التفسير المنير - ج ٧

الدكتور وهبة الزحيلي

وإن كانت تؤذي ، لأنها مثل الشعر والظفر ولبس المخيط ، لأن في طرح القملة إماطة الأذى عن نفسه إذا كانت في رأسه ولحيته ، فكأنه أماط بعض شعره ، فأما إذا ظهرت فقتلت فإنها لا تؤذي. والخلاصة : كل ما يؤذي مما ذكر في الحديث ونحوه من السباع ، وكذا الخنافس والقردان لا شيء في قتله.

٦ ـ صيد الحرم المكي والمدني : أي حرم مكة وحرم المدينة ، وزاد الشافعي حرم الطائف : لا يجوز قطع شجره ، ولا صيد صيده ، ومن فعل ذلك أثم ولا جزاء عليه في مذهبي مالك والشافعي ، ودليل التحريم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح : «اللهم إن إبراهيم حرّم مكة ، وإني أحرّم المدينة مثل ما حرّم به مكة ، ومثله معه ، لا يختلى خلاها (١) ، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفّر صيدها» ودليل عدم أخذ الجزاء : عموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح : «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور ، فمن أحدث فيها حدثا أو أوى محدثا ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا (٢)» فأرسلصلى‌الله‌عليه‌وسلم الوعيد الشديد ، ولم يذكر كفارة.

وقال أبو حنيفة : صيد المدينة غير محرّم ، وكذلك قطع شجرها ، لحديث سعد بن أبي وقاص عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من وجدتموه يصيد في حدود المدينة أو يقطع شجرها ، فخذوا سلبه» أي ما يكون معه من متاع وسلاح ، لكن اتفق الفقهاء على أنه لا يؤخذ سلب من صاد في المدينة ، فدل ذلك على أنه منسوخ. واحتج لهم الطحاوي أيضا بحديث أنس : «ما فعل النّفير؟» فلم ينكر صيده وإمساكه.

__________________

(١) الخلى : النبات الرقيق ما دام رطبا ، ويختلى : يقطع.

(٢) عير : جبل بناحية المدينة. وأما ثور فهو جبل بمكة ، وذكره هنا وهم من الراوي وخطأ.

والصرف : التوبة ، والعدل : الفدية.

٦١

قال القرطبي : وهذا كله لا حجة فيه. أما الحديث الأول فليس بالقوي ، ولو صح لم يكن في نسخ أخذ السّلب ما يسقط ما صح من تحريم المدينة ، فكم من محرّم ليس عليه عقوبة في الدنيا. وأما الحديث الثاني فيجوز أن يكون صيد في غير الحرم.

٧ ـ ذكر الله تعالى جزاء صيد الإحرام حال القتل العمد ، والمتعمد : هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام ، ولم يذكر المخطئ والناسي ، والمخطئ : هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا ، والناسي : هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه.

فاختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال : منها قول الجمهور : يجب الجزاء على قتل صيد الإحرام مطلقا ، ذاكرا أم ناسيا ، وقد ثبت وجوب الجزاء في العمد بالقرآن ، وفي الخطأ والنسيان بالسنة أي بما ورد من الآثار عن عمر وابن عمر ، ولأن الله تعالى أوجب الجزاء ولم يذكر الفساد ، ولا فرق بين أن يكون ذاكرا للإحرام أو ناسيا له ، ولأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الضّبع فقال : «هي صيد» وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا ، ولم يقل عمدا ولا خطأ. وقوله : «متعمدا» خرج على الغالب ، فألحق به النادر كأصول الشريعة.

وقال أحمد في رواية عنه والطبري : لا شيء على المخطي والناسي ، عملا بالنص القرآني.

٨ ـ حالة العود أو التكرار : إن قتل المحرم في إحرامه شيئا من الصيد ، ثم عاد إلى القتل مرة أخرى ، فعليه في رأي الجمهور (مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم) الجزاء كلما قتل ، لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ ، وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ...) الآية .. فالنهي دائم مستمر عليه ، ما دام محرما ، فمتى قتله ، فالجزاء لأجل ذلك لازم له.

٩ ـ دل قوله تعالى : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) على أن الواجب

٦٢

عليه جزاء مماثل واجب أو لازم من النّعم. وهذا مؤيد لرأي الجمهور غير أبي حنيفة وأبي يوسف ، كما تقدم في تفسير الآية.

والجزاء إنما يجب بقتل الصيد ، لا بنفس أخذه ، كما قال تعالى ، فمن أخذ الصيد ثم حبسه بعد أن نتف ريشه أو قطع شيئا من أعضائه وسلمت نفسه وصح ولحق بالصيد ، فلا شيء عليه في مذهب مالك.

