التفسير المنير - ج ٧

الدكتور وهبة الزحيلي

وحكمة تشريع هذه الشهادة وهذه الأيمان : هي مطابقة الشهادة واليمين للواقع ، لقوله تعالى : (ذلِكَ أَدْنى ...) أي أقرب أن يؤدي الشهداء الشهادة على وجهها الحقيقي بلا تبديل ولا تغيير ، خوفا من عذاب الله ، وهذه حكمة تغليظ الشهادة بكونها بعد العصر ، أو خوفا من ردّ اليمين على الورثة ، وفي ذلك الخزي والفضيحة بين الناس ، فيظهر كذبهم بين الناس ، فيكون الخوف من عذاب الله أو من ردّ اليمين مدعاة الصدق والبعد عن الخيانة.

ثم طوّق الله هذا التشديد على صدق الشهادة بباعث ذاتي دائم وهو تقوى الله : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا ..) أي راقبوا الله واحذروا عقابه في أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبة وأن تأخذوا مالا عليها وأن تخونوا من ائتمنكم ، واسمعوا سماع تدبر وقبول لهذه الأحكام واعملوا بها ، وإلا كنتم من الفاسقين : المتمردين الخارجين عن دائرة حكم الله وشرعه ، المطرودين من هدايته ، المستحقين لعقابه ، والله لا يوفق من فسق عن أمر ربه فخالفه وأطاع الشيطان.

فقه الحياة أو الأحكام :

أكثر المفسرين ـ كما قال الطبري ـ على أن هذه الآية محكمة غير منسوخة ، ومن ادعى النسخ فعليه البيان ، ثم صوّب الطبري القول بالنسخ ، لأن المعمول به بين أهل الإسلام قديما منذ بعثة النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما بعد ذلك : أن إثبات الحق يكون إما ببينة المدعي أو بيمين المدعى عليه إذا لم يكن للمدعي بينة تصحح دعواه ، وأن من ادعى سلعة في يده أنها له اشتراها من المدعي : القول قول المدعي بيمينه ، إذا لم يكن لمن هي في يده بيّنة تثبت مدعاه (١).

وقد استنبط العلماء من هذه الآيات الثلاث ما يأتي من الأحكام :

__________________

(١) تفسير الطبري : ٧ / ٨١

١٠١

١ ـ الحض على الوصية والاهتمام بأمرها في السفر والحضر.

٢ ـ الإشهاد عليها لإثباتها وتنفيذها.

٣ ـ الأصل كون الشاهدين مسلمين عدلين.

٤ ـ جواز شهادة غير المسلم على المسلم للضرورة أو الحاجة. وقد اختلف العلماء في هذا الحكم ، فقال الجمهور من الفقهاء : قوله سبحانه : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) منسوخ ؛ لقوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) [البقرة ٢ / ٢٨٢] ، وقوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي من المؤمنين كما هو الظاهر [الطلاق ٦٥ / ٢] وآية الدين التي فيها : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ ..) من آخر ما نزل ، فهي ناسخة لما ذكر هنا ، ولم يكن الإسلام يومئذ إلا بالمدينة ، فجازت في الماضي شهادة أهل الكتاب ، أما اليوم فوجد المسلمون في كل مكان ، فسقطت شهادة الكفار ، وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفسّاق لا تجوز ، والكفار فسّاق فلا تجوز شهادتهم ، فلا تجوز شهادة الكفار على المسلمين ، ولا على بعضهم بعضا ، للأدلة السابقة.

وقال أبو حنيفة : تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض ، ولا تجوز على المسلمين : لأن آيات الشهادة بحسب السياق في كلها هي في الكلام عن المسلمين ، وأما فيما بينهم فتقبل شهادتهم لقوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [آل عمران ٣ / ٧٥] فأخبر أن منهم الأمين على مثل هذا القدر من المال ، فيكون أمينا على قرابته وأهل ملته بالأولى. ولقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [الأنفال ٨ / ٧٣] فأثبت لهم الولاية بعضهم على بعض ، وهي أعلى رتبة من الشهادة. وما روي عن جابر بن عبد الله رضي‌الله‌عنهما أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجل منهم وامرأة زنيا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ائتوني بأربعة منكم يشهدون».

