التفسير المنير - ج ١٥

الدكتور وهبة الزحيلي

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى قصة أصحاب الكهف التي يجهلها كثير من الناس لكونها من المغيبات ، مما يدل على أن القرآن وحي من عند الله تعالى ، أمر تعالى رسوله والمؤمنين ببعض الأوامر : وهي المواظبة على تلاوة القرآن ، وملازمة مجالس أصحابه الفقراء الذين يتدارسون القرآن ، وإظهار أن القرآن وكلّ حق هو من عند الله تعالى.

ثم ذكر تعالى جزاء الكافرين وعقابهم الأليم ، وثواب المتقين ونعيمهم الدائم ، جزاء كلّ بما يستحق.

التفسير والبيان :

(وَاتْلُ ما أُوحِيَ ..) يأمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الآية بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه إلى الناس ، قائلا له : واتل الكتاب الموحى به إليك ، واتبع ما جاء فيه من أمر ونهي ، فإنه لا مغيّر لكلمات ربك من وعد الطائعين ووعيد للعصاة ، ولا محرف ولا مزيل لها ، فإن لم تعمل به ، فوقعت في الوعيد ، فلن تجد ملجأ ولا وليّا ناصرا من دون الله تعالى.

هذا هو التوجيه الأول : تلاوة القرآن والعمل بمقتضاه ، والتوجيه الثاني هو مجالسة الفقراء والمستضعفين فقال تعالى :

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ..) أي جالس الذين يذكرون الله ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ويسألونه ويدعونه في الغداة (صباحا) والعشي (مساء) أي في كل وقت ، سواء كانوا فقراء أو أغنياء ، يريدون وجهه (أي طاعته) ورضاه.

يقال كما بينا : إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن

٢٤١

يجلس معهم وحده ، من غير وجود أصحابه الفقراء أو الضعفاء ، كبلال ، وعمار ، وصهيب ، وخبّاب ، وابن مسعود ، وليفردوهم في مجلس على حدة ، فنهاه الله عن ذلك ، وأمره أن يصبر ويثبّت نفسه في الجلوس مع هؤلاء ، ونظير الآية قوله : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ ، يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الأنعام ٦ / ٥٢]. وهذا شبيه بقول قوم نوح عليه‌السلام : (أَنُؤْمِنُ لَكَ ، وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء ٢٦ / ١١١].

وأكد تعالى الأمر السابق بقوله : (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ ..) أي ولا تجاوز بصرك ونفسك إلى غيرهم ، فتطلب بدلهم أصحاب الثروة والنفوذ ، والمقصود النهي عن احتقارهم لسوء حالهم وفقرهم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نزلت هذه الآية : «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه».

ثم أكد تعالى هذا النهي بقوله : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا ..) أي وإياك أن تطيع من وجدناه غافلا ، وشغل عن الدين وعبادة ربّه بالدنيا ، وكان مسرفا مفرطا في أعماله وأفعاله غاية الإسراف والتفريط ، متبعا شهواته. وهو دليل على أن سبب البعد عنهم؟؟؟؟ لهم عن اتباع أمر الله بمفاتن الدنيا وزينتها.

والتوجيه الثالث : إعلان مجيء الحق واضحا ظاهرا من الله تعالى ، بحيث لم يبق إلا التهديد والوعيد الشديد على كفرهم فقال : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ..) أي قل يا محمد للناس : هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ، وهو النظام الأصلح للحياة ، فمن شاء آمن به ، ومن شاء كفر به ، فأنا في غنى عنكم ، ومن عمل صالحا فلنفسه ، ومن أساء فعليها ، ثم يحاسبكم ربكم على أعمالكم. وفي هذا تهديد ووعيد شديد.

ثم ذكر الله تعالى نوع الوعيد على الكفر ، والوعد على العمل الصالح ، فقال

٢٤٢

واصفا الأول : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) أي إنا أرصدنا وهيأنا وأعددنا للكافرين بالله ورسوله وكتابه نار جهنم ، الذي أحدق وأحاط بهم سورها من كل جانب ، حتى لا يجدوا مخلصا منها. أخرج أحمد والترمذي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لسرادق النار أربعة جدر ، كثف (١) كل جدار مسافة أربعين سنة» والسّرادق : واحد السرادقات التي تمدّ فوق صحن الدار ، أو السور.

(وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ ، يَشْوِي الْوُجُوهَ) أي إن يطلب هؤلاء الكافرون الظالمون الإغاثة والمدد والماء وهم في النار ، لإطفاء عطشهم ، بسبب حرّ جهنم ، يغاثوا بماء غليظ كدردي (عكر) الزيت ، أو كالدم والقيح ، يشوي جلود الوجوه من شدة حره ، إذا أراد الكافر أن يشربه وقربه من وجهه شواه ، حتى تسقط جلدة وجهه فيه ، كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد والترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه و (٢) آله وسلّم قال : «المهل كعكر الزيت ، فإذا قرّبه إلى وجهه ، سقطت فروة وجهه فيه».

