التفسير المنير - ج ٧

الدكتور وهبة الزحيلي

وأصلحوا العمل في المستقبل ، كما قال تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) [طه ٢٠ / ٨٢] ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ بن جبل فيما رواه أحمد عن أبي هريرة : «أتدري ما حقّ الله على العباد؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» ثم قال : «أتدري ما حقّ العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟ ألا يعذبهم».

٣ ـ سعة رحمة الله بعباده ، فقد أوجب الله تعالى على نفسه الرّحمة تفضّلا منه وإحسانا ، وأخبر بذلك بخبره الصدق ، ووعده الحقّ ، ليعلم العباد مدى رحمة الله ، كما قال : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ، فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف ٧ / ١٥٦].

٤ ـ القرآن الكريم فصّلت فيه كلّ أحكام الدّين : فكما فصّل الله في هذه السّورة دلائله على وجوده ووحدانيته ، فصّل أيضا الآيات لعباده في كلّ ما هم بحاجة إليه من أمر الدّين.

حسم الجدل بين النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين المشركين

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨))

الإعراب :

(أَنْ أَعْبُدَ) أن وصلتها في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجرّ ، وتقديره: نهيت أن أعبد.

٢٢١

المفردات اللغوية :

(نُهِيتُ) منعت وزجرت وصرفت بما أودع في من أدلّة العقل وبما أوتيت من أدلّة السّمع. والنّهي : المنع من الشيء والزّجر عنه. (تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) تعبدون غيره ، هذا هو المراد ، وأصل الدّعاء : النداء لطلب إيصال الخير أو دفع الضّرّ. (لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) أي لا أسير في طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتّباع الهوى في عبادة الأصنام ، دون اتّباع الدّليل ، وهو بيان سبب الضّلال الذي وقعوا فيه ، وتنبيه لكلّ من أراد إصابة الحقّ ومجانبة الباطل. (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً) أي إن اتبعت أهواءكم فأنا ضالّ ، وما أنا من الهدى في شيء. (بَيِّنَةٍ) البيّنة : كلّ ما يتبيّن به الحقّ من الحجج العقلية أو الأدلّة الحسية ، ومن ذلك سميت الشهادة بيّنة. (يَقُصُّ الْحَقَ) يذكره ، والقصص : ذكر الخبر أو تتبع الأثر. (الْفاصِلِينَ) الحاكمين ، والفصل : القضاء والحكم.

سبب النزول :

نزول الآية (٥٧):

(قُلْ : إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ) قال الكلبي : نزلت في النّضر بن الحارث ورؤساء قريش ، كانوا يقولون : يا محمد ، ائتنا بالعذاب الذي تعدنا به استهزاء منهم ، فنزلت هذه الآية.

المناسبة :

لما ذكر الله تعالى في الآية المتقدمة ما يدلّ على أنه يفصل الآيات ليظهر الحق ولتستبين سبيل المجرمين ، ذكر في هذه الآية انه تعالى نهى عن سلوك سبيلهم.

التفسير والبيان :

قل يا أيها الرّسول لهؤلاء المشركين : إنّي نهيت وزجرت وصرفت عن عبادة ما تدعونهم وتطلبون منهم الخير ودفع الضّرّ ، من صنم أو وثن أو عبد صالح مهما علا شأنه أو ملك من الملائكة ، وقد صرفت عن هذا كله بأدلّة العقل والأدلّة الحسيّة وبالآيات القرآنية المانعة من عبادة ما تعبدون من دون الله. وفي هذا استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا فيه على غير بصيرة.

٢٢٢

قل : لا أتّبع أهواءكم في سلوك طريقتكم القائمة على اتّباع الهوى دون اتّباع الدّليل ، وإن اتّبعت أهواءكم فأنا ضالّ ، وما أنا من الحقّ والهدى على شيء. وفي هذا تعريض بأنهم ليسوا من الهداية في شيء.

فإن عبادة غير الله ضلال وشرك ، يترفّع عنها العاقل الواعي ، وعبادة الله تعالى يدلّ عليها الحجّة والبرهان ، والفكر والمنطق الصحيح.

ولما نفى أن يكون الهوى متبعا نبّه على ما يجب اتّباعه بقوله : (قُلْ : إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي قل لهم أيها الرّسول : إنّي فيما أخالفكم فيه على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها الله إليّ ، وعلى حجّة عقلية واضحة ، ، وشاهد صدق ، والحال أنكم كذبتم بالحقّ الذي جاءني من الله ، أي كذبتم بالقرآن وجحدتم وجود الله حيث أشركتم به غيره ، وكذبتم بالبيّنات ، واتّبعتم الهوى والضلال ، وسرتم على منهج التّقليد الأعمى الذي لا دليل فيه.

