التفسير المنير - ج ١٥

الدكتور وهبة الزحيلي

١١ ـ كم من قوم كثيرين كفروا ، فحلّ بهم الهلاك أو البوار ، وهذا إنذار ووعيد وتهديد بالعقاب الشديد لكل من كفر بالله وبرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١٢ ـ إن المعاصي إذا ظهرت ، ولم تغيّر ، كانت سببا لهلاك الجميع.

١٣ ـ دلّ قوله تعالى : (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، راء لجميع المرئيات ، فلا يخفى عليه شيء من أحوال الخلق. وثبت أنه تعالى قادر على كل الممكنات ، فكان قادرا على إيصال الجزاء إلى كل أحد بقدر استحقاقه ، وأيضا أنه منزه عن العبث والظلم ، وهذه الصفات الثلاث (العلم التام ، والقدرة الكاملة ، والبراءة عن الظلم) أمان لأهل الطاعة ، وخوف لأهل الكفر والمعصية.

جزاء من أراد الدنيا ومن أراد الآخرة

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١))

الإعراب :

(لِمَنْ نُرِيدُ) بدل من (الْعاجِلَةَ) بدل البعض من الكل بإعادة حرف الجر ، مثل قوله تعالى :

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ، لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) [الأعراف ٧ / ٧٥] فقوله : (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل من قوله (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا).

(وَهُوَ مُؤْمِنٌ) حال

٤١

(كُلًّا نُمِدُّ) كلا : مفعول به ل (نُمِدُّ) و (هؤُلاءِ) بدل من كل ومعناه : إنا نرزق المؤمنين والكافرين.

(كَيْفَ فَضَّلْنا كَيْفَ) : منصوب بفضلنا ، وليس العامل فيه (انْظُرْ) لأن (كَيْفَ) معناها الاستفهام ، والاستفهام له صدر الكلام ، فلا يعمل فيه ما قبله.

(دَرَجاتٍ) تمييز منصوب ، وكذلك (تَفْضِيلاً).

المفردات اللغوية :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ) بعمله. (الْعاجِلَةَ) أي الدنيا ، مقصورا عليها همه ، والمراد الدار العاجلة ، فعبر بالنعت عن المنعوت. (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) قيد المعجّل والمعجّل له بالمشيئة والإرادة ؛ لأنه لا يجد كل متمنّ ما يتمناه ؛ ولا كل واحد جميع ما يهواه. (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ) في الآخرة. (يَصْلاها) يدخلها. (مَذْمُوماً) ملوما. (مَدْحُوراً) مطرودا من رحمة الله تعالى.

(وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها) أي عمل عملها اللائق بها ، وهو الإتيان بما أمر به والانتهاء عما نهى عنه ، لا التقرب بما يخترعون بآرائهم. وفائدة لام (لَها) اعتبار النية والخلوص. (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) إيمانا صحيحا لا شرك فيه ولا تكذيب. (فَأُولئِكَ) الجامعون للشروط الثلاثة : إرادة الآخرة ، والسعي لها بحق ، والإيمان. (كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) عند الله تعالى ، أي مقبولا عنده ، مثابا عليه ، فإن شكر الله : الثواب على الطاعة.

(كُلًّا) من الفريقين. (نُمِدُّ) نعطي مرة بعد أخرى. (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) من معطاه في الدنيا. (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ) فيها. (مَحْظُوراً) ممنوعا عن أحد ، لا يمنعه في الدنيا من مؤمن ولا كافر ، تفضلا.

(فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) في الرزق والجاه. (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ) أعظم. (وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) من الدنيا ، أي إن التفاوت في الآخرة أكبر : لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها ، والنار ودركاتها ، فينبغي الاعتناء بالآخرة دون الدنيا.

المناسبة :

الآيات مرتبطة بما قبلها بنحو واضح ، فبعد أن بيّن الله تعالى ارتباط كل إنسان بعمله ، قسم العباد قسمين : قسم يريد الدنيا ويعمل لها ، وعاقبته النار ، وقسم يريد الآخرة ، ومآله إلى الجنان.

٤٢

وكل من الفريقين يرزقهم ربهم في الدنيا ؛ لأن عطاءه ليس ممنوعا عن أحد ، ولكنهم متفاضلون في الرزق ، ومراتب التفاوت في الآخرة أكثر من مراتب تفاوت الدنيا.

التفسير والبيان :

هذه الآيات تصنيف عام لأحوال الناس في الدنيا ، فهم فريقان : فريق يعمل للدنيا ، وفريق يعمل للآخرة. أما الفريق الأول فهو : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ ...) أي من كان طلبه الدنيا العاجلة ، وكانت الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه ، فخصها بكل جهده وعمله ، ونسي الآخرة ، عجل الله فيها تحقيق أمله حسبما يشاء ويريد ، من سعة الرزق وترف الحياة ، فليس كل من طلب الدنيا ونعمها يحصل له مراده ، بل إنما يحصل لمن أراد الله وما يشاء ، فالعطاء الدنيوي مقيد بالإرادة والمشيئة الإلهية ، والقيد يشمل أمرين : ما يشاؤه الله لا ما يحبه العبد ، ولمن يشاء الله ، لا لكل من أراد الدنيا ، فهؤلاء الماديون لا يعطون كل ما يريدون ، وإنما يعطون بعض أمانيهم ، والكثير من الماديين لا يعطون شيئا أبدا ، فيجمعون بين فقر الدنيا وفقر الآخرة ، وبين الحرمان من الدنيا والدين.