١٠ ـ جزاء الصيد شيئان : دواب وطير ، فيجزى عند الشافعي ما كان من الدواب بنظيره في الخلقة والصورة ، ففي النعامة : بدنة ، وفي حمار الوحش وبقرة الوحش : بقرة ، وفي الظبي : شاة ، أي أن المثل في رأيه هو الأصل في الوجوب إن وجد ، فإن عدم يقوم المثل وتؤخذ قيمة المثل كقيمة الشيء في المتلفات.

وأقل ما يجزئ عند مالك : ما استيسر من الهدي وكان أضحية ، وذلك كالجذع من الضأن ، والثّنيّ مما سواه ، وما لم يبلغ جزاؤه ذلك ، ففيه إطعام أو صيام ، وفي الحمام كله قيمته إلا حمام مكة ، فإن في الحمامة منه شاة ، اتباعا للسلف في ذلك.

وقال أبو حنيفة : إنما يعتبر المثل في القيمة دون الخلقة ، فيقوّم الصيد دراهم في المكان الذي قتله فيه أو في أقرب موضع إليه إن كان لا يباع الصيد في موضع قتله ، فيشتري الصائد بتلك القيمة هديا إن شاء ، أو يشتري بها طعاما ويطعم المساكين ، كل مسكين نصف صاع من بر ، أو صاعا من شعير أو تمر.

١١ ـ من أحرم من مكة فأغلق باب بيته على فراخ حمام ، فماتت ، فعليه في كل فرخ شاة. قال مالك : وفي صغار الصيد مثل ما في كباره ، وفي بيض النعامة عشر ثمن البدنة ، وفي بيض الحمامة المكية عشر ثمن الشاة. وأكثر العلماء يرون في بيض كل طائر القيمة ، بدليل ما أخرج الدار قطني عن كعب بن عجرة أن النبي

٦٣

صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى في بيض نعام أصابه محرم بقدر ثمنه. وروى عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «في كل بيضة نعام : صيام يوم أو إطعام مسكين».

وأما ما لا مثل له كالعصافير والفيلة : فقيمة لحمه أو عدله من الطعام ، لأن المراعى فيما له مثل وجوب مثله ، فإن عدم المثل فالقيمة قائمة مقامه كالغصب وغيره ، ولأن العلماء أجمعوا على اعتبار القيمة فيما لا مثل له.

١٢ ـ قال الشافعي والحسن البصري : إذا اتفق الحكمان لزم الحكم ، وإن اختلفا نظر في غيرهما ، ولا ينتقل عن المثل الخلقي إذا حكما به إلى الطعام ، لأنه أمر قد لزم. وقال مالك : يخيّر الحكمان قاتل الصيد كما خيّره الله في أن يخرج (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ ، أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ ، أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظيرا لما أصاب ، وما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام ، ثم خيّر في أن يطعمه أو يصوم مكان كل مد يوما.

١٣ ـ هل يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين؟ فيه رأيان :

قال أبو حنيفة ومالك : لا يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين ، لأن ظاهر الآية يقتضي جانيا وحكمين ، ولأنه قد يتهم في حكمه لنفسه.

وقال الشافعي وأحمد : يكون الجاني أحد الحكمين لعموم الآية ، ولأن عمر فيما رواه ابن جرير حكّم معه جانيا محرما قتل ظبيا ، فحكما فيه جديا قد جمع الماء والشجر.

١٤ ـ إذا اشترك جماعة محرمون في قتل صيد ، فقال مالك وأبو حنيفة : على كل واحد جزاء كامل ، لأن قوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً ، فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) خطاب لكل قاتل ، وكل واحد من القاتلين قاتل نفسا على التمام والكمال ، بدليل قتل الجماعة بالواحد اتفاقا.

٦٤

وقال الشافعي : عليهم كلهم كفارة واحدة ، لقضاء ابن عمر وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس بذلك ، روى الدارقطني أن موالي لابن الزبير قتلوا ضبعا ، فحكم عليهم ابن عمر بكبش.

١٥ ـ قال أبو حنيفة : إذا قتل جماعة صيدا في الحرم المكي ، وكلهم محلّون ، عليهم جزاء واحد ، بخلاف ما لو قتله المحرمون في الحل والحرم ، على كل واحد جزاء كامل. ودليله أن الجناية في الإحرام على العبادة قد ارتكب كل واحد منهم محظور إحرامه. وإذا قتل المحلّون صيدا في الحرم ، فإنما أتلفوا دابة محرمة ، بمنزلة ما لو أتلف جماعة دابة ، فإن كل واحد منهم قاتل دابة ، ويشتركون في القيمة.

وقال مالك : على كل واحد منهم جزاء كامل ، بناء على أن الرجل يكون محرما بدخوله الحرم ، كما يكون محرما بتلبيته بالإحرام. قال ابن العربي : وأبو حنيفة أقوى منا.