ما عندي الذي تستعجلون به وهو العذاب ، فليس إنزاله بمقدور لي ، وما الحكم إلا لله أي إنما يرجع أمر ذلك إلى الله ، إن شاء عجّل لكم ما سألتموه من ذلك ، وإن شاء أنظركم وأجلّكم ، لما له في ذلك من الحكمة العظيمة : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) [الرّعد ١٣ / ٨].

والله يقصّ الحقّ ، أي يقصّ على رسوله القصص الحقّ في وعده ووعيده وجميع أخباره ، وهو خير الفاصلين أي خير الحاكمين الذين يفصلون في القضايا بين عباده ، وينفذ أمره متى شاء إصدار الحكم.

وكان عليه الصّلاة والسّلام يخوّف قومه بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك ، والقوم لإصرارهم على الكفر كانوا يستعجلون نزول ذلك العذاب. فقال تعالى : (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ...) أي قل أيها الرّسول لهؤلاء الذين يستعجلون العذاب بقولهم : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ، فَأَمْطِرْ

٢٢٣

عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال ٨ / ٣٢] : قل لهم : لو كان مرجع ذلك العذاب إليّ ، لأوقعت لكم ما تستحقونه من ذلك ولتمّ فصل القضاء بيني وبينكم ، ولتخلّصت سريعا ، وانقضى الأمر إلى آخره ، والله أعلم بالظالمين الذين لا أمل في صلاحهم ورجوعهم إلى الإيمان والحقّ والعدل ، لذا فإن إنزال العذاب بيده تعالى لا بيدي ، والله أعلم كيف يعاقبهم ، ومتى يعاقبهم ، وعلى أي نحو يجازيهم : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً ، وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف ٧ / ٣٤].

وقد أثير اعتراض : وهو كيف يوفق بين هذه الآية : (قُلْ : لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) وبين قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ، لا يشرك به شيئا»؟ والجواب : أن هذه الآية عند سؤالهم العذاب ، ففيها دلالة على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبونه حال طلبهم له ، لأوقعه بهم ؛ وأما الحديث : فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم ، بل عرض عليه ملك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين : وهما جبلا مكّة اللذان يكتنفانها جنوبا وشمالا ، فلهذا استأنى بهم ، وسأل الرّفق لهم بالرّغم من أنه عرض عليه عذابهم واستئصالهم.

وقصة الحديث : هي ما رواه الشيخان في الصحيحين عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله ، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال : لقد لقيت من قومك ، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي ، فإذا أنا بسحابة قد ظللتني ، فنظرت ، فإذا فيها جبريلعليه‌السلام ، فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردّوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ، قال : فناداني ملك الجبال ، وسلّم علي ، ثم قال : يا محمد ، إن الله

٢٢٤

قد سمع قول قومك لك ، وقد بعثني ربّك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت ، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا».

فقه الحياة أو الأحكام :

الحقّ والباطل لا يجتمعان ؛ لأن الحقّ قائم على الدّليل والعقل ، والباطل منبعث من الأهواء والشهوات ، لذا يستحيل على رسول الله أن يتّبع أهواء قومه في عبادة الأصنام والأوثان ، فهم يعبدونها بمحض الهوى والتّقليد ، لا على سبيل الحجّة والدّليل ، وهم كانوا ينحتون الأصنام ، ويقبح عقلا أن يعبد العامل الصانع معموله ومصنوعه.

وليس إيقاع العذاب بمقدور النّبي عليه الصّلاة والسّلام كغيره من البشر ، وإنما الأمر والحكم في ذلك لله وحده.

ودلّ قوله تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) على أنه لا يقدر العبد على أمر من الأمور إلا إذا قضى الله به ، فيمتنع منه فعل الكفر إلا إذا قضى الله به وحكم به ، وكذلك في جميع الأفعال ؛ لأن نصّ الآية يفيد الحصر ، بمعنى أنه لا حكم إلا لله.

وكذلك وقت عقوبة الظالمين ومقدارها لا يعلم به غير الله ، فهو تعالى يعلم ذلك ، ويؤخّره إلى وقته ، ويقدره حسبما يشاء ، يفعل كلّ ذلك بموجب الحكمة ، وهو العالم بكلّ شيء ، يعجّل ما تعجيله أصلح ، ويؤخّر ما تأخيره أصلح.

