التفسير المنير - ج ١٥

الدكتور وهبة الزحيلي

من الحكمة ، لذا قال : (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أي أنه تعالى عالم بأن مصلحة كل إنسان في أن لا يعطيه إلا ذلك القدر ، فهو خبير بصير بمن يستحق الغنى ويستحق الفقر ، فالتفاوت في أرزاق العباد ليس لأجل البخل ، بل لأجل رعاية المصالح ، جاء في الحديث الذي ذكره السيوطي في المسانيد (الجامع الكبير): «إن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه ، وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه». وقد يكون الغنى في حق بعض الناس استدراجا ، والفقر عقوبة.

والمقصود بالآية أنه تعالى عرف رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كونه ربا ، والرب : هو الذي يربي المربوب ويقوم بإصلاح مهماته ودفع حاجاته على مقدار الصلاح والصواب ، فيوسع الرزق على البعض ، ويضيقه على البعض.

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم مما ذكر أن الآيات ترشد إلى الأحكام التالية :

١ ـ التوحيد أساس الإيمان ، والإشراك رأس الكفر والضلال.

٢ ـ الإحسان إلى الوالدين فرض لازم واجب ، وقد أمر الله سبحانه بعبادته وتوحيده ، وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك ، كما قرن شكرهما بشكره ، فقال : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وقال : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ).

٣ ـ من البرّ بالأبوين والإحسان إليهما ألا يتعرض لسبّهما ولا لعقوقهما ؛ فإن ذلك من الكبائر بلا خلاف.

٤ ـ عقوق الوالدين : مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما ، كما أن برّهما موافقتهما على أغراضهما ، فتجب طاعتهما في المباح المعروف غير المعصية ، ولا تجب طاعتهما في المعصية.

٦١

روى الترمذي عن ابن عمر قال : كانت تحتي امرأة أحبّها ، وكان أبي يكرهها ، فأمرني أن أطلّقها فأبيت ، فذكرت ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «يا عبد الله بن عمر ، طلّق امرأتك».

٥ ـ لا يختص برّ الوالدين بأن يكونا مسلمين ، بل يجب برهما ولو كانا كافرين ، ويحسن إليهما إذا كان لهما عهد ، قال الله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ) [الممتحنة ٦٠ / ٨].

وفي صحيح البخاري عن أسماء قالت : «قدمت أمّي وهي مشركة في عهد قريش ومدّتهم ، إذ عاهدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع أبيها ، فاستفتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : إن أمي قدمت ، وهي راغبة (١) ، أفأصلها؟ قال : نعم ، صلي أمّك».

٦ ـ من الإحسان إلى الأبوين والبرّ بهما إذا لم يتعين الجهاد ألا يجاهد الولد إلا بإذنهما. روى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستأذنه في الجهاد ، فقال : «أحيّ والداك»؟ قال : نعم ، قال : «ففيهما فجاهد».

أما الوالدان المشركان فكان الثوري يقول : لا يغزو إلا بإذنهما ، وقال الشافعي : له أن يغزو بغير إذنهما.

٧ ـ من تمام برّ الوالدين : صلة أهل ودّهما ، ففي صحيح مسلم عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إن من أبرّ البرّ : صلة الرجل أهل ودّ أبيه ، بعد أن يولّي» وقد ذكر حديث أبي أسيد الساعدي البدري.

٨ ـ هناك رقابة خاصة من الله تعالى على معاملة الأبوين ؛ لقوله سبحانه : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) أي من اعتقاد الرحمة بهما والحنو عليهما ، أو من غير ذلك من العقوق ، أو من جعل ظاهر برهما رياء.

__________________

(١) أي راغبة في بري وصلتي.

٦٢

٩ ـ وكما أمر الله بالإحسان إلى الوالدين ومراعاة حقهما ، أمر أيضا بصلة الرحم ، وبالتصدق على المسكين وابن السبيل.

١٠ ـ يحرّم الإسلام التبذير ، والتبذير كما قال الشافعي رضي‌الله‌عنه : إنفاق المال في غير حقه ، ولا تبذير في عمل الخير. وهذا قول الجمهور. وقال مالك : التبذير : هو أخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه ، وهو الإسراف ، وهو حرام ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) أي أنهم في حكمهم ؛ إذ المبذر ساع في إفساد كالشياطين.

١١ ـ من أنفق ماله في الشهوات زائدا على قدر الحاجات ، وعرّضه بذلك للنفاد فهو مبذر ، ومن أنفق درهما في حرام فهو مبذر ، ويحجر عليه. ومن أنفق ربح ماله في شهواته ، مع المحافظة على أصل رأس المال ، فليس بمبذر.

