التفسير المنير - ج ٧

الدكتور وهبة الزحيلي

ذلك الهدى الذي هدى به هؤلاء الأنبياء والمرسلين لإصابة الدين الحق ، هو هدى الله الخالص وتوفيقه ، دون هداية من عداه. والهداية نوعان : إما هداية محضة من الله لا تنال بالسعي والكسب وهي النبوة ، وهي المشار إليها في قوله تعالى لنبيه : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) [الضحى ٩٣ / ٧]. وإما هداية تنال بالسعي والكسب مع التوفيق الإلهي لنيل المراد.

ولو أشرك هؤلاء المهتدون بربهم ، مع فضلهم ورفعتهم درجات ، لبطل أجر عملهم كغيرهم في حبوط أعمالهم ، وهو تشديد في أمر الشرك وتغليظ لشأنه ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ : لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ..) [الزمر ٣٩ / ٦٥] وهذا شرط ، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع ، كقوله : (قُلْ : إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) [الزخرف ٤٣ / ٨١] وقوله : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء : ٢١ / ١٧] وقوله : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [الزمر ٣٩ / ٤].

أولئك المذكورون ، رسالتهم واحدة وهي الدعوة إلى التوحيد لله تعالى ، وهم الذين آتيناهم الكتاب (أراد جنس الكتاب) : وهو ما ذكر في القرآن من صحف إبراهيم وموسى وزبور داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى ، وآتيناهم الحكم : أي الحكمة وهي العلم النافع والفقه في الدين ، ويتفرع عنه الحكم والقضاء بين الناس لفصل الخصومات ، والنبوة ، أي جعلناهم أنبياء يوحى إليهم من الله حكمه وأمره ودينه ، وبعضهم أوتي النبوة صبيا كيحيى وعيسى عليهما‌السلام ، وبعضهم جمع العطايا الثلاث كإبراهيم وموسى وعيسى وداود ، قال تعالى حكاية عن إبراهيم : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) [الشعراء ٢٦ / ٨٣] وقال حكاية عن موسى : (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً ، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٢١] وقال عن داود : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ)

٢٨١

[ص ٣٨ / ٢٦] وقال في داود وسليمان : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) [الأنبياء ٢١ / ٧٩].

ومنهم من أوتي الحكم والنبوة كالأنبياء الذين حكموا بالتوراة ، ومنهم من لم يؤت إلا النبوة فقط.

فإن يكفر بالكتاب والحكم والنبوة هؤلاء المشركون من أهل مكة ، فقد وكلنا برعايتها وعنايتها ، ووفقنا للإيمان بها قوما كراما ليسوا بها بكافرين ، آمنوا بها وعملوا بأحكامها ودعوا الناس إليها ، آمن بعضهم فورا ، وسيؤمن بعضهم بعدئذ. أخرج ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) يعني أهل مكة ، يقول : إن يكفروا بالقرآن ، فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ، يعني أهل المدينة والأنصار (١).

والأصح أن المراد بالموكلين بها هم أصحاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مطلقا. ثم ربط الله تعالى بين هؤلاء الأنبياء وخاتم النبيين ، فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ ...) أي أولئك الأنبياء المذكورون الثمانية عشر الذين آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة ، وما أضيف إليهم من الآباء والذرية والإخوان هم أهل الهدى الكامل من الله ، لا غيرهم ، فبهداهم اقتده ، أي اقتد واتبع هداهم في الدعوة إلى توحيد الله وعبادته والأخلاق الحميدة.

وإذا كان هذا أمرا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمته تبع له فيما يشرعه ويأمرهم به. قال البخاري عند هذه الآية بسنده عن مجاهد أنه سأل ابن عباس : أفي ص سجدة؟ فقال : نعم ، ثم تلا : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) إلى قوله : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) ثم قال : هو منهم.

__________________

(١) تفسير الطبري : ٧ / ١٧٥

٢٨٢

وقل أيها الرسول لمن أرسلناك إليهم : لا أطلب على تبليغ القرآن أجرا من مال ولا غيره من المنافع الخاصة ، كما أن جميع الرسل قبلي لم يطلبوا أجرا على التبليغ والهدى ، كما قال تعالى : (قُلْ : لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى ٤٢ / ٢٣].

وما هذا القرآن إلا تذكير وموعظة للعالمين ، وإرشاد وهدى للمتقين. وهذا تصريح بعموم بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم للناس قاطبة.

فقه الحياة أو الأحكام :

أنعم الله على نبيه إبراهيم الخليل عليه‌السلام بنعم كثيرة ، ذكر في الآية السابقة منها اثنتين وهما قوة الجدل وإفحام الخصوم بالحجة البالغة ، ورفع درجاته في الدنيا والآخرة ، وذكر في هذه الآية أنه ابن نبي وأبو الأنبياء ، فهو كريم الأصل شريف الفرع ، وهو في أشرف الأنساب.