ولكل من هؤلاء الماديين ، سواء أعطوا مرادهم أم لا جهنم يصلونها أي يقاسون حرها بصفة دائمة ، مذمومين من الله والملائكة والناس أجمعين على قلة الشكر وسوء العمل والتصرف ، مطرودين من رحمة الله تعالى.

فهذا العقاب ذو أوصاف ثلاثة في الآية : الدوام والخلود ، والإذلال والإهانة ، والطرد من رحمة الله. وهذا تهديد للماديين الكفرة وزجر شديد ، فإنهم يحصرون همهم في الدنيا ، وربما لم ينلهم شيء منها. روى أحمد عن عائشة مرفوعا : «الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له».

٤٣

وأما الفريق الثاني وهم المؤمنون الأتقياء فهم الذين أخبر الله تعالى عنهم : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها ...) أي ومن طلب الآخرة ، وكانت هي همّه ومقصده ، فعمل لها ما استطاع من القرب والطاعات ، وهو مؤمن مصدق بالله وبكتبه ورسله واليوم الآخر ، فأولئك أهل الكمال المشكورون على طاعاتهم ، المثابون على أعمالهم من قبل الله تعالى.

فلا يثاب هؤلاء ولا ينالون هذا الجزاء الحسن إلا بشروط ثلاثة :

الأول ـ إرادة ثواب الآخرة وما فيها من النعيم والسرور ، جاء في الحديث الذي رواه الشيخان عن عمر : «إنما الأعمال بالنيات».

الثاني ـ أن يكون العمل من القرب والطاعات ومتابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا من الأعمال الباطلة ، فإن الكفار يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأوثان ، والكواكب والملائكة وبعض البشر من الأنبياء ، فقوله : (وَسَعى لَها سَعْيَها) أي أعطاها حقها من السعي بالأعمال الصالحة.

الثالث ـ أن يكون العمل في دائرة الإيمان والتصديق بالثواب والجزاء ، فلا ينفع العمل بغير الإيمان الصحيح. وهذه هي الشرائط الثلاثة في كون السعي مشكورا.

قال بعض السلف : من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله : إيمان ثابت ، ونية صادقة ، وعمل مصيب ، وتلا هذه الآية.

هؤلاء المؤمنون الصلحاء الذين اختاروا غنى الآخرة لا يبالون بشيء بعدها ، فإن أوتوا حظا من الدنيا شكروا ربهم ، وإن حرموا منه صبروا ، ورضوا ؛ لأن ما عند الله خير وأبقى.

ثم أبان الله تعالى أن الرزق في الدنيا مضمون مكفول لكلا الفريقين ، فقال :

٤٤

(كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ ...) أي إنه تعالى يمد الفريقين : مريدي الدنيا ومريدي الآخرة بالأموال والأرزاق والأولاد وغيرها من مظاهر العز والزينة في الدنيا ، فإن عطاءه لا يمنع عن أحد ، مؤمنا كان أو كافرا ؛ لأن الكل مخلوقون في دار العمل ، فاقتضى عدل الله ورحمته ألا يترك لأحد مجالا للعذر ، وأبان أن عطاءه ليس بمحظور ، أي غير ممنوع ، لتوفير متطلبات الحياة ومقوماتها.

ثم أوضح الله تعالى أن عطاءه لكلا الفريقين متفاوت فقال :

(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ..) أي انظر بعين الاعتبار كيف جعلنا الفريقين متفاوتين في عطاء الدنيا ، وكيف فضلنا بعضهم على بعض في الرزق ومتاع الدنيا ، فمنحناه مؤمنا ، وحجبناه عن مؤمن آخر ، وأعطيناه كافرا ، ومنعناه عن كافر آخر ، وذلك لحكمة بالغة نحن أعلم بها ، كما قال : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) [الزخرف ٤٣ / ٣٢] وفي آية أخرى : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ، لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) [الأنعام ٦ / ١٦٥] وقال سبحانه أيضا : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى ٤٢ / ٢٧].

(وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ ...) أي والتفاوت في الآخرة أكبر وأعظم ، والتفاضل في درجات منافع الآخرة أكبر من التفاضل في درجات منافع الدنيا ، فالدرجات أكبر ، والتفاضل أعظم ؛ لأن الآخرة ثواب وأعواض وتفضل وكلها متفاوتة ، فأهل النار في دركات سفلى متفاوتة ، وأهل الجنة في درجات عليا متفاضلة ، فإن الجنّة مائة درجة ، ما بين كل درجتين ، كما بين السماء والأرض ، جاء في الصحيحين : «إن أهل الدرجات العلا ليرون أهل عليين ، كما ترون

٤٥

الكوكب الغابر في أفق السماء» وقال بعضهم : أيها المباهي بالرفع منك في مجالس الدنيا ، أما ترغب في المباهاة بالرفع في مجالس الآخرة ، وهي أكبر وأفضل».