١٢ ـ الأدب الرفيع هو رد ذوي القربى بلطف ووعدهم وعدا جميلا بالصلة عند اليسر ، والاعتذار إليهم بما هو مقبول وفيه تطييب الخاطر ، ولا يعرض الشخص عنهم إعراض مستهين ، وهو في حال الغنى والقدرة ، فيحرمهم حقهم. لقوله تعالى : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَ) أي إن أعرضت يا محمد عن إعطائهم لضيق يد ، فأحسن القول ، وابسط العذر ، وادع لهم بسعة الرزق ، وقل : إذا وجدت فعلت وأكرمت ، فإن ذلك يعمل في مسرّة نفسه عمل المواساة.

١٣ ـ الإنفاق في الإسلام : هو التوسط والاعتدال من غير بخل ولا إسراف ، ولا تضييع المنفق عياله في المستقبل ، أو ألا يبقى من يأتي بعد ذلك لا شيء له ، فإن الإسراف وإتلاف المال بغير حق يوقع المسرف في الحسرة والندامة والملامة. والملوم : الذي يلام على إتلاف ماله ، أو يلومه من لا يعطيه.

١٤ ـ إن الله أعلم بمصالح عباده وبأحوالهم ، فيرزق من يشاء ، ويمنع من يشاء على وفق الحكمة والمصلحة.

٦٣

أصول أخرى

لنظام المجتمع الإسلامي

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩))

الإعراب :

(وَساءَ سَبِيلاً) نصب على التمييز ، التقدير : وساء سبيله سبيلا ، أي لأنه يؤدي إلى النار.

(إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) الهاء إما أن تعود على القتل أو على المقتول أو على الولي.

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) منصوب على المصدر ، ومن قرأ : (مَرَحاً) بكسر الراء كان منصوبا على الحال.

٦٤

(وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) منصوب على المصدر في موضع الحال من الجبال أو من الفاعل.

(كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً كُلُ) : مبتدا ، و (ذلِكَ) : إشارة إلى المذكور المتقدم من قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ) إلى هذا الموضع. و (سَيِّئُهُ) : اسم (كانَ) ، و (مَكْرُوهاً) : خبر (كانَ). و (عِنْدَ رَبِّكَ) ظرف حشو ، أو أنه خبر (كانَ) أي كائنا عند ربك مكروها ، و (مَكْرُوهاً) : حال من المضمر في الظرف. ومن قرأ : (سَيِّئُهُ) بالتنوين ، جعل اسم (كانَ) ضميرا يعود إلى (كُلُ) و (سَيِّئُهُ) : خبرها ، و (مَكْرُوهاً) : صفة ثانية. وقال : مكروها لا مكروهة ؛ لأن تأنيث السيئة مجازي غير حقيقي ، أو أنه خبر آخر لكان ، وذكّره لأن ضمير (كُلُ) مذكر ، ويكون (عِنْدَ رَبِّكَ) متعلقا بقوله : (مَكْرُوهاً).

البلاغة :

(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) أبلغ من القول : لا تأتوه ، أو لا تزنوا.

(كُلُّ أُولئِكَ) عبر عن السمع والبصر والفؤاد بأولئك ؛ لأنها حواس لها إدراك ، وجعلها مسئولة ، فهي حالة من يعقل ، فعبر عنها بأولئك.

المفردات اللغوية :

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ) بالوأد (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) خوف الفقر (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) قدّم هنا رزق الأبناء على رزق الآباء ؛ لأن قتل الأولاد كان خشية وقوع الفقر بسببهم ، فقدم رزقهم ، وفي سورة الأنعام (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) [١٥١] قدم رزق الآباء على رزق الأولاد ، لأن قتلهم كان بسبب فقر الآباء (خِطْأً) إثما (كَبِيراً) عظيما.

(فاحِشَةً) فعلة قبيحة ظاهرة القبح (وَساءَ سَبِيلاً) بئس طريقا هو ، لأنه اعتداء على الأعراض ، وغصب الأبضاع المؤدي إلى اختلاط الأنساب وقطعها ، وتهييج الفتن (لِوَلِيِّهِ) لوارثه (سُلْطاناً) تسلطا على القاتل بمؤاخذته على القتل ، بإشراف الحاكم وحكمه ، أو بالقصاص من القاتل ، فإن قوله تعالى : (مَظْلُوماً) يدل على أن القتل قتل عمد عدوان ؛ لأن الخطأ لا يسمى ظلما (فَلا يُسْرِفْ) يتجاوز الحد المشروع (فِي الْقَتْلِ) بأن يقتل غير القاتل ، أو بغير ما قتل به ، أو أكثر من شخص ، منعا لعادة الأخذ بالثأر في الجاهلية.

(بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي الطريق التي هي أحسن (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) عهد الله أي تكاليفه ، أو عهد الناس الذي تبرمونه معهم إبراما موثقا مؤكدا (مَسْؤُلاً) عنه ، ومطلوبا من المعاهد ألا يضيعه ويفي به (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ) أتموه (بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) الميزان السوي أو العدل

٦٥

(تَأْوِيلاً) مآلا أو عاقبة (وَلا تَقْفُ) لا تتبع ما لا تعلم (وَالْفُؤادَ) القلب (مَسْؤُلاً) صاحبه : ماذا فعل به؟ فكل هذه الأعضاء يسأل صاحبها عما فعل بها ، وأجراها مجرى العقلاء ، لما كانت مسئولة عن أحوالها ، شاهدة على صاحبها.

