التفسير المنير - ج ١٥

الدكتور وهبة الزحيلي

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سلّاه تعالى وذكّره بما جرى لموسى مع فرعون ، وقومه من قولهم : أرنا الله جهرة ، وقول قريش : أو تأتي بالله ، أو نرى ربنا ، وأنه أنزل آيات تسعا على موسى مثلما اقترحوا ، فلم تفد تلك الآيات فرعون وقومه بالإقبال على ساحة الإيمان ، ويكفيكم ما أنزل على محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من آيات علمية غير مادية ، فإن لم يؤمنوا ، كانت عاقبتكم الدمار والهلاك ، كما أهلك فرعون وقومه بالغرق.

وبعد أن ذكر تعالى إعجاز القرآن بقوله : (قُلْ : لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) [الإسراء ١٧ / ٨٨] عاد إلى بيان صفة نزول القرآن منجما ، وأنه حق ثابت لا يزول. وهكذا طريقة كلام العرب وأسلوبها ، تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى شيء آخر ثم إلى آخر ، ثم تعود إلى ما ذكرته أولا (١). وهدد تعالى من لم يؤمن به ، وأنه قد آمن به علماء أهل الكتاب.

التفسير والبيان :

أجاب الله تعالى المشركين في هذه الآيات عن قولهم : لن نؤمن لك حتى تأتينا بهذه المعجزات القاهرة ، فقال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) أي لقد أمددنا موسى عليه‌السلام وأعطيناه تسع آيات بيّنات ، وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه ، فيما أخبر به ، حين أرسله إلى فرعون وقومه ، فلم يؤمنوا بها ، كما قال تعالى : (فَاسْتَكْبَرُوا ، وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) قال موسى لفرعون : لقد علمت علم اليقين أن هذه الآيات التسع ما أنزلها خالق [النمل ٢٧ / ١٤].

والآيات التسع هي كما ذكر ابن عباس فيما رواه عنه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر : «العصا ، واليد ، والسنين ، والبحر ، والطوفان ، والجراد ، والقمّل ، والضفادع ، والدم آيات مفصلات».

__________________

(١) البحر المحيط : ٦ / ٨٧.

١٨١

لكن تخصيص التسع بالذكر لا يمنع ثبوت الزائد عليها ؛ لأن القاعدة في أصول الفقه : أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد.

وقد ذكر القرآن المجيد ست عشرة معجزة لموسى عليه‌السلام ذكرها الرازي (١) وهي : إزالة العقدة من لسانه ؛ أي إذهاب العجمة وصيرورته فصيحا ، وانقلاب العصا حية ، وتلقف الحية حبالهم وعصيهم على كثرتها ، واليد البيضاء ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، وشق البحر : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) [البقرة ٢ / ٥٠] والحجر : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) [الأعراف ٧ / ١٦٠] وإضلال الجبل : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) [الأعراف ٧ / ١٧١] وإنزال المن والسلوى عليه وعلى قومه ، والجدب ، ونقص الثمرات : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ ، وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) [الأعراف ٧ / ١٣٠] والطمس على أموالهم من النحل والدقيق والأطعمة والنقود.

وقال الرازي (٢) بعد أن ذكر أن الروايات ظنية غير يقينية في بيان الآيات التسع : أجود الروايات في تفسير قوله تعالى : (تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) ما روى صفوان بن عسّال المرادي أنه قال : إن يهوديا قال لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله عن تسع آيات ، فذهبا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسألاه عنها ، فقال : «هن ألا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا ، ولا تسحروا ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تقذفوا المحصنة ، ولا تولوا الفرار يوم الزحف ، وعليكم خاصة اليهود أن تعدلوا في السبت ، فقام اليهوديان ، فقبّلا يديه ورجليه ، وقالوا : نشهد إنك نبي ، ولولا نخاف القتل ، وإلا اتبعناك» (٣). فالمراد بالآيات : الأحكام.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢١ / ٦٤.

(٢) المرجع السابق.

(٣) أخرجه أحمد والترمذي والبيهقي والطبراني والنسائي وابن ماجه.

١٨٢

(فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي فاسأل أيها النبي بني إسرائيل المعاصرين لك كعبد الله بن سلام وصحبه سؤال تأكد واستيثاق واطمئنان ، لتعلم ثبوت ذلك في كتابهم.

(إِذْ جاءَهُمْ ، فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ : إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) أي فاسألهم حين جاءهم موسى بتلك الآيات ، وبلغها فرعون ، فقال فرعون : إني لأظنك يا موسى أن الناس سحروك وخبلوك ، فصرت مختلط العقل.