وهذه واقعة طريفة معبرة مناسبة للآية ، رواها ابن عبد البر عن الحسن البصري قال : حضر جماعة من الناس فيهم الأشراف ومن دونهم من العامة باب عمر رضي‌الله‌عنه ، وفيهم سهيل بن عمرو القرشي (أحد أشراف مكة) وأبو سفيان بن حرب ، ومشايخ من قريش ، فأذن لصهيب وبلال وأهل بدر ، وكان يحبهم ، فقال أبو سفيان : ما رأيت كاليوم قط ، إنه ليؤذّن لهؤلاء العبيد ، ونحن جلوس لا يلتفت إلينا ، فقال سهيل وكان أعقلهم : أيها القوم ، إني والله قد أرى الذي في وجوهكم ، فإن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم ، إنهم دعوا ودعينا ـ يعني إلى الإسلام ـ فأسرعوا وأبطأنا ، وهذا باب عمر ، فكيف التفاوت في الآخرة؟ ولئن حسدتموهم على باب عمر ، لما أعد الله لهم في الجنة أكبر.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ الناس في مجال العمل في الدنيا صنفان : صنف يريد الدنيا ، وصنف يريد الآخرة ، أما الصنف الأول : فلا يعطيه الله من الدنيا إلا ما يشاء ، ولمن يشاء ، ثم يؤاخذه بعمله ، وعاقبته دخول النار حال كونه مذموما على سوء تصرفه وصنيعه ، إذ اختار الفاني على الباقي ، مدحورا مطرودا مبعدا من رحمة الله. قال القرطبي : وهذه صفة المنافقين الفاسقين ، والمرائين المداجين ، يلبسون الإسلام والطاعة لينالوا عاجل الدنيا من الغنائم وغيرها ، فلا يقبل ذلك العمل منهم في الآخرة ، ولا يعطون في الدنيا إلا ما قسم لهم (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٠ / ٢٣٥

٤٦

وأما الصنف الثاني وهو الذي يريد الدار الآخرة ، ويعمل لها عملها من الطاعات ، وكان مؤمنا ؛ لأن الطاعات لا تقبل إلا من مؤمن ، فيكون عمله مقبولا غير مردود.

٢ ـ اقتضت حكمة الله ورحمته أن يرزق المؤمنين والكافرين ، فلا يكون عطاؤه محبوسا ممنوعا عن أحد ، غير أن الناس في الدنيا متفاوتون في الرزق ، بين مقلّ ومكثر ، ولا يرتبط التفاوت في الرزق بالإيمان والكفر ، فقد يكون مؤمن غنيا وآخر فقيرا ، وقد يكون كافر موسرا مترفا وآخر معسرا معدما.

أما في الآخرة فدرجات تفاضل المؤمنين أكبر وأكثر ، فالكافر وإن وسّع عليه في الدنيا مرة ، وقتّر على المؤمن مرة ، فالآخرة لا تقسم إلا مرة واحدة بأعمالهم ، فمن فاته شيء منها لم يستدركه فيها.

٣ ـ إن هذه الآية : (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) مقيدة لإطلاق آية هود: (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ، نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها ، وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) [١٥] وآية الشورى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها ، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [٢٠].

٤ ـ في الآية نفسها (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) فوائد ثلاث :

الأولى ـ العقاب مضرة مقرونة بالإهانة والذم الدائمين.

الثانية ـ إن الرفاهية في الدنيا لا ينبغي أن يستدل بها على رضا الله تعالى ؛ لأن الدنيا قد تحصل مع أن عاقبتها المصير إلى عذاب الله وإهانته ، وهذا تنبيه للجهال الذين يغترون بالدنيا إذا أقبلت عليهم ، ويظنون أن ذلك لأجل كرامتهم على الله تعالى.

٤٧

الثالثة ـ قوله تعالى (لِمَنْ نُرِيدُ) يدل على أنه لا يحصل الفوز بالدنيا لكل أحد ، بل كثير من الكفار والضلال يطلبون الدنيا ، ويبقون محرومين منها ومن الدين ، وفي هذا زجر عظيم لهم ، فهم الأخسرون أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

٥ ـ إن قبول الأعمال عند الله مشروط بشرائط ثلاث : الإيمان الصحيح ، والنية الطيبة الحسنة ، والعمل الصالح الذي يرضي الله تعالى.

٦ ـ إن رزق الله وعطاءه مكفول لكل إنسان بشرط السعي والعمل ، وليس الرزق محظورا عن أحد من المؤمنين والكفار.