ودلت الآية كما ذكر سابقا على أن أولاد البنات داخلون في ذرية الإنسان ، لذا قال أبو حنيفة والشافعي : من وقف وقفا على ولده وولد ولده أنه يدخل فيه ولد ولده وولد بناته ما تناسلوا. وكذلك إذا أوصى لقرابته يدخل فيه ولد البنات. والقرابة عند أبي حنيفة : كل ذي رحم محرم ، ويسقط عنده ابن العمّ والعمة وابن الخال والخالة ؛ لأنهم ليسوا بمحرمين. وقال الشافعي : القرابة : كل ذي رحم محرم وغيره ، فلم يسقط عنده ابن العم ولا غيره.

وقال مالك : لا يدخل في ذلك ولد البنات.

وذكر الله في هذه الآية ثمانية عشر نبيا ، وهناك سبعة آخرون في القرآن وهم آدم أبو البشر ، وإدريس ، وهود ، وذو الكفل ، وصالح ، وشعيب ، ومحمد خاتم النبيين ، فيصبح المجموع خمسة وعشرين نبيا تجب معرفتهم والإيمان بهم ؛ لأن الله

٢٨٣

تعالى نص على أسمائهم في القرآن الكريم ، وهم كما ذكرت في تفسير الآية (١٦٣) من سورة النساء :

آدم ، وإدريس ، ونوح ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، وأيوب ، وشعيب ، وموسى ، وهارون ، ويونس ، وداود ، وسليمان ، وإلياس ، واليسع ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين ، وسيدهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

والآية تدل على أن أول رسول شرع الله له الأحكام من حلال وحرام هو نوحعليه‌السلام.

ودلت الآية على أن مهام الأنبياء متفاوتة ، فمنهم من جمع الله له النبوة والملك والقضاء بين الناس ، ومنهم من جمع الله له النبوة والحكم ، ومنهم من قصره على النبوة فقط ، كما تقدم. ومن هؤلاء الأنبياء من بقي له أتباع كأتباع الديانات الثلاث : اليهودية والنصرانية والإسلام ، ومنهم من انقرض أتباعه وهم إسماعيل ، واليسع ، ويونس ، ولوط.

والأنبياء أفضل من الملائكة ؛ لقوله تعالى بعد ذكر هؤلاء عليهم‌السلام : (وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) والعالم : اسم لكل موجود سوى الله تعالى ، فيدخل فيه الملائكة ، فهذا القول يقتضي كونهم أفضل من كل العالمين.

ودل قوله تعالى : (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) على أنه تعالى خص كل من تعلق بهؤلاء الأنبياء بنوع من الشرف والكرامة ، فالآباء : هم الأصول ، والذريات : هم الفروع ، والإخوان : فروع الأصول. والمراد بالهداية : الهداية إلى الثواب والجنة ، والهداية إلى الإيمان والمعرفة.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٥٨٥

٢٨٤

وإذا تنكر قوم لرسالة نبي ، فإن الله تعالى يهيء لها أقواما آخرين ، كما هيأ أهل المدينة عوضا عن أهل مكة.

ودل قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ) على إبطال الشرك وإثبات التوحيد ، كما دل قوله : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) على وجوب اتباع هدي الأنبياء المشترك وهو أصل التوحيد وعبادة الله والفضائل والأخلاق الشريفة وجميع الصفات الحميدة.

واحتج العلماء بهذه الآية على أن رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم‌السلام ؛ لأن الله أمره بأن يقتدي بهم بأسرهم.

إثبات النبوة

وإنزال الكتب على الأنبياء ومهمة القرآن

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢))

الإعراب :

(إِذْ قالُوا : ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ..) الآية (٩١) : (مِنْ) زائدة للتأكيد والعموم ، و (شَيْءٍ) : في موضع نصب بأنزل. و (نُوراً) منصوب على الحال من الكتاب أو

٢٨٥

من الضمير المجرور في (بِهِ). و (هُدىً) عطف عليه. وكذلك (تَجْعَلُونَهُ) في موضع نصب على الحال. و (قَراطِيسَ) منصوب بتجعلونه ، وتقديره : تجعلونه في قراطيس ، إلا أنه لما حذف حرف الجر اتصل الفعل به فنصبه.

(فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) يلعبون : جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير المفعول في (ذَرْهُمْ).

(وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) اللام : لام كي ، تتعلق بفعل مقدر تقديره : ولتنذر أم القرى أنزلناه.

البلاغة :

(ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) مبالغة في إنكار نزول شيء من الوحي على أحد من الرسل.

(مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ) استفهام للتوبيخ والتقريع.

(أُمَّ الْقُرى) مكة المكرمة ، وفيه استعارة حيث شبهت بالأم ؛ لأنها أصل المدن والقرى.

المفردات اللغوية :

(وَما قَدَرُوا اللهَ) أي ما عرفوا الله حق المعرفة ، وما عظموه حق عظمته ، والضمير عائد إلى اليهود أو إلى مشركي قريش (إِذْ قالُوا) للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد خاصموه في القرآن (قَراطِيسَ) واحدها قرطاس : وهو ما يكتب فيه من ورق أو غيره ، والمراد : يكتبون الكتاب في دفاتر مقطعة (تُبْدُونَها) أي ما يحبون إبداءه منها (وَتُخْفُونَ كَثِيراً) مما فيها كنعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَعُلِّمْتُمْ) أيها اليهود في القرآن (ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) من التوراة ببيان ما التبس عليكم واختلفتم فيه. (قُلِ اللهُ) أنزله إن لم يقولوه ، لا جواب غيره (فِي خَوْضِهِمْ) أباطيلهم.

(مُبارَكٌ) فيه بركة ، أي زيادة وسعة ، بارك الله فيه بما امتاز به عما قبله من الكتب في النظم والمعنى (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) قبله من الكتب (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) مكة ، سميت بذلك ؛ لأنها قبلة أهل القرى كلها ، ولأنها مكان أول بيت وضع للناس ، والفعل معطوف على معنى ما قبله ، أي أنزلناه للبركة والتصديق ، ولتنذر به أم القرى : مكة ، ومن حولها ، أي سائر الناس (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) يصدّقون بالعاقبة ويخافونها (يُؤْمِنُونَ بِهِ) بهذا الكتاب ، وذلك أن أصل الدين : خوف العاقبة ، فمن خافها ، لم يزل به الخوف حتى يؤمن (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) خوفا من عقاب الآخرة. وخص الصلاة ؛ لأنها عماد الدين ، ومن حافظ عليها حافظ على أخواتها.

٢٨٦

سبب النزول :

نزول الآية (٩١):

(وَما قَدَرُوا اللهَ) : أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل من اليهود يقال له : مالك بن الصّيف ، فخاصم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السّمين؟» وكان حبرا سمينا ، فغضب ، وقال : ما أنزل الله على بشر من شيء ، فقال له أصحابه : ويحك ، ولا على موسى ، فأنزل الله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) الآية. وهو خبر مرسل ، وأخرج ابن جرير الطبري نحوه عن عكرمة.

وقال ابن عباس في رواية الوالبي : قالت اليهود : يا محمد ، أنزل الله عليك كتابا؟ قال : نعم ، قالوا : والله ، ما أنزل الله من السماء كتابا ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ : مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) ويؤيده قول الحسن وسعيد بن جبير: الذي قال : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ) هو أحد اليهود ، قال : لم ينزل الله كتابا من السماء ، وقال السدي : اسمه فنحاص. وعن سعيد بن جبير أيضا قال : هو مالك بن الصيف.

وقال محمد بن كعب القرظي : أمر الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسأل أهل الكتاب عن امره ، وكيف يجدونه في كتبهم ، فحملهم حسد محمد أن كفروا بكتاب الله ورسوله ، وقالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

وذكر عن ابن عباس في رواية أخرى : أن آية : (إِذْ قالُوا : ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) يعني مشركي قريش. وهذا هو الراجح ، كما سأبين.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ١٢٥ وما بعدها.

٢٨٧

المناسبة :

إن مدار أمر القرآن على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد ، ولما حكى تعالى عن إبراهيمعليه‌السلام أنه ذكر دليل التوحيد ، وإبطال الشرك ، وأبان الله تعالى ذلك الدليل بالوجوه الواضحة ، شرع بعده في تقرير أمر النبوة ، فقال : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) حيث أنكروا النبوة والرسالة ، فهذا بيان وجه نظم هذه الآيات (١).

التفسير والبيان :

إن منكري الوحي الذين يكفرون برسل الله : وهم إما قريش أو طائفة من اليهود ، كما ذكر في سبب النزول ، ما عرفوا الله حق معرفته وما عظموه حق تعظيمه ؛ إذ كذبوا رسله إليهم ، وقالوا : ما أنزل الله كتابا من السماء.

قال ابن كثير : والأول (أي نزولها في قريش) أصح ؛ لأن الآية مكية ، واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء ، وقريش والعرب قاطبة كانوا ينكرون إرسال محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه من البشر (٢) ، كما قال : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) [يونس ١٠ / ٢] وقال عزوجل : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا : أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً. قُلْ : لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ ، لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) [الإسراء ١٧ / ٩٤ ـ ٩٥] وقال هاهنا : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا : ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ).