(قالَ : لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) أي قال موسى لفرعون : لقد علمت علم اليقين أن هذه الآيات التسع ما أنزلها خالق الأرض والسموات إلا حججا وأدلة على صدق ما جئتك به ، فهي تهدي الإنسان إلى الطريق الحق ، وأنها من عند الله لا من عند غيره.

(وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) أي مغلوبا هالكا مصروفا عن الخير ، ميالا إلى الشر.

(فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي فأراد فرعون أن يخرج موسى وقومه بني إسرائيل من أرض مصر بالقتل ، أو بالطرد.

(فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) أي فأهلكناه وجنوده جميعا بالإغراق في البحر.

(وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ : اسْكُنُوا الْأَرْضَ) أي ونجينا موسى وقومه بني إسرائيل ، وقلنا لهم بعد هلاك فرعون : اسكنوا الأرض التي أراد فرعون إخراجكم منها وهي أرض مصر ، أو أرض الشام التي وعدتم بها.

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) أي فإذا جاء يوم القيامة جئنا بكم أنتم وعدوكم جميعا ، مختلطين أنتم وهم ، ثم نحكم بينكم وبينهم. واللفيف : الجمع

١٨٣

العظيم من أخلاط شتى من الشريف والدني ، والمطيع والعاصي ، والقوي والضعيف.

وبعد أن ردّ الله تعالى على الكفار بأنه لا حاجة للمعجزات ؛ لأن قوم موسى آتاهم الله تسع آيات بينات ، فلما جحدوا بها أهلكهم الله ، ولأنه لو جاءهم بتلك المعجزات التي اقترحوها ثم كفروا بها ، لأنزل بهم عذاب الاستئصال ، فاقتضت الحكمة عدم تلبية مطالبهم لعلمه تعالى أن منهم من يؤمن ، ومنهم من لا يؤمن ... بعد هذا عاد الله تعالى إلى تذكيرهم بالمعجزة الخالدة وهي القرآن ، وإلى تعظيم شأنه ، والاكتفاء به ، فقال :

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ...) أي إننا أنزلنا القرآن متضمنا للحق من تبيان براهين الوحدانية والوجود ، وحاجة الناس إلى الرسل ، والأمر بالعدل ومكارم الأخلاق ، والنهي عن الظلم وقبائح الأفعال والأقوال ، والأحكام التشريعية والأوامر والنواهي المنظمة لحياة الفرد والجماعة والدولة وغير ذلك من أصول التشريع الرفيع.

ونزل إليك يا محمد هذا القرآن محفوظا محروسا ، لم يختلط بغيره ، ولم يطرأ عليه زيادة فيه ولا نقص منه ، بل وصل إليك مع الحق وهو جبريل عليه‌السلام ، الشديد القوي ، الأمين المكين المطاع في الملأ الأعلى.

وبعد بيان خواص القرآن أبان تعالى مهام النبي عليه الصلاة والسلام ، فقال : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي وما أرسلناك يا محمد إلا مبشرا لمن أطاعك من المؤمنين بالجنة ، ونذيرا لمن عصاك من الكافرين بالنار.

ثم عاد إلى بيان كيفية نزول القرآن منجما ، أي مقسطا بحسب الوقائع والمناسبات ، فقال تعالى :

١٨٤

(وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ، وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) أي وأنزلنا قرآنا مفرقا منجما في مدى ثلاث وعشرين سنة ، فلم ينزل في يومين أو ثلاثة ، وإنما أنزلناه بحسب الوقائع والحوادث وعلى ما تقتضيه الحكمة والمصلحة العامة النافعة في الدنيا والآخرة على وفق المناسبات ، وقد ابتدأ نزوله في ليلة مباركة هي ليلة القدر في رمضان ، وقرئ (فَرَقْناهُ) بالتشديد ، أي أنزلناه آية آية مبينا مفسرا.

وذلك لتبلغه للناس وتتلوه عليهم على مهل ، ونزلناه تنزيلا أي شيئا بعد شيء ، على الحد المذكور والصفة المذكورة. وفائدة قوله : (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) بعد قوله (فَرَقْناهُ) بيان كون التنزيل على حسب الحوادث.

ثم هددهم الله محتقرا لهم غير مبال بشأنهم بقوله : (قُلْ : آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) أي قل يا محمد لهؤلاء الكافرين الذين لم يقتنعوا بكون القرآن معجزة كافية ، وقالوا لك : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء ١٧ / ٩٠] آمنوا بهذا القرآن أو لا تؤمنوا به ، فهو حق في نفسه أنزله الله ، وكتاب خالد إلى أبد الدهر.

(إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ...) أي إن علماء أهل الكتاب الصالحين الذين تمسكوا بكتابهم ولم يبدلوه ولم يحرفوه ، إذا يتلى عليهم هذا القرآن يسجدون على وجوههم تعظيما لله عزوجل ، وشكرا على ما أنعم به عليهم ، وعبر عن السجود بقوله (لِلْأَذْقانِ) لأن الإنسان كلما ابتدأ بالخرور والإقبال على السجود فأقرب الأشياء من الجبهة إلى الأرض : الذقن ، أو هو كناية عن المبالغة في الخضوع والخشوع والخوف من الله تعالى.

ويقولون في سجودهم : (سُبْحانَ رَبِّنا ...) أي تنزيها لله تعالى وتعظيما وتوقيرا على قدرته التامة ، وأنه لا يخلف الميعاد ، لذا قال : (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا

١٨٥

لَمَفْعُولاً) أي منجزا واقعا آتيا لا محالة.

وهؤلاء كما قال مجاهد : ناس من أهل الكتاب ، حين سمعوا ما أنزل على محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرّوا سجدا ، منهم زيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل ، وعبد الله بن سلام.

وهذا السجود من هؤلاء تعريض بأهل الجاهلية والشرك ، فإنهم إن لم يؤمنوا بالقرآن ، فإن خيرا منهم وأفضل علماء أهل الكتاب الذين قرءوا الكتب ، وعلموا ما الوحي ، وما الشرائع ، فآمنوا وصدقوا به ، وثبت لديهم أنه النبي الموعود به في كتبهم ، فإذا تلي عليهم خروا سجدا لله ، تعظيما لأمره ، ولإنجاز ما وعد في الكتب المنزلة ، وبشر به من بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنزال القرآن عليه ، وهو المراد بالوعد في الآية : (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) أي بإنزال القرآن وبعثة محمد.

وصفة سجودهم ما قال تعالى : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) أي ويخرون ساجدين باكين خاشعين خاضعين لله عزوجل من خشية الله ، وإيمانا وتصديقا بكتابه ورسوله.

ويزيدهم السجود خشوعا ، أي إيمانا وتسليما ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً ، وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد ٤٧ / ١٧].

وقد امتدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البكاء في أحاديث كثيرة منها : ما رواه الترمذي عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «عينان لا تمسّهما النار : عين بكت من خشية الله تعالى ، وعين باتت تحرس في سبيل الله تعالى».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى التالي :

١ ـ أيد الله نبيه موسى عليه‌السلام بمعجزات أو آيات تسع ، كما ذكرت الآية

١٨٦

هنا ، وهي بدلالة آيات أخرى ست عشرة معجزة ، كما بينا في التفسير ، واخترنا ما اختاره الرازي وغيره أنها آيات الكتاب والأحكام.

ولم تكن الإحالة بالسؤال إلى بني إسرائيل عن هذه الآيات إلا من قبيل الاستفهام والإلزام ، ليعرف اليهود صحة ما يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبالرغم من دعم موسى بهذه الآيات ، فلم يؤمن فرعون برسالته ، وإنما قال له : (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) أي ساحرا بغرائب أفعالك ، أو مسحورا من غيرك مختلط العقل مخبولا. والظن هنا على حقيقته المفيد رجحان الوقوع.

٢ ـ لم يجد موسى جوابا لفرعون إلا الاعتصام بربه ، وإعلانه أن هذه الآيات منزلة من رب السماء والأرض بصائر ، أي دلالات يستدل بها على قدرته ووحدانيته وتصديقه موسى في نبوته ، وقال له : (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) والظن هنا بمعنى التحقيق والتيقن ، والثبور: الهلاك والخسران.

٣ ـ لم يجد الطاغية فرعون غير استخدام السلطة والقوة ، وصمم على إخراج موسى وبني إسرائيل إما بالقتل أو بالإبعاد ، فأهلكه الله عزوجل ، وأسكن بني إسرائيل من بعد إغراقه أرض الشام ومصر. ثم يأتي الله بالجميع يوم القيامة من قبورهم مختلطين من كل موضع ، قد اختلط المؤمن بالكافر دون تمييز ولا تحيز ، ويحاسب كل امرئ على ما قدم.

٤ ـ أنزل الله القرآن متضمنا الحق والعدل والشريعة والحكم الأمثل ، والجمع بين الإنزالين لمعنيين ، فقوله : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) أي أوجبنا إنزاله بالحق ، وقوله : (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي ونزل وفيه الحق ، أو أن الأول معناه : مع الحق ، والثاني بالحق أي بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي نزل عليه.

١٨٧

٥ ـ كان إنزال القرآن منجما مقسطا على حسب الوقائع والمناسبات في مدى ثلاث وعشرين سنة ، ليتمكن الناس من قراءته على مهل وتدبر وإمعان ، وليعملوا به تفصيلا ، فإنهم لو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا.

