكان الذي فيه مجمع البحرين ، ولو أني أسير حقبا أي دهرا من الزمان. والحقب : ثمانون أو سبعون سنة ، والمراد : زمان غير محدود من الدهر.

والمقصود بموسى في رأي أكثر العلماء هو موسى بن عمران نبي بني إسرائيل صاحب المعجزات الظاهرة وصاحب التوراة.

وفتاه : هو يوشع بن نون بن أفرائيم بن يوسف عليه‌السلام ، وقد كان خادما لموسى ، ويسمى الخادم فتى في لغة العرب.

و (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) : هو مكان اجتماع البحرين وصيرورتهما بحرا واحدا ، وهما في رأي الأكثرين بحر فارس والروم ، أي ملتقى البحر الأحمر بالمحيط الهندي عند باب المندب ، وقيل : إنه ملتقى بحر الروم والمحيط الأطلنطي ، أي ملتقى البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي عند مضيق جبل طارق عند طنجة. وهو المكان الذي وعد فيه موسى بلقاء الخضر.

(فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما ، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) أي فلما وصلا مجمع البحرين مكان اللقاء مع العبد الصالح ، نسيا حوتهما ، فاتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكا ، وغطاه الماء ، حتى صار كالقنطرة عليه ، وكان ذلك للحوت سربا ، ولموسى وفتاه عجبا.

(فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ : آتِنا غَداءَنا ، لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) أي فلما تجاوز موسى وفتاه يوشع مجمع البحرين حيث نسيا الحوت فيه ، وسارا بقية اليوم والليلة ، وفي اليوم التالي في ضحوة الغد أحس موسى بالجوع ، فقال لفتاه : آتنا غداءنا ، لقد لقينا تعبا من ذلك السفر.

٢٩٢

وذلك أن موسى كان قد أمر بحمل حوت مملّح معه ، وذكر له أن عبدا من عباد الله بمجمع البحرين عنده من العلم ما لم يحط به موسى ، فأحب الرحيل إليه ، وقيل له : متى فقدت الحوت فهو ثمة ، وسار هو وفتاه ، حتى بلغا مجمع البحرين ، وكان الحوت في مكتل (قفة) مع يوشع عليه‌السلام ، فسقط في البحر ، وجعل يسير في الماء.

وعودة الحياة للحوت بعد موته كانت معجزة لموسى عليه‌السلام ، علامة على مكان وجود الخضر. والخضر : هو لقب العبد الصالح الذي أمر موسى بالتعلم منه ، واسمه بليا بن ملكان ، والأصح أنه لم يكن نبيا.

(قالَ : أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ ، فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ، وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً).

أي قال له فتاه : أرأيت (١) أي أخبرني ما وقع لي حين لجأنا إلى الصخرة في مجمع البحرين؟ فإني نسيت أن أخبرك بما حدث من أمر الحوت ، فإنه قد اضطرب وعاد حيا ووقع في البحر ، وما أنساني ذكر ذلك إلا الشيطان ، واتخذ الحوت مسلكه في البحر عجبا. والمراد بالنسيان : اشتغال قلب الإنسان بوساوس الشيطان التي هي من فعله.

(قالَ : ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) أي قال موسى : هذا هو الذي نطلب ؛ لأنه أمارة الفوز بما نقصد.

(فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) أي رجعا على طريقهما يقصان آثار مشيهما ،

__________________

(١) همزة أَرَأَيْتَ همزة الاستفهام ، ورَأَيْتَ على معناه الأصلي ، وإدخال الهمزة عليه للتعجب ، فإن المتعارف بين الناس أنه إذا حدث لأحدهم أمر عجيب قال لصاحبه : أرأيت ما حدث لي؟

٢٩٣

ويقفوان آثرهما. قال البقاعي : إن هذا يدل على أن الأرض كانت رملا لا علامة عليها.