١٦ ـ يرى المالكية أن الحكمين إذا حكما بالهدي فإنه يفعل به ما يفعل بالهدي من الإشعار والتقليد ، ويرسل من الحلّ إلى مكة. وقال الشافعي : لا يحتاج الهدي إلى الحل ، وإنما يبتاع في الحرم ويهدى فيه. واتفقوا على أنه ينحر في مكة ويتصدق به فيها ، لقوله تعالى: (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) ولم يرد الكعبة بعينها ، فإن الهدي لا يبلغها ، إذ هي في المسجد ، وإنما أراد الحرم.

أما الإطعام فيكون في رأي المالكية الراجح في الحرم وغيره ، وفي مذهب الشافعي : في مكة لأنه بدل عن الهدي ، وفي رأي أبي حنيفة : بموضع الإصابة مطلقا ، اعتبارا بكل طعام وفدية ، فإنها تجوز بكل موضع.

١٧ ـ الكفارة بإطعام مساكين إنما هي عن الصيد لا عن الهدي ، فيقوم الصيد ، وينظركم ثمنه من الطعام ، فيطعم لكل مسكين مدا أو يصوم مكان كل

٦٥

مد يوما ، ويخير الجاني في رأي جمهور الفقهاء بين الخصال الثلاث (الهدي أو الإطعام أو الصيام) سواء كان موسرا أو معسرا ، لأن (أَوْ) للتخيير.

وقال الحنفية : يتصدق على كل مسكين بنصف صاع من قمح أو صاع من تمر أو شعير ، والتخيير محصور بالقيمة ، يشتري بها هديا أو طعاما أو يصوم.

ووقت تقدير قيمة المتلف مختلف فيه ، فقال قوم وهو الصحيح عند المالكية : يوم الإتلاف ، وقال آخرون : يوم القضاء ، وقال آخرون : يلزم المتلف أكثر القيمتين من يوم الإتلاف إلى يوم الحكم. والأرجح الرأي الأول ، لأنه الوقت الذي تعلق به حق المتلف عليه.

١٨ ـ الصيام في رأي الجمهور : يصوم عن كل مدّ يوما ، وإن زاد على شهرين أو ثلاثة. وقال أبو حنيفة : يصوم عن كل مدين (نصف صاع) يوما ، اعتبارا بفدية الأذى.

١٩ ـ صيد البحر حلال لكل محرم ، للآية : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) والمراد بالصيد هنا المصيد ، وأضيف إلى البحر ، لأنه السبب ، وأما طعام البحر فهو ما لفظه البحر أو ألقاه.

ويؤكل في رأي الجمهور كل ما في البحر من السمك والدواب ، وسائر ما في البحر من الحيوان ، سواء اصطيد أو وجد ميتا أو كان طافيا ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في البحر فيما رواه مالك والنسائي وغيرهما : «هو الطهور ماؤه ، الحلّ ميتته» وأصح ما في الموضوع من جهة الإسناد حديث جابر في الحوت الذي يقال له «العنبر» خرجه الصحيحان ، وفيه : فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرنا ذلك له فقال : «هو رزق أخرجه الله لكم ، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ فأرسلنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه ، فأكله».

وقال أبو حنيفة : لا يؤكل السمك الطافي ، ويؤكل ما سواه من السمك ،

٦٦

ولا يؤكل شيء من حيوان البحر إلا السمك ؛ لعموم قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ولما رواه أبو داود والدارقطني عن جابر بن عبد الله عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كلوا ما حسر (١) عنه البحر وما ألقاه ، وما وجدتموه ميتا أو طافيا فوق الماء فلا تأكلوه» قال الدارقطني : تفرد به عبد العزيز بن عبيد الله ، عن وهب بن كيسان عن جابر ، وعبد العزيز ضعيف لا يحتجّ به.

٢٠ ـ الحيوان البرمائي : اختلف العلماء في الحيوان الذي يكون في البر والبحر ، هل يحل صيده للمحرم أم لا؟

قال مالك : كل ما يعيش في البر ، وله فيه حياة فهو صيد البر ، إن قتله المحرم وداه. ويجوز عنده أكل الضفادع والسلاحف والسرطان ، وقال في المدونة : الضفادع من صيد البحر (٢).

ولا يجوز أكل الضفادع في بقية المذاهب ، ويجوز عند الشافعي أكل خنزير الماء وكلب الماء ، ولا يجوز عنده التمساح ولا القرش والدّلفين (٣) ، وكل ماله ناب لنهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أكل كل ذي ناب.

٢١ ـ أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم قبول صيد وهب له ، ولا يجوز له شراؤه ولا اصطياده ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه ، لعموم قوله تعالى : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) ولما رواه الأئمة عن الصعب بن جثّامة الليثي أنه أهدى إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودّان ، فرده عليه ، فلما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما في وجهه من الكراهة قال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم».

__________________

(١) حسر ونضب وجزر : بمعنى واحد.