(مَرَحاً) فخرا وتكبرا ، أو ذا مرح بالكبر والخيلاء (لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) تثقبها حتى تبلغ آخرها بكبرك أو لن تجعل فيها طرقا بشدة ووطأتك (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) أي لا تبلغ هذا المبلغ ، فكيف تختال؟! (كُلُّ ذلِكَ) المذكور من قوله : (وَقَضى رَبُّكَ) إلى هذا الموضع (مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ) يا محمد (مِنَ الْحِكْمَةِ) هي معرفة الحق سبحانه لذاته ، والخير والموعظة للعمل بهما. (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) كرره للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه ، فإن من لا قصد له لا يقبل عمله ، ومن قصد بفعله أو تركه غير التوحيد ، ضاع سعيه ، وأنه ـ أي التوحيد ـ رأس الحكمة وملاكها (مَلُوماً) تلام نفسك (مَدْحُوراً) مطرودا من رحمة الله. ثم رتب على الشرك نتيجته في الآخرة ، وهو الإلقاء في جهنم.

المناسبة :

بعد أن أمر الله تعالى بخمسة أشياء أولا هي (التوحيد ، والاشتغال بعبادة الله بإخلاص والاحتراز عن عبادة غير الله ، والإحسان إلى الوالدين والتواضع لهما ، وإيتاء ذوي القربى والمساكين وأبناء السبيل ، والقول الميسور) ثم ذكر أدب الإنفاق وهو التوسط دون إسراف ولا تقتير ، أتبعه بالنهي عن ثلاثة أشياء وهي (النهي عن الزنى ، وعن القتل إلا بالحق ، وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن).

ثم أتبعه بأوامر ثلاثة : هي الوفاء بالعهد ، وإيفاء الكيل ، ووزن الميزان بالقسط أو العدل. ثم نهى عن ثلاثة أشياء : اتباع ما لا علم له به ، والتكبر والخيلاء ، واتخاذ الشركاء آلهة مع الله.

والخلاصة : أنه تعالى جمع في هذه الآيات وما قبلها خمسة وعشرين نوعا من التكاليف وهي ما يأتي ، مبتدئا بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك ، مختتما به

٦٦

أيضا ، للتنبيه على أن أول كل عمل وقول وفكر وذكر يجب أن يكون ذكر التوحيد (١) :

١ ـ نبذ الشرك : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ).

٢ ، ٣ ـ الأمر بعبادة الله ، والنهي عن عبادة غير الله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ).

٤ ـ الإحسان إلى الوالدين : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً).

٥ ، ٩ ـ نواحي الإحسان للوالدين وهي خمسة : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ، وَلا تَنْهَرْهُما ، وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ، وَقُلْ : رَبِّ ارْحَمْهُما).

١٠ ، ١٢ ـ إيتاء المستضعفين الثلاثة : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ).

١٣ ـ عدم التبذير : (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً).

١٤ ـ القول الميسور : (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً).

١٥ ـ عدم البخل والتقتير : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ).

١٦ ـ تحريم وأد البنات أو قتل الأولاد : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ).

١٧ ـ تحريم القتل إلا بالحق : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ).

١٨ ـ حق الولي في القصاص : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً).

١٩ ـ تحريم الإسراف في القصاص : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٠ / ٢١٣

٦٧

٢٠ ـ الوفاء بالعهد : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ).

٢١ ـ إيفاء الكيل : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ).

٢٢ ـ الوزن بالعدل : (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ).

٢٣ ـ عدم اتباع الظن : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).

٢٤ ـ تحريم التكبر والخيلاء : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً).

٢٥ ـ تحريم الشرك : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ).

التفسير والبيان :

هذا هو النوع الخامس من الطاعات المذكورة في هذه الآيات التي تبين دعائم المجتمع الإسلامي (١) ، وهو تحريم وأد البنات ، فبعد أن بيّن تعالى كيفية البر بالوالدين ، بيّن كيفية البر بالأولاد.

والمعنى : ولا تقتلوا بناتكم خوف الفقر أو العار ، فنحن نرزقهم لا أنتم ، ونرزقكم أيضا ، إن قتلهم خوف الفقر أو العار كان إثما وذنبا عظيما ، وخطأ جسيما. وقدم الإخبار برزق الأولاد هنا ؛ لأنه خاطب الموسرين منهم وذكر الاهتمام برزقهم ، وقدم الإخبار برزق الآباء في سورة الأنعام (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) [١٥١] لأنه خاطب الفقراء ، ونهاهم عن قتلهم من فقر ، فالأرزاق للآباء والأولاد بيد الله ، وقتل الأولاد خوف الفقر من سوء الظن بالله ، وإن كان خوف العار ، والغيرة على البنات ، فهو سعي في تخريب العالم.