٦ ـ هدد الله تعالى مشركي قريش وأبدى إعراضه عنهم ، لا على وجه التخيير قائلا لهم: (قُلْ : آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) فإن العلماء السابقين من أهل الكتاب وهم مؤمنوا أهل الكتاب آمنوا به عن يقين ، ولم يتمالكوا أنفسهم عند سماعه إلا السجود لله خاضعين خاشعين باكين من خشية الله ، قائلين : (سُبْحانَ رَبِّنا ، إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) أي منجزا بإنزال القرآن وبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٧ ـ قوله (يَبْكُونَ) دليل على جواز البكاء في الصلاة من خوف الله تعالى ، أو على معصيته في دين الله ، وأن البكاء لا يقطعها ولا يضرها. وقيد ذلك بعض الفقهاء بألا يكون مقرونا بصوت وكلام.

أما الأنين فلا يقطع الصلاة للمريض ، ويكره للصحيح في رأي مالك. وكذلك التنحنح والنفخ لا يقطع الصلاة عند مالك. وقال الشافعي : إن كان له حروف تسمع وتفهم يقطع الصلاة. وقال أبو حنيفة : إن كان من خوف الله لم يقطع ، وإن كان من وجع قطع.

دعاء الله بالأسماء الحسنى

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١))

١٨٨

الإعراب :

(أَيًّا ما تَدْعُوا أَيًّا) : شرطية ، منصوب بتدعوا ، والتنوين في (أَيًّا) عوض عن المضاف إليه ، و (ما) : زائدة للتأكيد ، و (تَدْعُوا) : مجزوم بأي ، وفاء (فَلَهُ) جواب الشرط ، وقوله (ادْعُوا) يتعدى إلى مفعولين ، تقول : دعوته زيدا.

البلاغة :

(تَجْهَرْ) و (تُخافِتْ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) أي سموه بأي واحد من هذين الاسمين ، أو نادوه بأن تقولوا : يا الله ، يا رحمن (أَيًّا ما تَدْعُوا) أي هذين تدعوا فهو حسن ، والدعاء هنا : التسمية (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) فلله الأسماء الحسنى ، وهذان منها ، وكونها أسماء حسنى لدلالتها على صفات الجلال والإكرام. وقوله : (فَلَهُ) للمسمى ؛ لأن التسمية له ، لا للاسم ، وكان أصل الكلام : أيّا ما تدعو فهو حسن ، فوضع موضعه (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل على الله تعالى.

والأسماء الحسنى تسع وتسعون ، كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي : الله الذي لا إله إلا هو : الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدّوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبّار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ ، المصوّر ، الغفار ، القهّار ، الوهّاب ، الرزّاق ، الفتّاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعزّ ، المذلّ ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحقّ ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الولي ، الحميد ، المحصي ، المبدئ ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحيّ ، القيّوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الأحد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدّم ، المؤخّر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الولي ، المتعال ، البرّ ، التواب ، المنتقم ، العفوّ ، الرءوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المقسط ، الجامع ، الغني ، المغني ، المانع ، الضارّ ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور.

(وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) بقراءتك فيها ، فيسمعك المشركون ، فيسبوك ويسبوا القرآن ومن

١٨٩

أنزله (وَلا تُخافِتْ بِها) ولا تسرّ بقراءتك ، لينتفع أصحابك (وَابْتَغِ) اقصد (بَيْنَ ذلِكَ) الجهر والمخافتة (سَبِيلاً) طريقا وسطا.

(شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) في الألوهية (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌ) متولي أمره ينصره (مِنَ الذُّلِ) من أجل الذل ، أي لم يذل ، فيحتاج إلى ناصر ، أي لم يكن له ولي يواليه من أجل مذلّة به ، ليدفعها بموالاته (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) عظّمه تعظيما تاما منزها عن اتخاذ الولد والشريك والذل وكل مالا يليق به.

وترتيب الحمد على ذلك للدلالة على أنه المستحق لجميع المحامد ، لكمال ذاته وتفرده في صفاته. وفيه تنبيه على أن العبد ، وإن بالغ في التنزيه والتمجيد ، واجتهد في العبادة والتحميد ، ينبغي أن يعترف بالقصور عن حقه في ذلك.

روى الإمام أحمد في مسنده عن معاذ الجهني عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان يقول : «آية العز : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) إلى آخر السورة».

سبب النزول :

نزول الآية : (قُلِ : ادْعُوا اللهَ ...) :

أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال : صلى صلوات الله عليه بمكة ذات يوم ، فدعا الله تعالى ، فقال في دعائه : يا الله ، يا رحمن ، فقال المشركون : انظروا إلى هذا الصابئ ، ينهانا أن ندعو إلهين ، وهو يدعو إلهين ، فنزل : (قُلِ : ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ...) الآية.