ثم إن أهل الذمة يتعاملون فيما بينهم بالبيع والإجارة والمداينة ، وتقع بينهم

١٠٢

الجنايات والاعتداءات ، ولا يكون لهم شهداء إلا من أنفسهم ، ويتخاصمون إلى قضاة المسلمين ، فإذا لم يحكم بينهم بشهودهم المرضيين عندهم ، ضاعت حقوقهم ، ووقع الظلم والفساد ، فالحاجة ماسة إلى قبول شهادتهم بعضهم على بعض.

هذا هو الأرجح والمقبول عمليا. وكذلك في شهادة الكفار على المسلمين يؤخذ بقول الإمام أحمد : تجوز للضرورة حيث لا يوجد مسلم كالسفر ؛ لقوله تعالى : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) قال ابن تيمية : وقول الإمام أحمد في قبول شهادتهم في هذا الموضوع : هو ضرورة ، يقتضي قبولها في كل ضرورة ، حضرا وسفرا. ولو قيل : تقبل شهادتهم مع أيمانهم في كل شيء عدم فيه المسلمون ، لكان له وجه ؛ إذ قد يقرب أجل المسلم في الغربة ، ولا يجد مسلما يشهده على نفسه ، وربما وجبت عليه زكوات وكفارات ، وربما كان عنده وودائع أو ديون في ذمته ، فإذا لم يشهد غير المسلمين ضاعت عليه مهماته ومصالحه.

٥ ـ وآية (تَحْبِسُونَهُما) أصل في حبس من وجب عليه حق ؛ لأن التوثق للحقوق المالية إما بالرهن وإما بالكفالة ، فإن تعذرا جميعا لم يبق إلا التوثق بالحبس حتى يحمله السجن على الوفاء بالحق ، أو يتبين أنه معسر.

أما التوثق للحق البدني الذي لا يقبل البدل كالحدود والقصاص ، فلا يمكن إلا بالسجن ، روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حبس رجلا في تهمة. وروى أبو داود عن عمرو بن الشّريد عن أبيه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته» عرضه : يعزر بالتوبيخ ، وعقوبته : حبسه.

٦ ـ دل قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) على مشروعية اختيار الوقت الذي يؤثر في نفوس الشهود حالفي الأيمان رجاء أن يصدقوا في كلامهم. قال أكثر العلماء : يريد بالآية بعد صلاة العصر ؛ لأن أهل الأديان يعظمون ذلك

١٠٣

الوقت ، ويتجنبون فيه الكذب واليمين الكاذبة. جاء في الحديث الصحيح «من حلف على يمين كاذبة بعد العصر ، لقي الله ، وهو عليه غضبان».

٧ ـ الآية أصل في التغليظ في الأيمان ، بأن يقول الحالف ما يرجى ان يكون رادعا له عن الكذب.

والتغليظ يكون بأربعة أشياء :

أ ـ الزمان كما هو مذكور في الآية.

ب ـ المكان : كالمسجد والمنبر ، خلافا للبخاري والحنفية حيث يقولون : لا يجب استحلاف أحد عند منبر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا بين الركن والمقام لا في قليل الأشياء ولا في كثيرها.

وقال مالك والشافعي : أيمان القسامة بين الركن والمقام في مكة لمن كان فيها أو في توابعها ، وعند المنبر النبوي لمن كان في المدينة وتوابعها. وتغلظ الأيمان في الدماء والطلاق والعتاق في رأي الشافعي.

ج ـ الحال : ذكر مظرّف وابن الماجشون وبعض الشافعية : أنه يحلف قائما مستقبل القبلة ؛ لأن ذلك أبلغ في الردع والزجر. وقال ابن كنانة : يحلف جالسا.

د ـ التغليظ باللفظ : قالت طائفة : يحلف بالله لا يزيد عليه ؛ لقوله تعالى : (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) وقوله : (قُلْ : إِي وَرَبِّي) وقوله : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ).

وقال مالك : يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عندي حق ، وما ادّعاه علي باطل ، لما رواه أبو داود عن ابن عباس أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لرجل حلّفه : «احلف بالله الذي لا إله إلا هو ، ماله عندك شيء» يعني للمدعي.

١٠٤

وقال الحنفية : يحلف بالله لا غير ، فإن اتهمه القاضي ، غلظ عليه اليمين ، فيحلفه «بالله الذي لا إله إلا هو ، عالم الغيب والشهادة ، الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية ، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور».

وزاد الشافعية : التغليظ بالمصحف. وقال أحمد : لا يكره ذلك.

٨ ـ قدر المال الذي يحلف به : قال مالك : لا تكون اليمين في أقل من ثلاثة دراهم ، قياسا على حد القطع في السرقة. وقال الشافعي : لا تكون اليمين في ذلك في أقل من عشرين دينارا قياسا على الزكاة ، وكذلك عند منبر كل مسجد.

