التفسير المنير - ج ١٥

الدكتور وهبة الزحيلي

يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك ٦٧ / ١٤] فهو أدرى وأعرف بما يستأهل كل واحد منهم.

وفي هذا ردّ على المشركين في جعل النّبوة والرّسالة بمن اصطفاهم وتفنيد لقولهم حين قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزّخرف ٤٣ / ٣١] وحين تضايقوا من تقريب الفقراء كصهيب وبلال وخبّاب وإبعاد السّادة وزعماء قريش.

(وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) أي ولقد فضّلنا بعض الأنبياء والرّسل على بعض بالمزايا والكتب والخصائص ، كاتّخاذ إبراهيم عليه‌السلام خليلا ، وموسى عليه‌السلام كليما ، ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم النّبيين ، ونظير الآية : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) [البقرة ٢ / ٢٥٣] وفي الآية إشارة إلى تفضيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على جميع الأنبياء والمرسلين بالقرآن الكريم والإسراء والمعراج ، ثم بعده إبراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى عليهم‌السلام على المشهور.

ولا خلاف أنّ الرّسل أفضل من بقية الأنبياء ، وأنّ أولي العزم منهم أفضلهم ، وهم الخمسة المذكورون في آيتين من القرآن هما : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ ، وَمِنْكَ ، وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ ، وَمُوسى ، وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [الأحزاب ٣٣ / ٧]. (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى ٤٢ / ١٣].

(وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) أي فضلناه بإنزال الزّبور عليه ، لا بالملك والسلطان ، ومما ورد في الزّبور أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم النّبيين ، وأن أمته خير

١٠١

الأمم ، قال تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء ٢١ / ١٠٥] وفيه تنبيه على فضله وشرفه.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى الأحكام التالية :

١ ـ أمر الله تعالى في الآية الأولى جميع المؤمنين فيما بينهم بخاصة بحسن الأدب ، وإلانة القول ، وخفض الجناح ، واطراح نزعات الشيطان ، وفيما بينهم وبين الكفار أثناء المحاورة والنقاش بالكلمة الطيبة ، والكلام الأحسن للإقناع ؛ لأن الشيطان يفسد بين الناس ، ويلقي العداوة والبغضاء بينهم ؛ لأنه شديد العداوة للإنسان.

وتفويتا للفرصة عليه ، وادّخارا للجهد في سبيل إبلاغ الدّعوة ، ونشر الإسلام ، وتوصّلا إلى الغاية المرجوة ، يلزم أن يكون النقاش منطقيا عقليا هادئا ، بعيدا عن السّبّ والشّتم والأذى.

٢ ـ الآية الثانية (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ..) خطاب للمشركين مضمونه : إن يشأ الله يوفقكم للإسلام فيرحمكم ، أو يميتكم على الشّرك فيعذّبكم. وهذا قول ابن جريج.

وقال الكلبي : الخطاب للمؤمنين مضمونه : إن يشأ يرحمكم بأن يحفظكم من كفار مكة ، أو إن يشأ يعذّبكم بتسليطهم عليكم.

٣ ـ ليس أمر المشركين موكولا إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقسرهم على الإسلام وإجبارهم عليه ، ومنعهم من الكفر ، وإنما مهمته محصورة في التبليغ والتّبشير والإنذار ، تبشير من أطاعه بالجنّة ، وإنذار من عصاه بالنّار.

٤ ـ قوله تعالى : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بعد قوله :

١٠٢

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) لبيان أن الله خالقهم ، وأنه جعلهم مختلفين في أخلاقهم وصورهم وأحوالهم ومالهم.

٥ ـ ليس كلّ الأنبياء في درجة واحدة متساوية ، وإنما يوجد تفاضل بينهم ، فقد فضل الله بعضهم على بعض عن علم منه بحالهم ، كما بيّنا في التّفسير.

٦ ـ أنزل الله تعالى الزّبور على داود عليه‌السلام ، والزّبور : كتاب ليس فيه حلال ولا حرام ، ولا فرائض ولا حدود ، وإنما هو دعاء وتحميد وتمجيد ، والقصد من الإشارة إليه في الآية محاجّة اليهود ، وإعلامهم أنه كما آتينا داود الزّبور ، فلا تنكروا أن يؤتي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن الكريم.

تفنيد آخر لشبهات المشركين

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠))

١٠٣

الإعراب :

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ ... أُولئِكَ) : مبتدأ ، و (الَّذِينَ) : صفته ، و (يَدْعُونَ) : صلة (الَّذِينَ) ، والعائد محذوف ، أي يدعونهم. و (الَّذِينَ يَدْعُونَ) : صفة المبتدأ. و (يَبْتَغُونَ) : خبر المبتدأ. و (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) : مبتدأ وخبر ، والجملة منصوبة بفعل مقدر ، أي ينتظرون. ويحتمل أن تكون «أي» بمعنى الذي بدل من واو (يَبْتَغُونَ) فتكون «أي» مبنية.

(أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ ...) : (أَنْ) الأولى : منصوبة بتقدير حذف حرف الجر ، أي من أن نرسل ، فلما حذف حرف الجر انتصب ب «منع». و (أَنْ) الثانية : فاعل منع ، أي وما منعنا الإرسال بالآيات إلا تكذيب الأولين بمثلها. والمعنى أن تكذيب الأولين كان سببا لهلاكهم ، فلو أرسلنا بالآيات إلى قريش ، فكذبوها ، لأهلكناهم ، كما أهلكنا من تقدّمهم ، وقد سبق في العلم القديم تأخير عقوبتهم إلى يوم القيامة ، فلم نرسل بالآيات لذلك.

(وَالشَّجَرَةَ ..) منصوبة بالعطف على (الرُّؤْيَا) وهي مفعول أول ل (جَعَلْنَا) والثاني (فِتْنَةً).

(وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) فاعل (يَزِيدُهُمْ) مقدر ، أي التخويف ، دلّ عليه (نُخَوِّفُهُمْ). و (طُغْياناً) : مفعول ثان ل (يَزِيدُهُمْ) ؛ لأنه يتعدى إلى مفعولين.

البلاغة :

(وَلا تَحْوِيلاً) فيه إيجاز بالحذف ، أي ولا تحويل الضّرّ عنكم ، حذف لدلالة ما سبق.

(يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) بينهما طباق.

(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ) المنع محال في حق الله تعالى إذ لا يمنعه شيء ، فالمنع مجاز عن الترك ، أي سبب ترك الإرسال هو التكذيب.

(النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) مجاز عقلي علاقته السببية ، أي أنه لما كانت الناقة سببا في إبصار الحقّ والهدى ، نسب إليها الإبصار.

المفردات اللغوية :

(زَعَمْتُمْ) أنهم آلهة ، أي كذبتم ، والزعم في الأصل : القول المشكوك في صدقه ، وقد يستعمل بمعنى الكذب ، قال ابن عباس : كل موضع في كتاب الله تعالى ورد فيه زعم فهو كذب (١).

__________________

(١) تفسير الرّازي : ٢٠ / ٢٣١

١٠٤

(مِنْ دُونِهِ) كالملائكة وعيسى وعزير. (فَلا يَمْلِكُونَ) لا يستطيعون. (كَشْفَ الضُّرِّ) إزالته. (وَلا تَحْوِيلاً) ولا تحويله عنكم إلى غيركم.

(يَدْعُونَ) أي يدعونهم آلهة أو ينادونهم. (يَبْتَغُونَ) يطلبون. (الْوَسِيلَةَ) القربة بالطاعة والعبادة ، أي هؤلاء الآلهة يبتغون إلى الله تعالى القربة بالطاعة. (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) أي يبتغي القربة أو الوسيلة الذي هو أقرب منهم إلى الله تعالى ، فكيف بغير الأقرب؟ (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) كسائر العباد ، فكيف تزعمون أنهم آلهة؟ أو كيف تدعونهم آلهة؟ (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) مخوّفا ، حقيقا بأن يحذره كلّ أحد ، حتى الرّسل والملائكة.

(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ) ما من قرية ، والمراد أهلها. (مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ) بالموت. (أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً) بالقتل وغيره. (فِي الْكِتابِ) اللوح المحفوظ. (مَسْطُوراً) مكتوبا. (بِالْآياتِ) التي اقترحها أهل مكة ، فهي ما اقترحته قريش ، مثل جعل الصّفا ذهبا.

(إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) أي لما أرسلنا الآيات وكذبوا بها أهلكناهم ، ولو أرسلناها إلى هؤلاء ، لكذبوا بها ، واستحقوا الإهلاك وعذاب الاستئصال ، وقد كنّا حكمنا بإمهالهم ، لإتمام نشر دعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(مُبْصِرَةً) آية بيّنة واضحة ، أو ذات إبصار لمن يتأملها ويفكر فيها. (فَظَلَمُوا بِها) فكفروا بها فأهلكوا ، أو فظلموا أنفسهم بسبب عقرها. (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ) المعجزات أو الآيات المقترحة. (إِلَّا تَخْوِيفاً) للعباد من نزول العذاب المستأصل ، فيؤمنوا.