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ، قالَ لَهُ مُوسى : هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) أي وجد موسى وفتاه عند الصخرة في مجمع البحرين حين عادا إليها عبدا صالحا من عباد الله ، قال الأكثرون : إن ذلك العبد هو الخضر ، وكان مسجى بثوب أبيض ، فسلم عليه موسى ، فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام؟! وقوله : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) يدل على أن تلك العلوم حصلت له من عند الله من غير وساطة.

فقال : أنا موسى ، قال : موسى بن إسرائيل؟ قال : نعم ، قال : هل أصحبك وأرافقك لتعلمني مما علمك الله شيئا أسترشد به في أمري من علم نافع وعمل صالح؟ وهذا سؤال تلطف وأدب ، لا إلزام فيه ولا إجبار ، وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم.

فأجابه الخضر : (قالَ : إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أي قال الخضر لموسى : إنك لن تقدر على مصاحبتي ، ولن تطيق صبرا ما تراه مني ؛ لأني على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من الله ، علمكه لا أعلمه ، وكل منا مكلف بأمور من الله دون صاحبه ، فلا تقدر على صحبتي.

(وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) أي وأؤكد لك أنك لن تصبر على شيء تراه مني ، ولم تطلع على حكمته ومصلحته الباطنة وحقيقة أمره التي اطلعت أنا عليها دونك. فقوله: (خُبْراً) أي لم يحط به خبرك ، ولم تلمّ بوجه الحكمة فيه وطريق الصواب.

(قالَ : سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً ، وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) أي قال موسى : ستجدني بمشيئة الله صابرا على ما أرى من أمورك ، ولا أخالفك في شيء.

٢٩٤

(قالَ : فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) أي قال الخضر شارطا على موسى بقوله : إن سرت معي ، فلا تسألني عن أمر يحدث ، حتى أبدأك أنا به قبل أن تسألني.

قصة السفينة :

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) أي فانطلق موسى وصاحبه مع الخضر ، انطلقا يمشيان على ساحل البحر ، يطلبان سفينة ، فمرت بهما سفينة ، فكلّما أصحابها أن يركبا فيها معهم ، فعرفوا الخضر ، فحملوهما بغير أجر ، تكرمة للخضر ، فلما ركبوا وسارت بهم السفينة في وسط البحر ، قام الخضر بخرقها بفأس ، مستخرجا لوحا من ألواحها ، ثم رقعها.

(قالَ : أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها ، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) أي لم يتمالك موسى عليه‌السلام نفسه وقال منكرا عليه : أخرقتها لتغرق (١) أهلها ، أي ليصير الخرق سببا في إغراق أهلها ، لقد جئت شيئا عظيما منكرا.

(قالَ : أَلَمْ أَقُلْ : إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أي قال الخضر لموسى : ألم أقل سابقا لك يا موسى : إنك لن تتمكن من الصبر معي على ما ترى مني من أفعال.

(قالَ : لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ ، وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) أي اعتذر موسى للخضر قائلا : لا تؤاخذني بنسياني ، أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة ، ولا تكلفني أمرا شاقا عسيرا علي ، أي لا تعسر علي متابعتك ، ويسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة.

__________________

(١) اللام لام العاقبة أو الصيرورة ، لا لام التعليل.

٢٩٥

قصة الغلام :

(فَانْطَلَقا ، حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) أي ثم خرجا من السفينة ، وسارا يمشيان على الساحل ، فأبصر الخضر غلاما ـ وهذا يشمل الشاب البالغ ـ يلعب مع الغلمان ، فقتله بفتل عنقه أو بضرب رأسه بالحائط ، أو بغير ذلك ، فقال موسى : أتقتل نفسا طاهرة من الذنوب ، طيبة لم تخطئ ، بغير قتل نفس أي بغير قصاص؟ وخص موسى هذه الحالة من مبيحات القتل ؛ لأنها أكثر وقوعا. (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) أي لقد أتيت شيئا منكرا. والنكر في حال القتل أعظم قبحا من الإمر في حال خرق السفينة ؛ لأن قتل النفس أعظم جرما من خرق السفينة ؛ إذ قد لا يحصل الغرق.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه رحلة موسى بن عمران نبي بني إسرائيل مع فتاه يوشع عليهما‌السلام للقاء العبد الصالح وهو الخضر عليه‌السلام ، لتعليمه التواضع في العلم ، وأنه وإن كان نبيا مرسلا ، فقد يكون بعض العباد أعلم منه.