٩ ـ الأصل قبول أخبار الشهود وتصديقهم دون يمين لقول الله تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) وشرط في تحليف الشاهدين الارتياب في خبرهما ، فإذا لم يكن الشاهدان عدلين وارتاب الحاكم بقولهما حلّفهما ، بدليل قوله تعالى : (إِنِ ارْتَبْتُمْ) ومتى لم يقع ريب فلا يمين. وأصبح تحليف الشهود السمة العامة في المحاكم الحالية. وسبب الريبة في الآية : هو الاحتياط ؛ لقبول شهادة الكافر بدلا عن شهادة المسلم للضرورة. وقد حلف ابن عباس المرأة التي شهدت بالرضاع.

١٠ ـ تجيز الآية شهادة المدعين لأنفسهم واستحقاقهم بمجرد أيمانهم : وهذا مخالف للمقرر في الشريعة : أن البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر. وهو محض العدل ، وقد أجاب الجمهور بأن حكم الآية هذا منسوخ.

وأما جواب القائلين بأن الآية محكمة غير منسوخة : فهو قبول يمين المدعي بسبب العثور على خيانة المدعى عليه واستحقاقه الإثم ، وهذا موافق للأصول حيث يتقوى جانب المدعي بالشاهد ، أو بنكول خصمه عن اليمين ، أو قوة جانبه باللوث (القرينة على القتل) ، أو قوة جانبه بشهادة العرف في تداعى

١٠٥

الزوجين ، ومنها العثور على الخيانة ، فإن اليمين تكون بجانب أقوى المتداعيين شبهة.

١١ ـ الآية تدل على مشروعية اليمين المردودة ، أي رد اليمين من المدعى عليه إلى المدعي.

١٢ ـ أولى الورثة المدعين بقبول اليمين منهم فيما يتعلق بالتركة : أقربهم إلى الميت ؛ لقوله تعالى : (لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) أي يميننا أحق من يمينهما. وهذا يدل على أن الشهادة يصح أن تكون بمعنى اليمين ، مثل قوله تعالى : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ) [النور ٢٤ / ٦].

سؤال الرسل يوم القيامة عن أثر دعوتهم

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩))

المفردات اللغوية :

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) هو يوم القيامة. (فَيَقُولُ : ما ذا أُجِبْتُمْ) أي يقول هم توبيخا لقومهم : ما الذي أجبتم به حين دعوتم إلى التوحيد. (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ما غاب عن العباد وذهب عنهم علمه لشدة هول يوم القيامة وفزعهم.

المناسبة :

الآية استمرار في التهديد والتخويف والزجر ، فبعد أن أمر الله بالتقوى. وحذّر من إخفاء شيء من الوصية أو غيرها ، أعقب ذلك بالتحذير من الحساب يوم القيامة ، أي اتقوا الله واذكروا دائما يوم يجمع الله الرسل. وعادة القرآن أنه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والأحكام والتكاليف ، كما ذكر هنا ، أتبعها إما بالإلهيات ، وإما بشرح أحوال الأنبياء ، أو بشرح أحوال القيامة ، ليؤكد

١٠٦

ما تقدم ، وهنا أتبع الشرائع بوصف أحوال القيامة ، ثم ذكر في الآية بعدها أحوال عيسى.

التفسير والبيان :

اذكر أيها الرسول يوم يجمع الله الرسل يوم القيامة ، فيقول لهم على سبيل التوبيخ والتأنيب لأممهم ، ويسألهم عما أجيبوا به من أممهم ، يسألهم عن نوع الإجابة ، أهي إجابة إيمان وإقرار ، أم إجابة إنكار وإعراض؟ وذلك كما قال تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف ٧ / ٦] وقال سبحانه : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر ١٥ / ٩٢ ـ ٩٣] وهذا سؤال للطرفين : للرسل وللمرسل إليهم.

وقال تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) [التكوير ٨١ / ٨ ـ ٩] وهذا سؤال للشاهد دون المتهم للتوبيخ وإنكار الفعل.

وذلك يختلف باختلاف مواقف القيامة وأحوالها ، فبعضها يسأل الله الرسل للشهادة على أممهم ، وبعضها يسأل الأمم ، وقد يسأل الخصم وقد يسأل الشهود ، وقد يسأل الفريقان.