(وَإِذْ قُلْنا) واذكر إذ قلنا. (أَحاطَ بِالنَّاسِ) علما وقدرة ، والمراد أنهم في قبضته وتحت قدرته ، فبلغهم الرسالة ولا تخف أحدا ، فهو يعصمك منهم ، ولا يستطيعون إيصال الأذى إليك إلا بإذننا. (الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ) عيانا ليلة الإسراء ، و (الرُّؤْيَا) : هي ما عاينه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة الإسراء من العجائب ، والمراد بها هنا خلافا للغالب : الرؤية البصرية ، قال ابن عباس : «هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة أسري به» ، ولو كانت رؤيا منام ، لما كانت فتنة للناس ، ولما ارتدّ بعضهم عن الإسلام. (إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) أهل مكة ، إذ كذّبوا بها ، وارتدّ بعضهم ، لما أخبرهم بها. (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) وهي شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم ، جعلناها فتنة لهم ، إذ قالوا : النار تحرق الشجر ، فكيف تنبته؟ (وَنُخَوِّفُهُمْ) بها. (فَما يَزِيدُهُمْ) تخويفنا.

(إِلَّا طُغْياناً) الطغيان : تجاوز الحدّ في الفجور والضلال.

سبب النزول :

نزول الآية (٥٦):

(قُلِ : ادْعُوا الَّذِينَ) : أخرج البخاري وغيره عن ابن مسعود قال : كان

١٠٥

ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجنّ ، فأسلم الجنيّون ، واستمسك الآخرون بعبادتهم ، فأنزل الله : (قُلِ : ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ) الآية.

وروي أنه لما أصاب القحط قريشا ، وشكوا ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنزل الله هذه الآية.

نزول الآية (٥٩):

(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ) : أخرج أحمد والنسائي والحاكم والطّبراني عن ابن عباس قال : سأل أهل مكة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجعل لهم الصّفا ذهبا ، وأن ينحّي عنهم الجبال ، فيزرعوا ، فقيل له : إن شئت أن تستأني بهم ، وإن شئت نؤتهم الذي سألوا ، فإن كفروا أهلكوا ، كما أهلكت من قبلهم ، قال : «بل أستأني بهم» فأنزل الله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ).

نزول الآية (٦٠):

(وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا) : أخرج أبو يعلى عن أم هانئ أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أسري به أصبح يحدّث نفرا من قريش يستهزئون به ، فطلبوا منه آية ، فوصف لهم بيت المقدس ، وذكر لهم قصة العير ، فقال الوليد بن المغيرة : هذا ساحر ، فأنزل الله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ). وأخرج ابن المنذر عن الحسن نحوه.

وأخرج ابن مردويه عن الحسين بن علي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصبح يوما مهموما ، فقيل له : مالك يا رسول الله؟ لا تهتم ، فإنها رؤيا تنالهم ، فأنزل الله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ).

١٠٦

نزول الآية (٦٠) أيضا :

(وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) : أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال : لما ذكر الله الزقّوم ، خوّف به هذا الحي من قريش ، قال أبو جهل : هل تدرون ما هذا الزّقوم الذي يخوفكم به محمد؟ قالوا : لا ، قال : الثّريد بالزّبد ، أما لئن أمكننا منها لنزقمنها زقما ، فأنزل الله تعالى : (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ، وَنُخَوِّفُهُمْ ، فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) ، وأنزل تعالى : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) [الدخان ٤٤ / ٤٣ ـ ٤٤].

المناسبة :

بعد أن ندّد الله تعالى بإنكار المشركين البعث ، عاد إلى الرّدّ عليهم في عبادتهم الملائكة والجنّ والمسيح وعزيرا ، فهؤلاء يتوسّلون إلى الله بالطاعة والعبادة ، ويخافون عذابه ، فالمستحق للعبادة هو مالك هؤلاء ، والقادر على النفع والضّر دونهم. وليس المراد الأصنام ؛ لأن ابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام البتة.

ثم ذكر تعالى وعيده لهم وهو أن مصير قرى الكافرين إما الإبادة والاستئصال ، وإما العذاب دون ذلك ، كالقتل والسّبي واغتنام الأموال.

ثم ردّ تعالى على المشركين طالبي آيات حسيّة ومعجزات عظيمة قاهرة ، مثل قولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الآيات : ٩٠ ـ ٩٣] ، بأن تلبية اقتراحهم يهددهم ، فلو جاء بالآيات ، ثم كذبوا بها ، عذبوا بعذاب الاستئصال ، على وفق سنّة الله فيمن قبلهم ، مثل آية ثمود البيّنة الواضحة.

وبالرغم من أن إظهار المعجزات ليس بمصلحة ، فقد تجرأ أولئك الكفار بالطّعن بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلين له : لو كنت رسولا حقّا من عند الله تعالى ، لأتيت

١٠٧

بهذه المعجزات التي طلبناها منك ، كما أتى بها موسى وغيره من الأنبياء ، فعندئذ أبان الله تعالى أنه ناصره بقوله : (وَإِذْ قُلْنا لَكَ : إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ).

