التفسير المنير - ج ١٥

الدكتور وهبة الزحيلي

(الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي إن الأموال والبنين هي من زينة الحياة الدنيا ، وليست من زينة الآخرة الدائمة ، فهي سريعة الفناء والانقراض ، فلا ينبغي للعاقل الاغترار بها والتفاخر بها. والمقصود إدخال هذا الجزء تحت ذلك الكل في المثل السابق الذي أبان سرعة انقضاء الدنيا وإشرافها على الزوال والفناء. والسبب في ذكر المال والبنين فقط ؛ لأن في المال جمالا ونفعا ، وفي البنين قوة ودفعا ، فصارا زينة الحياة الدنيا.

وتقديم المال على البنين مع كونهم أعز منه ؛ لأنه أهم وأخطر ، وأكثر تحقيقا للحاجة والرغبة والهوى ، فقد يكون البنون دون المال ، ويكون البؤس والشقاء.

ونظير الآية : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ ، وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ..) الآية [آل عمران ٣ / ١٤].

قال الإمام علي كرم الله وجهه : المال والبنون حرث الدنيا ، والعمل الصالح حرث الآخرة ، وقد جمعهما الله لأقوام.

(وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) أي إن أعمال الخير وأفعال الطاعات ، كالصلوات والصدقات ، والجهاد في سبيل الله ، ومساعدة الفقراء ، والأذكار أفضل ثوابا ، وأعظم قربة عند الله ، وأبقى أثرا ؛ إذ ثوابها عائد على صاحبها ، وخير أملا حيث ينال صاحبها في الآخرة كل ما كان يؤمله في الدنيا.

وقال ابن عباس : (الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر. وكذلك قال عثمان بن عفان : هي لا إله إلا الله ، وسبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

٢٦١

فقه الحياة أو الأحكام :

ينبغي أن يعرف الناس ولا سيما المتكبرون الذين طلبوا طرد فقراء المؤمنين مثل الحياة الدنيا ، أي شبهها ، فهي في عدم استقرارها وعدم استمرارها على حال واحدة كالماء لا يستقر في موضع ، ولا يستقيم على حالة واحدة ، وهي مثله أيضا في أنها تفنى ، وهو يذهب ولا يبقى ، وهي كذلك لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها ، كما أن من دخل الماء لا بد أن يبتلّ منه ، والكفاف من الدنيا ينفع وفضولها يضر ، كما أن الماء إذا جاوز المقدار كان ضارّا مهلكا. ورد في صحيح مسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قد أفلح من أسلم ، ورزق كفافا ، وقنّعه الله بما آتاه». والخلاصة : أن هذا المثل يدل على سرعة زوال الدنيا وفنائها.

والله وحده هو الباقي المقتدر على كل شيء من الإنشاء والإفناء والإحياء.

وكذلك زينة الحياة الدنيا من المال والبنين سريعة الانقضاء والانقراض ، والباقيات الصالحات مما يأتي به فقراء المسلمين كسلمان وصهيب من الطاعات أفضل ثوابا عند الله ، وأفضل أملا من ذي المال والبنين دون عمل صالح ، وليس في زينة الدنيا خير ، ولكنه مثل قوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) [الفرقان ٢٥ / ٢٤].

واختلف العلماء في الباقيات الصالحات : فقال ابن عباس وآخرون : هي الصلوات الخمس ، وروي عنه كما بينا أنها : «سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر» وقال الجمهور : هي الكلمات المأثور فضلها : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وذلك مأخوذ من حديث رواه النسائي عن أبي سعيد الخدري.

وعن ابن عباس أيضا : أنها كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة ، ورجّحه الطبري ، وقال القرطبي : وهو الصحيح إن شاء الله ؛ لأن كل ما بقي ثوابه ، جاز أن يقال له هذا.

٢٦٢

تسيير الجبال والحشر وعرض صحائف الأعمال يوم القيامة

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩))

الإعراب :

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ يَوْمَ) : منصوب بفعل مقدر ، تقديره : اذكر يوم.

(وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا صَفًّا) : حال منصوب من واو (عُرِضُوا) وهو عامله ، وتقديره : عرضوا مصطفين.

(أَلَّنْ نَجْعَلَ) أن : مخففة من الثقيلة ، أي أنه.

المفردات اللغوية :

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) واذكر يوم نقلع الجبال ونذهب بها عن وجه الأرض ، فنجعلها هباء منبثا. (بارِزَةً) ظاهرة ، ليس عليها شيء من جبل ولا غيره. (وَحَشَرْناهُمْ) جمعنا المؤمنين والكافرين إلى الموقف ، والحشر : الجمع لأجل الحساب ، والبعث : إحياؤهم من القبور للحشر.