ويسألهم أيضا : ما ذا عملوا بعدكم وما أحدثوا بعدكم؟ فأجابوا قائلين للربّ عزوجل : لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا ، بطريق التأدب مع الله جلّ جلاله ، أي لا علم لنا بالنسبة لعلمك المحيط بكل شيء ، العليم بكل شيء ، المطلع على كل شيء ، فعلمنا بالنسبة إلى علمك كعدم العلم ، إنك أنت علام الغيوب ، أي ما غاب عن الناس وذهب عنهم لشدة هول يوم القيامة ، أو لسعة علم الله بظواهر الأمور وبواطنها.

وبهذا يجمع بين الرأيين في تفسير الآية وتوضيح الجواب ، وهما ما يأتي :

١٠٧

الأول ـ يراد به نقصان علمهم بالنسبة إلى علم الله تعالى ، وهذا رأي ابن عباس ، وهو الأصح ، قالوا : لا علم لنا ؛ لأنك تعلم ما أظهروا وما أضمروا ، ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا ، فعلمك فيهم أنفذ من علمنا.

الثاني ـ انعدام علمهم بسبب ما يتعرضون له من هول ذلك اليوم وفزعهم ويذهلون عن الجواب. وهذا رأي الحسن البصري ومجاهد والسّدّي ، جاء في الخبر : «إن جهنم إذا جيء بها زفرت زفرة ، فلا يبقى نبيّ ولا صدّيق إلا جثا لركبتيه» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خوفني جبريل يوم القيامة حتى أبكاني ، فقلت : يا جبريل ، ألم يغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر؟ فقال لي : يا محمد : لتشهدنّ من هول ذلك اليوم ما ينسيك المغفرة».

فقه الحياة أو الأحكام :

الثابت في القرآن الكريم أن الله تعالى يسأل الرسل عن القيام بواجبهم في التبليغ ، ويسأل أقوامهم عن مدى إجابتهم دعوة الرسل ونوع الإجابة أهي إجابة إقرار أم إجابة إنكار؟

والله في هذه الآية يوجّه السؤال للأنبياء بقوله مثلا : ما ذا أجبتم في السرّ والعلانية؟ ليكون هذا توبيخا للكفار ، فيقولون أي الرسل على سبيل النفي الحقيقي : لا علم لنا ، فيكون هذا تكذيبا لمن اتخذ المسيح إلها.

وقال ابن جريج : معنى قوله : (ما ذا أُجِبْتُمْ؟) : ما ذا عملوا بعدكم؟ قالوا : لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب.

قال الماوردي : فإن قيل : فلم سألهم عما هو أعلم به منهم؟ فعنه جوابان :

أحدهما ـ أنه سألهم ليعلّمهم ـ أي الرسل ـ ما لم يعلموا من كفر أممهم ونفاقهم وكذبهم عليهم من بعدهم. الثاني ـ أنه أراد أن يفضحهم ـ أي أقوامهم ـ بذلك على رؤوس الأشهاد ، ليكون ذلك نوعا من العقوبة لهم.

١٠٨

ودلت الآية كما قال الرازي على جواز إطلاق لفظ العلام على الله ، كما جاز إطلاق لفظ الخلاق عليه. أما (العلامة) فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز إطلاقها في حقه ، ولعل السبب ما فيه من لفظ التأنيث.

التّذكير بمعجزات عيسى عليه‌السلام

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١))

الإعراب :

في ضمير (فَتَنْفُخُ فِيها) وجهان : أحدهما ـ أن يعود على الهيئة ، وهي مصدر في معنى «المهيّأ» لأن النّفخ إنما يكون في المهيأ لا في الهيئة. والثاني ـ أن يعود على الطير ؛ لأنها تؤنث.

ومن قرأ طائرا جاز أن يكون جمعا كالباقر والحامل ، فيؤنث الضمير في (فِيها) لأنه يرجع إلى معنى الجماعة.

المفردات اللغوية :

(أَيَّدْتُكَ) قويتك. (بِرُوحِ الْقُدُسِ) جبريل عليه‌السلام الذي يؤيّد به الله رسله

١٠٩

بالتّعليم الإلهي والتّثبيت في مواطن الضّعف التي قد يتعرّض البشر لها. (فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) في حالتي الطّفولة والكهولة أو الضعف والقوة. (الْكِتابَ) كلّ ما يكتب. (وَالْحِكْمَةَ) العلم النافع. (وَالتَّوْراةَ) الكتاب الذي أنزله الله على موسى ، وفيه الشرائع والأحكام. (وَالْإِنْجِيلَ) الكتاب الذي أنزله الله على عيسى ، وفيه المواعظ والأخلاق.