ثم أردف ذلك بأن ليلة الإسراء كانت فتنة للناس وامتحانا لإيمانهم ، كما أن شجرة الزّقوم في نار جهنم فتنة وامتحان أيضا.

التفسير والبيان :

قل أيّها الرّسول لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله : ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله ، وهي الأصنام والأنداد ، هل يجيبونكم ، وارغبوا إليهم حين وقوع الضّرّ بكم من فقر ومرض وقحط وعذاب ونحوها ، وانتظروا هل يستطيعون كشف الضّرّ عنكم أو تحويله أو تبديله من مكان أو من واحد إلى آخر؟ إنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا ، فلا يقدرون على ذلك لغيرهم.

وإنما الذي يقدر عليه هو الله وحده لا شريك له ، الذي له الخلق والأمر. قال ابن عباس: كان أهل الشّرك يقولون : نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا ، وهم الذين يدعون ، يعني الملائكة والمسيح وعزيرا.

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) هؤلاء الذين عبدتموهم من دون الله كعزير والمسيح يدعون ربّهم ، يقصدون ويطلبون التّوسل إليه والتّقرّب منه بالطاعات والقربات ، ويخصونه بالعبادات ، والوسيلة : هي القربة.

(أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) أي ويطلب من هو أقرب منهم الوسيلة إلى الله تعالى ، فكيف بغير الأقرب؟ أو أن معنى يبتغون الوسيلة : يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله تعالى ، وذلك بالطاعة وازدياد الخير

١٠٨

والصلاح ، ويرجون رحمة الله ويخافون عذابه كغيرهم من عباد الله ، فكيف يزعمون أنهم آلهة؟

أخرج الترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سلوا الله الوسيلة ، قالوا : وما الوسيلة؟ قال : القرب من الله ، ثم قرأ هذه الآية».

وأما رجاء الرّحمة وخوف العذاب ، فلأن العبادة لا تتم إلا بالخوف والرجاء ، فبالخوف يبتعد الإنسان عن المعاصي ، وبالرجاء يكثر من الطاعات.

والعلّة في الخوف من العذاب هي كما قال تعالى : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) أي إن عذاب ربّك كان مخوّفا لا أمان لأحد منه ، فينبغي أن يحذره ويخاف من وقوعه وحصوله العباد من الملائكة والأنبياء وغيرهم ، فكيف أنتم؟!

ثم أبان الله تعالى مصير الظالمين ، فقال :

(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها ..) أي وما من قرية في علم الله المكتوب عنده في اللوح المحفوظ ، من قرى الظالمين بالكفر والمعاصي إلا سيهلكها الله ، بأن يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم عذاب استئصال ، إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء ، لا ظلما ، وإنما بسبب ذنوبهم وخطاياهم ، كما قال تعالى : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [هود ١١ / ١٠١].

(كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي كان ذلك حكما عاما ثابتا مسجّلا في علم الله أو في اللوح المحفوظ. أخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، فقال : ما أكتب؟ قال : اكتب المقدّر وما هو كائن إلى يوم القيامة».

ثم أوضح الله تعالى سبب عدم تلبية طلبات أهل مكة فقال :

١٠٩

(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ ..) أي وما صرفنا عن الإتيان بما يقترحونه من الآيات إلا تكذيب المتقدّمين الأولين بأمثالها ، فإن أتينا بها وكذّب بها أهل مكة وأمثالهم ، عجّلنا لهم العذاب ، ولم يؤخّروا ، كما هي سنّة الله في خلقه.

والآيات التي اقترحها أهل مكة ـ كما بيّنا في سبب النزول ـ مثل جعل الصّفا ذهبا ، وتنحية الجبال عنهم ، وجعل أراضيهم صالحة للزراعة.

وأما الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذّبوا بها لما أرسلت ، فأهلكوا جميعا ، مثل ناقة صالح لثمود ، فلما عقروها أخذتهم الصيحة ، وبقيت آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم ، يبصرها الذاهب والعائد كما قال تعالى هنا : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها) أي وأعطينا قبيلة ثمود الناقة حجّة واضحة دالّة على وحدانية من خلقها ، وصدق رسوله الذي لبى الله دعاءه فيها. وقوله تعالى : (مُبْصِرَةً) أي بيّنة أو ذات إبصار يدركها الناس ، وإنما خصّت بالذّكر هنا دون غيرها ؛ لأن آثار هلاك ثمود قريبة من بلاد العرب وفي طريقهم. وقوله تعالى : (فَظَلَمُوا بِها) أي كفروا بها ومنعوها شربها وقتلوها ، فأبادهم الله عن آخرهم وانتقم منهم.

(وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) أي ولا نبعث بالآيات إلا تخويفا للناس من نزول العذاب العاجل لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون ، فإن لم يخافوا وقع عليهم.

ذكر ابن كثير أن الكوفة رجفت (زلزلت) على عهد ابن مسعود رضي‌الله‌عنه ، فقال : يا أيها الناس ، إن ربّكم يستعتبكم فأعتبوه ، وروي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه مرات ، فقال عمر : أحدثتم والله ، لئن عادت لأفعلنّ ولأفعلنّ ، وفي الحديث المتّفق عليه بين الشيخين : «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ،

١١٠

ولكن الله عزوجل يخوّف بهما عباده ، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره ، ثم قال : يا أمّة محمد ، والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته ، يا أمة محمد ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا».

ثم حرّض الله تعالى رسوله على إبلاغ رسالته ، وأخبره بأنه قد عصمه من الناس ، فقال : (وَإِذْ قُلْنا لَكَ : إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) أي واذكر إذ أوحينا إليك أن الله هو القادر على عباده ، وهم في قبضته وتحت قهره وغلبته ، وقد عصمك من أعدائك قريش وغيرهم ، وأن الله سينصرك عليهم كما قال : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة ٥ / ٦٧] ، وقال مبشّرا بالنّصر في بدر : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر ٥٤ / ٤٥] ، (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ) [آل عمران ٣ / ١٢].

ولما بيّن تعالى أن إنزال آيات القرآن تتضمن التّخويف ، ذكر آية الإسراء ، فقال :

(وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) أي وما جعلنا ما أطلعناك عليه ليلة الإسراء إلا اختبارا وامتحانا للنّاس ، لمعرفة المؤمنين الصادقين ، والكافرين المكذّبين ، معرفة ينكشف بها حالهم أمام الناس ، لا بالنّسبة إلينا ، فنحن على علم سابق بكل ما سيحصل ، وقد كذّب بها قوم وكفروا ، وصدّق بها آخرون.

ذكر البخاري عن ابن عباس في هذه الآية قال : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة أسري به. ويقال في العربية : رأيته بعيني رؤية ورؤيا.

(وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) فيه تقديم وتأخير أي وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس ، أي اختبارا لهم ، مثل حادث الإسراء والمعراج. وتلك الشجرة هي شجرة الزّقوم ، قال تعالى : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ

١١١

طَعامُ الْأَثِيمِ) [الدّخان ٤٤ / ٤٣ ـ ٤٤]. وقد اختلف الناس فيها ، فمنهم من ازداد إيمانا ، فكثير من الأشياء لا تحرقها النار ، ومنهم من ازداد كفرا كأبي جهل وعبد الله بن الزّبعرى ، وقالوا : وما الزّقّوم إلا التّمر والزّبد ، فجعلوا يأكلون ويتزقّمون منهما.

(وَنُخَوِّفُهُمْ ، فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) أي ونخوّف الكفار بالوعيد والعذاب والنّكال في الدّنيا والآخرة ، فما يزيدهم التّخويف إلا تماديا في الطّغيان وفيما هم فيه من الكفر والضّلال ، فكيف يؤمن قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات؟!

فقه الحياة أو الأحكام :

أفهمت الآيات المبادئ والأحكام التالية :

١ ـ لا يملك أحد غير الله عزوجل كشف الضّر من فقر أو مرض أو بلاء أو غيره ، أو تحويله وتبديله من مكان إلى مكان أو من شخص إلى آخر. وقد تحدّى الله المشركين في مكة بآية (قُلِ : ادْعُوا الَّذِينَ ..) بأن يدعوا ما يعبدون من دون الله ، ويزعمون أنهم آلهة لكشف ما أحدق بهم من قحط سبع سنين.

٢ ـ لا فائدة ولا جدوى من الاستعانة بغير الله من الآلهة المزعومة ، فإن تلك المخلوقات كالملائكة وعيسى وعزير يطلبون من الله الزلفة والقربة ، ويتضرّعون إلى الله تعالى في طلب الجنة. والوسيلة هي القربة.

وهذا إخبار من الله تعالى بأن المعبودين يبتغون القربة إلى ربّهم ، فهم بأنفسهم بحاجة إلى ربّهم ، فكيف يؤمل منهم الخير ودفع الضرّ والشّرّ لأتباعهم وعابديهم؟! ٣ ـ ما من قرية ظالمة إلا وسيهلكها وأهلها الله أو يعذّبها عذابا شديدا قبل

١١٢

مجيء يوم القيامة ، فليتّق الله المشركون ، فإنه ما من قرية كافرة إلا سيحلّ بها العذاب ، قال ابن مسعود : إذا ظهر الزّنى والرّبا في قرية أذن الله في هلاكهم. ولا يكون الإهلاك إلا بظلم من الناس ، قال تعالى : (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) [القصص ٢٨ / ٥٩].