(بِئْسَ الشَّرابُ ، وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) أي بئس هذا الشراب شرابهم ، فما أقبحه ، فهو لا يزيل عطشا ، ولا يسكّن حرارة ، بل يزيد فيها ، وساءت جهنم مرتفقا ، أي وساءت النار منزلا ومجتمعا وموضعا للارتفاق والانتفاع ، كما قال تعالى : (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) [الفرقان ٢٥ / ٦٦].

ثم وصف الله تعالى وعده للمؤمنين الصالحين السعداء فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) أي إن الذين آمنوا بالله ، وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به ، وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة ، فلا يضيع الله أجرهم على إحسانهم العمل.

__________________

(١) الكثف : جمع كثيف ، وهو الثخين الغليظ.

٢٤٣

والعطف بين الإيمان والعمل يدل على أن العمل الصالح مغاير للإيمان ؛ لأن العطف يوجب المغايرة.

وأوصاف نعيمهم هي :

١ ـ (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أي أولئك لهم جنان إقامة دائمة ، تجري فيها الأنهار من تحت غرفهم ومنازلهم.

٢ ـ (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) أي يلبسون فيها حلية فيها أساور من ذهب ، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء».

وفي آية أخرى : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً ، وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) [الحج ٢٢ / ٢٣].

٣ ـ (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) أي ويلبسون سندسا هو رقيق الحرير ، وإستبرقا هو غليظ الديباج أو الحرير ، واختير الأخضر لراحة العين عند إبصاره.

٤ ـ (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) أي مضطجعين فيها على السرر ، شأنهم شأن الملوك والعظماء ، والأرائك : جمع أريكة وهي السرير.

(نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) أي نعمت الجنة ثوابا على أعمالهم ، وحسنت منزلا ومقرا ومقاما ، كما قال في آية أخرى : (خالِدِينَ فِيها ، حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) [الفرقان ٢٥ / ٧٦].

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات الإرشادات التالية :

١ ـ وجوب اتباع القرآن وما جاء به : لأنه لا مغيّر لما أوعد بكلماته أهل

٢٤٤

معاصيه والمخالفين لكتابه ، ووعد أهل طاعته المتبعين ما أمر به ، المبتعدين عما نهى عنه.

٢ ـ الإسلام دين المساواة : فلا فرق في نظامه بين شريف ووضيع ، وغني وفقير ، ورئيس ومرءوس ، ولا تفرقة في أموره الاجتماعية بين الطبقات ، الكل سواء في المجلس والمعاملة والحقوق والواجبات. وقد قضى القرآن بآية (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ..) على الامتيازات في المجلس والخطاب والكلام بين أشراف قريش وساداتها وبين فقراء المسلمين وضعفائهم.

بل إن الإسلام مع الضعيف التقي الذي يبتغي بعمله رضوان الله وطاعته ، وينفر من الذين يؤثرون الدنيا على الآخرة ، ويتبعون أهواءهم ، ويبلغون في إسرافهم في المعاصي حد الإفراط ومجاوزة الحد.

لهذا فلا داعي لتزيين مجلس النبي والمؤمنين من بعده بمجالسة الرؤساء الذين اقترحوا إبعاد الفقراء من مجلسه ، ولم يرد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفعل ذلك ، ولكن الله نهاه عن أن يفعله. وكان القوم قالوا : نحن أشراف مضر إن أسلمنا أسلم الناس ؛ وكان هذا من التكبر والإفراط في القول.

٣ ـ الحق من الله ربّ الناس ، فإليه التوفيق والخذلان ، وبيده الهدى والضلال ، يهدي من يشاء فيؤمن ، ويضل من يشاء فيكفر ، ليس إلى أحد ولو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك شيء ، فالله يؤتي الحق من يشاء ، وإن كان ضعيفا ، ويحرمه من يشاء ، وإن كان قويا غنيا ، وليس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يطرد المؤمنين من مجلسه لهوى السادة الزعماء من قريش.

فإن شئتم أيها السادة فآمنوا ، وإن شئتم فاكفروا ، وليس هذا بترخيص وتخيير بين الإيمان والكفر ، وإنما هو وعيد وتهديد ، أي إن كفرتم فقد أعدّ لكم النار ، وإن آمنتم فلكم الجنة.

٢٤٥

والدليل على كون ذلك تهديدا قوله تعالى بعدئذ مباشرة : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) أي إنا أعددنا للكافرين الجاحدين نارا شديد اللهب ، أحاط بهم سرادقها ، أي سورها ، أو ما يعلو الكفار من دخان أو نار.

وشراب أهل النار : هو المهل ، وهو ماء غليظ مثل درديّ الزيت (وهو ما يبقى في أسفل الوعاء) ، أو النحاس المذاب ، أو كالقيح والدم ، كما في قوله تعالى : (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ ، يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) [إبراهيم ١٤ / ١٦ ـ ١٧] ، وقوله سبحانه : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً ، فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) [محمد ٤٧ / ١٥].