وقال ميمون بن مهران : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكتب في أول ما يوحى إليه : باسمك اللهم ، حتى نزلت هذه الآية : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ ، وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال مشركو العرب : هذا الرحيم نعرفه ، فما الرحمن؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال الضحاك : قال أهل التفسير : قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنك لتقلّ ذكر الرحمن ، وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

١٩٠

نزول الآية : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) :

أخرج أحمد والشيخان والترمذي وغيرهم عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) قال : نزلت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مختف بمكة ، وكانوا إذا سمعوا القرآن ، سبّوا القرآن ومن أنزله ، ومن جاء به ، فقال الله عزوجل لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) أي بقراءتك فيسمع المشركون ، فيسبوا القرآن (وَلا تُخافِتْ بِها) عن أصحابك فلا يسمعون (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً).

وروي أن أبا بكر رضي‌الله‌عنه كان يخفت في قراءته ، ويقول : أناجي ربي ، وقد علم حاجتي ، وعمر كان يجهر بها ويقول : أطرد الشيطان ، وأوقظ الوسنان ، فلما نزلت الآية ، أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر أن يرفع صوته قليلا ، وعمر أن يخفض قليلا.

نزول الآية (١١١):

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) : أخرج ابن جريج عن محمد بن كعب القرظي قال : إن اليهود والنصارى قالوا : اتخذ الله ولدا وقالت العرب : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ، وقال الصابئون والمجوس ، لو لا أولياء الله لذل ، فأنزل الله : (وَقُلِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ...) الآية.

المناسبة :

بعد أن الله أثبت تعالى أنه أنزل القرآن على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن العرب عجزوا عن معارضته ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جاءهم بتوحيد الله ورفض آلهتهم ، عدلوا إلى رميه عليه الصلاة والسلام بأن ما نهاهم عنه رجع هو إليه ، فرد الله تعالى عليهم بقوله : (قُلِ ادْعُوا اللهَ ..) الآية.

١٩١

ولما ذكر تعالى أنه واحد ، وإن تعددت أسماؤه ، أمر الله تعالى نبيه أن يحمده على ما أنعم به عليه من شرف الرسالة والاصطفاء ، ووصف نفسه بأنه لم يتخذ ولدا ، للرد على اليهود والنصارى والعرب الذين عبدوا الأصنام ، وجعلوها شركاء لله ، والعرب الذين عبدوا الملائكة واعتقدوا أنهم بنات الله ، فنفى الولد أولا ، ثم نفى الشريك في ملكه ، ثم نفى الولي وهو الناصر ، والشريك أعم من الولد ، والولي الناصر أعم من نسبة الولد والشريك ، فهو أعم من أن يكون ولدا ، أو شريكا أو غير شريك.

التفسير والبيان :

هذا رد على المشركين الذين أنكروا إطلاق اسم الرحمن على الله عزوجل ، فقال : (قُلِ : ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ..) أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين في مكة المنكرين صفة الرحمة لله تعالى ، المانعين من تسميته بالرحمن : لا فرق في دعائكم لله باسم الله أو باسم الرحمن فإنه ذو الأسماء الحسنى. قال في الكشاف : الله والرحمن المراد بهما الاسم ، لا المسمى ، وأو للتخيير ، فمعنى (ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) سموا بهذا الاسم أو بهذا ، واذكروا إما هذا ، وإما هذا ، والدعاء بمعنى التسمية ، لا بمعنى النداء (١).

وقوله (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) التقدير : أيّ هذين الاسمين سميتم وذكرتم ، فكل أسمائه حسنى ، فيها تعظيمه وتقديسه ، كما قال : (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ، يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الحشر ٥٩ / ٢٤] فأي اسم تدعونه به فهو حسن.

ثم أرشد الله إلى كيفية القراءة والدعاء ، فقال :

(وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) أي ولا تجهر

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٢٤٩.

١٩٢

بقراءة صلاتك ، حتى لا يسمع المشركون فيسبوا القرآن ، ويسبوا من أنزله ، ومن جاء به ، ولا تخافت بها عن أصحابك ، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك ، وابتغ بين الجهر والمخافتة سبيلا وسطا ، فهذه هي الطريقة المثلى في القراءة ، وهي الحد الوسط بين الجهر بالصوت والإسرار والإخفات فيه ، ففي الجهر حتى لا يتفرقوا عنه ويأبوا أن يسمعوا منه ، أو يسبوا القرآن ، وفي الإسرار ليسمع من أراد السماع فينتفع به.