٤ ـ لا مانع يمنع الله سبحانه من الإرسال بالآيات التي اقترحها مشركو مكة إلا أن يكذّبوا بها ، فيهلكوا كما فعل بمن كان قبلهم ، لذا أخّر الله تعالى العذاب عن كفار قريش ، لعلمه أن فيهم من يؤمن ، وفيهم من يولد مؤمنا.

٥ ـ كان إيتاء ثمود الناقة آية دالّة مضيئة نيّرة على صدق صالح عليه‌السلام ، وعلى قدرة الله تعالى. ولما ظلموا أنفسهم بتكذيبها ، أو جحدوا بها ، وكفروا بأنها من عند الله تعالى ، استأصلهم الله بالعذاب.

٦ ـ لا يكون الإرسال بآيات الانتقام إلا تخويفا من المعاصي والكفر.

٧ ـ بشّر الله نبيّه عليه الصّلاة والسّلام بأنه أحاط بالناس ، أي أهل مكة ، وإحاطته بهم : إهلاكه إياهم ، أو أحاطت قدرته بجميع الناس ، فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته.

٨ ـ إن آية الإسراء وشجرة الزّقّوم اختبار للناس وامتحان لهم ، ليكفر من سبق عليه الكفر ، ويصدّق من سبق له الإيمان.

والثابت والأصح أن حادث الإسراء رؤيا عين أريها النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس.

والشجرة الملعونة هي شجرة الزّقّوم ، وهي في أبعد مكان من الرّحمة.

والله تعالى يخوف المشركين وغيرهم بالزّقوم ، فما يزيدهم التّخويف إلا الكفر.

١١٣

قصة آدم مع إبليس ـ أمر الملائكة بالسّجود

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥))

الإعراب :

(لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) : (طِيناً) : إما تمييز منصوب ، أو حال من هاء (خَلَقْتَ) المحذوفة ، وإما منصوب بحذف حرف الجرّ (منصوب بنزع الخافض) ، وتقديره : خلقت من طين ، فلما حذف حرف الجرّ ، اتّصل الفعل به ، فنصبه.

(لَئِنْ) اللام : لام القسم. (أَرَأَيْتَكَ هذَا) الكاف لتأكيد الخطاب ، لا محل له من الإعراب ، وهذا مفعول به أول ، و (الَّذِي) صفته. والمفعول الثاني محذوف ، لدلالة صلته عليه ، أي أخبرني عن هذا الذي كرمته علي بأمري بالسّجود له ، لم كرمته علي.

(جَزاءً مَوْفُوراً) منصوب على المصدر بإضمار فعله ، أو حال موطئة لقوله تعالى : (مَوْفُوراً).

البلاغة :

(وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) استعارة تمثيلية ، شبّه حال الشيطان في تسلّطه على الغاوين بالفارس الذي يصيح بجنده للهجوم على الأعداء ، للغلبة عليهم.

١١٤

المفردات اللغوية :

(وَإِذْ قُلْنا) واذكر حين قلنا. (اسْجُدُوا لِآدَمَ) سجود تحيّة بالانحناء (أَأَسْجُدُ) استفهام إنكار وتعجّب. (أَرَأَيْتَكَ) أخبرني. (كَرَّمْتَ) فضّلت. (عَلَيَ) بالأمر بالسّجود له ، وأنا خير منه ، خلقتني من نار. (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ) لأستأصلنّهم بالإغواء إلا قليلا ، لا أقدر أن أقاوم شكيمتهم ، كأنه أصبح يملكهم. والظاهر أنه قال ذلك قبل أكل آدم من الشجرة. (إِلَّا قَلِيلاً) منهم ، ممن عصمته.

(قالَ) تعالى له. (اذْهَبْ) امض لشأنك ، منظرا إلى وقت النّفخة الأولى ، فقد خلّيتك وما سولت لك نفسك. (جَزاءً مَوْفُوراً) وافرا كاملا. (وَاسْتَفْزِزْ) واستخف وأزعج. (بِصَوْتِكَ) بدعائك إلى معصية الله أو الفساد. (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ) وصح عليهم ، من الجلبة : وهي الصياح. (بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) وهم الفرسان الركاب ، والمشاقة في المعاصي. (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ) المحرمة كالرّبا والغصب. (وَالْأَوْلادِ) من الزّنى. (وَعِدْهُمْ) بأن لا بعث ولا جزاء ، وغير ذلك من المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة ، والاتّكال على كرامة الآباء ، وتأخير التوبة لطول الأمل. (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ) بذلك. (إِلَّا غُرُوراً) باطلا. وهو اعتراض لبيان مواعيده ، والغرور : تزيين الخطأ أو الباطل بما يوهم أنه صواب أو حقّ.

