التفسير المنير - ج ١٥

الدكتور وهبة الزحيلي

المفردات اللغوية :

(يُزْجِي) يجري ويسيّر ، والأصل فيه أنه يسوق حينا بعد حين. (الْفُلْكَ) السفن.

(لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) تطلبوا من فضله تعالى بالتجارة و (فَضْلِهِ) : هو رزقه. (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) في تسخيرها لكم ، وتهيئة ما تحتاجون إليه ، وتسهيل ما تعسر من الأسباب. (الضُّرُّ) الشدة أو خوف الغرق بتقاذف الأمواج. (ضَلَ) غاب عنكم وعن ذاكرتكم. (مَنْ تَدْعُونَ) تعبدون من الآلهة ، فلا تدعونه (إِلَّا إِيَّاهُ) تعالى ، فإنكم تدعونه وحده ؛ لأنكم في شدة لا يكشفها إلا هو. (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ) من الغرق. (أَعْرَضْتُمْ) عن الإيمان والتوحيد (كَفُوراً) جحودا للنعم ، والمراد بالإنسان الكفار.

(أَفَأَمِنْتُمْ) أي أنجوتم فأمنتم ، فأعرضتم ، فإن من قدر أن يهلككم في البحر بالغرق ، قادر أن يهلككم في البر بالخسف وغيره. (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) أي يقلبه الله وأنتم عليه ، أو يقلبه بسببكم ، كما فعل بقارون ، والخسف : انهيار الأرض. وفي ذكر الجانب تنبيه على أنهم لما وصلوا الساحل ، كفروا وأعرضوا ، وإن الجوانب والجهات في قدرته سواء ، لا معقل يؤمن فيه من أسباب الهلاك.

(أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) أي يرميكم بالحصباء والحجارة كقوم لوط ، والمراد : الريح الشديدة الحاصبة ، وهي التي ترمي بالحصى الصغيرة. (وَكِيلاً) حافظا منه. (أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ) في البحر. (تارَةً أُخْرى) مرة ثانية. (قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ) أي ريحا شديدة لا تمر بشيء إلا قصفته فهي تكسر الشجر وغيره.

والخلاصة : إن الحاصب : الريح التي تحصب أي ترمي بالحصباء ، والقاصف : الريح التي تقصف الشجر وغيره وتكسره أو هي الريح الشديدة الصوت. (بِما كَفَرْتُمْ) بكفركم. (تَبِيعاً) ناصرا ومعينا وتابعا يطالبنا بما فعلنا بكم.

(كَرَّمْنا) فضلنا. (بَنِي آدَمَ) بحسن الصورة والمزاج الأعدل واعتدال القامة ، والتمييز بالعقل والعلم ، والإفهام بالنطق والإشارة ، والاهتداء إلى أسباب المعاش والمعاد ، والتسلط على ما في الأرض ، والتمكن من الصناعات ، والطهارة بعد الموت ، أي أن التكريم بالخلق في أحسن تقويم ، وبالعقل أداة العلم والمعرفة والتقدم والتمدن. (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ) أركبناهم في الماضي والحاضر على الدواب ، وفي الحاضر على السيارات والطائرات ونحوها. (وَالْبَحْرِ) على السفن. (الطَّيِّباتِ) المستلذات. (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا) كالبهائم والوحوش ، ومن : بمعنى ما ، أو بمعناها الأصلي وتشمل الملائكة ، والمراد تفضيل الجنس ، ولا يلزم منه تفضيل أفراده ، إذ الملائكة أفضل من البشر غير الأنبياء. والمراد : فضلناهم بالغلبة والاستيلاء ، أو بالشرف والكرامة.

١٢١

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى وصف المشركين في اعتقادهم آلهتهم ، وأنها تضر وتنفع ، وأتبع ذلك بقصة إبليس مع آدم ، وتمكينه من وسوسة ذريته ، ذكر ما يدل من أفعاله على وحدانيته ، وأنه هو النافع الضارّ ، المتصرف في خلقه بما يشاء ، وتلك المخلوقات هي نعم إلهية على الإنسان ، سواء في البر والبحر ، ودلائل القدرة الإلهية ، فهو تعالى الذي يزجى الفلك في البحر ، وينجي من الغرق ، ومن تمام نعمته : تكريم الناس ورزقهم وتفضيلهم على جميع الخلق ، مما يستوجب الإفراد بالعبادة.

التفسير والبيان :

ربكم اللطيف بعباده هو الذي يوفر مصالح خلقه ويسهل لهم سبل الحياة ، فيجري ويسيّر لكم السفن في البحر بمختلف القوى كالريح أو الطاقة البخارية أو الكهربائية أو الذرية ، لنقل الأشخاص للسياحة أو للارتزاق بين بلاد الدنيا ، ونقل البضائع والسلع التجارية من إقليم إلى إقليم ، وطلب الرزق من فضل الله ، إنه كان بكم رحيما ، أي إنما فعل هذا بكم من فضله عليكم ورحمته بكم.