ومجيء هذا الفعل ماضيا بعد المضارع (نُسَيِّرُ) لتحقيق الحشر ، أو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير ليعاينوا ويشاهدوا ما وعدوا ، وعلى هذا تكون الواو للحال بإضمار : قد (فَلَمْ نُغادِرْ) نترك ، يقال : غادره وأغدره : إذا تركه ، ومنه الغدر : وهو ترك الوفاء ، والغدير : ما غادره السيل.

٢٦٣

(وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ) تشبيه حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان ، لا ليعرفهم ، بل ليأمر فيهم. (صَفًّا) مصطفين ، كل أمة صف ، لا يحجب أحد أحدا. (لَقَدْ جِئْتُمُونا) على إضمار القول على وجه يكون حالا ، أي قائلا أو عاملا في (يَوْمَ نُسَيِّرُ). (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي فرادى حفاة عراة ، لا شيء معكم من المال والولد ، لقوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) [الأنعام ٦ / ٩٤].

(بَلْ زَعَمْتُمْ) أي ويقال لمنكري البعث ذلك ، و (بَلْ) : للخروج من قصة إلى أخرى. (أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) وقتا للبعث والنشور ، لا نجاوز الوعد.

(وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي جعل كتاب كل إنسان في يده حين الحساب ، في يمينه للمؤمنين وفي شماله للكافرين. (مُشْفِقِينَ) خائفين. (وَيَقُولُونَ) عند معاينتهم ما فيه من السيئات. (يا وَيْلَتَنا يا) : للتنبيه ، و (وَيْلَتَنا) : هلاكنا ، وهو مصدر لا فعل له من لفظه ، أي يا هلاك أقبل ، فهذا أوانك. (صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) من ذنوبنا. (إِلَّا أَحْصاها) عدّها وأثبتها ، وهو تعجب منه في ذلك. (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) مثبتا في كتابهم ، أو مسطورا في كتاب كل واحد منهم. (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) لا يتجاوز ما حدّه من الثواب والعقاب ، فلا يعاقب أحدا بغير جرم ، ولا ينقص من ثواب مؤمن.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى خساسة الدنيا وزوالها ، وشرف القيامة ودوامها ، وأن التفاخر ليس بالأموال ، بل بالعمل الصالح ، أردفه بأحوال القيامة ، وما فيها من أخطار وأهوال ، وتغير معالم الأرض والحشر ، والعدل المطلق في رصيد أعمال الناس جميعا بكتب وصحائف شاملة ، يتبين منها أن أساس النجاة : هو اتباع ما أمر به الدين ، وترك ما نهى عنه.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن أهوال القيامة وما فيها من الأمور العظام وهي :

١ ـ (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ ..) أي واذكر يا محمد حين نذهب بالجبال من أماكنها ، ونزيلها ، ونبددها كالسحاب هباء منثورا ، كما قال تعالى :

٢٦٤

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ ، فَقُلْ : يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) [طه ٢٠ / ١٠٥] وقال : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا ، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) [الواقعة ٥٦ / ٥ ـ ٦] وقال : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ). [المعارج ٧٠ / ٨ ـ ٩] أي كالصوف المندوف المنفوش.

وهذا يدل على تبدل الحال ، وتغير الوضع الذي كان في الدنيا ، وإزاحة الجبال من مواضعها ، وجعلها هباء منتشرا كالسحاب.

٢ ـ (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) أي وتنظر أيها الإنسان جميع الأرض ظاهرة بادية ، ليس فيها معلم لأحد ، ولا مكان يواري أحدا ، بل الخلق كلهم في صعيد واحد ، صافون أمام ربهم ، لا تخفى عليه خافية. وهذا معنى قوله تعالى في آية نسف الجبال السابقة : (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً ، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه ٢٠ / ١٠٦ ـ ١٠٧] أي تصبح الأرض سطحا مستويا ، لا ارتفاع فيها ولا انخفاض ، ولا جبل ولا وادي.

هذان الأمران تسيير الجبال وتسوية الأرض متعلقان بشأن الدنيا.

٣ ـ (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) أي وجمعنا الأولين والآخرين للحساب وجمعناكم إلى الموقف ، فلم نترك منهم أحدا ، لا صغيرا ولا كبيرا ، كما قال تعالى : (قُلْ : إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الواقعة ٥٦ / ٤٩ ـ ٥٠] وقال : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [هود ١١ / ١٠٣]. أخرج الإمام مسلم وغيره عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : سمعت رسول الله صلّى الله عليه و (١) آله وسلّم يقول : «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا (١) ، فقلت : يا رسول الله ، الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال : الأمر أشدّ من أن ينظر بعضهم إلى بعض».

__________________

(١) غرلا ، أي غير مختونين ، والغرلة : القلفة.

٢٦٥

وفي رواية للنسائي : «لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه» وهذا الأمر يدل على إثبات الحشر.

٤ ـ (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا ، لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي ويعرض البشر قاطبة أمام الله صفا واحدا ، كما قال سبحانه : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر ٨٩ / ٢٢].