(٢) تفسير القرطبي : ٦ / ٣٢٠

(٣) القرش : دابة مفترسة من دواب البحر المالح ، والدلفين بالضم : دابة بحرية تنجي الغريق ، والعامة تقول : الدرفيل.

٦٧

٢٢ ـ ما يأكله المحرم من الصيد البري : قال الجمهور : إنه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له ، ولا من أجله ، لما رواه الترمذي والنسائي والدار قطني عن جابر : أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم» قال الترمذي : هذا أحسن حديث في الباب. فإن أكل من صيد صيد من أجله فداه.

وقال الحنفية : أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال سواء صيد من أجله أو لم يصد ، لظاهر قوله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) فحرّم صيده وقتله على المحرمين ، دون ما صاده غيرهم. واحتجوا بحديث البهزي وبحديث أبي قتادة المتقدمين.

وقال علي وابن عباس وابن عمر : لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال ، سواء صيد من أجله أو لم يصد ، لعموم قوله تعالى : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) قال ابن عباس : هي مبهمة ، ولحديث الصعب بن جثّامة الليثي المتقدم. ووجه هذا الحديث في رأي الجمهور : أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظن أن هذا إنما صاده من أجله ، فرده لذلك ، فأما إذا لم يقصده بالاصطياد فإنه يجوز له الأكل منه لحديث أبي قتادة السابق ذكره(١).

٢٣ ـ إذا أحرم شخص وبيده صيد أو في بيته عند أهله ، فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد : إن كان في يده فعليه إرساله ، وإن كان في أهله فليس عليه إرساله. وقال الشافعي في أحد قوليه : سواء كان في يده أو في بيته ليس عليه أن يرسله. وجه القول بإرساله : قوله تعالى : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) وهذا عام في الملك والتصرف كله.

ووجه القول بإمساكه : أنه معنى لا يمنع من ابتداء الإحرام ، فلا يمنع من استدامة ملكه.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ١٠٣ وما بعدها.

٦٨

٢٤ ـ إن صاد الشخص الحلال صيدا في الحل ، فأدخله الحرم ، جاز له في مذهب المالكية التصرف فيه بكل نوع ، من ذبحه ، وأكل لحمه ؛ لأنه معنى يفعل في الصيد ، فجاز في الحرم للحلال ، كالإمساك والشراء ، ولا خلاف فيها. وقال أبو حنيفة : لا يجوز.

٢٥ ـ إذا دلّ المحرم حلالا على صيد ، فقتله الحلال فقال مالك والشافعي وأبو ثور : لا شيء عليه. وقال أبو حنيفة وأحمد : عليه الجزاء ؛ لأن المحرم التزم بإحرامه ترك التعرض ، فيضمن بالدلالة كالوديع إذا دل سارقا على سرقة الوديعة.

وإذا دل المحرم محرما آخر ، فقال الحنفية وأشهب من المالكية : على كل واحد منهما جزاء ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث أبي قتادة : «هل أشرتم أو أعنتم؟» وهذا يدل على وجوب الجزاء.

وقال مالك والشافعي وأبو ثور : الجزاء على المحرم قاتل ؛ لقوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) فعلق وجوب الجزاء بالقتل ، فدل على انتفائه بغيره ، ولأنه دال فلم يلزمه بدلالته غرم ، كما لو دل الحلال في الحرم على صيد في الحرم. قال القرطبي : وهذا أصح.

٢٦ ـ إذا كانت شجرة نابتة في الحل ، وفرعها في الحرم ، فأصيب ما عليه من الصيد ، ففيه الجزاء ، لأنه أخذ في الحرم. وإن كان أصلها في الحرم وفرعها في الحل ، ففيه قولان عند المالكية : الجزاء نظرا إلى الأصل ، ونفيه نظرا إلى الفرع.

٦٩

مكانة البيت الحرام والشهر الحرام وشأن الهدي والقلائد

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧))

الإعراب :

(الْبَيْتَ الْحَرامَ) عطف بيان على جهة المدح ، لا على جهة التوضيح ، كما تجيء الصفة كذلك (قِياماً) مفعول (جَعَلَ) الثاني.

(ذلِكَ لِتَعْلَمُوا) : (ذلِكَ) إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : الأمر كذلك. وإما منصوب على تقدير : فعل ذلك لتعلموا.

البلاغة :

(الْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) أي البدن ذوات القلائد ، وهو عطف خاص على عام ؛ لأن الثواب فيها أكثر ، وبهاء الحج معها أظهر ، على حد تعبير الزمخشري (الكشاف : ١ / ٤٨٥ ـ ٤٨٦).