٢٢٥

كمال علم الله تعالى وقهره العباد

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢))

الإعراب :

(مِنْ وَرَقَةٍ) : من زائدة من وجه ، وغير زائدة من وجه ، لأنها قد أفادت معنى العموم ، و (وَرَقَةٍ) : في موضع رفع فاعل (تَسْقُطُ).

(وَلا حَبَّةٍ) أي ولا تسقط من حبّة في ظلمات الأرض. (فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) صفة لحبّة ، وتقديره : كائنة في ظلمات الأرض.

(إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) استثناء منقطع ، وتقديره : إلا هو «كائن» في كتاب مبين. والجار والمجرور في موضع رفع ؛ لأنه خبر المبتدأ.

(تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) التأنيث على تقدير : جماعة رسلنا. ومن قرأ : توفّاه رسلنا بالتّذكير ، على تقدير : جمع رسلنا. كقولك : قامت الرجال وقام الرجال. وهكذا في كلّ جماعة يجوز تذكير الفعل وتأنيثه ، فالتذكير على معنى الجمع ، والتأنيث على معنى الجماعة.

(مَوْلاهُمُ الْحَقِ مَوْلاهُمُ) : في موضع جرّ على البدل من اسم الله تعالى ، و (الْحَقِ) : صفة لمولاهم. ويجوز نصب (الْحَقِ) إما على المصدر ، أو بتقدير : أعني.

٢٢٦

البلاغة :

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) استعار المفاتح للأمور الغيبية كأنها مخازن خزنت فيها المغيبات. قال الزمخشري في الكشاف : ١ / ٥٠٩ : جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة ؛ لأن المفاتح يتوصّل بها إلى ما في المخازن المتوثق منها بالإغلاق والأقفال ، والمراد أن الله تعالى وحده هو العالم بالمغيبات ، كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها ، فهو المتوصل إلى ما في المخازن.

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) استعار توفي الموت للنوم لما بينهما من التشابه في زوال الإحساس والتمييز.

(وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) والليل والنهار بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(وَعِنْدَهُ) أي الله تعالى. (مَفاتِحُ) جمع مفتح أي مخزن ، أو مفتاح : وهو المفتاح الذي تفتح به الأقفال ، والمراد هنا : خزائن الغيب أو الطّرق الموصلة إليه. (الْبَرِّ) الأرض اليابسة. (الْبَحْرِ) المكان المتّسع للماء الكثير. (يَتَوَفَّاكُمْ) التّوفي : الأخذ التّام الكامل ، أو استيفاء الشيء أو إحصاء عدده ، ثم أطلق التّوفي على الموت ؛ لأن الأرواح تقبض وتؤخذ أخذا تاما ، كما أطلق على النوم ، وليس ذلك موتا حقيقة ، بل هو قبض الأرواح عن التّصرّف بالنّوم كما يقبضها بالموت. (جَرَحْتُمْ) عملتم وكسبتم بالجوارح ، والجرح كالكسب يطلق على الخير والشّرّ ، والاجتراح : فعل الشّرّ خاصة ، كما في قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) [الجاثية ٤٥ / ٢١].

(يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) يوقظكم من النوم في النهار. (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) ليقضى : ينفذ ، والأجل : هو أجل الحياة. (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) أي بالبعث ، (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيجازيكم به. (حَفَظَةً) ملائكة تحصي أعمالكم وهم الكرام الكتبة من الملائكة : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ) [الانفطار ٨٢ / ١٠ ـ ١١].

(تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) هم الملائكة الموكلون بقبض الأرواح. (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) يقصّرون فيما يؤمرون به. (ثُمَّ رُدُّوا) أي الخلق. (مَوْلاهُمُ) مالكهم. (الْحَقِ) الثابت العدل ليجازيهم. (لَهُ الْحُكْمُ) القضاء النافذ فيهم. (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) يحاسب الخلق كلهم في قدر نصف نهار من أيام الدّنيا ، لحديث وارد بذلك.

المناسبة :

الآيات متّصلة بما قبلها ؛ لأنه تعالى قال في الآية الأولى : (وَاللهُ أَعْلَمُ

٢٢٧

بِالظَّالِمِينَ) ثم ذكر هنا مدى سعة علمه وقدرته ، فعنده مفاتح الغيب ، وهو المتصرّف في الخلق أجمعين ، وهو القاهر فوق عباده ، وهو الحافظ المتوفي ، وهو المحاسب خلقه في أسرع وقت.

التفسير والبيان :

خزائن الغيب ومفاتيحها التي يتوصّل بها إلى علم الغيب عند الله ، وهو المتصرّف فيها ، وهو عالم الغيب والشهادة ، ولا يعلم بالغيب أحد سواه ، وينفذ منها ما يراه في الوقت المناسب لحكمته.