لقد أتيتم إلينا أيها الناس جميعا أحياء ، كهيئتكم حين خلقناكم أول مرة في الدنيا ، حفاة عراة ، لا شيء معكم ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى ، كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ) [الأنعام ٦ / ٩٤].

وهذا تقريع لمنكري المعاد ، وتوبيخ لهم أمام الناس ، وهو إثبات لمبدأ العرض للحساب على الله تعالى ، ولهذا قال تعالى مخاطبا لهم :

(بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) أي بل ظننتم أنه لا لقاء لكم مع الله ، وما كان ظنكم أن هذا واقع بكم ، ولا أنه كائن.

٥ ـ (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) أي ووضع كتاب الأعمال : أعمال الناس من خير أو شر ، صغير أو كبير ، فترى العصاة المجرمين خائفين مما فيه من أعمالهم السيئة ، وأفعالهم القبيحة. والمراد بالكتاب : الجنس ، وهو صحف الأعمال.

(وَيَقُولُونَ : يا وَيْلَتَنا ، ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) أي ويقول أولئك المجرمون : يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمالنا ، وما لهذا الكتاب لا يترك ذنبا صغيرا ولا كبيرا ، ولا شاردة ولا واردة إلا أحصاها ، أي ضبطها وحفظها ، فهو شامل لكل شيء ، كما قال تعالى : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ

٢٦٦

عَتِيدٌ) [ق ٥٠ / ١٧ ـ ١٨]. (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ، كِراماً كاتِبِينَ ، يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) [الانفطار ٨٢ / ١٠ ـ ١٢].

والآية تدل على إثبات صغائر وكبائر في الذنوب ، وهذا متفق عليه بين المسلمين.

(وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) أي ووجد الناس ما عملوا مثبتا في كتابهم ، من خير أو شر ، وقيل : جزاء ما عملوا ، كما قال تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) [آل عمران ٣ / ٣٠] وقال سبحانه : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة ٧٥ / ١٣].

(وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) ليس في حكم الله أي ظلم لخلقه ؛ إذ مبدأ الثواب والعقاب مما يقتضيه العدل الإلهي المطلق ، حتى يكافأ المحسن ، ويجازى المسيء ، بل إنه تعالى بمقتضى رحمته يعفو ويصفح ، ويغفر ويرحم ، ويعذب من يشاء من خلقه بقدرته وحكمته وعدله ، فيخلّد الكفار في نار جهنم ، ويعذب العصاة فيها ، ثم ينجّيهم منها ، وحكمه في كل حال العدل ، وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم ، فلا يكتب على إنسان ما لم يعمل ، ولا يزيد في عقاب المستحق ، أو يعذبه بغير جرم.

ونحو الآية : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) [النساء ٤ / ٤٠] ، (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها ، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٤٧].

وهذه الآية تبين خاتمة مراحل الحساب بين يدي الله ، القائم على مبدأ : أن الجزاء من جنس العمل ، وأن صحائف أعمال الناس تشمل الحسنات والسيئات.

٢٦٧

فقه الحياة أو الأحكام :

الآيات تبين بداية القيامة ونهاية الحساب ، فتبدأ في بيان تغيير معالم الدنيا من تسيير الجبال ، أي إزالتها من أماكنها على وجه الأرض ، وتسييرها كما يسيّر السحاب ، كما جاء في آية أخرى : (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) [النمل ٢٧ / ٨٨] ثم تكسر فتعود إلى الأرض ، كما قال تعالى : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا ، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) وتصبح الأرض بارزة ظاهرة ، ليس عليها ما يسترها من جبل ولا شجر ولا بنيان ؛ لاجتثاث ثمارها ، وقلع جبالها ، وهدم بنيانها.

ثم تأتي مرحلة الحشر أي الجمع إلى الموقف ، فلا يترك أحد ويجمع جميع المخلوقات في صعيد واحد ، للحساب أمام الربّ تبارك وتعالى.

إنهم يعرضون صفا بعد صف ، كالصفوف في الصلاة ، كل أمة وزمرة صفّ ، لا أنهم صف واحد.

أخرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن منده في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة وبصوت رفيع غير فظيع : يا عبادي ، أنا الله ، لا إله إلا أنا ، أرحم الراحمين ، وأحكم الحاكمين ، وأسرع الحاسبين.

يا عبادي ، لا خوف عليكم اليوم ، ولا أنتم تحزنون ، أحضروا حجتكم ، ويسّروا جوابا ، فإنكم مسئولون محاسبون.

يا ملائكتي ، أقيموا عبادي صفوفا ، على أطراف أنامل أقدامهم للحساب».

ويأتي الخلائق من قبورهم لموقف الحساب حفاة عراة ، لا مال معهم ولا ولد ، كما جاؤوا من بطون أمهاتهم أثناء ولادتهم في الدنيا. وتعرض كتب أعمال العباد وصحائفهم ، بما فيها من صغائر وكبائر ، قال الأسدي : الصغيرة : ما دون الشرك ، والكبيرة : الشرك.