وما أسوأ وأقبح العذاب في نار جهنم ، لذا قال تعالى : (وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) أي مجتمعا ومنزلا ومقرا.

٤ ـ بعد أن ذكر تعالى ما أعد للكافرين من الهوان ، ذكر أيضا ما للمؤمنين من الثواب ، فإن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن من المؤمنين عملا ، مما يدل على أن أساس النجاة : الإيمان مع العمل الصالح. أما من أحسن عملا من غير المؤمنين ، فعمله محبط.

وثواب المؤمنين : جنات عدن أي وسطها وسائر الجنات محدقة بها ، باللؤلؤ وأساور الذهب ، ويلبسون الثياب الخضر من الرقيق الرقيق والغليظ الكثيف ، ويتكئون على الأرائك وهي السرر في الحجال (١).

فما أجمل وأحسن ذلك الثواب ، لذا قال تعالى : (نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) أي نعمت الجنة ثوابا للمؤمنين الصالحين ، وحسنت مقرا ومقاما ومجلسا ومجتمعا.

__________________

(١) الحجال : جمع الحجلة كالقبة ، وموضع يزين بالثياب والستور والأسرة للعروس.

٢٤٦

صاحب الجنتين

مثل الغني المغتر بماله والفقير المعتز بعقيدته

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤))

٢٤٧

الإعراب :

(لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي لكِنَّا) : أصله : لكن أنا ، فحذفت الهمزة ، وأدغمت النونان ببعضهما أو نقلت حركة الهمزة إلى النون. ومن قرأ لكن بحذف الألف فعلى الأصل في حالة الوصل. ولكن هنا هي الخفيفة التي لا يراد بها الاستدراك. وأنا : مبتدأ ، وهو : مبتدأ ثان ، والله : خبر المبتدأ الثاني ، وربي : صفته ، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره : خبر المبتدأ الأول. والعائد إليه : الياء المجرور بالإضافة في (رَبِّي).

(ما شاءَ اللهُ ما) : إما اسم موصول ، و (شاءَ اللهُ) : صلته ، وهو في موضع مبتدأ مرفوع ، وخبره محذوف ، أي الذي شاءه الله كائن ، فحذف الهاء التي هي العائد تخفيفا ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : الأمر ما شاء الله ، وحذف العائد تخفيفا ؛ وإما أن تكون شرطية في موضع نصب بشاء ، وجوابها محذوف ، أي ما شاء الله كان.

(إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ إِنْ) : شرطية ، وجوابها : (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ) و (أَنَا) : ضمير فصل ، لا موضع له من الإعراب ؛ لأنه وقع بين معرفة ونكرة تقارب المعرفة ، فالمعرفة ياء (تَرَنِ) والنكرة التي تقارب المعرفة : (أَقَلَّ مِنْكَ) قرب من المعرفة لتعلق (مِنْكَ) به ، وهو مفعول ثان ، وياء (تَرَنِ) : مفعول أول.

(أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً غَوْراً) : إما بمعنى غائر ، أو فيه مضاف محذوف ، أي ذا غور ، مثل (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) أي مثل رجلين. و (غَوْراً) : خبر أصبح المنصوب.

(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) ثمره : اسم جنس كخشبة وخشب ، وشجرة وشجر. وقرئ بثمره بضمتين ، وهو إما جمع ثمار ، وثمار جمع ثمرة ، فيكون جمع الجمع ، كإزار وأزر ، وإما أن يكون كخشبة وخشب. وقرئ بضمة واحدة ثمره مخففا من ثمر ، مثل : خشب وخشب.

(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ) قرئ تكن بالتاء ؛ لأن الفئة مؤنثة ، وقرئ بالياء لوجود الفصل.

(هُنالِكَ الْوَلايَةُ هُنالِكَ) : يجوز أن يكون ظرف زمان وظرف مكان ، والأصل فيه أن يكون للمكان ، واللام للبعد ، ويتعلق بقوله : (مُنْتَصِراً) وتكون (الْوَلايَةُ لِلَّهِ) مبتدأ وخبر. و (الْحَقِ) : بالرفع صفة للولاية ، وجعله خبرا أولى من جعله صفة ، لما فيه من الفصل بين الصفة والموصوف. وعلى قراءة الجر : صفة لله ، فلا فصل فيه. ويجوز أن يتعلق بخبر المبتدأ الذي هو (لِلَّهِ). ويجوز جعل (هُنالِكَ) خبر المبتدأ الذي هو (الْوَلايَةُ) وعامله : استقر ، الذي قام (هُنالِكَ) مقامه ، و (لِلَّهِ) : حال.

(خَيْرٌ ثَواباً خَيْرٌ عُقْباً) : نصبهما على التمييز.

٢٤٨

البلاغة :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ) تشبيه تمثيلي ؛ لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.

(أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً غَوْراً) : مبالغة بإطلاق المصدر على اسم الفاعل ، أي غائرا.

(يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) كناية عن التحسر والندم ؛ لأن النادم يضرب بيمينه على شماله.

المفردات اللغوية :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) اجعل للكفار مع المؤمنين مثلا. (رَجُلَيْنِ) بدل ، وهو وما بعده تفسير للمثل. (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما) للكافر. (جَنَّتَيْنِ) بستانين ، وسميت الجنة بذلك لا جنتان أرضها واستتارها بظل الشجر. (أَعْنابٍ) كروم العنب. (حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) جعلنا النخل محيطة بهما. (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ) مبتدأ وخبر ، و (كِلْتَا) : مفرد يدل على التثنية. (أُكُلَها) ثمرها. (وَلَمْ تَظْلِمْ) تنقص. (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما) شققنا وسطهما. (نَهَراً) أو بتسكين العين : مجرى الماء العذب. (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) أنواع من المال سوى الجنتين من ثمر ماله. (فَقالَ لِصاحِبِهِ) المؤمن. (يُحاوِرُهُ) يجادله ويراجعه في الكلام ، من حاور : إذا راجع. (وَأَعَزُّ نَفَراً) النفر هنا : الخدم والحشم والولد والأعوان.

(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) أي دخل مع صاحبه بستانه يطوف به فيه ، ويريه أثماره ويفاخره. وأفرد الجنة ولم يقل جنتيه ، للتنبيه على أنه ما له جنة غيرها ، فلا نصيب له في جنة الخلد في الآخرة التي وعد بها المؤمنون ، فما ملكه في الدنيا : هو جنته لا غير ، أو لاتصال كل واحدة من جنتيه بالأخرى ، أو لأن الدخول يكون عادة في واحدة ثم الأخرى. (وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) معجب بما أوتي ، مفتخر به ، كافر لنعمة ربه ، معرّض بذلك نفسه لسخط الله ، وهو أفحش الظلم. (تَبِيدَ) تنعدم أو تفنى وتهلك.

(وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) بالبعث في الآخرة كما زعمت. (خَيْراً مِنْها) من جنته. (مُنْقَلَباً) مرجعا وعاقبة ؛ لأنها فانية وتلك باقية. وإنما أقسم هذا الخاسر على ذلك لاعتقاده أنه تعالى إنما أولاه هذه النعم ، لاستحقاقه إياها لذاته. (وَهُوَ يُحاوِرُهُ) يجاوبه ، (خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) أي خلق أصلك من تراب ، وهو آدم عليه‌السلام. (نُطْفَةٍ) مني. (سَوَّاكَ رَجُلاً) عدلك وصيّرك إنسانا كامل الرجولة. وجعل كفره بالبعث كفرا بالله تعالى ؛ لأن منشأه الشك في كمال قدرة الله تعالى ، ولذلك رتب الإنكار على خلقه إياه من التراب ، فإن من قدر على بدء خلقه منه ، قدر على أن يعيده منه.

٢٤٩

(لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي هُوَ) : ضمير الشأن ، تفسره الجملة بعده ، والمعنى : أنا أقول : الله ربي. (وَلَوْ لا) هلا. (قُلْتَ) عند إعجابك بها ، أو عند دخولك. (ما شاءَ اللهُ ..) الأمر ما شاء الله ، أو ما شاء الله كائن ، على أن ما موصولة ، أو أي شيء شاء الله كان ، على أنها شرطيه ، يعني إقرارا بأن الجنة وما فيها بمشيئة الله ، إن شاء أبقاها ، وإن شاء أبادها. (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) فهلا قلت : لا قوة إلا بالله ، اعترافا بالعجز على نفسك والقدرة لله ، وإن ما تيسر من عمارتها ، فبمعونته وإقداره. جاء في الحديث الذي رواه ابن السني عن أنس ، وهو ضعيف. «من رأى شيئا فأعجبه ، فقال : ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله ، لم تضره العين». وفي رواية أخرى : «من أعطي خيرا من أهل أو مال ، فيقول عند ذلك : ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله ، لم ير فيه مكروها».

(إِنْ تَرَنِ أَنَا) ضمير فصل بين المفعولين أو تأكيد للمفعول الأول. (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) أي في الدنيا أو في الآخرة لإيماني ، وهو جواب الشرط. (وَيُرْسِلَ عَلَيْها) على جنتك لكفرك. (حُسْباناً مِنَ السَّماءِ) جمع حسبانة ، وهي الصواعق. (فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) أرضا ملساء لا يثبت عليها قدم. (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً) غائرا ، ويصبح : عطف على (يُرْسِلَ) لا على : (فَتُصْبِحَ) لأن غور الماء لا يتسبب عن الصواعق. (طَلَباً) للماء ، أي عملا أو حيلة لرده.