والآية دالة على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده ؛ لأنه نهى عن قتل الأولاد ، كما أوصى الآباء بالأولاد في الميراث. وكان أهل الجاهلية لا يورثون

__________________

(١) والأنواع الأربعة السابقة : هي الأمر بالتوحيد ، والاشتغال بعبادة الله تعالى دون غيره ، والأمر ببر الوالدين ، وإيتاء القريب والمسكين وابن السبيل حقه دون بخل ولا تبذير. وحق الوالدين خمسة أشياء : عدم التأفيف ، وعدم الانتهار بكلام زاجر ، والقول الكريم الطيب ، والمبالغة في التواضع ، والدعاء لهما بالرحمة.

٦٨

البنات دائما ، ويقتلون البنات أحيانا بوأدهن أحياء في التراب ؛ لعجزهن عن الكسب ، وقدرة البنين عليه بالغارة والنهب والسلب ، وأيضا كانوا يخافون من أن فقر البنات ينفر الأكفاء عن الرغبة فيهن ، فيحتاجون إلى تزويجهن من غير الأكفاء.

جاء في الصحيحين عن ابن مسعود : «قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم؟ قال : أن تجعل لله ندّا وهو خلقك ، قلت : ثم أي؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ، قلت : ثم أي؟ قال : أن تزاني حليلة جارك».

النوع السادس ـ تحريم الزنى : وبعد أن أمر الله تعالى بالأشياء الخمسة المتقدمة ، أتبعه بالنهي عن ثلاثة أشياء هي الزنى والقتل وأكل مال اليتيم ، وبدأ بتحريم الزنى ، لأنه نوع من الإسراف ، عقب النهي عن قتل الأولاد الذي هو مظهر من مظاهر البخل ، فقال سبحانه : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ، إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) أي لا تقتربوا من الزنى ، ولا من أسبابه ودواعيه ؛ لأن تعاطي الأسباب مؤد إليه ، والزنى فعلة فاحشة شديدة القبح ، وذنب عظيم ، وساء طريقا ومسلكا ؛ لأن فيه هتك الأعراض ، واختلاط الأنساب ، واقتحام الحرمات ، والاعتداء على حقوق الآخرين ، وتقويض دعائم المجتمع بهدم الأسرة ، ونشر الفوضى ، وفتح باب الاضطراب ، وانتشار الأمراض الفتاكة ، والوقوع في الفقر والذل والهوان. قال القفال : إذا قيل للإنسان : لا تقرب هذا ، فهذا آكد من أن يقول له : لا تفعله ، ثم إنه تعالى علل هذا النهي بكونه (فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً).

أخرج ابن أبي الدنيا عن الهيثم بن مالك الطائي مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له».

٦٩

وقد علّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث أخرجه أحمد فتى شابا درسا بليغا واقعيا في أن الزنى كما هو مبغوض مكروه في أمهات الإنسان وبناته وأخواته وعماته وخالاته ، فكذلك هو مبغوض لا يحبه الناس لأمهاتهم وبناتهم وأخواتهم وعماتهم وخالاتهم ، ثم وضع يده عليه ، وقال: «اللهم اغفر ذنبه ، وطهر قلبه ، وأحصن فرجه» فلم يكن ذلك الفتى بعد يلتفت إلى شيء.

أما بلاد الشرق والغرب التي تبيح الزنى ولو علانية ، فإنها لا تهتم باختلاط الأنساب ، ولا بما يسمى بالعرض ، فقد رفع هذا من القيم الأخلاقية عندهم ، وجعلوا الاستمتاع بالمرأة كالطعام والشراب ، وهذا نذير سوء ، وقلب للأوضاع ، ونكسة في الفطرة الإنسانية.

وقد وصف الله تعالى الزنى بصفات ثلاث : كونه فاحشة ، ومقتا في آية أخرى ، وساء سبيلا. أما كونه فاحشة : فلاشتماله على فساد الأنساب الموجبة لخراب العالم ، ولاشتماله على التقاتل والتواثب على الفروج ، وهو أيضا يوجب خراب العالم. وأما المقت : فلأن الزانية تصير ممقوتة مكروهة ، حتى في الأوساط المتحللة ، وذلك يوجب عدم السكن والازدواج ، وأن لا يعتمد الإنسان عليها في شيء من مهماته ومصالحه. وأما أنه ساء سبيلا : فلأنه لا يبقى فرق بين الإنسان وبين البهائم في عدم اختصاص الذكور بالإناث ، وأيضايبقى ذل هذا العمل وعيبه وعاره على المرأة ، من غير أن يصير مجبورا بشيء من المنافع(١).