٢٦٨

قال عمر رضي‌الله‌عنه لكعب الأحبار : ويحك يا كعب! حدّثنا من حديث الآخرة ؛ قال : نعم يا أمير المؤمنين! إذا كان يوم القيامة ، رفع اللوح المحفوظ ، فلم يبق أحد من الخلائق إلا وهو ينظر إلى عمله ، ثم يؤتى بالصحف التي فيها أعمال الناس ، فتنثر حول العرش ، وذلك قوله تعالى : (وَوُضِعَ الْكِتابُ ، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ..) الآية.

ثم يدعى المؤمن ، فيعطى كتابه بيمينه ، فينظر فيه ، فإذا حسناته باديات للناس ، وهو يقرأ سيئاته لكيلا يقول : كانت لي حسنات ، فلم تذكر ، فأحب الله أن يريه عمله كلّه ، حتى إذا استنقص ما في الكتاب وجد في آخره ذلك كله أنه مغفور ، وأنك من أهل الجنة ؛ فعند ذلك يقبل إلى أصحابه ثم يقول : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) [الحاقة ٦٩ / ١٩ ـ ٢٠].

ثم يدعى بالكافر ، فيعطى كتابه بشماله ، ثم يلف ، فيجعل من وراء ظهره ، ويلوى عنقه ؛ فذلك قوله : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) [الانشقاق ٨٤ / ١٠] فينظر في كتابه ، فإذا سيئاته باديات للناس ، وينظر في حسناته ، لكيلا يقول : أفأثاب على السيئات؟! (١).

قصة السجود لآدم عليه‌السلام

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٠ / ٤١٩.

٢٦٩

نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣))

الإعراب :

(كانَ مِنَ الْجِنِ) حال بإضمار قد ، واستئناف للتعليل كأنه قيل : ما له لم يسجد؟ فقيل : كان من الجن.

(بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) فاعل (بِئْسَ) : مضمر فيها ، و (بَدَلاً) تمييز مفسّر لذلك المضمر ، أي بئس البدل للظالمين ذرّية إبليس. و (لِلظَّالِمِينَ) فصل بين (بِئْسَ) وما انتصب به ، واستدل به المبرّد على جواز الفصل بين فعل التعجب وما انتصب به في نحو قولهم : ما أحسن اليوم زيدا. والمقصود بالذم : ذرية إبليس ، وحذف لدلالة الحال عليه.

البلاغة :

(أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ)؟ الهمزة للإنكار والتعجيب.

المفردات اللغوية :

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) أي اذكر. (اسْجُدُوا لِآدَمَ) سجود انحناء ، تحية وإكراما له ، اعترافا بفضله. وقد تكرر الأمر بالسجود لآدم في مواضع ، لكونه مقدمة للأمور المقصود بيانها في تلك المحال ، وهنا لما شنع الله تعالى على المفتخرين بأموالهم واستقبح صنيعهم ، قرر أن ذلك من سنن إبليس (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) إذا اعتبر الجن نوعا من الملائكة فالاستثناء متصل ، وإلا فهو استثناء منقطع ، وإبليس : أبو الجن ، فله ذرية ، والملائكة لا ذرية لهم. (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) خرج عن طاعة ربه أو عما أمره به ربه ، بترك السجود. (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ) الخطاب لآدم وذريته ، والهاء في الموضعين لإبليس ، والذرية : الأولاد أو الأتباع ، وسماهم ذرية مجازا. (أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) تطيعونهم. (عَدُوٌّ) أعداء ، والعدو : يطلق على الواحد والجمع. (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) إبليس وذريته في إطاعتهم ، بدل إطاعة الله.

(ما أَشْهَدْتُهُمْ) أي إبليس وذريته. (وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) أي لم أحضر بعضهم خلق بعض.

٢٧٠

(وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ) الشياطين. (عَضُداً) أعوانا ، والعضد في الأصل : ما بين المرفق إلى الكتف ، ويستعمل بمعنى المعين ، كاليد ونحوها ، وهو المراد هنا. أي لم أستعن بالشياطين في الخلق ، فكيف تطيعونهم؟ وهو رد لاتخاذهم أولياء من دون الله ، شركاء له في العبادة ، فإن استحقاق العبادة من توابع الخالقية. ووضع (الْمُضِلِّينَ) موضع الضمير ذمّا لهم ، واستبعادا للاعتضاد بهم.