المفردات اللغوية :

(جَعَلَ اللهُ) إما جعلا تكوينيا خلقيا أو تشريعيا (الْكَعْبَةَ) هي البيت المربع المرتفع ، الذي بناه إبراهيم وإسماعيل بمكة عليهما‌السلام ، وسميت كعبة لعلوها وارتفاع شأنها وتربيعها ، وأكثر بيوت العرب مدورة.

(قِياماً لِلنَّاسِ) ما يقوم به أمرهم ويصلح شأنهم من أمر دينهم بالحج إليه ، ودنياهم بتوفير الأمن فيه لداخله وعدم التعرض له ، وجبي ثمرات كل شيء إليه. (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) أي الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، قياما لهم بأمنهم من القتال فيها (وَالْهَدْيَ) ما يهدي إلى الحرم من الأنعام توسعة على فقرائه (وَالْقَلائِدَ) أي ذوات القلائد من الهدي : وهي الأنعام التي كانوا يضعون القلادة على أعناقها إذا ساقوها هديا ، وخصها بالذكر لعظم شأنها. والهدي والقلائد قيام للناس بأمن صاحبهما من التعرض له (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا ..) الجعل المذكور لجلب المصالح لكم ودفع المضار عنكم قبل وقوعها دليل على علمه بما هو في الوجود وما هو كائن.

٧٠

المناسبة :

قال الرازي : وجه اتصال هذه الآية بما قبلها : هو أن الله تعالى حرم في الآية المتقدمة الاصطياد على المحرم ، فبين أن الحرم كما أنه سبب لأمن الوحش والطير ، فكذلك هو سبب لأمن الناس من الآفات والمخاوف ، وسبب لحصول الخيرات والسعادات في الدنيا والآخرة (١).

التفسير والبيان :

صيّر الله الكعبة التي هي البيت الحرام لتكون سببا لقوام الناس في إصلاح أمورهم دينا ودنيا ، حيث جعله الله مثابة للناس وأمنا ، فيه يأمن الخائف وينجو اللاجئ : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت ٢٩ / ٦٧] ، وبه يطعم البائس الفقير بجعل مناسك الحج سببا لعمارة واد غير ذي زرع ، وإلا لما أقام فيه أحد ، وقد جعل الله الدعاء فيه مقبولا ، والحسنات فيه مضاعفة لتشتد رغبة الناس فيه ، كما أن اجتماع الناس من أقطار بعيدة فيه يحقق منافع دنيوية كثيرة لا تحققها المؤتمرات الحالية ، وكذلك تحقق أعمال الحج منافع : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) دينية بالتجرد عن مظاهر الدنيا ، والتقرب إلى الله ، واتقاء محظوراته ، والمبادرة إلى امتثال أمره ، وتذكر أهوال المحشر بالتجرد والاجتماع ، والوقوف بين يدي الله ، فتشتد الخشية ويعظم الخوف ، ويحظى الناس بالخير والسعادة ، والراحة والطمأنينة. قال سعيد بن جبير : «من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا والآخرة ، أصابه».

وقال ابن زيد في هذه الآية التي جعل الله فيها هذه الأربعة قياما للناس : كان الناس كلهم فيهم ملوك يدفع بعضهم عن بعض ، ولم يكن في العرب ملوك يدفع بعضهم عن بعض ، فجعل الله تعالى لهم البيت الحرام قياما يدفع بعضهم عن

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٢ / ٩٩ ، ط بيروت.

٧١

بعض ، والشهر الحرام كذلك يدفع الله بعضهم عن بعض بالأشهر الحرم والقلائد ، فلو لقي الرجل قاتل أخيه أو ابن عمه ، فلا يعرض له (١).

(وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) معطوف على الكعبة ، أي وجعل الله الشهر الحرام قياما للناس ، أي فيه صلاح أمر الناس في الدنيا والآخرة ، فيأمن الناس على أنفسهم وأموالهم ومعايشهم وتجاراتهم ، وتهدأ النفوس ، وتخمد نار الحروب ، وينصرفون إلى العبادة والحج وصلة القربى ، وتحصيل الأقوات كفاية العام.

(وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) جعلهما الله أيضا قياما للناس ؛ فيذبح الهدي المسوق إلى الحرم ، والإبل المقلدة بلحاء الشجر حتى لا يتعرض لها بسوء ، فتكون نسكا لمن قدّمها تقوّم له دينه ، وتكفر ذنبه ، وتطهر نفسه وماله ، وتجعله آمنا على نفسه ، وتفرّق لحومها على الفقراء ، فتكون سببا لغناهم ودفع غائلة الجوع والفقر عنهم ؛ لأن الله أوقع في قلوب الناس تعظيم البيت الحرام ، فكل من قصده أصبح آمنا من جميع المخاوف.

وذلك الجعل المذكور والتدبير اللطيف بتشريع الحج وما فيه من مناسك ومنافع دليل على أن الله تعالى عالم بكل ما في السموات والأرض من أسرار وأوضاع حالية أو مستقبلية ، وتشريع تلك التشريعات لحكم يعلمها الله ، والله تعالى علّام بكل شيء صغير أو كبير ، سرّ أو علن ، باطن أو ظاهر.