النوع السابع ـ تحريم القتل : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ ...) هذا هو ثاني الأمور المنهي عنها ، وسابع أحكام المجتمع ، وناسب ذكره بعد الزنى ؛ لأن الزنى يؤدي إلى عدم وجود الإنسان ، ويقلل من النسل البشري ، أما القتل فيهدم وجود الإنسان ، وهو إعدام الناس بعد وجودهم ، وهو حرام لكونه اعتداء على خلق

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٠ / ١٩٨ ـ ١٩٩

٧٠

الله ، وهدم له ؛ لأن الإنسان ليس ملكا لنفسه ، إنما هو ملك لخالقه ، وثروة لمجتمعه ودولته ، ولذلك حرّم الانتحار وحرّم قتل النفس إلا بالحق ، فمن قتل نفسه فهو آثم معتد ، ومن قتل غيره فهو أيضا معتد أثيم.

ومعنى الآية : ولا تقتلوا النفس الإنسانية التي حرم الشرع قتلها إلا إذا كان بحق شرعي ، وهو أحد أمور ثلاثة : كفر بعد إيمان (ردة) وزنى بعد إحصان ، وقتل معصوم الدم عمدا ، ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والزاني المحصن ، والتارك لدينه المفارق للجماعة». وثبت في السنن للترمذي والنسائي عن ابن عمرو : «لزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مسلم».

فالقتل بغير حق جريمة عظمي ؛ لأنه إفساد والله تعالى لا يحب الفساد ، وضرر واعتداء ، وإخلال بالأمن ، وإحداث للاضطراب في المجتمع ، وسبيل لانقراض الإنسانية.

وبعد أن استثنى الله تعالى من تحريم القتل حالة القتل بالحق بقوله : (إِلَّا بِالْحَقِ) أثبت الحق في تنفيذ القصاص بإشراف الدولة لولي الدم ، مع تقييده بحصر القتل في القاتل نفسه دون غيره ، فقال : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً ..) أي ومن قتل ظلما وعدوانا بغير حق يوجب قتله ، فقد جعلنا لمن يلي أمره من وارث أو سلطان حاكم عند عدم الوارث سلطة على القاتل ومنحه الخيار بأحد أمرين : إما القصاص (القود) منه بعد حكم قضائي وبإشراف القاضي ، وإما العفو عنه على الدية أو مجانا كما ثبت في السنة ، لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) [البقرة ٢ / ١٧٨] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه أبو داود والنسائي عن أبي شريح الخزاعي : «من قتل له قتيل بعد مقالتي هذه ، فأهله بين خيرتين : إما أن يأخذوا العقل ـ الدية ـ أو يقتلوا».

٧١

وهذا السلطان لولي الدم مقيد بألا يسرف في القتل ، أي فلا يسرف الولي في قتل القاتل بأن يمثل به ، أو يقتص من غير القاتل ، كعادة أهل الجاهلية والجاهلين اليوم الذين يقتلون الجماعة في الواحد تشفيا واستعلاء ، قال مهلهل بن أبي ربيعة حين قتل بجير بن الحارث بن عباد : بؤ بشسع نعل كليب أخي ، أي أنت تساوي نعل كليب ، ولا يكفيني في كليب إلا قتل آل مرّة جميعا.

لا تسرف أيها الولي في استيفاء القتل ، فإنك معان منصور على القاتل شرعا وقدرا ، حيث وجب لك القصاص ، ويعوضك الله خيرا في الدنيا والآخرة ، بتكفير الخطايا ، وتعذيب القاتل في النار.

والمقصود بذلك : أن الأولى ألا يقدم ولي الدم على استيفاء القتل ، وأن يكتفي بأخذ الدية ، أو يعفو مجانا ؛ لقوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) [البقرة ٢ / ١٧٨] وقوله سبحانه : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة ٢ / ٢٣٧].

النوع الثامن ـ تحريم أكل مال اليتيم :

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ ..) بعد أن حرم الله تعالى إتلاف الأنفس حرم إتلاف الأموال ، والمعنى لا تتصرفوا في مال اليتيم ولا تقربوا منه أكلا وإتلافا إلا بما يحقق الفائدة أو المصلحة الظاهرة لليتيم ، وهي الطريقة الحسنى بحفظ ماله وتثميره حتى يبلغ رشيدا ، ويبلغ أشده مبلغ الرجال ، ويكتمل عقله ، فالمراد بالأشد : بلوغه إلى سن يتمكن فيه بسبب عقله ورشده القيام بمصالح ماله ، وعند الرشد تزول ولاية غيره عنه ، وهو حد البلوغ رشيدا. فإن بلغ غير عاقل أو غير رشيد ، بقيت الولاية السابقة عليه. وبلوغ العقل : هو أن يكمل عقله وقواه الحسية والحركية.

ونظير الآية : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا ، وَمَنْ كانَ غَنِيًّا

٧٢

فَلْيَسْتَعْفِفْ ، وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء ٤ / ٦]. فيجوز لولي اليتيم إذا كان فقيرا أن يأخذ شيئا من مال اليتيم للحاجة بقدر المعروف.