ومن رحمته تعالى وفضله ما أخبر به : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ..) أي وإذا أصابكم أيها الناس ضر أو شدة وجهد في البحر ، ذهب عن تصوراتكم وخواطركم كل من تدعونه في حوادثكم وتعبدونه من دون الله من صنم أو ملك أو بشر إلا إياه سبحانه ، فلا تتذكرون إلا الله ، ولا تلجؤون لسواه لكشف الضر عنكم.

وذلك كما حدث لعكرمة بن أبي جهل لما ذهب فارّا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين فتح مكة ، وركب في البحر ليدخل الحبشة ، فجاءتها ريح عاصف ، فقال القوم بعضهم لبعض : إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده ، فقال عكرمة في نفسه :

١٢٢

والله إن كان لا ينفع في البحر غيره ، فإنه لا ينفع في البر غيره ، اللهم لك عليّ عهد ، لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد ، فلأجدنه رؤفا رحيما ، فخرجوا من البحر ، فرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأسلم وحسن إسلامه رضي‌الله‌عنه وأرضاه.

(فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) أي فلما أمنتم وأنقذكم ، وأوصلكم إلى شاطئ البر والسلامة ، واستجاب دعاءكم ، أعرضتم ، أي نسيتم ما عرفتم من توحيده في البحر ، وأعرضتم عن دعائه ، وعدتم إلى الإشراك به.

وعلة ذلك ما قال تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) أي وكانت سجية الإنسان وطبعه أن ينسى النعم ويجحدها إلا من عصم الله تعالى.

ثم ناقشهم تعالى محذرا من جحود النعمة فقال :

(أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ ..) أي أفحسبتم بخروجكم إلى البر أنكم أمنتم من انتقام الله وعذابه ، بأن يخسف بكم جانب البر الذي تقطنون فيه بتغييبه في باطن الأرض ، أو أن يرسل عليكم حاصبا ، وهو المطر الذي فيه حجارة من السماء أو الريح التي تحصب أي ترمي بالحصباء وهي الحصى الصغار ، كما فعل بقوم لوط (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) أي لا تجدون بعدئذ ناصرا تكلون إليه أموركم ، وينقذكم منه ، ومن يتوكل بصرف ذلك عنكم. وجانب البر : ناحية الأرض.

والحاصب أخبر تعالى عنه في آيات ، مثل : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) [القمر ٥٤ / ٣٤] ومثل (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) [الحجر ١٥ / ٧٤].

(أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ ...) أي أم أمنتم أيها المعرضون عنا ، بعد ما اعترفتم في البحر بتوحيدنا ، وخرجتم إلى البر ، أن يعيدكم في البحر مرة ثانية ، فيرسل عليكم وأنتم راكبون في السفن ريحا قاصفا تقصف السواري ، وتغرق

١٢٣

المراكب ، فالقاصف : ريح البحار التي تكسر المراكب وتغرقها ، ولها قصيف أي صوت شديد ، كأنها تتقصف أي تتكسر.

(فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ) أي يغرقكم بسبب كفركم وإعراضكم عن الله تعالى.

(ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) أي نفعل ما نفعل بكم ، ثم لا تجدوا أحدا يطالبنا بما فعلنا ، انتصارا منا ، ودركا للثأر من جهتنا ، أي لا تجدوا أحدا يأخذ بثأركم بعدكم. وقوله (تَبِيعاً) أي نصيرا يأخذ بالثأر ، أو يطالب بالحق. ونظير هذا قوله تعالى : (وَلا يَخافُ عُقْباها) [الشمس ٩١ / ١٥]. وفي قوله وعيد شديد وتهديد بسوء العاقبة.

ومن تمام نعمة الله وفضله ورحمته تكريم الإنسان في قوله : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ..) أي ولقد كرمنا بني آدم ، أي جعلنا لهم كرما أي شرفا وفضلا (١) ، بخلقهم على أحسن صورة وهيئة ، ومنحناهم السمع والبصر والفؤاد للفقه والفهم ، وجمّلناهم وميزناهم بالعقل الذي يدركون به حقائق الأشياء ، ويهتدون به إلى الصناعات والزراعات والتجارات ، ومعرفة اللغات ، ويفكرون في اكتشاف خيرات الأرض ، والإفادة من الطاقات ، وتسخير ما في العالم العلوي والسفلي ، وما في الكون من وسائل النقل وأسباب الحياة والمعيشة ، والتمييز بين الأشياء وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية.