(إِنَّ عِبادِي) المؤمنين المخلصين. (سُلْطانٌ) تسلّط وقوة على إغوائهم. (وَكِيلاً) حافظا لهم منك ، ورقيبا ، فهم يتوكّلون على الله في الاستعاذة منك على الحقيقة.

المناسبة :

مناسبة هذه الآية لما قبلها من وجهين :

أحدهما ـ عقد مشابهة بين محنة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومحنة آدم عليه‌السلام من إبليس ، فلما نازع المشركون النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النّبوة ، وكذّبوه حين أخبرهم عن الإسراء وشجرة الزّقّوم ، واقترحوا عليه الآيات ، كبرا منهم وحسدا له على النّبوة ، ناسب ذكر قصة آدم عليه‌السلام وإبليس ، حيث حمله الكبر والحسد على الامتناع من السجود ، فالحسد داء قديم.

والثاني ـ أنه لما قال تعالى : (فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) بيّن ما سبب هذا الطغيان ، وهو قول إبليس : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً).

١١٥

هذا .. وقد ذكرت قصة آدم في سبع سور : البقرة ، الأعراف ، الحجر ، الإسراء ، الكهف ، طه ، ص.

التفسير والبيان :

واذكر أيّها الرسول للنّاس عداوة إبليس لآدم وذريته ، وأنها عداوة قديمة منذ خلق آدم ، والدليل أنه تعالى أمر الملائكة بالسّجود لآدم سجود تحيّة ومحبّة وتكريم ، لا سجود عبادة وخضوع ، فسجدوا كلّهم إلا إبليس استكبر وأبى أن يسجد له ، افتخارا عليه واحتقارا له ، قائلا : أأسجد له وهو طين ، وأنا مخلوق من النار ، كما أخبر تعالى عنه : (قالَ : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [ص ٣٨ / ٧٦].

وقال هنا جرأة وكفرا : (قالَ : أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) أي أخبرني عن هذا الذي فضّلته : لم كرّمته علي ، وأنا خير منه؟ فإنه نسب الجور إلى ربّه في زعمه أنه أفضل من آدم بسبب عنصر الخلق ، فإن عنصر النار أسمى وأرفع ، وعنصر الطين أدنى وأقرب للخمول ، والحقيقة أن العناصر كلها من جنس واحد ، أوجدها الله ، بل إن الطين أنفع من النار ، فبالأول البناء والعمران ، وبالثاني الخراب والهدم والدّمار.

(لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) أي قسما لئن أبقيتني إلى يوم القيامة لأستأصلنّ ذريته بالإغواء ، ولأستولينّ عليهم بالإضلال جميعا ، أو لأضلنّ ذريته إلا قليلا منهم ، وهم العباد المخلصون الذين وصفهم الله تعالى بقوله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر ١٥ / ٤٢] أي إن عبادي الصالحين لا تقدر أن تغويهم.

فأجابه الله إلى طلبه حين سأل التأخير وأخّره :

(قالَ : اذْهَبْ ، فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ ..) أي امض لشأنك الذي اخترته

١١٦

لنفسك خذلانا وتخلية ، فمن أطاعك واتّبعك منهم ، فإن جهنم مقرّكم ومأواكم وجزاؤكم جميعا تجازون فيها جزاء وافرا أو موفرا أي محفوظا كاملا لا ينقص لكم منه شيء ، ونظير الآية : (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ، إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) [الحجر ١٥ / ٣٧ ـ ٣٨].

(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) أي استخف واستنفر بدعوتك إلى معصية الله ، بكلّ ما أوتيت من قوة وإغراء ووسوسة ، وصوته : دعاؤه إلى معصية الله تعالى.

(وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) أي واجمع عليهم جندك فرسانا ومشاة ، وهذا تمثيل ، والمراد به : تسلّط عليهم بكلّ ما تقدر عليه ، واجمع لهم كلّ مكايدك ، ولا تدّخر وسعا في إغوائهم ، مستخدما كلّ الأتباع والأعوان.

(وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) أي بتحريضهم على كسب الأموال وإنفاقها في معاصي الله تعالى من ربا وسرقة وغصب وغش وخديعة ، وعلى إنجاب الأولاد بالزّنى أو التّخلّص منهم بالقتل أو الوأد أو إدخالهم في غير الدّين الذي ارتضاه الله تعالى ، وغير ذلك من تسميات غير شرعية ، وتجاوز حدود الشّرع في الزّواج والطّلاق والرّضاع والنّسب والنّفقة وغيرها.

(وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) أي عدهم المواعيد الكاذبة الباطلة من شفاعة الآلهة المزعومة ، والكرامة على الله بالأنساب الشريفة ، أو بالتّسويف في التوبة ومغفرة الذّنوب بدونها ، والاتّكال على الرّحمة ، وشفاعة الرّسول في الكبائر ، وإيثار العاجل على الآجل ، وألا جنّة ولا نار ، ونحو ذلك ، مما سيظهر بطلانه حينما يقول إبليس يوم القضاء بالحقّ : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ، وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) [إبراهيم ١٤ / ٢٢].

١١٧

وقوله تعالى هنا :

(وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) أي لا يعدهم الشيطان إلا كذبا وباطلا وإظهارا للباطل في صورة الحقّ ، فمواعيده كلها خدعة وتزيين كاذب ، وهذه الأوامر للشيطان واردة على سبيل التّهديد والخذلان والتّخلية ، كما يقال للعصاة : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت ٤١ / ٤٠].

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) أي إن عبادي المخلصين الصالحين لا تقدر أن تغويهم ، فهم محفوظون محروسون من الشيطان الرّجيم.

(وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) أي كفى بالله حافظا ومؤيّدا ونصيرا للمؤمنين الصالحين المتوكّلين عليه ، الذين يستعينون به على التّخلّص من وساوس الشيطان.

وهذا دليل على أن المعصوم من عصمه الله ، وأن الإنسان بحاجة إلى عون الله جلّ جلاله.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على ما يلي :

١ ـ إن تمادي المشركين وعتوهم على ربّهم يذكّر بقصة إبليس حين عصى ربّه وأبى السّجود ، وقال : إن آدم من طين ، وهو من نار ، وجوهر النار خير من جوهر الطين ، مع أن الجواهر متماثلة ، وقال مخاطبا ربّه : أخبرني عن هذا الذي فضّلته عليّ ، لم فضّلته؟ وقال أيضا متحدّيا : لأستأصلنّ ذرية آدم بالإغواء والإضلال ، ولأجتاحنّهم ولأضلنّهم إلا القليل المعصومين منهم الذين ذكرهم الله في قوله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ).

وإنما قال إبليس ذلك ظنّا ، كما قال الله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ

١١٨

ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ) [سبأ ٣٤ / ٢٠] ، أو علم من طبع البشر تركب الشهوة فيهم ، أو بنى كلامه على قول الملائكة : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة ٢ / ٣٠].

والظاهر أن المأمور بالسجود لآدم هم جميع الملائكة في الأرض والسماء ، وسجد الملائكة لآدم من أول ما كملت حياته.

٢ ـ كان جواب الحقّ تبارك وتعالى في غاية الإهانة والتّحقير ، فقال له : (اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ ...) الآية ، أي اجهد جهدك فقد أنظرناك ، فمن أطاعك من ذرية آدم ، فجزاؤكم جميعا جهنّم.

واستزلّ واستخفّ بدعوتك إلى معصية الله تعالى ، واجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك ، واجعل لنفسك شركة في الأموال بإنفاقها في معصية ، وفي الأولاد بجعلهم أولاد الزّنى ، وعدهم الأماني الكاذبة ، وأنه لا قيامة ولا حساب.

ولكن عبادي المؤمنين الصالحين لا سلطان ولا تسلّط لك عليهم. وكفى بالله عاصما من القبول من دعاوى إبليس ، وحافظا من كيده وسوء مكره.

٣ ـ قال القرطبي : دلّت آية (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) على تحريم المزامير والغناء واللهو ؛ لأن صوته : كلّ داع يدعو إلى معصية الله تعالى ، وكلّ ما كان من صوت الشيطان أو فعله وما يستحسنه فواجب التّنزه عنه. وروى نافع عن ابن عمر أنه سمع صوت زمّارة ، فوضع أصبعيه في أذنيه ، وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول : يا نافع ، أتسمع؟ فأقول : نعم ، فمضى حتى قلت له : لا ، فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق ، وقال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمع صوت زمّارة راع ، فصنع مثل هذا (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٠ / ٢٩٠

١١٩

بعض نعم الله تعالى على الإنسان

(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠))

الإعراب :

(أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ بِكُمْ) حال أو صلة ليخسف. (إِلَّا إِيَّاهُ) الظاهر أنه استثناء منقطع ؛ لأنه لم يندرج في قوله : (مَنْ تَدْعُونَ) إذ المعنى : ضلت آلهتهم أي معبوداتهم ، وهم لا يعبدون الله.

البلاغة :

(إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) تذييل كالتعليل لما سبق من تسيير السفن بقصد التجارة وطلب الرزق.

(وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) كالتعليل للإعراض عن الإيمان والتوحيد.

(أَفَأَمِنْتُمْ) الهمزة للإنكار ، والفاء للعطف على محذوف ، تقديره : أنجوتم فأمنتم ، فحملكم ذلك على الإعراض.

١٢٠