ثم علّمنا تعالى كيفية الحمد ، فقال :

(وَقُلِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ...) أي وقل : لله الحمد والشكر على ما أنعم على عباده ، وهو الموصوف بالصفات الثلاث التالية لتنزيه نفسه عن النقائص :

الأولى ـ إنه لم يتخذ ولدا : فهو غير محتاج إليه ، واتخاذ الولد من صفات الحوادث ، وهو منزه عنها. وفي هذا رد على اليهود القائلين : عزيز ابن الله ، والنصارى القائلين : المسيح ابن الله.

الثانية ـ ليس له شريك في الملك والسلطان : لأنه أيضا غير محتاج إليه ، ولو احتاج إلى شريك لكان عاجزا ، ولأن تعدد الآلهة يؤدي إلى الفساد والنزاع : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء ٢١ / ٢٢]. ولم يعرف المستحق للعبادة والحمد والشكر.

الثالثة : لم يكن له ولي من الذل : أي ليس بذليل حتى يوالي أحدا لمذلة ، من ولي أو وزير أو مشير ، بل هو تعالى خالق الأشياء وحده لا شريك له ، ومدبرها ومقدرها بمشيئته (١).

ومجموع هذه الصفات في قوله سبحانه : (قُلْ : هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ الصَّمَدُ ، لَمْ

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢١ / ٧١.

١٩٣

يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص ١١٢ / ١ ـ ٤].

(وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) أي عظمه وأجلّه عما يقول الظالمون المعتدون علوا كبيرا ، فذلك التعظيم الذي يتناسب مع جلاله وعظمته وقدسيته ، فهو الكبير المتعال في ذاته باعتقاد أنه واجب الوجود لذاته وأنه غني عن كل الوجود ؛ وفي صفاته فله صفات الكمال المنزه عن كل صفات النقصان ؛ وفي أفعاله ، فلا يحدث شيء في ملكه إلا بمقتضى حكمته ومشيئته ؛ وفي أحكامه ، فله مطلق الأمر والنهي والعز والذل ، لا معقب لحكمه ، ولا اعتراض لأحد على شيء من أحكامه ؛ وفي أسمائه فلا يذكر إلا بأسمائه الحسنى ولا يوصف إلا بصفاته المقدسة العالية (١).

روى أحمد عن معاذ الجهني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول : «آية العز : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) الآية». وروى عبد الرزاق عن عبد الكريم بن أبي أمية قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلّم الغلام من بني هاشم إذا أفصح : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إلى آخر الآية ، سبع مرات».

فقه الحياة أو الأحكام :

أوضحت الآيات أن دعاء الله وتسميته يكون بكل اسم من أسمائه الحسنى ، التي منها الله والرحمن ، وليس ذلك تعددا في الآلهة كما فهم المشركون خطأ ، وإنما التسمية بأسماء متعددة لمسمى واحد.

والدعاء أو القراءة في الصلاة يكون بطريقة متوسطة بين الجهر والإسرار ، وإذا كان السبب الداعي لذلك وهو تفادي سماء المشركين وسبهم القرآن ومن أنزله ومن جاء به ، أو نفرتهم عنه وإبائهم سماعه ، فإننا نحتفظ بالتزام هذه الطريقة ، تذكرا لحال التشريع وظروفه الأولى التي صاحبته.

وقد عبر الله تعالى بالصلاة في الآية هنا عن القراءة ، كما عبر بالقراءة عن

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢١ / ٧٢.

١٩٤

الصلاة في قوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [الإسراء ١٧ / ٧٨] لأن كل واحد منهما مرتبط بالآخر ؛ لأن الصلاة تشتمل على قراءة وركوع وسجود فهي من جملة أجزائها ، فعبّر بالجزء عن الجملة ، وبالجملة عن الجزء على عادة العرب في المجاز ، وهو كثير.

وقوله سبحانه : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) رد على اليهود والنصارى والعرب في قولهم : عزير وعيسى والملائكة ذرية الله سبحانه ، فهو تعالى لا والد له ولا صاحبة ولا ولد ، وهو واحد لا شريك له في ملكه وعبادته ، وليس له ناصر مدافع عنه يجيره من الذل ، لم يحالف أحدا ، ولا ابتغى نصر أحد.

وهو تعالى يستحق التعظيم التام والإجلال ، ويقال : أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال : الله أكبر ، أي أنه أكبر من كل شيء ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا دخل في الصلاة قال : الله أكبر. وقال عمر بن الخطاب : «قول العبد : الله أكبر خير من الدنيا وما فيها».

وهذه الآية (الْحَمْدُ لِلَّهِ ...) هي خاتمة التوراة. قال عبد الله بن كعب : افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام ، وختمت بخاتمة هذه السورة.