والحق أن موسم الحج لو استفيد منه لحقق ـ فضلا عن تطهير النفوس وتزكيتها وغسل الذنوب والتخلص منها ـ منافع كثيرة جدا من الناحية العامة ، فهو دعامة للإسلام ، وسبب لتقوية أواصر الصلات ، وتنمية الشعور بنعمة الأخوة الإسلامية : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات ٤٩ / ١٠] وإذكاء روح الدين

__________________

(١) ـ تفسير الطبري : ٧ / ٥٠

٧٢

والتعاون بين جميع المسلمين دولا وشعوبا وأفرادا في المشارق والمغارب ، في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية.

فقه الحياة أو الأحكام :

لا بد في حياة الأمم والشعوب والأفراد من فترات راحة واستجمام ، وإحساس بالأمن والاطمئنان والاستقرار ، فكان من حكمة الله تعالى أن جعل البيت الحرام والحرم كله والشهر الحرام ، وذبائح الهدي والقلائد قياما للناس ، لصلاح أمر دينهم ودنياهم ، وقد أوضحت أحوالها.

وذلك لأن الناس مخلوقون بغرائز ، منها التحاسد والتنافس ، والتقاطع والتدابر ، وهي تحملهم على تسخين أجواء حياتهم إما بالتقاتل والتنازع الداخلي ، وإما بالمعارك والحروب الخارجية ، فكان لا بد من فترات فاصلة تذكرهم بضرورة العودة إلى التآلف والتوادد ، والسلام والأمن ، وردّ الظالم عن المظلوم ، وهذا يحدث عادة وفي كل زمان بالمصالحات والمهادنات ، وفي الماضي بفترات الأشهر الحرم ، وقد نسخ ذلك ، ولكن تعظيم البيت الحرام وجعله حرما آمنا ما يزال قائما. أما في الداخل فلا بد لهم من خليفة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة ٢ / ٣٠] ليحقق التناصف والعدل ، ويقضي بين الخصوم ، ويعاقب الجناة ، وينشر السلم والأمن ، ويرعى الحرمات ويدفع الخطر عن البلاد والعباد ، روى ابن القاسم عن مالك : أن عثمان رضي‌الله‌عنه كان يقول : «ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن».

فعل الله ذلك لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل أمور السموات والأرض ، ويعلم مصالحكم أيها الناس قبل وبعد ، والله لطيف بالعباد.

٧٣

الترهيب من عقاب الله والترغيب بفعل الطيب

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠))

البلاغة :

(ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) أطلق اسم المصدر وأراد به التبليغ للمبالغة ، فهو تشديد في إيجاب القيام بما أمر به ، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ. (الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) بينهما طباق. قال الزمخشري : وهو عام في حلال المال وحرامه ، وصالح العمل وطالحه ، وصحيح المذاهب وفاسدها ، وجيد الناس ورديئهم.

المفردات اللغوية :

(شَدِيدُ الْعِقابِ) لأعدائه (غَفُورٌ) لأوليائه (رَحِيمٌ) بهم (تُبْدُونَ) تظهرون من العمل (وَما تَكْتُمُونَ) تخفون منه ، فيجازيكم به (الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) الحلال والحرام والحسن والقبيح والجيد والرديء (وَلَوْ أَعْجَبَكَ) سرّك (فَاتَّقُوا اللهَ) في ترك الخبيث وفعل الطيب (الْأَلْبابِ) العقول (تُفْلِحُونَ) تفوزون.

سبب النزول :

نزول الآية (١٠٠):

(قُلْ لا يَسْتَوِي) : أخرج الواحدي والأصبهاني في الترغيب عن جابر : أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر تحريم الخمر ، فقام أعرابي فقال : إني كنت رجلا كانت هذه تجارتي ، فاعتقبت منها مالا ، فهل ينفع ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله

٧٤

تعالى؟ فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله لا يقبل إلا الطيب ، فأنزل الله تعالى تصديقا لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ : لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وفي رواية أخرى : «إن الله عزوجل حرّم عليكم عبادة الأوثان وشرب الخمر والطعن في الأنساب ، إلا إن الخمر لعن شاربها وعاصرها وساقيها وبائعها وآكل ثمنها ، فقام إليه أعرابي فقال : يا رسول الله ، إني كنت رجلا كانت هذه تجارتي ، فاقتنيت من بيع الخمر مالا ، فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله؟ فقال له النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدل عند الله جناح بعوضة ، إن الله لا يقبل إلا الطيّب» (١).