وحملناهم في البر على الدواب من الأنعام والخيل والبغال ، وفي الوقت الحاضر على القطارات والطائرات وغيرها ، وفي البحر أيضا على السفن الكبيرة والصغيرة ، وهو حمل لا يصح لغير بني آدم بإرادته وقصده وتدبيره.

ورزقناهم من الطيبات ، أي من زروع وثمار ولحوم وألبان من سائر أنواع الطعوم والألوان المشتهاة ، والمناظر الحسنة ، والملابس الرفيعة ، والخلاصة : أن

__________________

(١) وهذا كرم نفي النقصان ، لا كرم المال.

١٢٤

الطيبات هي لذيذ المطاعم والمشارب ، وتشمل تبعا سائر أنواع الزينة المستطابة.

وفضلناهم على كثير ممن خلقنا وهو ما سوى الملائكة ، أو فضلناهم على أصناف المخلوقات وسائر أنواع الحيوانات بالغلبة والاستيلاء والحفظ والتمييز والثواب والجزاء.

وعلى التفسير الثاني استدل بهذه الآية الكريمة كما ذكر ابن كثير على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة ، روى الطبراني عن عبد الله بن عمرو ، وعبد الرزاق عن زيد بن أسلم موقوفا ، وابن عساكر عن أنس بن مالك مرفوعا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن الملائكة قالت : يا ربنا ، أعطيت بني آدم الدنيا ، يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ، ونحن نسبّح بحمدك ، ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو ، فكما جعلت لهم الدنيا ، فاجعل لنا الآخرة ، قال : لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ، كمن قلت له : كن فيكون». وقد عرفنا أن الحق تفضيل الملائكة على البشر.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يأتي :

١ ـ لله تعالى على الإنسان أفضال ونعم كثيرة غير الرزق والحياة ، منها تسخير السفن في البحار ، لركوب الركاب وتيسير وسائل المواصلات ونقل التجارات ، مما يقتضي شكر تلك النعم ، وعدم الإشراك به شيئا آخر.

٢ ـ من نعمه تعالى ورحمته إنقاذ الإنسان من مخاطر البحر وأهواله أثناء هياجه واضطرابه ، فلا يجد المضطر ملجأ غير الله يلجأ إليه لكشف الضر عنه. وكل واحد يعلم بالفطرة علما يقينيا أن الأصنام لا فعل لها في الشدائد العظام.

لكن الإنسان ظلوم كفار للنعم إلا من عصمه الله ، والمراد بالإنسان في

١٢٥

قوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) هو الجنس الشامل للمؤمن والكافر.

والله قادر على إهلاك الناس في البر ، وإن سلموا من البحر ، ولن يجدوا من دون الله حافظا ونصيرا يمنع من بأس الله ، والله تعالى إما أن يهلك الناس بالزلزال (خسف جانب من الأرض) أو بإرسال ريح شديدة وهي التي ترمي بالحصباء.

وإذا تم الإنجاء من الغرق ، فربما يعود الإنسان إلى ركوب البحر ، فيتم الإغراق بقاصف من الريح : وهو الريح الشديدة التي تكسر بشدة ، بسبب الكفر والضلال ، دون أن يجد الناس من يثأر لهم أو يوجد نصير يطلب لهم بثأر أو غيره.

٣ ـ ومن نعم الله تعالى الجليلة على الإنسان : الأشياء الأربعة التي بها فضل الإنسان على غيره : وهي تكريم بني آدم بخلقهم في أحسن تقويم وبالعقل والتفكير ، والحمل في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل وغيرها من الوسائل الحديثة ، وفي البحر على السفن ، والرزق من الطيبات ، والتفضيل على كثير من المخلوقات ، لا على الكل.

والفرق بين التكريم والتفضيل : أن الأول يكون بالأمور الخلقية الطبيعية الذاتية مثل العقل والنطق والتخطيط والصورة الحسنة والقامة المديدة ، والثاني يكون بتمكينه بالعقل والفهم من اكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة (١).

وهل الإنسان أفضل أو الملائكة؟

يحتمل أن الملائكة أفضل ، ويحتمل العكس ، ويحتمل التساوي ، وليس في الآية نص على التفضيل بين الصنفين ، كالآية التي تصرح بتفضيل بعض الأنبياء على بعض.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢١ / ١٦.

١٢٦

فقال بعض العلماء بتفضيل المؤمنين على الملائكة ، محتجين بالحديث المتقدم عن عبد الله بن عمرو أو أنس أو زيد بن أسلم ، وبما قال أبو هريرة : «المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده».

وقال آخرون بأن الملائكة أفضل من البشر على الإطلاق ، عملا بهذه الآية ، وهو دليل الخطاب : وهو أن تخصيص الكثير بالذكر يدل على أن الحال في القليل بالضد.