والواقع أن من عرف الله حقيقة ، وأدرك أنه القادر على كل شيء ، والعالم بكل شيء ، ووسعت رحمته كل شيء ، أيقن أن الإنسان بأشد الحاجة إلى الكتاب

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٣ / ٧٢

(٢) تفسير ابن كثير : ٢ / ١٥٦

٢٨٨

الإلهي ، والاهتداء بهدي الأنبياء والمرسلين ، لإحراز السعادة الأبدية ، وتحقيق الرقي الإنساني مادة ومعنى ، فقد كان البشر البدائيون فوضى ، والعالم يئن من الاضطراب والقلق ، فكانت رسالة الرسل أداة تنظيم المجتمع ، وواسطة الرقي ، وسبيل الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي ، والحد من غطرسة الحاكم وظلم الفرد والجماعة ، فمن أنكر رسالة الرسل ما عرف الله حق المعرفة ، ولا قدرة حق قدره.

ثم ذكر الله الدليل الحسي على منكري الوحي والرسالة من مشركي قريش ، وأمر الله نبيه محمدا أن يقول لهم : من أنزل كتاب التوراة على موسى بن عمران ، الذي كان نورا بدد الظلام ، وهدى للناس الذين أخرجهم من الضلال إلى نور الحق ، وصاروا خلقا آخر بسبب الاهتداء بهدي الله ، وأنتم تعترفون بالتوراة إذ قلتم : (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) [الأنعام ٦ / ١٥٧].

وقوله : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) هذا لليهود الذين أخفوا صفة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيرها من الأحكام ، والمعنى : تجعلون جملتها قراطيس أي قطعا تكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديكم ، وتحرفون منها ما تحرفون ، وتبدلون منها ما تبدلون ، وتقولون : هذا من عند الله ، أي في كتابه المنزل ، وما هو من عند الله.

وإذا جرينا على أن الأصح في سبب نزول هذه الآية وهو كونها في مشركي قريش ، فيظهر إشكال ، إذ كيف يكون الخطاب في أول الآية : (قُلْ : مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ) لقريش ، ونهايتها (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) لليهود؟

والجواب : إذا كان سبب النزول هو اليهود ، فأول الآية وآخرها فيهم ، وإذا كان سبب النزول هو مشركي قريش ، فتأويل الآية : من أنزل التوراة على موسى نورا وهدى للناس ، وقد كانت كذلك حتى غيروها وحرّفوها ، ونسوا حظا كثيرا منها ، وجعلوها قراطيس مقطعة ، يبدونها عند الحاجة ، فإذا استفتي أحد

٢٨٩

أحبارهم (علمائهم) في مسألة ، أظهر منها ما يتفق مع هواه ، وأخفى كثيرا من أحكام الكتاب ، والسبب أن الكتاب محجور عليه بأيديهم ، ولم يكن في أيدي العامة نسخ منه ، وهذا الإخفاء محصور فيما تذكروه ، لا ما نسيه متقدمو اليهود من الكتاب بضياعه عند تخريب بيت المقدس ، وإجلاء اليهود إلى العراق ، وهو ما أشار إليه تعالى بقوله : (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) [المائدة ٥ / ١٣] ثم كرر ذلك في الآية التالية بعدها فقال : (فَنَسُوا حَظًّا) وقد كتموا صفة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والبشارة به ، وحكم الزنى وهو الرجم.

فأنتم أيها المشركون لا تثقوا بأقوال اليهود أشد أعداء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهذا المعنى منسجم مع قراءة يجعلونه بالياء ، أما على قراءة (تَجْعَلُونَهُ) بالتاء ، فيكون الله قد أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقرأ هذه الآية على اليهود وغيرهم بالخطاب لهم.

قال مجاهد : قوله تعالى : (قُلْ : مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) خطاب للمشركين ، وقوله : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) لليهود ، وقوله : (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا ...) للمسلمين.

قال القرطبي : وهذا يصح على قراءة من قرأ يجعلونه قراطيس بالياء. والوجه على قراءة التاء أن يكون كله لليهود ، ويكون معنى (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا) على وجه المنّ عليهم بإنزال التوراة.

والخلاصة : أن الآية (قُلْ : مَنْ أَنْزَلَ ..) إن كانت واردة في حق قريش ، فيمكن جعل أولها فيهم ، وآخرها في اليهود ، على قراءة الياء يجعلونه. وأما على قراءة التاء فلا تفهم إلا بجعلها كلها لليهود.