المناسبة :

حذرنا الله تعالى في الآية السابقة من انتهاك حرمة أربعة أشياء ببيان سعة علم الله المحيط بكل شيء ، ثم نبّه في هذه الآيات على عقوبة المخالفة ، وأن الرسول لا يملك الهداية والتوفيق ولا الثواب ، وإنما عليه البلاغ ، وأن الحكمة والعدل يقضيان بالتمييز بين الطيب والخبيث أو البر والفاجر.

التفسير والبيان :

اعلموا أيها الناس أن الله الذي لا تخفى عليه خافية ، شديد العقاب لمن خالف أوامره فأشرك بالله وفسق وعصى ربه ، وهو غفار لذنوب من أطاعه رحيم به ، فلا يؤاخذه بما سبق إيمانه ولا بما عمل من سوء بجهالة ثم تاب وأصلح عمله. وهذا يقتضي أن الإيمان لا يتم إلا بالرجاء والخوف ، وأنه تعالى لم يخلقنا عبثا ، بل لا بد من جزاء العاصي ، وإثابة الطائع.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ١٢٠ ، وللسيوطي.

٧٥

وفي تقديم العقاب على الرحمة دلالة على أن جانب الرحمة أغلب ؛ لأن رحمته تعالى سبقت غضبه كما صح في الحديث ، لذا قال تعالى : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [المائدة ٥ / ١٥] وقد ذكر الله في هذه الآية أمام العقاب وصفين من أوصاف الرحمة ، وهو كونه غفورا رحيما ، قال الرازي : وهذا تنبيه على دقيقة وهي أن ابتداء الخلق والإيجاد كان لأجل الرحمة ، والظاهر أن الختم لا يكون إلا على الرحمة (١).

وليس من وظيفة الرسول حمل الناس على الهداية والتوفيق للإيمان وإنما عليه التبليغ وأداء الرسالة ، ثم يؤول أمر الثواب على الطاعة ، والعقاب على المعصية إلى الله خالق الخلق الذي يعلم السر وأخفى ، ويعلم ما يظهره الإنسان وما يكتمه في جوانح نفسه ، فإذا بلّغ الرسول بقي الأمر من جانبكم.

وهذا وعيد شديد مؤكد لما سبق في الآية [٩٧] : (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا) وتهديد لمن يخالف أوامر الله ، وإبطال لمخاوف المشركين من معبوداتهم الباطلة.

ولما زجر الله تعالى عن المعصية ورغب في الطاعة بقوله : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ، وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ثم أتبعه بالتكليف بقوله : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) ثم أتبعه بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية فقال : (قُلْ : لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ).

فليس من الحكمة والعدل التسوية بين الجيد والرديء ، وبين البر والفاجر ، كما قال تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص ٣٨ / ٢٨] وقال عزوجل : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الجاثية ٤٥ / ٢١].

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٢ / ١٠٢

٧٦

قل لهم أيها الرسول : لا يستوي أبدا الرديء والجيد ، والضار والنافع ، والفاسد والصالح ، والحرام والحلال ، والظالم والعادل ، ولو أعجبك أيها المشاهد كثرة الخبيث من الناس أو المفسدين أو الأموال الحرام كالربا والرشوة والخيانة ، وقلة الطيب من الصالحين والأبرار وأهل الاستقامة!

فاتقوا الله يا أهل العقول ، واحذروا تسلط الشيطان عليكم ، فتغتروا بكثرة أهل الباطل والفساد أو كثرة المال الحرام ، فإن العاقل هو الذي يتذكر ويعي ويحذر ، وتقوى الله هي سبيل الفلاح والفوز والنجاة ، وإحراز خيري الدنيا والآخرة.

والأمر بالتقوى تأكيد لما سبق من الترغيبات الكثيرة في الطاعة ، والتحذيرات من المعصية.

فقه الحياة أو الأحكام :

ذكرت الآية أن مهمة التكليف تنتهي بمجرد تبليغ الأحكام الشرعية ، ويبقى أمر التزامها والوقوف عند حدودها على الإنسان المكلف بحمل الأمانة.

وفي التزام الطاعة واجتناب المعصية تكمن الخطورة ، وتظهر البطولة ، ويعرف مدى الجهاد الذي جاهد به الإنسان نفسه ليحملها على الاستقامة ، ويحجبها عن الانحراف ، وتقديرا لهذه المخاطر والمواقف الصعبة لاختيار الحل الأفضل ، رغب الله تعالى في الطاعة ونفر من المعصية في هذه الآيات في أربعة مواضع : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ وَاللهُ يَعْلَمُ قُلْ : لا يَسْتَوِي فَاتَّقُوا اللهَ).