٧ ـ ليس الرزق معطي بدرجة متساوية ونسبة واحدة ، وإنما هناك تفاوت في الأرزاق ، لا يرتبط ذلك بالإيمان والكفر ، وإنما يقسمه الله تعالى بين الخلائق على وفق ما يراه من الحكمة والمصلحة.

٨ ـ إن التفاوت في الدركات للكفار والفساق في نار جهنم وفي الدرجات للمؤمنين الأخيار الأتقياء في الجنة أشد بكثير من التفاوت في الدنيا ، فالجنة مثلا مائة درجة ، ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض.

أصول تنظيم المجتمع المسلم

التوحيد أساس الإيمان وترابط الأسرة المسلمة دعامة المجتمع

(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ

٤٨

إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠))

الإعراب :

(إِمَّا يَبْلُغَنَ) قرئ : (يَبْلُغَنَ) : وحدّ الفعل لمجيء الفاعل بعده واحدا ، فإن الفعل متى تقدم توحّد ، والفاعل : أحدهما. ومن قرأ : يبلغان : فيكون (أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) بدلا من ألف يبلغان أو تكون الألف لمجرد التثنية ولا حظّ للاسمية فيها ، فيرتفع (أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) بالفعل الذي قبلهما على لغة من قال : قاما أخواك ، وأكلوني البراغيث. و (إِمَّا): هي إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيدا.

(أُفٍ) اسم من أسماء الأفعال ، فكانت مبنية ، والبناء إما على الكسر لالتقاء الساكنين ، أو على الفتح لأنه أخف الحركات ، أو على الضم لأنه أتبع الضمّ الضمّ. ومن نون (أُفٍ) أراد به التنكير ، ومن لم ينوّن أراد التعريف. وفي (أُفٍ) إحدى عشرة لغة ، مثل «هيهات».

(ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها ابْتِغاءَ) : مصدر منصوب في موضع الحال ، أي : وإما تعرضن عنهم مبتغيا رحمة من ربك ترجوها. وجملة (تَرْجُوها) حال منصوب ، أي راجيا إياها.

البلاغة :

(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ) استعارة مكنية ، شبّه الذل بطائر ذي جناح ، ثم حذف الطائر ، ورمز له بشيء من لوازمه ، وهو الجناح ، فهذه استعارة في الشفقة والرحمة بهما والتذلل لهما تذلل الرعية للأمير والخدم للسادة.

٤٩

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) : استعارة تمثيلية ، مثّل للبخيل الذي حبس يده عن العطاء بمن شدّت يده إلى عنقه ، بحيث لا يستطيع مدّها ، وشبّه السرف ببسط الكف ، حيث لا تمسك شيئا.

(فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) لف ونشر مرتب ، أعاد لفظ (مَلُوماً) إلى البخيل ، ولفظ (مَحْسُوراً) إلى الإسراف.

(يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمراد به أمته ، أو الخطاب لكل أحد. (فَتَقْعُدَ) إما بمعناها الأصلي ، أي فتعجز عن تحصيل الخيرات ، أو بمعنى : تصير ، مأخوذ من قولهم : شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة ، أي صارت مثل الحربة. (مَذْمُوماً) يذمك الملائكة والمؤمنون. (مَخْذُولاً) يخذلك الله تعالى ، وتصير : لا ناصر لك ؛ لأنك أشركت معه إلها آخر. وهذا بناء على المفهوم يدل على أن الموحد يكون ممدوحا منصورا.

(وَقَضى رَبُّكَ) حكم وأمر أمرا مقطوعا به. (أَلَّا تَعْبُدُوا) بألا تعبدوا. (إِلَّا إِيَّاهُ) حصر العبادة بنفسه تعالى ؛ لأن غاية التعظيم لا يستحقها إلا لمن له غاية العظمة وغاية الإنعام (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي وبأن تحسنوا لهما إحسانا ، بأن تبروهما ، أو وأحسنوا بالوالدين إحسانا ؛ لأنهما السبب الظاهر للوجود والمعيشة. ولا يجوز أن تتعلق الباء بالإحسان ؛ لأنه صلته وهي لا تتقدم عليه. (أُفٍ) اسم صوت يدل على التضجر والاستثقال ، أي تبا وقبحا. (وَلا تَنْهَرْهُما) تزجرهما ، والنهر : الزجر بغلظة. (قَوْلاً كَرِيماً) جميلا لينا.

(جَناحَ الذُّلِ) ألن لهما جانبك الذليل ، والمراد به التواضع والتذلل ، أو حسن الرعاية والعناية. (مِنَ الرَّحْمَةِ) أي لرقتك عليهما وفرط رحمتك بهما. (ارْحَمْهُما كَما) رحماني حين. (رَبَّيانِي صَغِيراً) أو رحمة مثل رحمتهما علي. (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) من إضمار البر والعقوق. (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) طائعين لله ، قاصدين للصلاح. (لِلْأَوَّابِينَ) للتوابين أو الرجاعين إلى طاعته. (غَفُوراً) لما صدر منهم في حق الوالدين من بادرة ، وهم لا يضمرون عقوقا.