وفي خبر معاذ بن جبل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنها آية العز» ، كما بينا.

وقال عبد الحميد بن واصل : سمعت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من قرأ : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) الآية ، كتب الله له من الأجر مثل الأرض والجبال ؛ لأن الله تعالى يقول فيمن زعم أن له ولدا : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) [مريم ١٩ / ٩٠].

وجاء في الخبر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أمر رجلا شكا إليه الدّين بأن يقرأ : (قُلِ : ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) إلى آخر السورة ، ثم يقول : توكّلت على الحي الذي لا يموت ؛ ثلاث مرات».

١٩٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الكهف

مكية ، وهي مائة وعشر آيات.

تسميتها :

سميت سورة الكهف ، لبيان قصة أصحاب الكهف العجيبة الغريبة فيها في الآيات [٩ ـ ٢٦] مما هو دليل حاسم ملموس على قدرة الله الباهرة.

وهي إحدى سور خمس بدئت ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ) : وهي الفاتحة ، الأنعام ، الكهف ، سبأ ، فاطر. وهو استهلال يوحي بعبودية الإنسان لله تعالى ، وإقراره بنعمه وأفضاله ، وتمجيد الله عزوجل ، والاعتراف بعظمته وجلاله وكماله.

مناسبتها لما قبلها :

تظهر مناسبة وضع هذه السورة بعد سورة الإسراء من نواح : هي افتتاح الإسراء بالتسبيح ، وهذه بالتحميد ، وهما مقترنان في القرآن وسائر الكلام بحيث يسبق التسبيح التحميد ، نحو : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) [الحجر ١٥ / ٩٨] وفي الحديث : «سبحان الله وبحمده». كما أن الإسراء اختتمت بالتحميد أيضا ، فتشابهت الأطراف أيضا.

ولما أمر اليهود المشركين أن يسألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ثلاثة أشياء : عن الروح ، وعن قصة أصحاب الكهف ، وعن قصة ذي القرنين ، أجاب تعالى في آخر سورة بني إسرائيل عن السؤال الأول ، وقد أفرد فيها لعدم الجواب عن الروح ، ثم أجاب تعالى في سورة الكهف عن السؤالين الآخرين ، فناسب اتصالهما ببعضهما.

١٩٦

ولما ذكر تعالى في الإسراء : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [٨٥] ناسب ذكر قصة موسى مع العبد الصالح الخضر ، كالدليل على ما تقدم. وقد ورد في الحديث : أنه لما نزل : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) قال اليهود : قد أوتينا التوراة فيها علم كل شيء ، فنزل : (قُلْ : لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ ...) [١٠٩].

ولما قال تعالى في الإسراء : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) [١٠٤] أعقبه في سورة الكهف بالتفصيل والبيان بقوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي ، جَعَلَهُ دَكَّاءَ ، وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) إلى قوله : (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) [٩٨ ـ ١٠٠] (١).

والخلاصة : أنه تعالى لما قال في آخر الإسراء : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) وذكر المؤمنين به أهل العلم ، وأنه يزيدهم خشوعا ، وأنه تعالى أمر بالحمد له وأنه لم يتخذ ولدا ، أمره تعالى بحمده على إنزال هذا الكتاب السالم من العوج ، القيم على كل الكتب ، المنذر من اتخذ ولدا ، المبشر المؤمنين بالأجر الحسن.

ثم استطرد إلى حديث كفار قريش ، والتفت من الخطاب في قوله : (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) إلى الغيبة في قوله : (عَلى عَبْدِهِ) لما في عبده من الإضافة المقتضية تشريفه.

ما اشتملت عليه السورة :

استهلت السورة ببيان وصف القرآن بأنه قيم مستقيم لا اختلاف فيه ولا تناقض في لفظه ومعناه ، وأنه جاء للتبشير والإنذار.

ثم لفتت النظر إلى ما في الأرض من زينة وجمال وعجائب تدل دلالة واضحة على قدرة الله تعالى.

__________________

(١) تناسق الدرر في تناسب السور للسيوطي ٦٤ وما بعدها ، طبع دار الكتاب العربي ـ دمشق.

١٩٧

وتحدثت السورة عن ثلاث قصص من روائع قصص القرآن وهي قصة أصحاب الكهف ، وقصة موسى مع الخضر ، وقصة ذي القرنين. أما قصة أصحاب الكهف [٩ ـ ٢٦] فهي مثل عال ، ورمز سام للتضحية بالوطن والأهل والأقارب والأصدقاء والأموال في سبيل العقيدة ، فقد فرّ هؤلاء الشباب الفتية المؤمنون بدينهم من بطش الملك الوثني ، واحتموا في غار في الجبل ، فأنامهم الله ثلاث مائة وتسع سنين قمرية ، ثم بعثهم ليقيم دليلا حسيا للناس على قدرته على البعث.