فأين يفر الإنسان من رقابة الله له وعلمه الشامل المحيط بكل شيء ، أظهره أو أخفاه في قلبه؟

٧٧

وقد نقلت أقوال في تفسير الخبيث والطيب ، فقيل : الحلال والحرام ، وقيل : المؤمن والكافر ، وقيل : الرديء والجيد ، والصحيح كما قال القرطبي : أن اللفظ عام في جميع الأمور ، يتصّور في المكاسب والأعمال ، والناس ، والمعارف من العلوم وغيرها ، فالخبيث من هذا كله لا يفلح ولا ينجب ، ولا تحسن له عاقبة وإن كثر ، والطيب وإن قل نافع جميل العاقبة. قال الله تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ، وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) [الأعراف ٧ / ٥٨].

وقد استنبط علماء المالكية حكما طريفا من الآية (لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) وهو أن البيع الفاسد يفسخ ولا يمضى بحوالة سوق ، ولا بتغير بدن أي ببيع المبيع إلى آخر ، ويرد الثمن على المشتري إن كان قبضه البائع ، وإن تلف في يده ضمنه ؛ لأنه لم يقبضه على الأمانة ، وإنما قبضه بشبهة عقد ، ويؤيد ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد ومسلم عن عائشة : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد».

وتطبيقات هذا المبدأ كثيرة في الفقه ، منها : إذا بنى الغاصب في البقعة المغصوبة أو غرس ، فإنه يلزمه قلع ذلك البناء والغرس ، لأنه خبيث ، ثم ردّها على صاحبها ؛ خلافا لقول أبي حنيفة : لا يقلع ويأخذ صاحبها القيمة. وهذا يرده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أبو داود عن عروة بن الزبير : «ليس لعرق ظالم حق» والعرق الظالم : أن يغرس الرجل في أرض غيره ، ليستحقها بذلك.

والخطاب في قوله : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد أمته ، فإن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يعجبه الخبيث.

٧٨

النهي عن كثرة السؤال فيما لم ينزل به وحي

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢))

الإعراب :

(عَنْ أَشْياءَ) هي ممنوعة من الصرف ؛ لأن الألف في آخرها للتأنيث ، وهي اسم للجمع ، وليست بجمع شيء. وذهب الكسائي إلى أنها جمع شيء كبيت وأبيات. وذهب أبو الحسن الأخفش إلى أنه جمع شيء. بالتخفيف مثل طبيب وأطباء ، وشريف وشرفاء. فال ابن الأنباري : والمختار هو الأول.

المفردات اللغوية :

(إِنْ تُبْدَ) تظهر (تَسُؤْكُمْ) تزعجكم لما فيها من المشقة (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) المعنى إذا سألتم عن أشياء في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ينزل القرآن بإبدائها ، ومتى أبداها ساءتكم ، فلا تسألوا عنها قد (عَفَا اللهُ عَنْها) أي عن مسألتكم فلا تعودوا (قَدْ سَأَلَها) أي الأشياء (قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي سأل عنها جماعة سابقون أنبياءهم ، فأجيبوا ببيان أحكامها (ثُمَّ أَصْبَحُوا) صاروا.

سبب النزول :

تعددت أسباب نزول هذه الآية ، منها سؤال اختبار وتعجيز ، وتعنت واستهزاء وسخف ، ومنها سؤال استفهام واسترشاد عن تكرار بعض الفرائض. فمن الأول : ما رواه البخاري ومسلم واللفظ للأول عن أنس بن مالك قال : خطب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطبة ، فقال رجل : من أبي؟ قال : فلان ، فنزلت هذه الآية : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ). وروي أيضا عن ابن عباس قال : كان قوم يسألون

٧٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استهزاء فيقول الرجل : من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) حتى فرغ من الآية كلها. وأخرج الطبري مثله عن أبي هريرة. وأخرج البخاري أيضا عن أنس عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه : «فو الله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا» فقام إليه رجل ، فقال : أين مدخلي يا رسول الله؟ قال : «النار» فقام عبد الله بن حذافة فقال : من أبي يا رسول الله؟ فقال : «أبوك حذافة».

ومن الثاني : ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أيها الناس ، قد فرض الله عليكم الحج ، فحجوا ، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت لما استطعتم». وفي رواية : «فأنزل الله هذه الآية».

ومثل ذلك روى أحمد والترمذي والحاكم عن علي قال : «لما نزلت (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) قالوا : يا رسول الله ، في كل عام؟ فسكت ، قالوا : يا رسول الله ، في كل عام؟ قال : لا ، ولو قلت : نعم ، لوجبت ، فأنزل الله : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)».

وأخرج الطبري مثله عن أبي هريرة وأبي أمامة وابن عباس.

قال الحافظ ابن حجر : لا مانع أن تكون نزلت في الأمرين ، وحديث ابن عباس في ذلك أصح إسنادا. وقال الطبري : وأولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال : نزلت هذه الآية من أجل إكثار السائلين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسائل ، كمسألة ابن حذافة إياه : من أبوه؟ ومسألة سائله إذ قال : إن الله فرض عليكم الحج ، أفي كل عام؟ وما أشبه ذلك من المسائل.

٨٠