وقوله : (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) الخطاب : إما في حق العرب ، كما قال مجاهد : هذا خطاب للعرب ، وفي رواية عنه : للمسلمين ، ومآلهم

٢٩٠

واحد ، لأن ما علمه العرب نقلوه إلى سائر المسلمين. وكما قال قتادة : هؤلاء مشركو العرب ، والمعنى : وعلمكم الله بالقرآن من أخبار السابقين ، وأنباء اللاحقين ، ما لم تكونوا تعلمون ذلك ، لا أنتم ولا آباؤكم. وفي ذلك امتنان من الله على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين بإنزال هذا القرآن عليهم لبيان أصول الاعتقاد مع الدليل ، وإتمام مكارم الأخلاق ، وتشريع العبادات لتزكية النفوس وتطهيرها ، والمعاملات لنفع الأفراد والجماعات ، وتقرير أصول الحياة كالحرية والكرامة الإنسانية والمساواة بين الناس ، فلا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى أو بالعمل الصالح.

وقال الزمخشري وغيره : الخطاب في هذه الآية : (وَعُلِّمْتُمْ ..) لليهود ، أي علمتم على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما أوحى الله إليه ما لم تعلموا أنتم مع أنكم حملة التوراة ، ولم تعلمه آباؤكم الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم ، كقوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [النمل ٢٧ / ٧٦]. وأضاف الزمخشري بصيغة التضعيف قائلا : وقيل : الخطاب لمن آمن من قريش ، كقوله تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) [يس ٣٦ / ٦] (١).

وعلى رأي الزمخشري يكون المقصود المنّ على اليهود بإنزال التوراة فيهم.

ثم قال الله لنبيه : (قُلِ : اللهُ) أي قل يا محمد : الله أنزل الكتاب على موسى ، وهذا الكتاب عليّ ، أو قل : الله علمكم الكتاب ، قال ابن عباس : أي قل : الله أنزله. قال ابن كثير : وهذا الذي قاله ابن عباس هو المتعين في تفسير هذه الكلمة.

(ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) أي ثم دعهم واتركهم في جهلهم وضلالهم

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٥١٦

٢٩١

يلعبون ، حتى يأتيهم من الله اليقين (الموت) فسوف يعلمون ، ألهم العاقبة ، أم لعباد الله المتقين؟!

ثم حدد تعالى مهمة القرآن فقال : (وَهذا كِتابٌ ..) أي وهذا القرآن كتاب أنزلناه ، يهدي إلى الحق وإلى سواء السبيل ، كما أنزلنا من قبله التوراة على موسى ، وقد جعلناه كثير البركة والخير ، ومؤيدا لما تقدمه من الكتب ، ومهيمنا عليها ، يبشر بالجنة والثواب والمغفرة من أطاع الله ، وينذر بالنار والعقاب من عصى الله ، ولينذر أهل أم القرى : مكة ، ومن حولها من سائر الناس ، أي من أحياء العرب ومن سائر طوائف بني آدم من عرب وعجم ، كما قال تعالى في آية أخرى : (قُلْ : يا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف ٧ / ١٥٨] وقال : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام ٦ / ١٩] وقال : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ ، فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود ١١ / ١٧] وقال : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان ٢٥ / ١] وقال : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ : أَأَسْلَمْتُمْ ، فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ ، وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) [آل عمران ٣ / ٢٠] وثبت في الصحيحين أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي» وذكر منهن : «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة».

ولهذا قال : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي كل من آمن بالبعث والمعاد وقيام الساعة أو اليوم الآخر يؤمن ويصدق بصحة هذا الكتاب المبارك الذي أنزلناه إليك يا محمد ، وهو القرآن. هؤلاء المؤمنون هم الذين يحافظون على صلواتهم ، أي يقيمون ما فرض عليهم من أداء الصلوات في أوقاتها ، ويسرعون إلى كل أمر آخر أمروا به.

٢٩٢

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ تعظيم الله واجب ، ومن مقتضى تعظيمه الاعتراف بإنزاله الكتب السماوية على أنبيائه ، رحمة بعبادة ، وإصلاحا لشأنهم.

٢ ـ الواجب على العالم إظهار جميع ما علمه من أحكام الله ، ويحرم عليه إظهار بعضها ، وإخفاء بعضها الآخر.

٣ ـ إن إيراد نبوة موسى عليه‌السلام لإلزام كفار قريش في قولهم : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ).

٤ ـ اللفظ وإن كان مطلقا بحسب أصل اللغة إلا أنه قد يتقيد بحسب العرف أي بالواقعة التي ذكر فيها أن الله يبغض الحبر السمين ، ثم يكون المراد : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

ولما كان كفار قريش واليهود والنصارى مشتركين في إنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، لم يبعد أن يكون الكلام الواحد واردا على سبيل أن يكون بعضه خطابا مع كفار مكة ، وبقيته يكون خطابا مع اليهود والنصارى (١).