(وَإِذْ تَخْلُقُ) تجعل الشيء بمقدار معين بإذن الله وإرادته ، ويستعمل الخلق في إيجاد الله الأشياء بتقدير معين في علمه. (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) كصورته ، والكاف : اسم بمعنى مثل ، مفعول به. (بِإِذْنِي) بإرادتي. (الْأَكْمَهَ) من ولد أعمى ، وقد يطلق أيضا على من طرأ له العمى بعد الولادة. (الْأَبْرَصَ) البرص : بياض بقع في الجسد لعلّة مرضية. (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ) حين همّوا بقتلك. (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) المعجزات. (سِحْرٌ) السّحر : هو تمويه وتخييل ، به يرى الإنسان الشيء على غير حقيقته.

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) أمرتهم على لسانه ، والحواريون ، خلصاء عيسى وصحبه المخلصون. (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) أي عيسى.

المناسبة :

كان المقصود من قوله تعالى للرّسل : (ما ذا أُجِبْتُمْ) توبيخ من تمرّد من أممهم ، وأشدّ الأمم حاجة إلى التّوبيخ واللّوم : النّصارى الذين ألّهوا عيسى عليه‌السلام ؛ لأن طعن سائر الأمم كان مقصورا على الأنبياء ، وأما النّصارى فتعدّى طعنهم إلى جلال الله وكبريائه حيث وصفوه بما لا يليق بعاقل أن يصف الإله به ، وهو اتّخاذ الزّوجة والولد ، لذا كانت هذه الآيات مذكّرة بأنواع النّعم على عيسى عليه‌السلام ، وهي بالتالي معجزات أيّده الله بها لإظهار صدقه ، كما أيّد سائر الأنبياء بالمعجزات ، والمقصود منه : توبيخ النّصارى وتقريعهم على سوء مقالتهم ، فإنّ كلّ واحدة من تلك النّعم تدلّ على أنّ عيسى بشر عبد الله وليس بإله.

١١٠

التفسير والبيان :

الآيات تذكير بالنّعم والمعجزات الباهرات وخوارق العادات التي أجراها الله على يدي عيسى عليه‌السلام بإرادة قاطعة من الله وحده.

اذكر يا عيسى نعمتي عليك في خلقي إيّاك من أم بلا أب ، وجعلي إيّاك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي على الأشياء.

ونعمتي على والدتك حيث جعلتك لها برهانا على براءتها مما نسبه الظالمون والجاهلون إليها من الفاحشة ، إذ أنطقتك في المهد فشهدت ببراءة أمّك.

وأيّدتك بروح القدس وهو في الأصحّ جبريل عليه‌السلام ، وجعلتك نبيّا داعيا إلى الله في صغرك وكبرك.

و (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) أي تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك ، وتبرّؤ أمك من كلّ عيب وتهمة من الظلمة : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا* وَجَعَلَنِي مُبارَكاً) [مريم ١٩ / ٣٠ ـ ٣١].

(وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي الخط والفهم ، فتقرأ الكتب وتفهم ما فيها من العلم النافع لك في الدّين والدّنيا. والحكمة تشمل العلوم النظرية والعلوم العملية. وعلّمتك التّوراة : (وهي المنزلة على موسى بن عمران كليم الله) والإنجيل (وهو ما أوحيته إليك من المواعظ والحكم). وذكر هذان الكتابان بعد ذكر الكتب للتشريف والتعظيم.

وإذ تصنع الطيور ، بأن تصوّر من الطّين وتشكّل على هيئة الطائر ، بإذني وإرادتي لك في ذلك ، ثم تنفخ فيها أي في تلك الصورة التي شكّلتها ، فتكون طيرا بإذني لك في ذلك ، وهو طائر ذو روح يطير بإذن الله وخلقه ، فأنت تفعل التقدير والنفخ والله هو الذي يكوّن الطّير. ولم يكن ذلك مطلقا ، وإنما في حالات فردية معدودة لا تقع إلا بإرادة الله.

١١١

وتبرئ الأكمة الذي ولد أعمى ، وتشفي الأبرص من المرض الجلدي ، وتحيى الموتى ، وكل ذلك بإذني وأمري ، فأنت تدعوهم من قبورهم ، فيقومون أحياء بإذن الله وقدرته وإرادته ومشيئته.