والظاهر هو الرأي الثاني ، فإن قوله تعالى : (عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا) هو ما سوى الملائكة ، قال الزمخشري : وحسب بني آدم تفضيلا أن ترفع عليهم الملائكة ذوو المنزلة العالية عند الله (١).

أحوال الناس مع قادتهم يوم القيامة

(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢))

الإعراب :

(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ يَوْمَ) : ظرف منصوب متعلق بفعل دل عليه : (وَلا يُظْلَمُونَ) فكأنه قال : لا يظلمون فتيلا يوم ندعو كل أناس بإمامهم ، ولا يجوز أن يعمل فيه (نَدْعُوا) لأنه مضاف إليه ، والمضاف إليه لا يعمل فيما قبله وهو المضاف ، ولا يجوز أن يعمل فيه «فضلنا» في الآية المتقدمة ، لأن الماضي لا يعمل في المستقبل.

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٢٤٠.

١٢٧

وباء (بِإِمامِهِمْ) متعلقة بندعو ؛ لأن كل إنسان يدعى بإمامه يوم القيامة ، أو متعلقة بمحذوف في موضع الحال ، أي يوم ندعو كل أناس مختلطين بإمامهم.

(وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) هو من عمى القلب ، ولو كان من عمى العين ، لقال : فهو في الآخرة أشد عمى ؛ لأن عمى العين شيء ثابت كاليد والرجل ، فلا يتعجب منه إلا بأشد أو نحوه من الثلاثي. وأفعل : الذي للتفضيل يجري مجرى التعجب.

البلاغة :

(كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) استعارة ، استعار الإمام الذين يتقدم الناس في الصلاة لكتاب الأعمال ، لملازمته الإنسان وتقدمه يوم القيامة.

(وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) استعارة تمثيلية ، أي لا ينقصون من ثواب أجورهم ولو بمقدار خيط شق النواة ، وهو مثل للقلة.

(فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) تفصيل بعد إجمال ، بعد ذكر كتاب الأعمال.

المفردات اللغوية :

(يَوْمَ نَدْعُوا) اذكر يوم ندعو ، وهو يوم القيامة. (بِإِمامِهِمْ) بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين ، أو كتاب ، أو دين ، فيقال : يا أتباع فلان ، يا أهل دين كذا ، وكتاب كذا ، وقيل : بكتاب أعمالهم ، فيقال : يا أصحاب كتاب الخير ، ويا أصحاب كتاب الشر ، كقوله تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) [يس ٣٦ / ١٢] (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) أي فمن أوتي منهم كتابه بيمينه ، وهم السعداء أولو البصائر في الدنيا. (فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ) قيل أولئك ؛ لأن من أوتي في معنى الجمع ، وخص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم لشعورهم بالسعادة ، فهم يقرءون كتابهم أحسن قراءة وأبينها ولا يقنعون بقراءتهم وحدهم ، حتى يقول القارئ لأهل المحشر : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [الحاقة ٦٩ / ١٩] وأما أصحاب الشمال فكأنهم لا يقرءون كتابهم ، لعجزهم عن النطق السوي والقول الصحيح ، بسبب ما ينتابهم أمام العقاب من حياء وخجل وانخزال وحبس لسان وتعتعة.

(وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) ولا ينقصون من ثواب أعمالهم أدنى شيء ، كقوله تعالى : (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) [مريم ١٩ / ٦٠] (فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) [طه ١٠ / ١١٢] والفتيل : الخيط المستطيل في شقّ النواة. وهو يضرب به المثل في الشيء الحقير التافة القليل ، ومثله : النقير والقطمير.

١٢٨

(وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) أي ومن كان في الدنيا أعمى فليس المراد بالعمى الحقيقة ، وإنما المجاز هو عمى البصيرة ، فقد أستعير الأعمى لأعمى القلب أو البصيرة عن حجة الله وبيناته ، أو من لا يهتدي إلى طريق النجاة ، وهو دليل على وقوع المجاز في القرآن. (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) أبعد طريقا عنه.

المناسبة :

لما ذكر الله تعالى أنواعا من كرامات الإنسان وأفضاله عليه في الدنيا ، ذكر من أحوال الآخرة وما فيها من تفاوت شديد بين أهل السعادة وأهل الضلال والانحراف عن معالم الهدى الإلهي وأنه تعالى يحاسب كل أمة بإمامهم ، أي بنبيهم فيقال : يا أمة إبراهيم ، يا أمة موسى ، يا أمة عيسى ، يا أمة محمد ؛ أو بكتابهم الذي أنزل على نبيهم ؛ أو بكتبهم التي فيها رصد أعمالهم ، وهو الأرجح.