٥ ـ القرآن الكريم كتاب مبارك كثير الخير والعطاء ، مصدق لما تقدمه من الكتب السماوية في صورتها الأصلية الصحيحة ، ومهيمن عليها ، وناسخ لما خالفه منها ، ومبشر المحسنين بالجنة والمغفرة ، ومنذر الكافرين والفاسقين بالنار والعذاب فيها.

٦ ـ أفادت الآية كغيرها مما ذكر عموم بعثة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للجن والإنس ، جميع

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٣ / ٧٦

٢٩٣

أجناس البشر والطوائف والأقوام ، دون تفرقة ولا تمييز بين جنس وآخر ، أو عنصر وآخر ، أو زمن أو مكان دون غيره.

٧ ـ الإيمان بالآخرة أصل الدين ، ومن آمن بها آمن بالقرآن. والصلاة عماد الدين ، ومن أقامها أقام الدين كله ، ومن هدمها هدم الدين كله.

افتراء الكذب على الله وعقابه

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤))

الإعراب :

(وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) : جملة اسمية في موضع نصب على الحال من الظالمين. والهاء والميم في (أَيْدِيهِمْ) : تعود على (الْمَلائِكَةُ).

و (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) : جملة فعلية في موضع نصب بفعل مقدر ، تقديره : يقولون: أخرجوا أنفسكم ، فحذف يقولون وحذف القول في كلامهم كثير. و (الْيَوْمَ) منصوب بأخرجوا ، وقيل : بتجزون.

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) : فرادى : في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في (جِئْتُمُونا) ولا ينصرف لأن في آخره ألف التأنيث.

٢٩٤

والكاف في (كَما) في موضع نصب ؛ لأنها وصف لمصدر محذوف ، تقديره : ولقد جئتمونا منفردين مثل حالكم أول مرة.

(لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) منصوب على الظرف ، تقديره : لقد تقطع ما بينكم ، على أن تكون «ما» نكرة موصوفة ، ويكون (بَيْنَكُمْ) صفته ، فحذف الموصوف ، ولا تكون موصولة على مذهب البصريين ، لأن الاسم الموصول لا يجوز حذفه ، وأجازه الكوفيون.

البلاغة :

(فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) : استعارة حيث شبه ما يعتورهم من كرب الموت وغصصه بالذين تتقاذفهم غمرات الموت ولججه.

المفردات اللغوية :

(وَمَنْ أَظْلَمُ) لا أحد أظلم (افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) اختلق الكذب وحكى عنه ما لم يقله ، بادعاء النبوة مثلا ولم ينبأ ، أو اتخاذ الأنداد والشركاء. (وَمَنْ قالَ : سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) وهم المستهزئون قالوا : لو نشاء لقلنا مثل هذا (وَلَوْ تَرى) يا محمد (فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) سكرات الموت ، جمع غمرة وهي الشدة. (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) إليهم بالضرب والتعذيب ، يقولون لهم تعنيفا : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) إلينا لنقبضها (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ) المراد به هنا : يوم القيامة الذي يبعث فيه الناس للحساب والجزاء. وأصل اليوم : الزمن المحدود المعروف (٢٤ ساعة) (عَذابَ الْهُونِ) الهوان وهو الذل ، ومنه قوله تعالى: (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ) [النحل ١٦ / ٥٩] والهون بالفتح : اللين والرفق ، ومنه قوله تعالى : (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) [الفرقان ٢٥ / ٦٣]. (تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ) بادعاء النبوة والإيحاء كذبا (تَسْتَكْبِرُونَ) تتكبرون عن الإيمان بها. وجواب (وَلَوْ تَرى) : لرأيت أمرا فظيعا.

(فُرادى) جمع فرد ، أي منفردين عن الأهل والمال والولد (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي حفاة عراة غرلا (خَوَّلْناكُمْ) أعطيناكم ومنحناكم من الأموال ، والخول : الخدم والحشم. وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم : يراد به عدم الانتفاع بالشيء ، وتركه في الدنيا بغير اختياركم (ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) أي الأصنام ، يقال لهم ذلك توبيخا (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ) أي استحقاق عبادتكم (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) بالضم أي وصلكم ، أي تشتت جمعكم ، وفي قراءة النصب : ظرف ، أي وصلكم بينكم. والبين : الصلة ، والمسافة بين شيئين أو أشياء ، ويضاف إلى المثنى مثل : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات ٤٩ / ١٠] وإلى الجمع مثل : (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) [النساء ٤ / ١١٤] ولا يضاف إلى المفرد إلا إذا كرر نحو : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [الكهف ١٨ / ٧٨].