وكففت عنك بني إسرائيل حين جئتهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوّتك ورسالتك من الله ، فكذّبوك واتّهموك بأنك ساحر ، وهمّوا بقتلك وصلبك ، فنجّيتك منهم ، ورفعتك إليّ ، وكفيتك شرّهم.

وقد عبّر تعالى عن كل تلك النّعم التي امتنّ الله بها على عيسى بصيغة الماضي للدّلالة على وقوعه.

وإذ ألهمت الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي عيسى ، فجعلت لك أصحابا وأنصارا ، فقالوا : آمنّا بالله وبرسوله ، أي ألهموا ذلك فامتثلوا ما ألهموا ، واشهد بأنّا مسلمون منقادون لله سرّا وعلانية.

ويلاحظ أن الوحي قد يأتي بمعنى الإلهام كما تقدّم بيانه ، كما قال تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) [القصص ٢٨ / ٧] وهو وحي إلهام بلا خلاف ، وكما قال تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) [النحل ١٦ / ٦٨].

فقه الحياة أو الأحكام :

إن تذكير عيسى بنعمة الله عليه وعلى والدته ، وإن كان لهما متذكرا لأمرين : أحدهما ـ ليتلو على الأمم ما خصّهما به من الكرامة ، وميّزهما به من علو المنزلة. والثاني ـ ليؤكّد به حجّته ، ويردّ به جاحده.

ثم عدّد تعالى نعمه على عيسى عليه‌السلام وهي ثمان ، منها معجزات أيّده الله بها : وهي الكلام في المهد ، وخلق الطير ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء

١١٢

الموتى ، ومنع أذى اليهود عنه ، فلم يقتلوه ولم يصلبوه ، ولكن شبّه لهم.

والنّعم الثلاث الباقية تستلزمها عادة النّبوة والرّسالة : وهي التّأييد والتّقوية بجبريل روح القدس عليه‌السلام ، والتّعليم الإلهي بالكتابة والفهم والوحي وإنزال الإنجيل ، ومعرفة ما أنزل على من تقدّمه مثل موسى الكليم عليه‌السلام ، وإلهام الحواريين الإيمان بالله وبعيسى عليه‌السلام.

وكلّ هذه المعجزات والآيات البيّنات تدلّ على صدق رسالة عيسى ، وكلّها بمراد الله ومشيئته وقدرته.

ولم ينفرد عيسى بالمعجزات الدّالة على صدقه ، فهذا هو الشأن المتّبع مع كلّ الأنبياء والرّسل ؛ لأن البشر لا يصدّقون عادة بنبوّة النّبي إلا بأشياء خارقة للعادة ، وهي المسمّاة بالمعجزات ، ولكلّ عصر ما يناسبه من المعجزة ، فقد كان عصر عيسى مزدهرا بالطّب والعلوم والمعارف ، فأجرى الله على يديه ما يفوق الطّب البشري والمعرفة والثقافة البشرية. وكان زمان موسى فيه السّحر والشّعوذة فأيّده الله تعالى بما يفوق سحر السّحرة ، باليد والعصا وفلق البحر وتفجير الماء من الحجر ينابيع هي اثنتا عشرة عينا بعدد الأسباط (قبائل بني إسرائيل). وزمان النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم اشتهر بالتّفوق البياني في الكلام شعرا ونثرا وخطابة ، فأنزل الله عليه القرآن الكريم مشتملا على أرفع البيان وأسمى الفصاحة ، وأبلغ البلاغة ، فكان إعجاز القرآن البياني معجزة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أبد الدّهر.

والغرض من إيراد معجزات عيسى عليه‌السلام هو كما بيّنت تنبيه النّصارى الذين كانوا في وقت نزول هذه الآية على قبح مقالتهم وركاكة مذهبهم واعتقادهم بتأليه بشر عادي مولود كسائر البشر ، يأكل ويشرب ويقضي حاجته كغيره من الناس.

١١٣

إنزال المائدة على بني إسرائيل بطلب الحواريين

(إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥))

الإعراب

(هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) قرئ بالتّاء والنّصب ، والتقدير فيه : هل تستطيع سؤال ربّك ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها ، وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) [يوسف ١٢ / ٨٢] أي : أهل القرية وأهل العير.

(عَلَيْها) في موضع الحال.

(لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) بدل من (لَنا) بتكرار العامل.