(وَيَوْمَ يَقُولُ) اذكر. (نادُوا شُرَكائِيَ) الأوثان وغيرها. (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أنهم شركائي أو شفعاؤكم ليمنعوكم من عذابي. وإضافة الشركاء على زعمهم للتوبيخ. (فَدَعَوْهُمْ) فنادوهم للاستغاثة. (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) فلم يغيثوهم أو لم يجيبوهم. (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ) بين الأوثان وعابديها ، أو بين الكفار وآلهتهم. (مَوْبِقاً) مهلكا يشتركون فيه ، وهو النار ، أو واد من أودية جهنم ، يهلكون فيه جميعا ، أو حاجزا بينهم. (فَظَنُّوا) فأيقنوا. (أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) أي واقعون فيها ، وداخلوها. (مَصْرِفاً) معدلا أو مكانا ينصرفون إليه.

المناسبة :

هناك تشابه بين فعل المشركين سابقا ، وافتخارهم بأموالهم وأعوانهم على فقراء المسلمين ، وبين فعل إبليس الذي تكبر على آدم ؛ لأنه افتخر بأصله ونسبه ، وقال : خلقتني من نار ، وخلقته من طين ، فأنا أشرف منه في الأصل والنسب ، فكيف أسجد وأتواضع له؟ والمشركون قالوا : كيف نجلس مع هؤلاء الفقراء ، مع أنّا من أنساب شريفة ، وهم من أنساب نازلة ، ونحن أغنياء وهم فقراء. وهذه هي طريقة إبليس ، فذكرت قصته هنا تنبيها على وجود التشابه ، والله تعالى حذر من هذه الطريقة ومن الاقتداء بها.

وتكرار قصة إبليس في مواضع من القرآن : إنما هو لما يناسب المقصود ، ولما يحقق الفائدة ، ففي كل موضع تساق لفائدة مغايرة لما ذكرت في مواضع أخرى.

التفسير والبيان :

هذا تنبيه لبني آدم على عداوة إبليس لهم ، ولأبيهم من قبلهم ، وتقريع لمن اتبعه منهم ، وخالف خالقه ومولاه ، فقال :

٢٧١

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ..) أي واذكر لهم يا محمد إذ أمرنا جميع الملائكة بالإلهام أن يسجدوا لآدم سجود تحية وإكرام ، تكريما للنوع الإنساني ، كما ذكر مرارا في آيات كثيرة من القرآن الكريم ، منها : في سورة البقرة : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ : اسْجُدُوا لِآدَمَ ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ ، وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) [٣٤] ، ومنها في سورة الحجر : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ : إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ، فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) [٢٨ ـ ٢٩] ، ومنها في سورة الكهف : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ : اسْجُدُوا لِآدَمَ ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) [٥٠].

وسبب إباء إبليس السجود لآدم : اغتراره بأصله ، فإنه خلق من مارج من نار ، وأصل خلق الملائكة من نور ، وخلق آدم من تراب ، كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة مرفوعا : «خلقت الملائكة من نور ، وخلق إبليس من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم» ، وبان من الآية السابقة أن إبليس من الجن ، كما بان من آية أخرى أنه خلق من نار ، وخلق آدم من طين ، كما قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ، خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ ، وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [ص ٣٨ / ٧٦].

قال الحسن البصري : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط ، وإنه لأصل الجن ، كما أن آدم عليه‌السلام أصل البشر.

(كانَ مِنَ الْجِنِ) أي أن سبب عصيانه أنه كان من عنصر الجن ، فلم يعمل مثل ما عملوا ، لذا قال :

(فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) أي فخرج عن طاعة الله ، فإن الفسق هو الخروج ، يقال : فسقت الرطبة : إذا خرجت من أكمامها أو قشرها ، ودل هذا على أن فسقه بسبب كونه من الجن أي الشياطين ، وشأن الجن التمرد والعصيان ، لخبث ذواتهم. والخلاصة : أن قوله تعالى : (كانَ مِنَ الْجِنِ) كلام مستأنف

٢٧٢

جار مجرى التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين. وقوله : (فَفَسَقَ ..) الفاء للتسبيب أيضا ، جعل كونه من الجن سببا في فسقه ؛ لأنه لو كان ملكا لم يفسق عن أمر ربه ؛ لأن الملائكة معصومون ، على عكس الجن والإنس.

وأما ما ذكر في آية أخرى أنه من الملائكة ، فلا يعارض هذه الآية ؛ لأنه قد يطلق على الملائكة أنهم جن لاستتارهم عن أعين الناس.

ثم عقب الله تعالى على القصة بقوله :

(أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ؟) أي أنه تعالى يعجب ممن يطيع إبليس وجنده في الكفر والمعاصي ، ويحذر من اتباعه بعد ما عرف موقفه من أبيهم آدم ، ويوبخ ويقرع من اتّبعه وأطاعه ، متخذا له ولجنده ونسله نصراء من دون الله ، وبدلا عنه ، لذا قال :

(بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) أي بئس البدل للكافرين الظالمين أنفسهم وهو اتخاذ إبليس وذريته أولياء من دون الله ، وهو المنعم عليهم.