والغيبيات التي اختصّ الله بها خمس ، روى البخاري عن ابن عمر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)» [لقمان ٣١ / ٣٤].

وجاء في الخبر أن هذه الآية لما نزلت نزل معها اثنا عشر ألف ملك.

وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت : من زعم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبر بما يكون في غد ، فقد أعظم على الله الفرية ، والله تعالى يقول : (قُلْ : لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) [النمل ٢٧ / ٦٥].

وفي معناها أيضا قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ ، فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن ٧٢ / ٢٦ ـ ٢٧].

ويعلم سبحانه حديث النفس ، ويعلم السر وأخفى ، فقال : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ. وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [النمل ٢٧ / ٧٤ ـ ٧٥] وقال : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر ٤٠ / ١٩].

٢٢٨

وجملة (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) توكيد للجملة السابقة.

ثم فصّل تعالى ما أجمل ، وعدّد بعض نواحي العلم التي يحيط بها فقال : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ..) أي يعلم الأشياء المشاهدة لكم ، كما يعلم المغيبات ، فيعلم كل ما هو كائن في البر والبحر ، فعلمه محيط بجميع الموجودات بريها وبحريها ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، ولا مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.

ويعلم سقوط أي ورقة من أوراق الشجر في أي مكان وزمان ، في البر والبحر ، ويعلم الحركات حتى من الجمادات ، وبالأولى الحيوانات ، ولا سيما المكلفون منهم من الجن والإنس ، ويعلم الأحوال المتعلقة بالذوات ؛ إذ سقوط الورق حال من الأحوال.

ويعلم ما تسقط من حبة في ظلمات الأرض ، سواء بفعل الإنسان كالزارع ، أو الحيوان كالنمل ، أو بغير فعل الإنسان كالساقط من النبات في شقوق الأرض ، ويعلم ما يسقط من الثمار ، رطبا ويابسا ، حيا وميتا ، وهكذا علم كل الكائنات مكنون ثابت في كتاب واضح لا يمحى هو اللوح المحفوظ ، الذي سجل في كل شيء ، وسجل عدده ووقت وجوده وفنائه. وجعل الكتاب مبينا ؛ لأنه يبين عن صحة ما هو موجود فيه ، قبل أن يخلق الله الخلق ، وهذا قول الزجاج ، كما قال تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) [الحديد ٥٧ / ٢٢]. واختار الرازي وصوب أن الكتاب المبين هو علم الله تعالى لا غير (١).

والخلاصة : أنه تعالى يعلم الغيب والشهادة ، والظاهر والباطن ، والرطب واليابس ، والسر وأخفى وكل شيء في الكائنات ، يعلم بالكليات وبالجزئيات.

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٣ / ١١

٢٢٩

ثم ذكر الله تعالى بعض مظاهر قدرته وتصرفه في الكون والمراحل التي يمر بها الإنسان في أحوال المعيشة والموت والبعث وعند الحساب في الدار الآخرة فقال : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ..) أي أن الله يتوفى عباده في منامهم بالليل أي بالنوم ، وهذا هو التوفي الأصغر ، كما قال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ، وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الزمر ٣٩ / ٤٢] فذكر في كل من هاتين الآيتين حكم الوفاتين : الصغرى ، ثم الكبرى.

ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار ، وهذه جملة معترضة دلت على إحاطة علمه تعالى بخلقه في ليلهم ونهارهم ، في حال سكونهم وحال حركتهم ، كما قال تعالى : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) [الرعد ١٣ / ١٠].

ثم بعد هذا التوفي بالنوم والعلم بأعمالكم في النهار ، يبعثكم في النهار أي يثيركم ويرسلكم فيه ، على ما هو الأظهر الذي رجحه ابن كثير ، وهو قول مجاهد وقتادة والسدي.

هذا التقلب في الليل والنهار لأجل أن يقضى وينفذ الأجل المسمى الذي في علمه تعالى لكل واحد منكم ، فإن الآجال والأعمار محدودة ومقدرة مكتوبة سابقا.

ثم إلى الله مرجعكم يوم القيامة بعد تمام الآجال ، ثم يخبركم بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا ، ويجازيكم عليها إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

والله هو القاهر فوق عباده أي هو الذي قهر كل شيء ، وخضع لجلاله وعظمته وكبريائه كل شيء ، وهو القادر على البعث ؛ لأن من قدر على بعث من توفي بالنوم قادر على بعث من توفي بالموت ، وهو المتصرف بعباده ، يفعل بهم ما يشاء إيجادا وإعداما ، إحياء وإماتة.