(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) أهلكت أمواله ، بما فيها جنته ، حسبما توقع صاحبه وأنذره منه. (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) هذا كناية في اللغة عن التحسر والندم. (عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) في عمارة جنته. (وَهِيَ خاوِيَةٌ) ساقطة. (عَلى عُرُوشِها) دعائمها التي كانت منصوبة للكرم ، بأن سقطت عروشها على الأرض ، ثم سقطت الكروم. (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً يا): للتنبيه ، وكأنه تذكر موعظة أخيه.

(فِئَةٌ) جماعة. (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) عند هلاكها ، بدفع الإهلاك فإن الله هو القادر على نصره وحده. (وَما كانَ مُنْتَصِراً) بنفسه عند هلاكها ، ممتنعا بقوته عن انتقام الله منه. (هُنالِكَ) في ذلك المقام أو تلك الحال أو يوم القيامة. (الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ) بفتح الواو : النصرة له وحده لا يقدر عليها غيره ، وبكسر الواو : الملك والسلطان. (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً) من ثواب غيره لو كان يثيب. (وَخَيْرٌ عُقْباً) عاقبة للمؤمنين.

سبب النزول :

قيل : نزلت في أخوين من بني مخزوم : الأسود بن عبد الأسود بن عبد ياليل ، وكان كافرا ، وأبي سلمة عبد الله بن الأسود ، كان مؤمنا ، وهو زوج أم سلمة قبل زواج الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها.

٢٥٠

وقيل في قول ابن عباس : أخوان من بني إسرائيل ، أحدهما كافر ، اسمه فرطوس ، والآخر مؤمن اسمه يهوذا أو قطفير ، ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار ، فتشاطرا ، فاشترى الكافر بها ضياعا وعقارا ، وصرفها المؤمن في وجوه الخير ، وآل أمرهما إلى ما حكاه الله تعالى ولم تثبت صحة هذه الأقوال.

وعن مقاتل : هما المذكوران في سورة الصافات في قوله تعالى : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ : إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) [٥١]. وهما من بني إسرائيل ، كما ذكر ابن عباس.

المناسبة :

بعد أن أمر الله تعالى نبيه بملازمة مجالس أصحابه الفقراء ، وعدم الاستجابة لمطالب المشركين المتجبرين بطرد الضعفاء المؤمنين ، حتى لا يتساووا معهم ، ولا يؤذوا بمناظرهم وروائحهم ، فيمتهن كبرياؤهم وتتدنى عزتهم ، أردف ذلك بمثل للغني الكافر ، والفقير المؤمن ؛ لأن الكفار افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين ، فأبان تعالى أن المال ليس سبيل الافتخار ، لاحتمال أن يصير الفقير غنيا ، والغني فقيرا ، وإنما المفاخرة تكون بطاعة الله وعبادته ، وهي حاصلة لفقراء المؤمنين.

التفسير والبيان :

هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين وأمثالهم المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين ، وافتخروا بأموالهم وأحسابهم.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ ...) المعنى : اضرب مثلا أيها الرسول لهؤلاء المشركين بالله الذين طلبوا منك طرد المؤمنين الدعاة المخلصين لله صباح مساء وفي كل وقت. ذلك المثل هو حال رجلين ، جعل الله لأحدهما جنتين ، أي بستانين من أعناب ، محاطين بنخيل ، وفي وسطهما الزروع ، وكل من الأشجار والزروع

٢٥١

مثمر مقبل في غاية الجودة ، فجمع بين القوت والفاكهة. فقوله : (وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) أي وجعلنا النخل محيطا بالجنتين.

والرجلان أخوان أو صديقان أو شريكان من بني إسرائيل ، أحدهما : كافر مغتر بدنياه ، والثاني : مؤمن موحد بالله.

والقصد من هذا المثل العظة والعبرة ، فقد آل حال الكافر المغرور إلى الدمار والإفلاس ، لكفران النعم وعصيان الله ، وظل المؤمن الفقير على طاعة الله ، بالرغم من معاناته الشدائد والمتاعب ، فآتاه الله الخلود في الجنة.

(كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) أي أخرجت الجنتان ثمرهما.

(وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) ولم تنقص منه شيئا في كل عام.

(وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) أي وشققنا وأجرينا وسط الجنتين نهرا ، تتفرع عنه عدة جداول ، لسقي جميع الجوانب.

(وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) أي وكان لصاحب البستانين أنواع أخرى من المال من النقدين (الذهب والفضة) بسبب التجارة وتنمية ثمار الأرض.

وأدى به هذا الغنى إلى الزهو والكبرياء والاغترار بالمال ، شأن كل غني مغرور. (فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ : أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) أي فقال صاحب هاتين الجنتين لصاحبه المؤمن الفقير ، وهو يجادله ويخاصمه ويحاوره الحديث ، ويفتخر عليه : أنا أكثر منك ثروة ، وأعز نفرا ، أي أكثر خدما وحشما وولدا ، وأقوى عشيرة ورهطا يدافعون عني.