وفي هذا من الفقه : رحلة العالم لطلب الازدياد من العلم ، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب ، واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء ، وإن بعدت أقطارهم ، كما كان دأب السلف الصالح.

ونفع هذه القصة بوجه خاص في الرد على الكفار الذين افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأنصار : هو أن موسى عليه‌السلام ، مع كثرة علمه وعمله وعلو منصبه ، ذهب إلى الخضر ، لطلب العلم مع التواضع له ، وذلك يدل على أن التواضع خير من التكبر.

ونفع هذه القصة مع قصة أصحاب الكهف : هو أن اليهود قالوا لكفار

٢٩٦

مكة : إن أخبركم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذه القصة فهو نبي ، وإلا فلا ، مع أنه لا يلزم من كونه نبيا من عند الله تعالى أن يكون عالما بجميع القصص والوقائع ، كذلك لم يمنع كون موسىعليه‌السلام نبيا صادقا من عند الله أن يأمره الله بالذهاب إلى الخضر ، ليتعلم منه.

ودل قوله : (آتِنا غَداءَنا) على تعليم الناس اتخاذ الزاد في الأسفار ، ولا يتنافى ذلك مع التوكل على الله تعالى ، فهذا موسى نبي الله وكليمه قد اتخذ الزاد ، مع معرفته بربه ، وتوكله على رب العباد.

وكان انقلاب الحوت حيا معجزة لموسى عليه‌السلام ، وعلامة على مكان وجود العبد الصالح ، لذا قال موسى فرحا لما أخبره فتاه بالأمر : (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) أي قال موسى لفتاه : أمر الحوت وفقده هو الذي كنا نطلب ، فإن الرجل الذي جئنا إليه موجود هناك.

والعبد الصالح على الصحيح هو الخضر ، وهو نبي في رأي جماعة كثيرين بدليل ما يأتي(١) :

١ ـ أنه تعالى قال : (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) والرحمة هي النبوة ؛ لقوله تعالى : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف ٤٣ / ٣٢] وقوله : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) [القصص ٢٨ / ٨٦].

٢ ـ قوله تعالى : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) وهذا يقتضي أنه تعالى علمه لا بواسطة معلم ، ولا إرشاد مرشد ، وكل من علمه الله لا بواسطة البشر ، وجب أن يكون نبيا يعلم الأمور بالوحي من الله تعالى.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢١ / ١٤٨ ، تفسير القرطبي : ١١ / ١٦.

٢٩٧

٣ ـ قال موسى عليه‌السلام : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) والنبي لا يتبع غير النبي في التعليم.

والراجح أن الخضر لم يكن نبيا وإنما هو عبد صالح كما قرر علماء الكلام (التوحيد). والاستدلال بهذه الأدلة ضعيف ، أما الدليل الأول : فلا يلزم أن يكون كل رحمة نبوة ، فرحمة الله تعالى وسعت كل شيء. وأما الدليل الثاني : إن العلوم الضرورية تحصل ابتداء من عند الله ، وذلك لا يدل على النبوة. وأما الدليل الثالث : فلا مانع يمنع النبي من اتباع غير النبي في العلوم التي لا تتعلق بالنبوة.