٢٣٠

وهو الحافظ الذي يرسل حفظة من الملائكة ليلا ونهارا يحفظون بدن الإنسان ، ويحصون أعماله ، ولا يفرطون بشيء منها ، كما قال تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) [الانفطار ٨٢ / ١٠ ـ ١٢] (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق ٥٠ / ١٧ ـ ١٨]. وفي معنى الآية قوله تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ، يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي بأمره [الرعد ١٣ / ١١].

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ، ثم يعرج الذين باتوا فيكم ، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلون ، وأتيناهم وهم يصلون».

والحكمة في كتابة الحفظة الملائكة أعمال الإنسان مع أن الله أعلم بكل شيء : هي الإتيان بدليل مادي محسوس لإقامة الحجة على الإنسان ، ولان المرء إذا عرف تدوين أعماله انزجر عن الممنوعات ، وأقدم على الطاعات ، كما قال تعالى : (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ، وَيَقُولُونَ : يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف ١٨ / ٤٩].

يرسل عليكم الحفظة الملائكة لإحصاء الأعمال ، حتى إذا حان الأجل ، قبضت روحه رسلنا الموكلون بذلك من الملائكة ، هؤلاء الرسل هم أعوان ملك الموت ، كما قال تعالى : (قُلْ : يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [السجدة ٣٢ / ١١] قال ابن عباس وغيره : لملك الموت أعوان من الملائكة يخرجون الروح من الجسد ، فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم.

والحال أن هؤلاء الملائكة الحفظة لا يفرطون أي لا يقصرون في حفظ روح

٢٣١

المتوفى ، بل يحفظونها وينزلونها حيث شاء الله عزوجل ، إن كان من الأبرار ففي عليين ، وإن كان من الفجار ففي سجين ، عياذا بالله من ذلك.

ثم يرد هؤلاء الذين تتوفاهم الرسل إلى الله ، أي إلى حكمه وجزائه ، إلى الله مولاهم ، أي مالكهم الذي يلي أمورهم ، الحق أي العدل الذي لا يحكم إلا بالحق ، ألا له الحكم يومئذ لا حكم فيه لغيره ، ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، وهو أسرع الحاسبين ، يحاسب الكل في أسرع وقت وأقصره ، ولا يشغله حساب عن حساب ، جاء في الحديث : «إن الله يحاسب الكل في مقدار حلب شاة».

ونظير هذه الآية قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [النمل ٢٧ / ٧٨] وقوله : (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [الرعد ١٣ / ٤١] وقوله : (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [الزمر ٣٩ / ٤٦].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ الله تعالى عالم الغيب والشهادة ، كلا وجزءا ، واختص بعلم خمسة أمور لا يعلمها إلا هو : وهي علم الساعة ، ووقت تنزيل الغيث (المطر) ومقداره ، وعلم ما يكنّ في الأرحام بأوصاف وطبائع معينة ، وعلم المستقبل ، وعلم آجال الناس.

وعلمه محيط بكل حركة وسكنة ، وجماد وحيوان ونبات ، وسرّ الإنسان وحديث النفس وخلجات القلب.

والله تعالى عنده علم الغيب ، وبيده الطرق الموصلة إليه ، لا يملكها إلا هو ، فمن شاء اطلاعه عليها أطلعه ، ومن شاء حجبه عنها حجبه ، ولا يكون ذلك من

٢٣٢

إفاضته إلا على رسله ، بدليل قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ، وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) [آل عمران ٣ / ١٧٩] وقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن ٧٢ / ٢٦ ـ ٢٧].

٢ ـ قال العلماء : أضاف سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير ما آية من كتابه إلا من اصطفى من عباده ، فمن قال : إنه ينزّل الغيث غدا وجزم فهو كافر ، أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا. وكذلك من قال : إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر ، فإن لم يجزم وقال : إن النّوء (١) ينزل الله به الماء عادة ، وأنه سبب الماء عادة ، وأنه سبب الماء على ما قدّره وسبق في علمه ، لم يكفر ، إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به ، فإن فيه تشبها بكلمة أهل الكفر ، وجهلا بلطيف حكمته ؛ لأنه ينزل متى شاء ، مرة بنوء كذا ، ومرة دون النّوء (٢).