وازداد به الغرور ظنه استمرار تلك الثروة وعدم فنائها لقلة عقله وضعف يقينه بالله ، وهذا ما حكاه القرآن عنه :

(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ...) أي ودخل هذا الثري المترف بستانه ذا

٢٥٢

الجناحين مع صاحبه المؤمن الفقير الصالح ، فقال اغترارا منه ، وهو ظالم لنفسه بكفره وتمرده وتجبره وإنكاره المعاد حين عاين الثمار والزروع والأنهار المتدفقة في مزرعته : ما أظن أن تفنى هذه الجنة أبدا ، وما أظن أن يوم القيامة آت ، كما تقول يا صاحبي ، فقوله : (السَّاعَةَ قائِمَةً) ، أي القيامة كائنة. وكان في الحالين مخطئا ظالما لنفسه بوضعه الشيء في غير محله ؛ إذ كان يجب عليه شكر تلك النعمة ، وتفكره في عالم الآخرة ، وذلك لطول أمله ، وشدة حرصه ، وتمام غفلته ، وشدة اغتراره بالدنيا.

ثم أقسم على فرض لقاء ربه بقوله :

(وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) أي إن رجعت إلى ربي ، على سبيل الفرض والتقدير ، وكما يزعم صاحبي ، لألفين في الآخرة عند ربي خيرا وأحسن من هذا الحظ في الدنيا ، تمنيا على الله ، وادعاء لكرامتي عنده ومكانتي لديه ، وأنه لولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا ، ولولا استحقاقي واستئهالي ما أغناني في الدنيا ، كما جاء في آية أخرى على لسان الكافر : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصلت ٤١ / ٥٠].

فأجابه المؤمن بقوله : (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ : أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) أي أجابه صاحبه المؤمن واعظا له ، وزاجرا عما هو فيه من الكفر والاغترار : أكفرت بمن خلقك من تراب؟ أي خلق أصلك من تراب ، وخلق أصله سبب في خلقه ، فكان خلقه خلقا له ، وكذلك غذاؤك وغذاء الحيوان من النبات ، وغذاء النبات من الماء والتراب ، ثم يتحول هذا الغذاء دما ، يتحول بعضه إلى نطفة تكون وسيلة للخلق ، ثم خلقك بشرا سويا تام الخلق والأعضاء ، فقوله : (سَوَّاكَ) معناه عدّلك وكمّلك إنسانا تاما ، بالغا مبلغ الرجال.

٢٥٣

وقد وصفه صاحبه بأنه كافر بالله ، جاحد لأنعمه ؛ لشكه في البعث.

(لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) أي لكن أنا لا أقول بمقالتك ، بل أقرّ لله بالوحدانية والربوبية ، ولا أشرك به أحدا ، بل هو الله المعبود وحده لا شريك له.

ثم قال له مذكرا بوجوب الإيمان بالله : (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ ، قُلْتَ : ما شاءَ اللهُ ، لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) أي هلا إذا أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها ، حمدت الله على ما أنعم به عليك ، وأعطاك من المال والولد ما لم يعط غيرك ، وقلت : ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله ، أي الأمر ما شاء الله ، والكائن ما قدره الله ، ليكون ذلك دليلا على عبوديتك والاعتراف بالعجز.

ولهذا قال بعض السلف : من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده ، فليقل : (ما شاءَ اللهُ ، لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) ، عملا بهذه الآية ، وبما روي من الحديث المرفوع الذي أخرجه الحافظ أبو يعلى عن أنس رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد فيقول : (ما شاءَ اللهُ ، لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) ، فيرى فيه آفة دون الموت».

وثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له : «ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله».

ثم أجابه عن قضية الافتخار بالمال والولد :

(إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً ، فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ ..) أي إنك إذ تنظر إلي بأني أفقر منك في المال ، وأقل منك أولادا وعشيرة في هذه الدنيا الفانية ، فإني أتوقع انقلاب الحال في الآخرة ، وأرجو أن يعطيني الله خيرا من جنتك في الدار الآخرة ، ويرسل على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى عذابا من السماء ، كمطر شديد يقلع زرعها وأشجارها

٢٥٤

أو صواعق ، فيسلبك نعمته ويخرّب بستانك ، وتصبح أرضا بيضاء لا نبات فيها ، وترابا أملس ، لا يثبت فيه قدم ، وينزلق عليها لملاستها انزلاقا. وقوله : (فَعَسى رَبِّي) أي فلعل ربي.

أو يصبح ماؤها غائرا في الأرض ، فلن تتمكن من إدراكه بعد غوره ، ولن تستطيع ردّ الماء الغائر بأية حيلة.

وتحقق ما توقعه المؤمن فقال :

(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ، فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها ...) أي ونزل الإهلاك والجائحة بالأموال والثمار بإرسال الحسبان على جنته التي اغتر بها ، وألهته عن الله عزوجل ، ودمرت أمواله وثماره ، فأصبح نادما متحسرا على ضياع نفقته التي أنفقها عليها ، فتقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر ، وتمنى متذكرا موعظة صاحبه أن لم يكن أشرك بربه أحدا ، والخاوية على عروشها : هي التي سقطت عرائشها على الأرض ، قيل : أرسل الله عليها نارا فأكلتها ، وسقط بعضها على بعض.