التفسير والبيان :

اذكر يا محمد ذلك اليوم الذي نحاسب فيه كل أمة بإمامهم أي بكتاب أعمالهم ، وهو القول الأرجح كما ذكر ابن كثير ؛ لقوله تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) [يس ٣٦ / ١٢] وقوله سبحانه : (وَوُضِعَ الْكِتابُ ، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) [الكهف ١٨ / ٤٩] فالكتاب يسمى إماما لأنه يرجع إليه في تعرّف أعمالهم.

ويحتمل أن المراد (بِإِمامِهِمْ) أي بقائدهم الذي يأتمون به ، فأهل الإيمان ائتموا بالأنبياء عليهم‌السلام ، وأهل الكفر ائتموا بأئمتهم ، كما قال تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) [القصص ٢٨ / ٤١]. إلا أن الراجح هو ما ذكر ابن كثير ، بدليل قوله تعالى بعده:

(فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) أي فمن أعطي من هؤلاء المدعوين كتابه بيمينه ، فأولئك يقرءونه بفرح وسرور بما فيه من العمل

١٢٩

الصالح ، كما قال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَيَقُولُ : هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [الحاقة ٦٩ / ١٩].

(وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي ولا ينقصون من ثوابهم أدنى شيء ، والفتيل : هو الخيط المستطيل في شق النواة ، ونحو الآية : (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) [مريم ١٩ / ٦٠] وآية (فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) [طه ٢٠ / ١١٢].

أخرج الترمذي والحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قول الله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) قال : «يدعى أحدهم ، فيعطى كتابه بيمينه ، ويمدّ له في جسمه ، ويبيّض وجهه ، ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤة يتلألأ ، فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد ، فيقولون : اللهم أتنا بهذا ، وبارك لنا في هذا ، فيأتيهم فيقول لهم : أبشروا ، فإن لكل رجل منكم مثل هذا. وأما الكافر فيسودّ وجهه ، ويمدّ له في جسمه ، ويراه أصحابه فيقولون : نعوذ بالله من هذا أو من شر هذا ، اللهم لا تأتنا به ، فيأتيهم فيقولون : اللهم أخزه ، فيقول : أبعدكم الله ، فإن لكل رجل منكم مثل هذا».

وعاقبة الحساب معروفة في الدنيا قبل الآخرة ، فقال سبحانه :

(وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى ، فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) أي ومن كان في الحياة الدنيا أعمى عن حجج الله وبيناته وآياته التي أبانها في الكون ، فهو يكون كذلك أعمى في الآخرة ، لا يجد طريق النجاة ، بل وأضل سبيلا من الأعمى في الدنيا. وليس المراد بالأعمى عمى البصر ، بل المراد منه عمى القلب.

والأعمى مستعار لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة ، أما في الدنيا فلفقد النظر ، وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه.

١٣٠

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيتان إلى ما يلي :

١ ـ الحساب بين الخلائق يوم القيامة يكون مدعما بالوثائق والمستندات ، فكل إنسان يدعى للحساب بكتابه الذي فيه عمله ، كما قال تعالى : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً ، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية ٤٥ / ٢٨].

والدعوة تكون في الآخرة بأسمائهم وأسماء آبائهم ، خلافا لمن قال كمحمد بن كعب أن الدعوة تكون بأسماء أمهاتهم ؛ لأن في ذلك سترا على آبائهم ، بدليل حديث الصحيحين عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ، يرفع لكل غادر لواء ، فيقال : هذه غدرة فلان بن فلان» فقوله : «هذه غدرة فلان بن فلان» دليل على أن الدعوة تكون بأسماء الآباء لا بأسماء الأمهات.

٢ ـ ليس هناك فرحة بعد أهوال الحساب أشد وأغبط للنفس من فرحة تلقي الكتاب

باليمين ؛ لأنه دليل النجاة والفوز والسعادة الأبدية ، فاللهم اجعلنا من أهل اليمين.

٣ ـ إن الأعمى في الدنيا عن الاعتبار وإبصار الحق والاستدلال بآيات الله في الكون الدالة على وجوده ووحدانيته هو في الآخرة أعمى ، وأضل سبيلا ، لا يهتدي إلى طريق النجاة ، ولا يجد طريقا إلى الهداية ، كما قال تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) [طه ٢٠ / ١٢٤] وقال سبحانه : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا ، مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) [الإسراء ١٧ / ٩٧].

١٣١

محاولة المشركين فتنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطرده من مكة

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧))

الإعراب :

(وَإِنْ كادُوا إِنْ) : مخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة ، وكذلك في قوله : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ).

(سُنَّةَ مَنْ قَدْ .. سُنَّةَ) : منصوب على المصدر المؤكد لما قبله ، والتقدير : أهلكناهم إهلاكا مثل سنة من قد أرسلنا قبلك ، أو سن الله ذلك سنة ، فحذف المصدر وصفته ، وأقيم ما أضيفت إليه الصفة مقامه.