والكهانة (ادعاء معرفة الماضي وعلم الغيب) والعرافة (ادعاء معرفة الماضي والمستقبل) كذب يتنافى كل منهما مع أصل معرفة الله الغيب وانحصار ذلك به ، جاء في صحيح مسلم عن بعض أزواج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من أتى عرّافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» والعرّاف : هو الحازر والمنجّم الذي يدعي علم الغيب ، ويستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدّعي معرفتها ، وقد يستعين بالنجوم وغيرها ، وأسباب معتادة في ذلك. وهذا فن العيافة ، وكلها ينطلق عليها اسم الكهانة.

قال ابن عبد البر : من المكاسب المجمع على تحريمها الربا ومهور البغايا والسّحت والرشا وأخذ الأجرة على النياحة والغناء ، وعلى الكهانة وادعاء الغيب وأخبار السماء ، وعلى الزمر واللعب والباطل كله.

__________________

(١) النوء : سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر ، وطلوع آخر من المشرق يقابله من ساعته ، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها.

(٢) تفسير القرطبي : ٧ / ٢

٢٣٣

٣ ـ الإشارة للكتاب المبين أي اللوح المحفوظ : لتعتبر الملائكة بذلك ، لا أنه سبحانه كتب ذلك لنسيان يلحقه ، تعالى عن ذلك.

٤ ـ الله المتصرف في الإنسان بنومه وهو الموتة الصغرى ، وبموته الحقيقي وهو الموتة الكبرى ، والفرق بينهما أن النوم فيه قبض الروح عن التصرف ، وأما الموت ففيه قبض نهائي للروح عن الحركة وسلخها من الجسد ، ففي النوم تبقى الحياة ، بدليل بقاء الحركة والتنفس ، فإذا انقضى عمره خرجت روحه وتنقطع حياته ، وصار ميتا لا يتحرك ولا يتنفس.

٥ ـ إمهاله تعالى للكفار ليس لغفلة عن كفرهم ، فإنه أحصى كل شيء عددا ، وعلمه وأثبته ، ولكن ليقضي أجلا مسمى من رزق وحياة ، ثم يرجعون إليه فيجازيهم.

وقد دلت الآية على الحشر والنشر بالبعث ؛ لأن النشأة الثانية منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الآخر.

٦ ـ في تحديد الأجل المسمى للحياة والرجوع إلى الله تعالى للحساب والجزاء تأييد لما تقدم من حكمة تأخير ما كان يستعجله مشركو مكة من العذاب ، وأن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا ، فمن نجا من الأول لم يسلم من الآخر.

والله في كل الأحوال هو القاهر فوق عباده فوقية مكانة ورتبة ، لا فوقية مكان وجهة.

٧ ـ لله ملائكة تحفظ أعمال العباد وتحفظهم من الآفات ، وهناك مهام أخرى للملائكة متعلقة بالبشر ، منها قبض الأرواح ، ولملك الموت أعوان يسلّون الروح من الجسد حتى إذا كان عند قبضها ، قبضها ملك الموت.

والمتوفي على الحقيقة هو الله ، لكن قد ينسب التوفي تارة إلى ملك الموت

٢٣٤

الذي يأتمر بأمر الله مثل : (قُلْ : يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) [السجدة ٣٢ / ١١] ، وتارة إلى الملائكة ؛ لأنهم يتولون ذلك ، كما في هذه الآية : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) وتارة إلى الله مثل : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزمر ٣٩ / ٤٢] (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) [الجاثية ٤٥ / ٢٦] (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك ٦٧ / ٢].

٨ ـ الحكم المطلق لله وحده يوم القيامة ، أي القضاء والفصل ، والله أسرع الحاسبين ، أي لا يحتاج إلى فكرة وروية.

القدرة الإلهية على الإنجاء من الظلمات

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤))

الإعراب :

(تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) إما منصوب على المصدر ، أو منصوب على الحال ؛ لأن معناه: ذوي تضرع. (لَئِنْ أَنْجانا) اللام لام القسم.

المفردات اللغوية :

(ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الحسية كظلمة الليل والغيوم والمطر وما يصحبها من أخطار كالعواصف والأعاصير وهياج البحار ، والمعنوية كظلمة الجهل بالطرق ، وفقد الدلائل ، والمراد أهوالهما ومخاوفهما في أسفاركم. (تَضَرُّعاً) علانية ومبالغة في الضراعة : وهي الذل والخضوع ، والمراد : ما صدر عن الحاجة الشديدة والإخلاص. (وَخُفْيَةً) خفاء وسرا. (مِنْ هذِهِ) الظلمات والشدائد. (الشَّاكِرِينَ) نعمة الله مع الانضمام لصف المؤمنين. (وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) غم شديد.