(وَآتِ) أعط. (ذَا الْقُرْبى) القرابة. (حَقَّهُ) من البر والصلة (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) التبذير : إنفاق المال في غير موضعه الموافق للشرع والحكمة. (إِخْوانَ الشَّياطِينِ) أي قرناءهم وعلى طريقتهم (كَفُوراً) شديد الكفر لنعمه. فكذلك قرينه المبذر. (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) أي وإن أعرضت عن المذكورين من ذي القربى والمسكين وابن السبيل ، حياء من الرد ، فلم تعطهم.

٥٠

(ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها) أي لطلب رزق تنتظره يأتيك ، فتعطيهم منه (قَوْلاً مَيْسُوراً) لينا سهلا ، بأن تعدهم بالإعطاء عند مجيء الرزق.

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) أي لا تمسكها عن الإنفاق تماما ، والمغلولة : المقيدة بالغل : وهو القيد الذي يوضع في اليدين والعنق ، وهو تمثيل لمنع الشح وكناية عن البخل. (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) أي تتوسع في الإنفاق ، وهو تمثيل وكناية لمنع الإسراف. (فَتَقْعُدَ مَلُوماً) فتصير ملوما عند الله وعند الناس بالبخل ، فهو راجع للأول : البخل. (مَحْسُوراً) نادما ، أو منقطعا لا شيء عندك ، وهو راجع للثاني : الإسراف. (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) يوسعه لمن يشاء. (وَيَقْدِرُ) يضيقه لمن يشاء. (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) عالما بسرهم وعلنهم ، فيرزقهم على حسب مصالحهم.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٦):

(وَآتِ ذَا الْقُرْبى) : أخرج الطبراني وغيره عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة ، فأعطاها فدك. قال ابن كثير : هذا مشكل ، فإنه يشعر بأن الآية مدنية ، والمشهور خلافه. لكن ذكر في مطلع السورة أن هذه الآية مدنية. وروى ابن مردويه عن ابن عباس مثله.

نزول الآية (٢٨):

(وَإِمَّا تُعْرِضَنَ) : أخرج سعيد بن منصور عن عطاء الخراساني قال : جاء ناس من مزينة يستحملون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : لا أجد ما أحملكم عليه ، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ، ظنوا ذلك ، من غضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأنزل الله : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ) الآية. والرحمة : الفيء.

وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : نزلت في كل من كان يسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٥١

من المساكين. قال ابن زيد : نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيأبى أن يعطيهم ؛ لأنه كان يعلم منهم نفقة المال في فساد.

نزول الآية (٢٩):

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ) : أخرج سعيد بن منصور عن سيار أبي الحكم قال : أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزّ (ثياب) وكان معطيا كريما ، فقسمه بين الناس ، فأتاه قوم ، فوجدوه قد فرغ منه ، فأنزل الله : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها) الآية.

وأخرج ابن مردويه وغيره عن ابن مسعود قال : جاء غلام إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إن أمي تسألك كذا وكذا ، قال : ما عندنا شيء اليوم ، قال : فتقول لك : اكسني قميصا ، فخلع قميصه ، فدفعه إليه ، فجلس في البيت حاسرا ، فأنزل الله : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ...) الآية.

وأخرج ابن مردويه أيضا عن أبي أمامة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعائشة : أنفق ما على ظهر كفي ، قالت : إذن لا يبقى شيء ، فأنزل الله : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) الآية. قال السيوطي : وظاهر ذلك أنها مدنية.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى أن الناس فريقان : فريق يريد بعمله الدنيا فقط ، وعاقبتهم العذاب والعقاب ، وفريق يريد بعمله طاعة الله ، وهم أهل الثواب بشروط ثلاثة : هي إرادة الآخرة ، والسعي بحق لطلب الآخرة ، وأن يكون مؤمنا ، أتبعه ببيان حقيقة الإيمان وأن جوهره التوحيد ونفي الشركاء والأضداد.

وبعد أن ذكر الركن الأعظم في الإيمان ، أتبعه بذكر شعائر الإيمان

٥٢

وشرائطه ، ودعائم بنيان المجتمع الإسلامي ، مبتدئا بأصول نظام الأسرة ، وتقوية الروابط بين أفرادها.

التفسير والبيان :

يخاطب الله تعالى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبيان حقيقة الإيمان وهو التوحيد ونفي الشركاء ، والمراد بالخطاب : المكلفون من الأمة ، إذ لم يكن له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك الوقت أبوان.

ومضمونه : لا تجعل أيها الإنسان المكلف شريكا مع الله تعالى في ألوهيته وعبادته ، وإنما أفرد له الألوهية والربوبية ، فلا إله غيره ، ولا رب سواه ، ولا معبود بحق إلا هو ، فإن جعلت مع الله إلها آخر ، صرت ملوما على إشراكك به ، مخذولا لا ينصرك ربك ، بل يتركك إلى من عبدته معه ، وهو لا يملك ضرا ولا نفعا. روى أحمد وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ، ومن أنزلها بالله ، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل». والخلاصة : إن أول دعامة للمجتمع المسلم : توحيد الله وعدم الشرك به.