ومما يدل على أن إبليس ليس من الملائكة أنه تعالى أثبت له ذرية ونسلا في هذه الآية ، والملائكة ليس لهم ذرية ولا نسل ، فوجب ألا يكون إبليس من الملائكة.

ثم سلب الله تعالى الولاية عمن دونه من الشركاء والأبالسة ، فقال :

(ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) الذي ذهب إليه الأكثرون أن المعنى : ما أشهدت الذين اتخذتموهم أولياء من الشركاء خلق السموات والأرض ، ولا أشهدت بعضهم خلق بعض ، فهم عبيد أمثالكم لا يملكون شيئا ، ولا كانوا موجودين عند خلق السموات والأرض. وهؤلاء الشركاء هم الذين وسوس لكم إبليس في شأنهم ، حتى اتخذتموهم شركاء لي.

٢٧٣

ورجح الرازي أن الضمير عائد إلى الكفار الذين قالوا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن لم تطرد من مجلسك هؤلاء الفقراء ، لم نؤمن بك ، فكأنه تعالى قال : إن هؤلاء الذين اقترحوا هذا الاقتراح الفاسد ، ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم (١).

(وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) أي وما كنت متخذ الضالين المضلين أعوانا وأنصارا ، والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمعنى : وما صح لك الاعتضاد بهم ، وما ينبغي لك أن تعتز بهم ، فإنهم إذا لم يكونوا عضدا لي في الخلق ، فما لكم تتخذونهم شركاء لي في العبادة؟

ثم يخبر الله تعالى عما يخاطب به المشركين يوم القيامة على رؤوس الأشهاد تقريعا لهم وتوبيخا ، فيقول :

(وَيَوْمَ يَقُولُ : نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ، فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) أي واذكر لهم أيها الرسول ما يحدث وقت الاجتماع في يوم الجمع في القيامة ، حيث يقول الله للكافرين تأنيبا وتوبيخا : نادوا لنصرتكم من زعمتم أنهم شركائي ، لينقذوكم مما أنتم فيه ، فدعوهم ، فلم يجيبوهم بشيء ، ولم ينفعوهم في شيء ، كما قال تعالى : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ، وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [الأنعام ٦ / ٩٤].

(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) أي وجعلنا بين المشركين وآلهتهم المزعومة مكانا سحيقا ومهلكا ، أي موضعا للهلاك ، وهو نار جهنم أو واد في جهنم ، وقال ابن عباس : الموبق : الحاجز ، وقال ابن الأعرابي : كل شيء حاجز بين شيئين فهو موبق. والمعنى أن الله تعالى بيّن أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين ، ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا ، وأنه يفرق بينهم وبينها في الآخرة ، بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢١ / ١٣٨

٢٧٤

(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ ، فَظَنُّوا) ـ والظن هنا بمعنى العلم واليقين ـ (أَنَّهُمْ مُواقِعُوها ، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) أي إذا عاين المشركون النار ، تحققوا لا محالة أنهم واقعون فيها ، ومخالطوها وداخلون فيها حتما لا محالة ، (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) أي معدلا ، والمعنى ليس لهم طريق ولا مكان يعدل بهم عنها ، ولا بدّ لهم منها ؛ لإحاطتها بهم من كل جانب. ذكر ابن جرير عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إن الكافر ليرى جهنم ، فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ كرم الله تعالى أبانا آدم عليه‌السلام والجنس البشري بأجمعه بأمره الملائكة أن تسجد له في بدء الخليقة سجود تحية وتكريم ، لا سجود عبادة وتقديس.

٢ ـ أذعن الملائكة كلهم جميعا لأمر السجود فسجدوا إلا إبليس الذي كان من عنصر الجن أبي السجود وفسق عن أمر ربه وخرج عن طاعة الله تعالى.

٣ ـ تضمن رفض إبليس السجود عداوته للإنسان ، لذا وبخ تعالى كل من اتخذ الشيطان وأتباعه أولياء : أعوانا ونصراء ؛ لأنهم أعداء ، والعدو لا ينصر من عاداه ولا يؤتمن على نصرته. وكذلك تضمن الرفض التكبر على آدم والترفع عليه ، لمّا ادعى أن أصله أشرف من أصل آدم ، إذ هو من نار ، وآدم من طين ، فوجب أن يكون هو أشرف من آدم ، فكأنه تعالى قال لأولئك الكافرين الذين افتخروا على فقراء المسلمين بشرف نسبهم وعلو منصبهم : إنكم في هذا القول اقتديتم بإبليس في تكبره على آدم. لكل ما ذكر بئس عبادة الشيطان بدلا عن عبادة الله ، أو بئس إبليس بدلا عن عبادة الله تعالى.