ولما نزلت آية (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) شق ذلك على الصحابة ، فكانوا لا يخالطون اليتامى في طعام ولا غيره ، مما أدى إلى إهمال شؤون الأيتام ، فأنزل الله تعالى : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ، وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) [البقرة ٢ / ٢٢٠].

النوع التاسع ـ الوفاء بالعهد : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) : بعد أن أمر الله تعالى بخمسة أشياء أولا ، ثم نهى عن ثلاثة أشياء (الزنى ، والقتل إلا بالحق ، وقربان مال اليتيم) أمر بأوامر ثلاثة : أولها ـ الوفاء بالعهد ، والمعنى : وفّوا بالعهد الذي تعاهدون عليه الناس ، وبالعقود التي تعاملونهم بها ، فإن العهد والعقد ، كل منهما يسأل صاحبه عنه ، ونظير الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة ٥ / ١] فالعهد فضيلة وميثاق ، والعقد التزام وارتباط ، والإخلال بالعهد خيانة ونفاق ، والتحلل من العقد إهدار للثقة وتضييع للحقوق ، فيجب شرعا الوفاء بالعهد ، وتنفيذ مقتضى العقد ، فمن أخلف بوعده ، ولم يوف بعهده ، ولم ينفذ التزام عقده ، وقع في الإثم والمعصية ، وأخل بمقتضى الإيمان والدين ، والعهد : أمر عام يشمل كل ما بين الإنسان وبين الله والنفس والناس. والعقد : كل التزام يلتزمه الإنسان ، كعقد اليمين والنذر ، وعقد البيع والشركة والإجارة والصلح والزواج.

وكل عقد لأجل توثيق الأمر وتوكيده ، فهو عهد.

لذا تواردت الآيات الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والعقود ، كقوله تعالى : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) [البقرة ٢ / ١٧٧] وقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٨ ، المعارج ٧٠ / ٣٢] وقوله : (وَأَحَلَّ اللهُ

٧٣

الْبَيْعَ) [البقرة ٢ / ٢٧٥] وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) [النساء ٤ / ٢٩].

والوفاء بالعهد أو بالعقد : تنفيذ مقتضاه ، والحفاظ عليه على الوجه الشرعي ، وعلى وفق التراضي الذي لا يصادم الشرع.

النوع العاشر ـ إيفاء الكيل والوزن بالعدل : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ ، وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ...) هذا هو الأمر الثاني من الأوامر الثلاثة المذكورة في هذه الآية ، وهو إتمام الكيل وإتمام الوزن ، أي أتموا الكيل من غير تطفيف ونقص ، وأتموا الوزن بالعدل دون جور أو حيف ، فإن كلتم لأنفسكم أو وزنتم فلا تزيدوا في الكيل أو الوزن ، ولا مانع إن نقصتم عن حقكم. (ذلِكَ خَيْرٌ ..) أي فإن عاقبة الوفاء بالعهد وإيفاء الكيل والوزن بالعدل خير لكم في الدين والدنيا في معاشكم ومعادكم ، وأحسن مآلا ومنقلبا في آخرتكم ، فلا تؤاخذون أو تعاقبون يوم القيامة ، ويرغب الناس في معاملتكم ، ويثنون عليكم ، ولا تتعرضون لإساءة السمعة ، أو عقاب السلطة ، فقد ثبت بالتجربة أن التاجر الثقة الصدوق هو المحبوب الرابح الذي يقبل عليه الناس ، وأن التاجر الذي يطفف الكيل أو الوزن هو المنبوذ المبغوض الخاسر الذي يعرض الناس عنه.

وقد وردت آيات كثيرة في معنى هذه الآية ، منها (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ ، وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) [الرحمن ٥٥ / ٩] ومنها : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [هود ١١ / ٨٥] ومنها : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ، الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [سورة المطففين ٨٣ / ١ ـ ٣].

وكل من الوفاء بالعقود والعهود وإتمام الكيل والميزان قاعدة حضارية اجتماعية سامية ، وأساس راسخ ضروري في صرح التعامل بين الناس ، يؤدي إلى

٧٤

توفير الثقة والطمأنينة ، ويكون سببا لتنمية العلاقات وزيادة الكسب والأرباح.

النوع الحادي عشر ـ التخمين وسوء الظن : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ..) أي أنه تعالى بعد بيان الأوامر الثلاثة عاد إلى ذكر النواهي ، فنهى عن ثلاثة أشياء :

أولها ـ القول بالحدس والتخمين وسوء الظن ، فهذا عيب في السلوك ، وتشوية للحقائق ، وطعن في الآخرين بغير حق ، وإهدار لقدسية العلم والحقيقة. والمعنى : ولا تتبع ولا تقتف مالا علم لك به من قول أو فعل ، والمقصود النهي عن الحكم على الأشياء بما لا يكون معلوما علما صحيحا ، ولا دليل عليه. وهذا يشمل نهي المشركين عن الاعتقاد الفاسد في القضايا الإلهية والنبوات ، بسبب تقليد أسلافهم ، واتباع الهوى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) [النجم ٥٣ / ٢٣].