وبعد بيان الركن الأعظم في العقيدة والإيمان وهو التوحيد ، ذكر تعالى شعائر الإيمان ومظاهره ، وهي ما يأتي :

أولا ـ عبادة الله تعالى وحده : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي أمر الله تعالى ألا تعبدوا غيره ، وهذا يتضمن أمرين : الاشتغال بعبادة الله تعالى ، والتحرز عن عبادة غير الله تعالى ؛ لأن العبادة نهاية التعظيم ، ولا يستحق ذلك غير الله عزوجل ؛ لأنه مصدر النعم والإنعام من إعطاء الوجود والحياة والقدرة والعقل.

٥٣

ثانيا ـ الإحسان إلى الوالدين : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) قرن الله في كثير من الآيات الأمر بعبادته بالأمر ببر الوالدين والإحسان لهما إحسانا تاما في المعاملة ؛ لأنهما بعد الله الذي هو السبب الحقيقي لوجود الإنسان ، كانا السبب الظاهري في وجود الأولاد وتربيتهم في جو مشحون بالحنان واللطف والعطف والإيثار ، والمعنى : وأمر بالوالدين إحسانا ، أو وأن تحسنوا إلى الوالدين وتبروهما ، كما قال تعالى في آية أخرى : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان ٣١ / ١٤] وذلك لشفقتهما على الولد ، وإنعامهما عليه ، وبذل أقصى الجهد في تربيته وصونه حتى يصبح رجلا سويا ، فكان من الوفاء والمروءة رد شيء من الجميل والمعروف لهما ، إما بالمعاملة الحسنة والأخلاق المرضية ، وإما بالإمداد المادي إذا كانا بحاجة وكان الولد موسرا ، لذا أبان تعالى بعض وجوه الإحسان إليهما ، فقال :

(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ ..) أي إذا بلغ الوالدان أو أحدهما سن الكبر ، وصارا عندك في آخر العمر بحال من الضعف والعجز ، كما كنت عندهما في بدء حياتك ، فعليك اتباع الواجبات الخمسة التالية :

الأول ـ (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) أي لا تسمعهما قولا سيئا فيه أدنى تبرّم ، حتى ولا التأفف وهو التضجر والتألم الذي هو أدنى مراتب القول السيء ، وذلك في أي حال ، ولا سيما حال الضعف والكبر والعجز عن الكسب ، لأن الحاجة إلى الإحسان حينئذ أشد وأولى وألزم ، لذا خص حالة الكبر ؛ لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى البر ، للضعف والكبر.

روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رغم أنفه ، رغم أنفه ، رغم أنفه ، قيل ؛ من يا رسول الله؟ قال : من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة».

٥٤

الثاني ـ (وَلا تَنْهَرْهُما) أي ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح. والفرق بين النهي عن التأفف والنهي عن الانتهار : أن الأول للمنع من إظهار الضجر بالقليل أو الكثير ، وأن الثاني للمنع من إظهار المخالفة في القول ، بالرد أو التكذيب ، فالتأفف : الكلام الرديء الخفي ، والنهر : الزجر والغلظة.

الثالث ـ (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) أي وقل لهما قولا لينا طيبا حسنا مقرونا بالتوقير والتعظيم والحياء والأدب الجم. ويلاحظ أنه تعالى قدم النهي عن المؤذي ، ثم أمر بالقول الحسن والكلام الطيب ؛ لأن التخلي مقدم على التحلي ، ومنع الأذى أولى من إحسان القول والفعل. قال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه مفسرا القول الكريم : هو أن يقول له : يا أبتاه يا أماه ، أي لا يدعوهما بأسمائهما ، ولا يرفع الصوت أمامهما ، ولا يحملق بنظره فيهما ، وسئل سعيد بن المسيّب عن القول الكريم فقال : هو قول العبد المذنب للسيد الفظّ.

الرابع ـ (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) أي تواضع لهما بفعلك ، والمقصود منه المبالغة في التواضع وإلانة الجانب ، فإن خفض الجناح كناية عن فعل التواضع ، وتشبيه بحال الطائر إذا ضم إليه فرخه ، فيخفض له جناحه. والتواضع ينبغي أن يكون رحمة بهما وشفقة عليهما ، لا لأجل امتثال الأمر وخوف العار والنقد فقط.

الخامس ـ (وَقُلْ : رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) أي اطلب لهما الرحمة من الله في حال كبرهما وعند وفاتهما. قال القفال رحمه‌الله تعالى : إنه لم يقتصر في تعليم البر بالوالدين على تعليم الأقوال ، بل أضاف إليه تعليم الأفعال ، وهو أن يدعو لهما بالرحمة ، فيقول : (رَبِّ ارْحَمْهُما) ولفظ الرحمة جامع لكل الخيرات في الدين والدنيا. وقوله (كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) أي أحسن إليهما كما أحسنا إلي في تربيتهما إياي ، والتربية : هي التنمية ، وخصها بالذكر ليتذكر العبد شفقة الأبوين وتعبهما في التربية ، فيزيده ذلك إشفاقا لهما وحنانا عليهما.