٢٧٥

٤ ـ قوله تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ) يدل على إثبات ذرية إبليس ، وهو دليل على أن لإبليس زوجة ؛ لأن الذرية لا تكون إلا من زوجة. وقال قوم : ليس له أولاد ولا ذرية ، وذرّيته : أعوانه من الشياطين. قال القشيري أبو نصر : والجملة أن الله تعالى أخبر أن لإبليس أتباعا وذرّية ، وأنهم يوسوسون إلى بني آدم ، وهم أعداؤهم ، ولا يثبت عندنا كيفية في كيفية التوالد منهم ، وحدوث الذرية عن إبليس ، فيتوقف الأمر فيه على نقل صحيح.

والذي ثبت في هذا الموضوع ما ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن سلمان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها ، فبها باض الشيطان وفرّخ» قال القرطبي : وهذا يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه ، والله أعلم.

٥ ـ لم يستعن الله تعالى بأحد في خلق السموات والأرض ، ولم يكن أحد موجودا عند الخلق ، ولم يشهد المشركين وإبليس وذريته الخلق ، أي لم يشاورهم في خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم ، بل خلقهم على ما أراد ، ولا يصلح المخلوقون اتخاذهم أولياء من دون الله تعالى.

وهذا رد على طوائف من المنجّمين وأهل الطبائع والمتحكمين من الأطباء وسواهم وكل من يخوض في هذه الأشياء.

كذلك لم يتخذ الله تعالى المضلين عضدا ، أي لم يتخذ الشياطين والكفار أعوانا ؛ لأنه تعالى لا يحتاج إلى عون أحد. وخص المضلين بالذكر لزيادة الذم والتوبيخ.

٦ ـ هناك حاجز بين المؤمنين والكافرين ، وبين المشركين وآلهتهم المزعومة من الأوثان وغيرها يوم القيامة ، فلا ينتفع الكفار بمن أشركوا ، ولا يتمكنون من منع العذاب عنهم ، والكل هالكون في جهنم.

٢٧٦

٧ ـ إذا عاين المشركون النار ظنوا أي تيقنوا أنهم مجتمعون فيها وواقعون فيها ، ولا يجدون عنها مصرفا ، أي مهربا ؛ لإحاطتها بهم من كل جانب.

ورجح الرازي في تفسير الظن : أن هؤلاء الكفار يرون النار من مكان بعيد ، فيظنون أنهم مواقعوها في تلك الساعة من غير تأخير ومهلة ؛ لشدة ما يسمعون من تغيظها وزفيرها ، كما قال تعالى : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) [الفرقان ٢٥ / ١٢]

بيان القرآن ومهمة الرسل وظلم المعرض عن الإيمان

وسبب تأخير العذاب لموعد معين

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩))

٢٧٧

الإعراب :

(جَدَلاً) تمييز منقول من اسم (كانَ) ، والمعنى : وكان جدل الإنسان أكثر شيء فيه.

(قُبُلاً) جمع قبيل ، حال ، أي ويأتيهم العذاب قبيلا قبيلا. وقيل : معناه مقابلة ، وهو معنى قراءة (قُبُلاً) ـ بكسر القاف.

(وَما أُنْذِرُوا ما) : مصدرية بمعنى إنذارهم في موضع نصب عطفا على (آياتِي) ، أي : واتخذوا آياتي وإنذاري إياهم هزوا. و (هُزُواً) : مفعول ثان لاتخذوا. ويجوز أن تكون (ما) موصولة وعائد الصلة محذوف.

(وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ تِلْكَ) : مبتدأ ، و (الْقُرى) : صفة لتلك ، و (أَهْلَكْناهُمْ) : خبر المبتدأ. (لِمَهْلِكِهِمْ) وقرئ : مهلك ، ومهلك ، ومهلك ، الأول مصدر أهلك مثل مكرم ، والثاني مصدر هلك مثل مضرب ، والثالث اسم زمان ، أي لوقت مهلكهم.

البلاغة :

(مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(صَرَّفْنا) بينا مع الترداد والتكرار. (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) صفة لمحذوف ، أي مثلا من جنس كل مثل ، ليتعظوا ، والمثل : الصفة الغريبة. (الْإِنْسانُ) جنس الإنسان ، وخاصة الكافر (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) خصومة بالباطل ، وشيء هنا مفرد معناه الجمع ، أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدال. (وَما مَنَعَ النَّاسَ) أي كفار مكة ونحوهم. (أَنْ يُؤْمِنُوا) مفعول ثان لمنع. (إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) القرآن. (سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) فاعل تأتيهم ، أي سنتنا فيهم ، وهي الإهلاك المقدر عليهم ، وهو عذاب الاستئصال ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. (قُبُلاً) جمع قبيل ، أي أنواعا وألوانا ، وقرئ قبلا أي مقابلة وعيانا ، كالقتل يوم بدر.