المفردات اللغوية :

(الْحَوارِيُّونَ) أصحاب المسيح الخلّص. (يَسْتَطِيعُ) يفعل ويرضى ويجيبك إن سألته. (مائِدَةً) المائدة : هي الخوان إذا كان عليه الطّعام. قال لهم عيسى. (تَطْمَئِنَ) تسكن قلوبنا بزيادة اليقين. (وَنَعْلَمَ) نزداد علما. (صَدَقْتَنا) في ادّعاء النّبوة. (اللهُمَ) أي يا الله. (عِيداً) يوما نفرح به ونعظّمه ونشرّفه. (وَآيَةً مِنْكَ) دليلا آخر أو علامة على قدرتك ونبوّتي.

١١٤

المناسبة :

هذه قصة المائدة التي لا يعرفها النصارى إلا من القرآن ، وهي نعمة تاسعة ومعجزة بعد النّعم الثماني المتقدّمة ، إذ تمّ إنزال المائدة بطلب عيسى عليه‌السلام ، علامة على قدرة الله وتصديق الناس بنبوّته ، وهي مما امتنّ الله به على عبده ورسوله عيسى لما أجاب دعاءه بنزولها.

التفسير والبيان :

اذكر يا محمد وقت قول الحواريين أصحاب عيسى المخلصين إذ قالوا لعيسى : هل يفعل ربّك ويرضى أن ينزل علينا مائدة طعام من السماء.

والمقصود بكلمة الاستطاعة ، مع أن الطلب صادر من الحواريين وهم مؤمنون يعلمون أن الله قادر على كلّ شيء : أنه هل يفعل ذلك ، وهل يجيبك إلى مطلبك أو لا؟ فأرادوا علم المعاينة والمشاهدة والاطمئنان بعد توافر الاعتقاد والعلم بقدرة الله تعالى ، كما قال إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة ٢ / ٢٦٠] ، لأن علم النّظر والخبر قد تدخله الشّبهة والاعتراضات ، وعلم المعاينة المحسوس لا يدخله شيء من ذلك ، ولذلك قال الحواريون : (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) كما قال إبراهيم : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)(١) [البقرة ٢ / ٢٦٠].

قال السّدّي : هل يستطيع ربّك أي هل يطيعك ربّك إن سألته ، وهذا تفريع على أن استطاع بمعنى أطاع ، والسّين زائدة (٢).

وقال الطّبري : الأولى في المعنى عندي بالصّواب : هل يستجيب لك إن سألته ذلك ويطيعك فيه (٣).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٦ / ٣٦٥

(٢) تفسير الرازي : ١٢ / ١٢٩

(٣) تفسير الطّبري : ٧ / ٨٤

١١٥

وقال بعضهم : في الآية محذوف على قراءة : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) وتقديره : هل تستطيع سؤال ربّك؟ فأجابهم عيسى : اتّقوا الله أن تطلبوا مثل هذا الطلب الذي يشبه ما طلبه الإسرائيليون من موسى عليه‌السلام ، إن كنتم مؤمنين أي إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة.

قالوا معتذرين عن سؤالهم : نريد أن نأكل منها ؛ فنحن بحاجة إلى الطّعام ، وتزداد قلوبنا اطمئنانا ويقينا بقدرة الله وبصدق نبوّتك ؛ لأن علم الحسّ والمشاهدة أقوى دلالة على المطلوب من العلم النظري القائم على التسليم بالبراهين ، ونكون من الشاهدين على هذه الآية عند بني إسرائيل الذين لم يحضروها ، أو نكون من الشاهدين لله بالوحدانية وبكمال القدرة ، ولك بالنّبوة ، فيكون ذلك سببا للإيمان أو ازدياد الإيمان.

وإنما سأل عيسى وأجيب ، ليلزموا الحجّة بكمالها ، ويرسل عليهم العذاب إذا خالفوا.

قال عيسى : يا ربّنا المالك أمرنا والمتولّي شؤوننا ، أنزل علينا مائدة من السماء يراها هؤلاء ، وتكون لنا عيدا أي يكون يوم نزولها عيدا ، قيل : هو يوم الأحد ، ومن ثم اتّخذه النّصارى عيدا.

لأوّلنا وآخرنا ، أي لمن في زماننا من أهل ديننا ولمن يأتي بعدنا. وآية منك ، أي علامة من لدنك تدلّ على كمال قدرتك وصدق نبوّتي.