٢٩٥

(وَضَلَّ عَنْكُمْ) أي غاب عنكم (ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) في الدنيا من شفاعتها.

سبب النزول :

نزول الآية (٩٣):

(وَمَنْ أَظْلَمُ) : أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة في قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) قال : نزلت في مسيلمة. ومن قال : (سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) قال : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، كان يكتب للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيملي عليه : عزيز حكيم فيكتب : غفور رحيم ثم يقرأ عليه ، فيقول : نعم سواء ، فرجع عن الإسلام ولحق بقريش.

وأخرج الطبري عن السدي نحوه ، وزاد «قال : إن كان محمد يوحى إليه ، فقد أوحي إلى ، وإن كان الله ينزله ، فقد أنزلت مثل ما أنزل الله ، قال محمد : سميعا عليما ، فقلت أنا : عليما حكيما.

نزول الآية (٩٤):

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) : أخرج ابن جرير وغيره عن عكرمة قال : قال النضر بن الحارث : سوف تشفع إليّ اللات والعزى ، فنزلت هذه الآية : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) إلى قوله : (شُرَكاءُ).

المناسبة :

الآيات استمرار في إثبات النبوة ، فلما بيّن الله تعالى أن القرآن كتاب نازل من عند الله على محمد ، وأنه مثل التوراة التي يعترفون بإنزالها على موسى ، وكل من النبيين بشر ، ذكر عقيبه ما يدل على وعيد من ادعى النبوة والرسالة ، على سبيل الكذب والافتراء ، فقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) الآية ، وهذا الوعيد يتضمن الشهادة بصدق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن نفي النبوة عن مدعيها

٢٩٦

إثبات لمن أعطيها حقا ؛ لأن محمدا عليه‌السلام مؤمن بالله واليوم الآخر ، والمؤمن بذلك لا يعرّض نفسه للظلم الذي يوجب أشد العذاب ، ففي ذلك شهادة ضمنية للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث بيّن عاقبة الكذب على الله.

التفسير والبيان :

لا أحد أظلم ممن كذب على الله ، فجعل له شريكا أو ولدا ، أو ادعى النبوة والرسالة ، ولم يرسله الله إلى الناس.

أو قال : أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ، والفرق بين هذا القول وبين ما قبله : أن في الأول كان يدعي أنه أوحي إليه ، وأما في هذا القول فقد أثبت الوحي لنفسه ، ونفاه عن محمد عليه الصلاة والسلام ، ففيه جمع بين كذبين : وهو إثبات ما ليس بموجود ونفي ما هو موجود.

أو قال : (سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) أي أنه قادر على إنزال مثل ما أنزل الله على رسوله ، كمن قال من المشركين : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) [الأنفال ٨ / ٣١].

هذا وعيد من صدر عنه أحد الأشياء الثلاثة ، أما القولان الأولان (افتراء الكذب على الله ، وادعاء الوحي) فالمراد بهما : من ادعى النبوة ، مثل مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة ، والأسود العنسي في صنعاء باليمن ، وطليحة الأسدي في بني أسد ونحوهم ، وكان مسيلمة يقول : محمد رسول قريش ، وأنا رسول بني حنيفة.

والقول الثالث أريد به ما قاله النضر بن الحارث الذي قال : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) وكان يقول في القرآن : إنه من أساطير الأولين ، وإنه شعر ، لو نشاء لقلنا مثله.

ثم ذكر تعالى نوع وعيد الظالمين أمثال هؤلاء فقال : (وَلَوْ تَرى إِذِ

٢٩٧

الظَّالِمُونَ ..) أي ولو تبصر أيها الرسول وكل سامع وقارئ حين يكون الظالمون في سكرات الموت وغمراته وكرباته أو شدائده وآلامه ، لرأيت أمرا عجبا عظيما فظيعا لا سبيل إلى وصفه ، والحال أن الملائكة قد بسطت أيديها إليهم لقبض أرواحهم بالضرب ومنتهى الشدة والعنف ، كما قال تعالى : (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) [محمد ٤٧ / ٢٧].

وتقول لهم الملائكة توبيخا وتأنيبا وتهكما حين قبض أرواحهم : أخرجوا أنفسكم وأرواحكم إلينا من أجسادكم ، وهذا دليل العنف والتشديد في إزهاق الروح من غير إمهال. وسبب ذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والجحيم وغضب الله ، فتتفرق روحه في جسده وتأبى الخروج ، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ ..).