ودل قوله : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) على أن المتعلم تبع للعالم ، وإن تفاوتت المراتب ، ولا يظن أن في تعلم موسى من الخضر ما يدل على أن الخضر كان أفضل منه ؛ لأن الفضل لمن فضله الله ، فإن كان الخضر وليا فموسى أفضل منه ، وإن كان نبيا فموسى فضله الله بالرسالة. ولقد كان موسى عليه‌السلام محقا في إنكاره على العبد الصالح ؛ لأن الأنبياء لا يقرّون على منكر ، ولا يجوز لهم التقرير ، لذا علّق صبره على ما يحدث من أمر في المستقبل على مشيئة الله ، وأنه لا يدري كيف يكون حاله ، لا أنه عزم الصبر على المعصية.

وقد ذكر الرازي في قول موسى : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) أنواعا كثيرة من الأدب واللطف عند ما أراد أن يتعلم من الخضر ، ذكر منها اثني عشر نوعا ، منها : أنه جعل نفسه تبعا له ، واستأذن في هذه التبعية ، وأقر على نفسي بالجهل بقوله (تُعَلِّمَنِ) وعلى أستاذه بالعلم ، وصرح بأنه يطلب الإرشاد والهداية.

وكان قول الخضر : (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) أي حتى أكون أنا الذي أفسره لك ، تأديبا وإرشادا لما يقتضي دوام

٢٩٨

الصحبة ، فلو صبر ودأب لرأى العجب ، لكنه أكثر الاعتراض ، فتعين الفراق.

وفي خرق السفينة دليل على أن للولي أن ينقص مال اليتيم إذا رآه صلاحا ، كأن يخاف ظالما على ما يملكه ، فيخرّب بعضه. وقال أبو يوسف : يجوز للولي أن يصانع السلطان ببعض مال اليتيم عن البعض.

وفي قول موسى (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) ما يدل على أن النسيان لا يقتضي المؤاخذة ، وأنه لا يدخل تحت التكليف ، ولا يتعلق به حكم طلاق ولا غيره ، ولو نسي مرة ثانية له أن يعتذر أيضا.

وقتل النفس أشد من خرق السفينة ، لذا قال موسى في القتل : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) وقال في الخرق (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) والنكر أعظم قبحا من الإمر ، كما تقدم.

وكان عتاب الخضر في المرة الثانية أشد ، لقوله (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ) وزيادة (لَكَ) لزيادة التأنيب والتقريع على عدم الصبر في المرة الثانية.

ويأتي تمام القصة وما يستنبط منها في الجزء التالي بمشيئة الله.

تم هذا الجزء ولله الحمد

٢٩٩

فهرس

الجزء الخامس عشر

 الموضوع

 الصفحة

سورة الإسراء..................................................................... ٥

تسميتها وفضلها ومناسبتها لما قبلها................................................. ٥

ما اشتملت عليه السورة........................................................... ٧

الإسراء وإنزال التوراة على موسى عليه‌السلام.............................................. ٩

سبب نزول آية الإسراء ، ورأي العلماء في الحادث................................... ١١

أحوال بني إسرائيل في التاريخ..................................................... ١٩

أهداف القرآن الکرم........................................................... ٢٧

التذكير بنعم الله في الدنيا ودلائل القدرة لإلهية...................................... ٣٠

جزاء من أراد الدنيا ومن أراد الآخرة............................................... ٤١

أصول المجتمع المسلم : التوحيد أساس الإيمان وترابط الأٍسرة المسلمة دعامة المجتمع....... ٤٨

أصول أخرى لنظام المجتمع الإسلامي.............................................. ٦٤

خاتمة معبرة لتلك الأصول........................................................ ٧٧

تقريع من نسب الولد والشريك إلى الله تعالى....................................... ٨١

حماية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أذى المشركين إذا قرأ القرآن.................................. ٨٧

؛نکار المشرکن البعث والردّ عليهم................................................ ٩٢

مجادلة المخالفين باللين وبالتي هي أحسن.......................................... ٩٧

تفنيد آخر لشبهات المشرکن................................................... ١٠٣

٣٠٠