٥٥

وقد جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة ، منها ما أخرجه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة وأنس رضي‌الله‌عنهما : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صعد المنبر ، ثم قال : «آمين آمين آمين ، قيل : يا رسول الله ، علام أمّنت؟ قال : أتاني جبريل ، فقال : يا محمد ، رغم أنف رجل ذكرت عنده ، فلم يسل عليك ، قل : آمين ، فقلت : آمين. ثم قال : رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ، ثم خرج ، فلم يغفر له ، قل : آمين ، فقلت : آمين. ثم قال : رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما ، فلم يدخلاه الجنة ، قل : آمين ، فقلت : آمين».

والبر يكون في حال الحياة وبعد الموت أيضا بدليل ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن مالك بن ربيعة الساعدي قال : بينما أنا جالس عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا جاءه رجل من الأنصار ، فقال : يا رسول الله ، هل بقي علي من برّ أبوي شيء بعد موتهما أبرّهما به؟ قال : «نعم ، خصال أربع : الصلاة عليهما والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهدهما ، وإكرام صديقهما ، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما ، فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما».

فإذا كان الوالدان كافرين فللولد أن يدعو لهما حال الحياة بالهداية والإرشاد ، وأن يطلب لهما الرحمة بعد حصول الإيمان. أما بعد الموت فقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات ، ولو كانوا أولي قربى في الآية : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) [التوبة ٩ / ١١٣]. فيعامل المسلم أبويه الذميين معاملة حسنة إلا الترحم لهما بعد موتهما على الكفر.

ويكفي في العمل بمقتضى هذه الآية طلب الرحمة لهما مرة واحدة ؛ لأن ظاهر الأمر للوجوب ، وظاهر الأمر لا يقتضي التكرار. سئل سفيان : كم يدعو الإنسان لوالديه؟ أفي اليوم مرة أو في الشهر ، أو في السنة؟ فقال : نرجو أن يجزئه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات.

٥٦

وكفى بالشريعة التي جعلت عقوق الوالدين من الكبائر ، أخرج الترمذي عن عبد الله بن عمر حديثا : «رضا الرب في رضا الوالد ، وسخط الرب في سخط الوالد».

ثم حذر الله تعالى من التهاون في بر الوالدين فقال : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ ...) أي أن العبرة بما في القلب وما تضمرونه في أنفسكم من الإخلاص في الطاعة وعدم الإخلاص فيها ، فإن الله تعالى مطلع على ما في نفوسكم ، بل هو أعلم بتلك الأحوال منكم بها ؛ لاختلاطها بالسهو والنسيان وعدم الإحاطة بالكل ، فمن بدرت منه بادرة غير مقصودة ، فلا يعاقبه الله عليها ما دامت نيته حسنة وهو من الصالحين ، فإنه سبحانه غفور للتائبين الراجعين إلى الخير ، النادمين على ما فرط منهم من غير قصد. والتائب من الذنب : هو الرجّاع من المعصية إلى الطاعة ، مما يكره الله ، إلى ما يحبه ويرضاه. والمقصود من الآية : التحذير من ترك الإخلاص.

ثالثا ـ الإحسان إلى ذوي القربى والمساكين وابن السبيل : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) لما ذكر تعالى بر الوالدين ، عطف بذكر الإحسان إلى القرابة وصلة الأرحام ، والمعنى : وأعط أيها الإنسان المكلف القريب والمسكين والمسافر المنقطع في الطريق إلى بلده حقه ، من صلة الرحم والود ، والزيارة وحسن المعاشرة ، والنفقة إن كان محتاجا إليها ، وإعانة المسكين ذي الحاجة ، ومساعدة ابن السبيل بالمال الذي يكفيه زاده وراحلته إلى أن يبلغ مقصده. والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمراد به أمته من بعده. جاء في الحديث الذي أخرجه أبو داود عن بكر بن الحارث الأنماري : «أمك وأباك ، ثم أدناك أدناك» أو «ثم الأقرب فالأقرب» وأخرج الشيخان عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من أحبّ أن يبسط له في رزقه ، وينسأ له في أثره ، فليصل رحمه».

٥٧

والأمر في رأي أبي حنيفة بالنسبة للأقارب المحارم كالأخت والأخ والوالدين للوجوب ، وفي رأي الشافعي للندب ، ولا تجب عند الجمهور إلا نفقة الأصول والفروع دون غيرهما من الأقارب ، وعند الحنابلة : تجب لكل الأقارب حتى الحواشي.

أما مساعدة المساكين وأبناء السبيل فهي من الصدقات المندوبة.