المناسبة :

بيّن سبحانه فيما سبق بعض الأدلة على ألوهيته من إحاطة علمه ، وشمول قدرته ، واستعلائه على خلقه بالقهر ، وحفظه أعمالهم عليهم ، وأضاف هنا نوعا

٢٣٥

آخر من الدلائل الدالة على كمال القدرة الإلهية ، وكمال الرحمة والفضل والإحسان.

التفسير والبيان :

يمتن الله تعالى على عباده في إنجائه المضطرين منهم من ظلمات البر والبحر ، أي الحائرين التائهين المتعرضين لأهوال المخاطر والمخاوف في البر والبحر.

قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين غفلوا عن آيات التوحيد : من ينجيكم من أهوال الأسفار ومخاوفها إذا ضللتم في أنحاء الأرض البرية والبحرية؟ فحينئذ لا تجدون ملجأ غير الله تدعونه علانية وسرا ، بخشوع وخوف واستغاثة وضراعة وتذلل ، حال كونكم تقسمون : لئن أنجانا الله من هذه الشدائد والظلمات أو الضائقة التي وقعت بنا ، لنكونن من شاكري النعمة ، المقرين بتوحيد الله ، المخلصين له العبادة ، دون إشراك.

ونظير الآية كثير في القرآن مثل قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ ، وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ، وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ ، وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ، دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [يونس ١٠ / ٢٢].

ومثل : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء ١٧ / ٦٧].

قل : الله هو الذي ينجيكم مرارا من هذه الأهوال ، ومن كلّ كرب وغمّ ، ثم مع ذلك أنتم بعدئذ تشركون بالله غيره ، فتخلفون وعدكم بالإيمان ، وتخونون العهد مع الله ، وتحنثون بالقسم الذي حلفتموه.

٢٣٦

فقه الحياة أو الأحكام :

لا يثبت الإنسان غالبا على العهد ، ولا يفي بالوعد ، ولا يستقرّ على حال الاستقامة ، فتراه بطبعه غدارا خائنا ، يلجأ إلى الله وقت الشدة والخوف ، وينسى الله بعد النجاة ، ويعود إلى ضلالة وجهله. والواجب الذي يمليه العقل والوفاء بالجميل والإخلاص أن يستمر الإنسان على أصل العقيدة الصحيحة والإيمان الحق والعبادة لمن أنعم عليه بجلائل النعم ودقائقها ، لا سيما في أحوال الأزمات والمحن.

وهذه حال من الأحوال التي ذكرتها الآية : وهي إذا أخطأتم الطريق وخفتم الهلاك ودعوتم الله ، وأقسمتم : لئن أنجانا الله من هذه الشدائد ، لنكونن من الطائعين المستقيمين.

وهذا توبيخ من الله لأولئك المشركين في دعائهم إياه عند الشدائد ، ثم يدعون معه غيره في حالة الرخاء ، كما قال : (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ).

إنه مثل ضربه الله ، بقصد التقريع والتوبيخ لمن تعهد بالإيمان ونبذ الشرك ؛ لأن الحجة إذا قامت بعد المعرفة ، وحب الإخلاص ، والمشركون قد جعلوا بدلا منه وهو الإشراك ، فحسن أن يقرّعوا ويوبخوا على هذا المنهج ، وإن كانوا مشركين قبل النجاة.

وفي الآية إيماء إلى أن من أشرك في عبادة الله تعالى غيره ، فهو لم يعبده ؛ لأن شرط العبادة الإخلاص ، والتوحيد أساس العبادة.

والآية صريحة بأنه إذا شهدت الفطرة السليمة والخلقة الأصلية في وقت المحنة بأنه لا ملجأ إلا إلى الله ، ولا تعويل إلا على فضل الله ، وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات ؛ إذ لا يقبل عقلا أن يأتي الإنسان بأمور

٢٣٧

أربعة عند حصول الشدائد : وهي الدعاء ، والتضرع ، والإخلاص بالقلب ، والتزام الاشتغال بالشكر ، ثم يرتد على عقبيه ، ويعمل بنقيض هذه الأمور بعد النجاة وإحراز السلامة من الله تعالى وحده الذي يهيئ الأسباب للإنجاء من المخاوف ، أو يغمر عباده بواسع الرحمة والفضل ، وبدقائق اللطف والإلهام.

القدرة الإلهية على تعذيب العصاة

(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧))

الإعراب :

(أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) إما منصوب على المصدر أو على الحال.