البلاغة :

(ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(وَإِنْ كادُوا) قاربوا. (لَيَفْتِنُونَكَ) ليستنزلونك وليخدعونك في ظنهم ، لا أنهم قاربوا ذلك ، إذ هو معصوم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقاربوا فتنته عما أوحى الله إليه. (عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من الأحكام. (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) غير ما أوحينا إليك. (وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) أي لو فعلت ذلك ، واتبعت مرادهم لاتخذوك بافتتانك وليا لهم ، بريئا من ولايتي.

١٣٢

(وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) ولولا تثبيتنا إياك على الحق بالعصمة. (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) لقاربت أن تميل إلى اتباع مرادهم اتباعا قليلا ، لشدة احتيالهم وإلحاحهم ، ولكن أدركتك عصمتنا ، فمنعت أن تقرب من الركون ، فضلا عن أن تركن إليهم. وهو صريح في أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يركن إليهم ولا قارب ولا همّ بإجابتهم ، مع قوة الداعي إليها ، وهو دليل أيضا على أن العصمة بتوفيق الله وحفظه.

(إِذاً لَأَذَقْناكَ) أي لو قاربت لأذقناك. (ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) أي ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة ، أي مثلي ما يعذب غيرك في الدنيا والآخرة. (نَصِيراً) مانعا منه ، يدفع العذاب عنك.

(لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ) ليزعجونك ويثيرونك بمعاداتهم ومكرهم لإخراجك من أرض مكة ، وقال السيوطي : أرض المدينة. قال قتادة : همّ أهل مكة بإخراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكة ، ولو فعلوا ذلك ، ما أمهلوا ، ولكن الله تعالى منعهم من الخروج ، حتى أمره بالخروج (١). (وَإِذاً) لو أخرجوك. (لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ) لا يمكثون أو لا يبقون فيها بعدك أي بعد خروجك. (إِلَّا قَلِيلاً) إلا زمانا قليلا ، ثم يهلكون.

(سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) أي سنتنا بك سنة الرسل قبلك ، أي كسنتنا فيهم من إهلاك من أخرجهم. (تَحْوِيلاً) أي تبديلا وتغييرا.

سبب النزول :

نزول الآية (٧٣):

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) أخرج ابن مردويه وابن أبي حاتم وابن إسحاق وغيرهم عن ابن عباس قال : خرج أمية بن خلف ، وأبو جهل بن هشام ، ورجال من قريش ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالوا : يا محمد ، تعال تمسّح بآلهتنا ، وندخل معك في دينك ، وكان يحب إسلام قومه ، فرقّ لهم ، فأنزل الله : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) إلى قوله: (نَصِيراً).

وأخرج أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن سعيد بن جبير قال : كان

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢١ / ٢٣.

١٣٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستلم الحجر ، فقالوا : لا ندعك تستلم حتى تلمّ بآلهتنا ، فحدّث نفسه وقال : ما عليّ أن ألمّ بها بعد أن يدعوني أستلم الحجر ، والله يعلم ، إني لها كاره ، فأبى الله ذلك ، وأنزل عليه هذه الآية. وأخرج نحوه عن ابن شهاب الزهري.

وقيل : نزلت الآية في ثقيف وقد سألوه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحرّم واديهم ، وألحوا عليه.

نزول الآية (٧٦):

(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ) : أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن عبد الرحمن بن غنم : أن اليهود أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : إن كنت نبيا فالحق بالشام ، فإن الشام أرض الحشر ، وأرض الأنبياء ، فصدّق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قالوا ، فغزا غزوة تبوك يريد الشام ، فلما بلغ تبوك ، أنزل الله آيات من سورة بني إسرائيل ، بعد ما ختمت السورة : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) وأمره بالرجوع إلى المدينة ، وقال له جبريل : سل ربك ، فإن لكل نبي مسألة ، فقال : ما تأمرني أن أسأل قال : قل : (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ، وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ، وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) [الإسراء ١٧ / ٨٠] فهؤلاء نزلن في رجعته من تبوك. قال السيوطي : هذا مرسل ضعيف الإسناد ، وله شاهد من مرسل سعيد بن جبير عند ابن أبي حاتم ، ولفظه : قالت المشركون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كانت الأنبياء تسكن الشام ، فمالك والمدينة؟ فهم أن يشخص ، فنزلت. وله طريق أخرى مرسلة عند ابن جرير : أن بعض اليهود قال له. والمراد أن هذه الروايات يقوي بعضها بعضا ، فتصبح مقبولة ، أي أن هذه الآية نزلت لما قال اليهود للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن كنت نبيا ، فالحق بالشام فإنها أرض الأنبياء. روي أنه لما نزلت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين».