ويشمل أيضا شهادة الزور وقول الزور ، والقذف ورمي المحصنين والمحصنات (العفائف) بالأكاذيب ، والكذب والبهتان والافتراء ، والطعن في الآخرين بالظن وتتبع العورات ، وتزييف الحقائق العلمية والأخبار وغير ذلك ، فلا يصح لإنسان أن يقول مالا يعلم ، أو يعمل بما لا علم له به ، أو أن يذم أحدا بما لا يعلم.

وقد شاع هذا الخلق المذموم بين المسلمين ، وصار التحدث بغير علم ولا معرفة ولا ثقة ظاهرة منتشرة بسبب ضعف الدين والإيمان ، وتفسخ الأخلاق ، وانحلال القيم ، واتباع الأهواء ، وضعف النفوس والانغماس في المادة ، وتحلل القيم.

لذا حذر القرآن من تلك الظاهرة المرضية ، فقال تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ ...) أي إن مفاتيح العلوم والمعارف من السمع والبصر وهما واسطة العلوم الحسية والتجريبية ، والفؤاد وبه تتحصل العلوم العقلية ، يسأل عنها صاحبها يوم القيامة ، وتسأل عنه ، فإذا سمع الإنسان ما لا يحل له سماعه ،

٧٥

وأبصر أو نظر إلى ما لا يحل له النظر إليه ، وعزم على مالا يحل العزم عليه ، كان مسئولا عنه ، معاقبا عليه ؛ لأن أدوات المعرفة هذه ينبغي استعمالها في الطاعة لا في المعصية. وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ، إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات ٤٩ / ١٢] وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة : «إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث».

بل إن هذه الأدوات تسأل عن صاحبها بأن يخلق الله فيها الحياة ، ثم تشهد على الإنسان ، بدليل قوله تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النور ٢٤ / ٢٤].

قال ابن عباس : لا تشهد إلا بما رأت عيناك ، وسمعته أذناك ، ووعاه قلبك. وقال قتادة : لا تقل : سمعت ولم تسمع ، ولا رأيت ولم تر ، ولا علمت ولم تعلم.

النوع الثاني عشر ـ تحريم التكبر والخيلاء : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ...) هذا هو الأمر الثاني المنهي عنه هنا ، وهو تحريم الكبر والتجبر والتبختر في المشية ، والمعنى : ولا تمش في الأرض مرحا أي متبخترا متمايلا مشي الجبارين ، فذلك المشي يدل على الكبرياء والعظمة ، إنك لن تخرق الأرض أي تنقبها أو تقطعها بمشيك إذا سرت عليها ، ولن تبلغ الجبال طولا ، أي لن تصل بتطاولك وتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك إلى قمم الجبال ، وهذا تهكم بالمتكبر والمختال.

بل قد يجازى فاعل ذلك بنقيض قصده ، كما ثبت في صحيح مسلم : «بينما رجل يمشي فيمن كان قبلكم ، وعليه بردان يتبختر فيهما ، إذ خسف به الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة» وأخبر الله تعالى عن قارون أنه خرج على

٧٦

قومه في زينته ، فخسف الله به وبداره الأرض. وفي الحديث الحسن الذي رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة من تواضع لله رفعه الله» فهو في نفسه حقير ، وعند الله كبير.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) [الفرقان ٢٥ / ٦٣] وقوله سبحانه : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) [لقمان ٣١ / ١٩].

خاتمة معبرة :

(كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) كل ما تقدم من الخصال القبيحة المفهومة من الأوامر والنواهي ، وهي خمس وعشرون ، من قوله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) إلى هنا ، كان سيئه أي قبيحه مكروها عند ربك ، أي مبغوضا عنده ، ومنهيا عنه ، ومعاقبا عليه ، وإن كان مرادا له تعالى بالإرادة التكوينية التي لا تستدعي الرضا منه سبحانه ، كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن».

وكلمة (ذلِكَ) تصلح للواحد والجمع والمؤنث والمذكر.

(ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) أي ذلك الذي أمرناك به من الأخلاق الحميدة ، ونهيناك عنه من الصفات الرذيلة ، هو مما أوحينا إليك يا محمد من أصول الشريعة والدين ، والحكم به ، لتأمر به الناس ، والمراد بالحكمة : التكاليف المذكورة.

(وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ..) لا تتخذ إلها آخر شريكا مع الله ، فتعاقب بالإلقاء في جهنم ملوما : تلومك نفسك ، ويلومك الله والخلق ، مدحورا ، أي مطرودا مبعدا من رحمة الله تعالى ومن كل خير.

والخطاب في هذه الآية للأمة ، بواسطة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنه معصوم فيكون

٧٧

المراد به : كل من سمع الآية من البشر. وقد بدأ الله تعالى هذه التكاليف بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك ، وختمها بعين هذا المعنى. والمقصود منه التنبيه على أن أول كل عمل وقول وفكر وذكر وآخره يجب أن يكون مبتدئا ومقترنا بالتوحيد ، وأن المقصود من جميع التكاليف هو معرفة التوحيد والتعمق فيه.

أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أنه قال : إن التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل ، ثم تلا : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) الآية. أو إن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه‌السلام ، وأولها : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ)

وقد رتب الله تعالى على الإشراك وترك التوحيد في البداية كون الشخص مخذولا ، وفي آخر الآيات كونه ملوما مدحورا ، فثبت أن أول الأمر يصبر مخذولا ، وآخره أن يصير مدحورا. والمخذول : ترك إعانته وتفويضه إلى نفسه ، والمدحور : إهانته والاستخفاف به.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات الأحكام التالية :

١ ـ تحريم وأد البنات خشية الفقر أو العار أو غير ذلك مطلقا.

٢ ـ تحريم الاقتراب من الزنى ودواعيه وأسبابه التي تؤدي إليه عادة.

٣ ـ تحريم قتل النفس بغير حق شرعي. وللولي الوارث سلطة استيفاء القصاص من القاتل وحده دون غيره ، بغير تمثيل ولا قتل غير القاتل ، فإنه معان عليه بظهور الحجة تارة وباستيفائها أخرى ، وبمجموعها ثالثة ، فأيها كان فهو نصر من الله سبحانه وتعالى.

٧٨

٤ ـ تحريم قربان مال اليتيم إلا بالطريقة الحسنى التي تؤدي إلى الحفاظ عليه وتحقيق مصلحته الظاهرة ، إلى أن يبلغ رشده.

٥ ـ وجوب الوفاء بالعهد فالإنسان مسئول عنه ، قال الزجاج : كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد.

٦ ـ إيفاء الكيل وإتمام الوزن بالحق والعدل دون بخس ولا زيادة ولا نقص ، فذلك خير للإنسان عند ربه وأبرك ، وأحسن عاقبة. قال الحسن البصري : ذكر لنا أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا يقدر رجل على حرام ، ثم يدعه ، ليس لديه إلا مخافة الله تعالى إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك».

٧ ـ عدم اتباع مالا يعلم به الإنسان ولا يعنيه ، قال مجاهد : لا تذمّ أحدا بما ليس لك به علم. لكن يجوز الحكم بالقيافة ؛ لأن الآية (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) دل على جواز مالنا به علم ، فكل ما علمه الإنسان أو غلب على ظنه ، جاز أن يحكم به.

ويجوز أيضا إثبات الشيء بالقرعة ، والخرص (التقدير والتخمين) لأنه نوع من غلبة الظن ، فالقائف يلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما ، كما يلحق الفقيه الفرع بالأصل من طريق الشبه. وقد أقر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العمل بالقيافة في إثبات نسب أسامة وكان أسود ، من زيد بن حارثة وكان أبيض ، ثبت في صحيح مسلم عن عائشة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل عليّ مسرورا ، تبرق أسارير وجهه ، فقال : «ألم تري أن مجززا ـ وكان قائفا ـ نظر إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد ، عليهما قطيفة ، قد غطّيا رؤوسهما ، وبدت أقدامهما ، فقال : «إن بعض هذه الأقدام لمن بعض». واستدل جمهور العلماء على القيافة عند التنازع في الولد بسرور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقول هذا القائف.

٧٩

ولم يأخذ الحنفية بالقيافة متمسكين بإلغاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشبه في حديث اللعان.

٨ ـ يسأل كل واحد من السمع والبصر والفؤاد عما اكتسب ، فالفؤاد يسأل عما افتكر فيه الإنسان واعتقده ، والسمع والبصر عما رأى من ذلك وسمع.

٩ ـ النهي عن الخيلاء وتحريمه ، والأمر بالتواضع والحض عليه. وذكر القرطبي أن إقبال الإنسان على الصيد ونحوه ترفعا دون حاجة إليه داخل في هذه الآية ، وفيه تعذيب الحيوان.

١٠ ـ استدل العلماء بهذه الآية : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) على ذم الرقص وتعاطيه ، قال الإمام أبو الوفاء بن عقيل : قد نص القرآن على النهي عن الرقص ، فقال : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) وذمّ المختال. والرقص أشد المرح والبطر. قال القرطبي : أو لسنا الذين قسنا النبيذ على الخمر لاتفاقهما في الإطراب والسكر ، فما بالنا لا نقيس القضيب وتلحين الشّعر معه على الطّنبور والمزمار والطبل لاجتماعهما (١).

١١ ـ هذه الآداب والقصص والأحكام التي تضمنتها الآيات المتقدمة التي نزل بها جبريل تقتضيها حكمة الله عزوجل في عباده ، وخلقها لهم من محاسن الأخلاق والحكمة وقوانين المعاني المحكمة والأفعال الفاضلة.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٠ / ٢٦٣

٨٠