(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَما كانَ مُنْتَصِراً) أي ولم تنصره وتفيده عشيرة أو ولد ، كما افتخر بهم واعتز ، وما كان منتصرا أي ممتنعا بقوته عن انتقام الله تعالى.

(هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ) هذا تأكيد للجملة السابقة ، أي أنه في هذه الحال من الشدة والمحنة تكون النصرة لله وحده ، ويؤمن فيها البرّ والفاجر ، ويرجع كل أحد مؤمن أو كافر إلى الله وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب. والولاية : السلطان والملك والنصرة والحكم.

(هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) أي أن الله خير جزاء ، وأفضل عاقبة لأوليائه المؤمنين ، فينصرهم ويعوضهم عما فقدوه في دار الدنيا ، ويكون ثواب الأعمال التي

٢٥٥

تكون لله خيرا ، وعاقبتها حميدة رشيدة ، كلها خير ؛ لأن الله هو خير ثوابا لمن آمن به ، وخير عاقبة لمن رجاه وآمن به.

ونظير الآية : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا : آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) [غافر ٤٠ / ٨٤].

فقه الحياة أو الأحكام :

في هذه القصة عبر وعظات وهي :

١ ـ هذا مثل واضح للمؤمنين والكافرين ، مثل رجل مؤمن موحد بالله ، فقير صالح آثر الآخرة على الدنيا ، فآتاه الله الجنة وثوابه العظيم ، ومثل رجل كافر مغتر بدنياه مستنكف عن مجالسة المؤمنين ، وهما ـ كما ذكر الكلبي ـ أخوان مخزوميان من أهل مكة ، أو أخوان من بني إسرائيل ، أحدهما مؤمن والآخر كافر ، كما ذكر ابن عباس ومقاتل ، كان للكافر بستانان فيهما الأشجار والزروع والثمار والأنهار ، وأموال أخرى ، فكفر بأنعم الله ، وتفاخر على صاحبه بالمال والأولاد ، وشك في البعث ، فدمّر الله ثروته ، وأتلف البستانين بحسبان من السماء ، وهو السحابة ذات المطر الغزير جدا ، أو الصاعقة ، أو العذاب ، فندم وتحسر على ما أنفق ، وقال : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) أي يا ليتني عرفت نعم الله علي ، وعرفت أنها كانت بقدرة الله ولم أكفر به ، وهذا ندم منه حيث لا ينفعه الندم.

٢ ـ لا يمنع فضل الله عن الكافر ، فقد آتى الله صاحب الجنتين ثروة ومالا وولدا وأتباعا.

٣ ـ شأن الغني دائما إلا من رحم الله المفاخرة بأمواله والاغترار بالدنيا ، والترفع على الآخرين بالثروة ، مع أنها مال زائل ، وعرض متحول ، فيمكن أن ينقلب صفر اليدين بين عشية وضحاها.

٢٥٦

٤ ـ على المؤمن ألا يستكين أمام عزة الغني الكافر ، وعليه نصحه وإرشاده إلى الإيمان بالله ، والإقرار بوحدانيته ، وشكر نعمه وأفضاله عليه.

٥ ـ قد يكون الاغترار بالمال سببا لإنكار البعث والقيامة والحشر والنشر ؛ لأن الغني الظالم يرى في المادة كل شيء ، وقد يستبد به الغرور لغفلة منه وضعف عقل ، فيزعم أن عطاء الدنيا له لاستحقاقه واستئهاله ، ويقول : إن كان بعث ، فكما أعطاني الله هذه النعم في الدنيا ، فسيعطيني أفضل منه في الآخرة ، لكرامتي عليه.

٦ ـ قال الإمام مالك : ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول : (ما شاءَ اللهُ ، لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ). وهذه الكلمة كما روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كنز من كنوز الجنة ، وقال : «لا حول ولا قوة إلا بالله ، إذا قالها العبد ، قال الله عزوجل : أسلم عبدي واستسلم». وقد وردت هذه الكلمة في القصة في وصية المؤمن للكافر وردّه عليه ، حينما ظن عدم فناء جنته ، وتفاخر بثروته على صاحبه.

٧ ـ إذا نزل البلاء فلا تستطيع فئة في الدنيا منعه أو رفعه ، أو الالتجاء إليها لإزالته ، ولن يكون المبتلى الخاسر منتصرا أي ممتنعا عن إصابة العذاب له ، فلا ينصر ولا ينتصر ، لمّا أصابه العذاب.

٨ ـ إن الولاية ، أي السلطان والقدرة ، والملك والحكم الحق لله عزوجل ، فلا يردّ أمره إلى أحد ، والملك في كل وقت لله : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار ٨٢ / ١٩].