أي اليوم تهانون غاية الإهانة ، كما كنتم تكذبون على الله ، وتستكبرون عن اتباع آياته ، والانقياد لرسله ، فلا تؤمنون بالآيات والرسل ، وتفترون على الله غير الحق. والمراد باليوم : وقت الإماتة وما يعذبون به من شدة النزع ، ويجوز أن يراد به : الوقت الممتد المتطاول الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ والقيامة. والهون : الهوان الشديد ، وإضافة العذاب إليه كقولك : رجل سوء ، يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه.

قال الزمخشري في قوله : (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) : هذه عبارة عن العنف في السياق والإلحاح والتشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال ، وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم (الدائن) المسلّط ، يبسط يده إلى من عليه الحق ، ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ، ويقول له : أخرج مالي عليك الساعة ، ولا أريم (أبرح) مكاني حتى أنزعه من أحداقك(١).

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٥١٧

٢٩٨

ثم يقول الله تعالى لهم : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى ...) أي ولقد أتيتمونا منفردين عن الأنداد والشركاء والأولياء والشفعاء ، وعن الخدم والأملاك والأموال ، كما خلقناكم أولا من بطون أمهاتكم حفاة عراة غرلا (غير مختونين) ، وتركتم ما أعطيناكم من مال وولد وخدم وأثاث وقصور وغيرها من النعم والأموال التي اقتنيتموها في الدنيا وراء ظهوركم ، ولم تنتفعوا بها هنا ، إذ أنها لم تغن عنكم شيئا.

ولا منافاة بين هذه الآية وبين قوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [البقرة ٢ / ١٧٤] لأن المراد : لا يكلمهم تكليم تكريم ورضا. وتتمة الكلام تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان ، ظانين أنها تنفعهم في معاشهم ومعادهم ، فقال : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ ...) أي وما نبصر معكم شفعاءكم من الأصنام الذين زعمتم أنها شفعاؤكم وشركاء لله.

لقد تقطع بينكم ، أي لقد تقطع يوم القيامة ما كان بينكم من صلة الولاء والتعاطف والأسباب والوسائل ، والصلات والصدقات ، أي وقع التقطع بينكم ، وانزاح الضلال ، وغاب وذهب عنكم ما كنتم تفترونه من شفاعة الشفعاء ، ونداء الأوثان والشركاء ، ورجاء الأصنام ، ويناديهم الرب جل جلاله على رؤوس الخلائق : (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟) [القصص ٢٨ / ٦٢] ويقال لهم : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ؟) [الشعراء ٢٦ / ٩٢ ـ ٩٣].

والمراد بقوله : (أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) أي في استعبادكم ، واستحقاق عبادتكم ، والعبادة لهم فيكم ؛ لأنهم حين دعوهم آلهة وعبدوها ، فقد جعلوها لله شركاء فيهم وفي استعبادهم.

والمقصود من الكلام في الجملة : إن آمالكم خابت في كل ما تزعمون

٢٩٩

وتتوهمون ، فلا فداء ولا شفاعة ، ولا سبيل لدفع عذاب الله عنكم : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار ٨٢ / ١٩].

فقه الحياة أو الأحكام :

إن أعظم الفرى أن تجعل لله ندّا وهو خلقك ، أو تفتري على الله كذبا فتدعي النبوة والوحي ، أو تنفي النبوة عن النبي ، كمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو تزعم القدرة على إنزال مثل ما أنزل الله.

قال القرطبي : ومن هذا النمط : من أعرض عن الفقه والسنن وما كان عليه السلف من السنن ، فيقول : وقع في خاطري كذا ، أو أخبرني قلبي بكذا ؛ فيحكمون بما يقع في قلوبهم ويغلب عليهم من خواطرهم ، ويزعمون أن ذلك لصفائها من الأكدار ، وخلوّها من الأغيار ، فتتجلى لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية ، ويقولون : هذه الأحكام الشرعية العامة ، إنما يحكم بها على الأغبياء والعامّة ، وأما الأولياء وأهل الخصوص ، فلا يحتاجون لتلك النصوص.

وقد جاء فيما ينقلون : استفت قلبك وإن أفتاك المفتون ؛ ويستدلون على هذا بالخضر ، وأنه استغنى بما تجلّى له من تلك العلوم ، عما كان عند موسى من تلك الفهوم. وهذا القول زندقة وكفر ، يقتل قائله ولا يستتاب ، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب ؛ فإنه يلزم منه هدّ الأحكام ، وإثبات أنبياء بعد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

ومما نحمد الله عليه أن أسطورة المتنبئين قد انتهت في بطون التاريخ ، ولم يكتب لها البقاء ؛ إذ ليس لها مقومات الحياة.

ودلت الآية على أن قبض روح الكافر في منتهى الشدة والعنف ، وأما قبض

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٧ / ٣٩

٣٠٠