١٣٤

المناسبة :

لما عدّد الله تعالى نعمه على بني آدم ، وذكر حالهم في الآخرة من إيتاء الكتاب باليمين لأهل السعادة ، ومن عمى أهل الشقاوة ، أتبع ذلك بما يهمّ به الأشقياء في الدنيا من المكر والخداع والتلبيس على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيد أهل السعادة ، المقطوع له بالعصمة.

وسبب هذه المساومات والخديعات : رجاؤهم أن يفتري على الله غير ما أوحى الله إليه من تبديل الوعد وعيدا ، وبالعكس ، وما اقترحته ثقيف من أن يضيف إلى الله ما لم ينزل عليه.

التفسير والبيان :

المعنى وإن همّ المشركون وقاربوا بمكائدهم وخداعهم أن يصرفوك عما أوحينا إليك من الشرائع والأحكام من أوامر ونواه ووعد ووعيد ، لتفتري علينا غير الذي أوحيناه إليك ، وتتقول علينا ما لم نقل ، وتخترع غيره وتبدل فيه كما أرادوا من تبديل الوعد وعيدا ، والوعيد وعدا ، وما اقترحته ثقيف من أن تضيف إلى الله ما لم ينزل عليك.

(وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) أي وحينئذ لو اتبعت ما يريدون ، وفعلت ما يطلبون لاتخذوك صديقا لهم ، وأظهروا للناس أنك موافق لهم على ما هم عليه من الشرك ، ولكنت لهم وليا مناصرا ، وخرجت من ولايتي.

(وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) أي ولو لا تثبيتنا لك على الحق وعصمتنا إياك ، لقاربت أن تميل إلى خداعهم ومكرهم ، ميلا وركونا قليلا.

وهذا تهييج من الله لنبيه ، وبيان فضل تثبيته له ، ولطف بالمؤمنين ، أي أنه ربما هادنتهم ، لا لضعف إيمانك ، بل لشدة مبالغتهم في المكر والحيلة

١٣٥

والخداع ، ولكن عنايتنا منعتك من الركون إليهم. وهو تصريح بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يصدر منه همّ بمجاملتهم ومجازاتهم ، بل ولم يقترب من ذلك.

وهو دليل على تأييد الله لرسوله وتثبيته وعصمته وتسليمه من مكائد الكفار ، وأنه تعالى هو المتولي أمره وحافظه وناصره ، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه ، ومظهر دينه على من عاداه وخالفه.

قال قتادة : لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين».

وإمعانا في العصمة والصون توعده الله على ما قد يكون على سبيل الاحتمال والافتراض ، وإن لم يحصل فقال :

(إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) أي لو فعلت ذلك لعاقبناك بعقوبة مضاعفة في الدنيا والآخرة ويكون المراد بالآية ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ؛ لأن ذنب القائد أو العظيم يستحق عقابا أشد وأعظم ، لذا يعاقب العالم القدوة أشد من عقوبة العامي التابع له ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أخرجه مالك وأحمد ومسلم وأصحاب السنن إلا أبا داود عن أبي جحيفة وواثلة بن الأسقع : «من سنّ سنة سيئة ، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة». والضعف : أن يضم إلى الشيء مثله.

وهذا وارد أيضا في عقوبة نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) [الأحزاب ٣٣ / ٣٠].

ومن مكائد أهل مكة محاولة إخراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكة ، كما قال تعالى :

(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) أي ولقد قارب أهل مكة أيضا أن يزعجوك بعداوتهم ومكرهم ، ويخرجوك من أرضهم التي أنت فيها أي أرض مكة.

١٣٦

(وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) أي وإذا أخرجوك لا يبقون بعد إخراجك إلا زمانا قليلا ، فإن الله مهلكهم ، وحدث هذا الوعيد كما قال ، فقد أهلكهم الله ببدر بعد إخراجه بقليل ، وهو ثمانية عشر شهرا بعد الهجرة أو الإخراج.

(سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا ..) أي هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم أن يأتيهم العذاب ، بخروج الرسول من بينهم ، فكل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم ، فسنة الله أن يهلكهم ، ولولا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرحمة المهداة ، لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به ، قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال ٨ / ٣].

(وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) أي لا تغيير لسنة الله ونظامه وعادته ، ولا خلف في وعده.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدتنا الآيات إلى العبر والعظات والأحكام التالية :

١ ـ تعرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنواع شتى من مكائد المشركين في مكة وألوان خداعهم ومساوماتهم ، ومن أخطرها محاولات افتراء تغيير الوحي وتبديله ، وإخراجه وطرده من مكة موطنه الأصلي.

أما محاولة تبديل الوحي وإقرارهم على شيء من قواعد شركهم وجاهليتهم فباءت بالفشل والخيبة ، ولم يتم لهم ما أرادوا ، لا قليلا ولا غيره بتأييد الله وعصمته.