٢٥٧

مثل الحياة الدنيا

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦))

الإعراب :

(مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ مَثَلَ) : مفعول أول ، و (كَماءٍ) : مفعول ثان ، وقيل : (كَماءٍ) : خبر مبتدأ محذوف ، أي هي كماء ، أي الحياة الدنيا كماء.

(ثَواباً) و (أَمَلاً) منصوبان على التمييز.

المفردات اللغوية :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) اذكر لهم ما تشبهه الحياة الدنيا في زهرتها وسرعة زوالها وصفتها الغريبة. (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) امتزج الماء بسبب نزول المطر بالنبات ، حتى روي وحسن. (فَأَصْبَحَ هَشِيماً) فصار النبات يابسا مهشوما متفرقة أجزاؤه. (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) تفرّقه وتنثره وتطيره وتذهب به. المعنى : شبّه الدنيا بنبات حسن ، فيبس فتكسر ، ففرقته الرياح. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) أي كان الله على كل شيء من الإنشاء والإفناء قادرا : كامل القدرة.

(زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) يتجمل بهما فيها. (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) هي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، زاد بعضهم «ولا حول ولا قوة إلا بالله» أو هي الأعمال الصالحة كلها ، ومنها الصلوات الخمس وأعمال الحج ، وصيام رمضان ، وسبحان الله .. إلخ ، والكلام الطيب.

(خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) أي جزاء وعائدا. (وَخَيْرٌ أَمَلاً) أي ما يأمله الإنسان ويرجوه عند الله تعالى ؛ لأن صاحبها ينال بها في الآخرة ما كان يأمل بها في الدنيا.

٢٥٨

المناسبة :

هذا مثل آخر يدل على حقارة الدنيا وقلة بقائها ، والكلام متصل بما تقدم من قصة المشركين المتكبرين على فقراء المؤمنين ، فلما بيّن الله تعالى في المثل الأول حال الكافر والمؤمن وما آل إليه افتخار الكافر من الهلاك ، بيّن في هذا المثل حال الحياة الدنيا واضمحلالها ومصير ما فيها من النعيم والترفه إلى الهلاك.

ولما بيّن تعالى أن الدنيا سريعة الانقراض والزوال ، بيّن أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا في عرف الناس ، وكل ما كان من زينة الدنيا فهو سريع الانقضاء والانقراض ، فيقبح بالعاقل الافتخار به أو الفرح بسببه ، مما يدل على فساد قول المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأولاد.

ثم ذكر الله تعالى ما يرجح أولئك المؤمنين الفقراء على أولئك الأغنياء الكفار بما يقدمونه من أعمال صالحة ، فهي زاد الآخرة الدائم الباقي ، والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي.

وقد ورد في السنة ما يفسر الباقيات الصالحات ، روى الترمذي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لقيت إبراهيم ليلة أسري بي ، فقال : يا محمد ، أقرئ أمتك مني السلام ، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة ، عذبة الماء ، وأنها قيعان ، وأن غراسها : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر».

وروى سعيد بن منصور وأحمد وابن جرير وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «استكثروا من الباقيات الصالحات ، قيل : وما هي يا رسول الله؟ قال : التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ، ولا حول ولا قوة إلا بالله».

وروى الطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

٢٥٩

«سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول وإلا قوة إلا بالله ، هن الباقيات الصالحات ، وهن يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها ، وهن من كنوز الجنة».

وروى النسائي والطبراني والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا : «خذوا جنتكم ، قيل : يا رسول الله ، من أي عدو قد حضر ، قال : بل جنّتكم من النار : قول سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدّمات معقّبات ومجنّبات ، وهن الباقيات الصالحات».

التفسير والبيان :

اضرب مثلا آخر يا محمد للناس من مشركي مكة وغيرهم الذين افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين ، مثلا يبين حقارة الدنيا وقلة بقائها ، وزوالها وفناءها ، فهي بعد الخضرة والنضارة والبهجة تصبح بمراد الله عابسة قاتمة لا جمال فيها ولا روعة ، إنها في نضرتها ثم صيرورتها إلى الزوال تشبه حال نبات أخضر فيه زهر ونضرة وحبّ ، نبت وتكوّن بماء السماء ، ثم بعد هذا كله أصبح هشيما ، أي يابسا ، تذروه الرياح ، أي تفرقه وتنثره ذات اليمين وذات الشمال.

(وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) أي والله قادر على الإنشاء والإفناء ، وعلى كل الأحوال ، حال الخضرة والنضرة ، وحال اليبس والهلاك والفناء ، فلا ينبغي للعاقل أن يغتر بإقبال الدنيا أو يفخر بها أو يتكبر بسببها.

وكثيرا ما يشبّه الله الحياة الدنيا بهذا المثل ، كما قال تعالى في سورة يونس : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ، مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ) [٢٤] وفي سورة الحديد : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) [٢٠].

٢٦٠