رابعا ـ منع التبذير : (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) : لما أمر الله تعالى بالإنفاق والبذل نهى عن الإسراف وبيّن سياسة الإنفاق ، أي لا تنفق المال إلا باعتدال وفي غير معصية وللمستحقين ، بالوسط الذي لا إسراف فيه ولا تبذير ، والتبذير لغة :إفساد المال وإنفاقه في السرف ، والوسطية والاعتدال هي سياسة الإسلام المالية والاجتماعية والدينية ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ، وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) [الفرقان ٢٥ / ٦٧].

ثم نبّه الله تعالى على قبح التبذير بإضافته إلى أفعال الشياطين ، فقال : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) أي إن المبذرين المنفقين أموالهم في معاصي الله يشبهون في هذا الفعل القبيح الشياطين ، فهم قرناء الشياطين في الدنيا والآخرة ، وأشباههم في ذلك في الصفة والفعل ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً ، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف ٤٣ / ٣٦] وقال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) [الصافات ٣٧ / ٢٢] أي قرناءهم من الشياطين.

قال ابن مسعود : التبذير : الإنفاق في غير حق ، وقال مجاهد : لو أنفق إنسان ماله كله في الحق ، لم يكن مبذرا ، ولو أنفق مدا في غير حق ، كان مبذرا. وعن علي كرم الله وجهه قال : ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير ، وما تصدقت فلك ، وما أنفقت رياء وسمعة ، فذلك حظ

٥٨

الشيطان. وأنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر ، فقيل له : لا خير في السرف ، فقال : لا سرف في الخير.

(وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) أي وكان الشيطان لنعمة ربه جحودا ؛ لأنه أنكر نعمة الله عليه ، ولم يعمل بطاعته ، بل أقبل على معصيته ومخالفته ، فاستعمل نفسه في المعاصي والإفساد في الأرض ، وإضلال الناس.

قال الكرخي : وكذلك من رزقه الله جاها أو مالا ، فصرفه إلى غير مرضاة الله ، كان كفورا لنعمة الله ؛ لأنه موافق للشيطان في الصفة والفعل.

وفي صفة الشيطان أنه كفور لربه دلالة على كون المبذر أيضا كفورا لربه.

وقال بعض العلماء : خرجت هذه الآية على وفق عادة العرب ، وذلك لأنهم كانوا يجمعون الأموال بالنهب والغارة ، ثم كانوا ينفقونها في طلب الخيلاء والتفاخر ، وكان المشركون من قريش وغيرهم ينفقون أموالهم ليصدوا الناس عن الإسلام وتوهين أهله ، وإعانة أعدائه ، فنزلت هذه الآية تنبيها على قبح أعمالهم.

خامسا ـ الوعد الجميل بالعطاء أو القول الميسور : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ) أي إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من التصريح بالرد بسبب الفقر والقلة ، بعد أن سألوك ، فقل لهم قولا سهلا لطيفا لينا ، وعدهم وعدا بسهولة ولين بالصلة والعطاء إذا جاء رزق الله ، واعتذر بعذر مقبول.

سادسا ـ القصد في الإنفاق : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ..) لما أمر الله تعالى بالإنفاق ذكر هنا أدب الإنفاق ، والاقتصاد في العيش ، بذم البخل ، والنهي عن السرف ، أي لا تمسك عن الإنفاق بحيث تبخل على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات ، ولا تسرف ولا تتوسع في الإنفاق توسعا

٥٩

مفرطا ، فتعطي فوق طاقتك ، وتنفق أكثر من دخلك ، بحيث لا يبقى في يدك شيء.

والخلاصة : إن أصول الإنفاق هو الاقتصاد في العيش ، والتوسط في الإنفاق ، دون بخل ولا سرف ، فالبخل إفراط في الإمساك ، والتبذير إفراط في الإنفاق ، وهما مذمومان ، وخير الأمور أوساطها ، والفضيلة وسط بين رذيلتين.

روى أحمد عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما عال من اقتصد» وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة». وروى الديلمي في مسند الفردوس عن أنس مرفوعا : «التدبير نصف العيش ، والتودد نصف العقل ، والهمّ نصف الهرم ، وقلة العيال أحد اليسارين» (١).

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من يوم يصبح العباد فيه ، إلا وملكان ينزلان من السماء ، يقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا». وروى مسلم عن أبي هريرة مرفوعا : «ما نقص مال من صدقة ، وما زاد الله عبدا أنفق إلا عزا ، ومن تواضع لله رفعه الله». وروى أبو داود عن عبد الله بن عمر مرفوعا : «إياكم والشح ، فإنه أهلك من كان قبلكم ، أمرهم بالبخل فبخلوا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ، وأمرهم بالفجور ففجروا».

ثم أبان الله تعالى ربط الرزق بمشيئته وإرادته ، ليدرك الناس أن تضييق الرزق أحيانا على بعضهم ليس لسوء حالهم عند الله ، فقال : (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي إن ربك أيها الرسول هو الرزاق ، القابض الباسط ، المتصرف في خلقه بما يشاء ، فيغني من يشاء ، ويفقر من يشاء ، لما له في ذلك

__________________

(١) ورواه القضاعي عن علي رضي‌الله‌عنه ، وهو حديث حسن.

٦٠