وأما محاولة الإخراج من مكة فتم لهم مرادهم حينما أمره الله بالخروج ، ولكنهم بعدها تعرضوا للقتل في بدر ، وإلى فتح مكة موطنهم ، وإسلام بعض

١٣٧

زعمائهم ، وانتشار الإسلام فيها وفي أنحاء الجزيرة العربية ، فتداعت معاقل الشرك ، وتهدمت حصون الوثنية ، وحل الإسلام محلها.

٢ ـ لا يشكن أحد في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوم ، وأنه لم يهادن الكفر والكفار والشرك والمشركين ، بل ولم يهمّ في ذلك ، وإنما كانت الآيات تهييجا له ، وتهديدا على مجرد الاحتمال والافتراض.

فقوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) يدل على قرب وقوعه في الفتنة ، لا على الوقوع في تلك الفتنة ، فلو قلنا : كاد الأمير أن يضرب فلانا ، لا يفهم منه أنه ضربه.

وقوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) لا يدل على قرب ركونه إلى دينهم والميل إلى مذهبهم ؛ لأن كلمة لو لا تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره ، تقول : لولا علي لهلك عمر ، معناه أن وجود علي منع من حصول الهلاك لعمر ، فكذلك معنى الآية : أنه حصل تثبيت الله تعالى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان حصول ذلك التثبيت مانعا من حصول ذلك الركون.

والوعيد الشديد في قوله تعالى : (إِذاً لَأَذَقْناكَ ..) لا يدل على سبق وجود جرم وجناية ؛ لأن التهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها ، كما في آيات أخرى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) [الحاقة ٦٩ / ٤٤ ـ ٤٦]. (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر ٣٩ / ٦٥]. (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ ..) [الأحزاب ٣٣ / ٤٨].

٣ ـ احتج أهل السنة بقوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) على أنه لا عصمة عن المعاصي إلا بتوفيق الله تعالى ، فالله عاصمه وناصره ومؤيده ومثبّته.

٤ ـ منع الله أهل مكة من إخراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكة ، ولو فعلوا ذلك

١٣٨

ما أمهلوا ، ولكن الله منعهم من إخراجه ، حتى أمره الله بالخروج ، ثم إنه قل لبثهم بعد خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكة ، حتى قتلوا يوم بدر.

فالأصح الذي عليه المفسرون هو قول قتادة ومجاهد : أن هذه الآية (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ) نزلت في همّ أهل مكة بإخراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو أخرجوه لما أمهلوا ، ولكن الله أمره بالهجرة فخرج ؛ لأن السورة مكية ، ولأن ما قبلها خبر عن أهل مكة. فقوله (مِنَ الْأَرْضِ) يريد أرض مكة ، وقوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) [محمد ٤٧ / ١٣] يعني مكة ، ومعناه : همّ أهلها بإخراجه.

٥ ـ سنة الله الثابتة الدائمة تعذيب كل قوم أخرجوا رسولهم من بلده ، فإذا أخرجوه أهلكوا ودمّروا.

أوامر وتوجيهات وتعليمات للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥))

١٣٩

الإعراب :

(لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) اللام لام الوقت والأجل ؛ لأن الوقت سبب الوجوب.

(وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) معطوف منصوب على قوله : (أَقِمِ الصَّلاةَ) أي أقم الصلاة وقرآن الفجر ، أو منصوب بفعل مقدّر ، أي واقرؤوا قرآن الفجر.

(مَقاماً مَحْمُوداً) منصوب على الظرف بإضمار فعله ، أي فيقيمك مقاما ، أو بتضمين يبعثك معناه ، أو حال أي أن يبعثك ذا مقام.

(وَمِنَ اللَّيْلِ) الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره : قم ، و (مِنَ) للتبعيض ، والمعنى قم بعض الليل.

البلاغة :

(وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) مجاز مرسل من إطلاق الجزء على الكل ، أي قراءة الفجر ، وهي صلاة الفجر ؛ لأن القراءة جزء منها.

(إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) إظهار محل الإضمار لمزيد العناية والاهتمام. بعد قوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ).

(أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) بينهما مقابلة ، وكذا بين (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ).

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) فيه إسناد الخير إلى الله والشر لغيره ، لتعليم الأدب مع الله تعالى.

(مِنَ الْقُرْآنِ مِنَ) : للتبيين أو للتبعيض.

المفردات اللغوية :

(لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) هو زوال الشمس عن منتصف كبد السماء نصف النهار ، وتحولها من جهة المشرق إلى جهة المغرب (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) إقبال ظلمته ، وقدوم سواد الليل وشدة الظلمة ، وهذا يشمل أربع صلوات : الظهر والعصر والمغرب والعشاء (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) صلاة الصبح (كانَ

١٤٠