واتبع الله تعالى تلك القصة بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتواضع ومجالسة الفقراء المؤمنين وعدم الفرار منهم إلى مجالسة الأغنياء لدعوتهم إلى الدين : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ..) [٢٨].

ثم هدد الله تعالى الكفار بعد إظهار الحق ، وذكر ما أعده لهم من العذاب الشديد في الآخرة : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ..) [٢٩] وقارن ذلك بما أعده سبحانه من جنات عدن للمؤمنين الصالحين [٣٠ ـ ٣١].

وأما قصة موسى مع الخضر في الآيات [٦٠ ـ ٧٨] فكانت مثلا للعلماء في التواضع أثناء طلب العلم ، وأنه قد يكون عند العبد الصالح من العلوم في غير أصول الدين وفروعه ما ليس عند الأنبياء ، بدليل قصة خرق السفينة ، وحادثة قتل الغلام ، وبناء الجدار.

وأما قصة ذي القرنين في الآيات [٨٣ ـ ٩٩] فهي عبرة للحكام والسلاطين ، إذ أن هذا الملك تمكن من السيطرة على العالم ، ومشرق الأرض ومغربها ، وبنائه السد العظيم بسبب ما اتصف به من التقوى والعدل والصلاح.

وتخللت هذه القصص أمثلة ثلاثة بارزة رائعة مستمدة من الواقع ، لإظهار أن الحق لا يقترن بالسلطة والغنى ، وإنما يرتبط بالإيمان ، وأول هذه الأمثلة : قصة أصحاب الجنتين [٣٢ ـ ٤٤] للمقارنة بين الغني المغتر بماله ، والفقير المعتز

١٩٨

بإيمانه ، لبيان حال فقراء المؤمنين وحال أغنياء المشركين.

وثانيها : مثل الحياة الدنيا [٤٥ ـ ٤٦] لإنذار الناس بفنائها وزوالها. وأردف ذلك بإيراد بعض مشاهد القيامة الرهيبة من تسيير الجبال ، وحشر الناس في صعيد واحد ، ومفاجأة الناس بضائف أعمالهم [٤٧ ـ ٤٩].

وثالثها : قصة إبليس وإبائه السجود لآدم [٥٠ ـ ٥٣] للموازنة بين التكبر والغرور ، وما أدى إليه من طرد وحرمان وتحذير الناس من شر الشيطان ، وبين العبودية لله والتواضع ، وما حقق من رضوان الله تعالى.

وأردف ذلك بيان عناية القرآن بضرب الأمثال للناس للعظة والذكرى ، وإيضاح مهام الرسل للتبشير والإنذار ، والتحذير من الإعراض عن آيات الله [٥٤ ـ ٥٧].

وأن سياسة التشريع اقتران الرحمة بالعدل ، فليست الرحمة فوق العدل ولا العدل فوق الرحمة : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) [٥٨ ـ ٥٩].

وختمت السورة بموضوعات ثلاثة : أولها ـ إعلان تبديد أعمال الكفار وضياع ثمرتها في الآخرة [١٠٠ ـ ١٠٦] وثانيها ـ تبشير المؤمنين الذين عملوا الصالحات بالنعيم الأبدي الأخروي [١٠٧ ـ ١٠٨] وثالثها ـ أن علم الله تعالى لا يحده حد ولا نهاية له [١٠٩ ـ ١١٠].

فضل هذه السورة :

ورد في فضائل سورة الكهف أحاديث صحاح ثابتة ، منها : ما رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي عن أبي الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف ، عصم من الدجال».

ومنها : ما رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي ، عن أبي الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٩٩

قال : «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف ، عصم من فتنة الدجال». وفي لفظ النسائي : «من قرأ عشر آيات من الكهف ..» الحديث.

ومنها : ما أخرجه النسائي في سننه عن ثوبان ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف ، فإنه عصمة له من الدجال».

دلت هذه الأحاديث على أن قراءة الآيات العشر الأوائل أو الأواخر أو أي عشر آيات عصمة من فتنة الدجال.

والسنة أن يقرأ الشخص الكهف يوم الجمعة وليلتها ، لما رواه الحاكم وقال : صحيح الإسناد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ الكهف في يوم الجمعة ، أضاء له من النور ما بين الجمعتين» وروى الدارمي والبيهقي : «من قرأها ليلة الجمعة ، أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق».

كيفية الحمد والثناء على الله تعالى ومهام القرآن العظيم

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨))

٢٠٠