البلاغة :

(فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(مِنْ فَوْقِكُمْ) أي من السماء كالحجارة والصيحة. (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) كالخسف. (أَوْ يَلْبِسَكُمْ) يخلطكم ، من اللّبس ، والمراد : يخلط عليكم أمركم خلط اضطراب واختلاف. وفيه حذف تقديره : يلبس عليكم أمركم. (شِيَعاً) جمع شيعة ، أي يجعلكم فرقا مختلفة الأهواء. (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) بالقتال. (نُصَرِّفُ الْآياتِ) نبين لهم الدلالات على قدرتنا ، ونحو لها من نوع من أنواع الكلام إلى آخر ، ترسيخا للمعنى وتأكيدا له. (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) يعلمون أن ما هم عليه باطل ، والفقه : فهم الشيء بدليله وعلته ، فهما يؤدي إلى الاعتبار والاتعاظ والعمل الأفضل.

٢٣٨

(وَكَذَّبَ بِهِ) بالقرآن. (وَهُوَ الْحَقُ) الصدق. (بِوَكِيلٍ) هو الذي توكل أو تفوض إليه الأمور ، والمراد : لست مفوضا في شأنكم ، فأجازيكم ، إنما أنا منذر ، وأمركم إلى الله. (نَبَإٍ) خبر. (مُسْتَقَرٌّ) وقت يقع فيه ويستقر ، ومنه عذابكم. (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) تهديد لهم.

سبب النزول :

أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال : لما نزلت (قُلْ : هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً ..) الآية ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيوف» قالوا : ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقال بعض الناس : لا يكون هذا أبدا : أن يقتل بعضنا بعضا ، ونحن مسلمون ، فنزلت : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ، وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ ، وَهُوَ الْحَقُّ ، قُلْ : لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ ، وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).

وروى أحمد والترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الآية : (قُلْ : هُوَ الْقادِرُ) إلخ ، فقال : «أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد».

المناسبة :

بعد أن بيّن سبحانه أنه القادر على إنجاء المشركين وغيرهم من المخاوف والأهوال ، بيّن كونه تعالى قادرا على إيصال العذاب إليهم من طرق مختلفة ، ليعتبروا ويتعظوا ، وهو نوع آخر من دلائل التوحيد ، ممزوج بنوع من التخويف.

التفسير والبيان :

قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المعاندين : الله هو القادر على إنزال العذاب عليكم بألوان مختلفة ، تارة من فوقكم كالرجم بالحجارة كما حدث لقوم لوط

٢٣٩

وأصحاب الفيل ، والصيحة وهي الصوت الشديد المهلك ، كما حدث لثمود وهم أصحاب الحجر (واد بين المدينة والشام) ، والطوفان كما حدث لقوم نوح ، وتارة من تحتكم كالزلزال والبركان والخسف المعهود فيما سبق كما حدث لقارون ، وتارة أن يخلط عليكم أمركم ويجعلكم فرقا مختلفين على أهواء شتى ، كل فرقة منكم مشايعة لإمام. ومعنى خلطهم : أن ينشب القتال بينهم ، فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال. وعن ابن عباس : أن المراد بمن فوقكم أي من أمرائكم ، ومن تحت أرجلكم ، أي عبيدكم وسفلتكم.

قال الطبري : وأولى التأويلين (١) في ذلك بالصواب عندي قول من قال : عنى بالعذاب من فوقهم : الرجم ، أو الطوفان ، وما أشبه ذلك ، مما ينزل عليهم من فوق رؤوسهم ؛ ومن تحت أرجلهم : الخسف وما أشبهه ، وذلك وأن المعروف في كلام العرب من معنى : فوق وتحت الأرجل هو ذلك دون غيره ، وإن كان لما روي عن ابن عباس في ذلك (التأويل الثاني) وجه صحيح ، غير أن الكلام إذا تنوزع في تأويله ، فحمله على الأغلب الأشهر من معناه أحق وأولى من غيره ، ما لم تأت حجة مانعة من ذلك يجب التسليم لها(٢).

وإني أؤيد الطبري ؛ لأن ظاهر اللفظ يقضي بحمله على المعروف المشهور ، وإن كان لا مانع من الأخذ بعموم اللفظ ، مما يحدث في المستقبل ؛ لأن القرآن معجزة الدهر ، لا تفنى عجائبه ، ولا تنقضي غرائبه. وقد شهد العصر الحديث ويلات رهيبة من مشاهد القتال ، من الجو والبر والبحر ، مما يشيب منه الإنسان.

__________________

(١) التأويل الأول للعذاب من فوقهم : الرجم ؛ ومن تحتهم : الخسف ، والتأويل الثاني للعذاب من فوقهم : أئمة السوء ، ومن تحت أرجلهم : الخدم وسفلة الناس ، وهذا مروي عن ابن عباس.

(٢) تفسير الطبري : ٧ / ١٤٢

٢٤٠