(إِلَّا مُبَشِّرِينَ) للمؤمنين. (وَمُنْذِرِينَ) مخوفين للكافرين. (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ) بقولهم : أبعث الله بشرا رسولا ونحوه من اقتراح الآيات. (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) ليبطلوه ويزيلوه ، مأخوذ من إدحاض القدم أي إزلاقها وإزالتها عن مكانها ، ويقال : دحضت حجته : بطلت (وَاتَّخَذُوا آياتِي) يعني القرآن. (وَما أُنْذِرُوا) أي وإنذارهم أو والذي أنذروا به من العقاب. (هُزُواً) استهزاء وسخرية ، وأصله : هزؤا.

(فَأَعْرَضَ عَنْها) فلم يتدبرها ولم يتذكر بها. (وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) ما عمل من الكفر

٢٧٨

والمعاصي ولم يتفكر في عاقبتها. (أَكِنَّةً) أغطية ، جمع كنان ، وهو تعليل لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم. (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أن يفهموه ، أي كراهة أن يفقهوه ، أو من أن يفهموا القرآن ، أي فلا يفهمونه. وتذكير الضمير وإفراده مراعاة للمعنى. (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي ثقلا في السمع ، يمنعهم أن يستمعوه حق استماعه ، أو فلا يسمعونه. (فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) أي بالجعل المذكور صار ميئوسا من اهتدائهم ؛ لأنهم لا يفقهون ولا يسمعون ، ولشدة تصميمهم ، و (إِذاً) : جزاء وجواب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فدل على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سببا في انتفائه ، و (أَبَداً) مدة التكليف كلها.

(لَوْ يُؤاخِذُهُمْ) في الدنيا. (لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) فيها. (مَوْعِدٌ) هو يوم القيامة. (مَوْئِلاً) ملجأ ومنجى. (وَتِلْكَ الْقُرى) أي أهلها وهي قرى عاد وثمود وقوم لوط ونحوهم. (لَمَّا ظَلَمُوا) كفروا كقريش بالتكذيب والمراء وأنواع المعاصي. (لِمَهْلِكِهِمْ) هلاكهم ، ومن قرأ بضم الميم وفتح اللام فمعناه لإهلاكهم. (مَوْعِداً) وقتا معلوما ، لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون ، فليعتبروا بهم ، ولا يغتروا بتأخير العذاب عنهم.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى الجواب على شبهات الكفار المبطلين الذين افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم وأتباعهم ، أردف ذلك ببيان كثرة الأمثال في القرآن لمن تدبر فيها ، ومع تلك الأمثلة الواقعية والإجابات الشافية ، هؤلاء الكفار لا يتركون المجادلة الباطلة ؛ لأن الإنسان أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدال ، ثم هددهم تعالى على عدم الإيمان متسائلا : هل هناك مانع يمنعهم من الإيمان إلا نزول عذاب الاستئصال ، أو مجيئه عيانا؟ وأبان أن مهمة الرسل هي الجدال في الدين من طريق تبشير المؤمنين بالجنان وإنذار العصاة بالنار ، وأوضح أن أشد الناس ظلما هو المعرض عن هداية القرآن ، ولله الفضل العظيم في تأخير العقاب عن الناس ، وتخصيصه بموعد ، لا يتجاوزه ، لعلهم يثوبون إلى رشدهم.

التفسير والبيان :

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا ..) أي ولقد بينا للناس في هذا القرآن ، ووضحنا لهم كل

٢٧٩

ما يحتاجون إليه من أمور دينهم ودنياهم ، كي يعرفوا طريق الحق والهدى ، ولا يضلوا عنه. وتصريف الأمثال يقتضي التكرار لمختلف وجوه البيان.

(وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) أي ومع هذا البيان الشافي والتوضيح الكافي ، فإن الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل ، إلا من هدى الله وبصره لطريق النجاة.

وهذا دليل على كثرة الجدال في الإنسان وحبه له ، لسعة حيلته ، وقوة ذكائه ، واختلاف نزعاته وأهوائه.

وبالرغم من بيان القرآن ، وكثرة ما يشاهده الكفار من الآيات والدلالات الواضحات ، فإنهم قوم متمردون منذ القديم ، فقال تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا ..) أي وما منع المشركين من أهل مكة من الإيمان بالله ، حين شاهدوا البينات والأدلة الواضحة على وجود الله وتوحيده ، واستغفار ربهم والتوبة إليه من ذنوبهم إلا طلبهم أحد أمرين :

إما أن تأتيهم سنة الأولين القدماء من إحاطة العذاب بهم وإبادتهم وهو عذاب الاستئصال ، كما قال جماعة لنبيهم : (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ ، إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [العنكبوت ٢٩ / ٢٩] وقالت قريش : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال ٨ / ٣٢].

وإما أن يروا العذاب عيانا مواجهة ومقابلة.

والمعنى أنهم لا يقدمون على الإيمان إلا عند نزول عذاب الاستئصال فيهلكوا ، أو أن يتواصل أنواع العذاب والبلاء حال بقائهم في الحياة الدنيا (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢١ / ١٤١

٢٨٠