وارزقنا منها ومن غيرها رزقا طيّبا نغذي به أجسامنا ، وأنت خير الرّازقين ، أي خير من أعطى ورزق ؛ لأنك الغني الحميد ، الذي ترزق من تشاء بغير حساب. ويلاحظ أن عيسى أخّر بدعائه طلب فائدة المائدة عن طلب الفائدة الدّينية والاجتماعية ، بعكس ما طلب الحواريون ؛ إذ قدّموا الأكل على غيره.

١١٦

(قالَ اللهُ : إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) أي وعد الله عيسى بإنزال المائدة مرّة أو مرارا ، ووعده الحقّ وقوله الصدق ، وقد نزلت.

لكن هذا الوعد مقرون بالجزاء حين المخالفة : (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ ..) أي من يكفر بالله بعد نزول هذه المائدة ، فإني أعذّبه عذابا شديدا لا أعذب مثله أحدا من سائر كفار العالمين : عالمي زمانهم ؛ لأنه لم يبق بعد هذا الدّليل الحسي عذر لمن يكفر أو يستهزئ بآيات الله وأدلّته الدّالة على وجوده وقدرته.

أما الطّعام فقيل : إنه خبز ولحم ، أو خبز وسمك ، قال الطّبري : والصواب من القول فيما كان على المائدة ، فأن يقال : كان عليها مأكول ، وجائز أن يكون كان سمكا وخبزا ، وجائز أن يكون كان ثمرا من ثمر الجنة ، وغير نافع العلم به ، ولا ضار الجهل به (١).

جاء في حديث ذكره السّيوطي : أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما ، فأمروا أن لا يخونوا ولا يدّخروا لغد ، فخانوا وادّخروا ، فمسخوا قردة وخنازير ،

فقه الحياة أو الأحكام :

قصة المائدة نعمة تاسعة من النّعم التي عدّدها الله وامتنّ بها على عيسى عليه‌السلام وقومه ، والذي عليه الجمهور وهو الحق : أنها نزلت فعلا ، لقوله تعالى : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) قيل : إنها نزلت عليهم يوم الأحد غدوة وعشية ، فجعلوا الأحد عيدا.

وهي آية بيّنة على قدرة الله ، وعلى إجابته دعاء المخلص من عباده ، وعلى صدق نبوة عيسى ، وأنه عبد لله ورسوله ؛ لأنه لو كان إلها لما كان بحاجة أن يطلب شيئا من أحد ، فالدّعاء إلى الله منه ، وإجابة الدّعاء من ربّه دليل آخر

__________________

(١) تفسير الطّبري : ٧ / ٨٨

١١٧

على عبوديّته وبشريّته وفقره وحاجته إلى الله ، وليعلم النّصارى بطلان قولهم وادّعائهم التّالية.

والذي دفع الحواريين إلى سؤال إنزال المائدة أربعة أسباب :

١ ـ الحاجة الدّاعية إلى الأكل منها ، لأن عيسى عليه‌السلام كان إذا خرج اتّبعه خمسة آلاف أو أكثر ، بعضهم كانوا أصحابه ، وبعضهم كانوا ينظرون ويستهزئون ، فخرج يوما إلى موضع فوقعوا في مفازة ، ولم يكن معهم نفقة ، فجاعوا وقالوا للحواريين : قولوا لعيسى حتى يدعو بأن تنزل علينا مائدة من السماء ، فجاءه شمعون رأس الحواريين وأخبره أن الناس يطلبون بأن تدعو بأن تنزل عليهم مائدة من السماء ، فقال عيسى لشمعون : قل لهم : (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فأخبر بذلك شمعون القوم ، فقالوا له : قل له : (نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) الآية.

وقال الماوردي : نأكل منها ، أي ننال بركتها ، لا لحاجة دعتهم إليها ، وهذا أشبه لأنهم لو احتاجوا إلى الطعام لم ينهوا عن السؤال.

٢ ـ اطمئنان القلب إلى أن الله تعالى بعث عيسى إليها نبيّا.

٣ ـ العلم بأن عيسى رسول الله ، أي ازدياد الإيمان بك وعلما برسالتك.

٤ ـ الشهادة أنها آية من عند الله ، ودلالة وحجّة على نبوّتك ، وصدق ما جئت به. وبالرّغم من إنزال المائدة السّماوية ، وامتنان الله على النّصارى بها ، فإنّهم جحدوا تلك النّعمة وكفروا بعد نزولها ، فمسخوا قردة وخنازير. قال ابن عمر : إن أشدّ الناس عذابا يوم القيامة : المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون ، قال الله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ).

١١٨

تبرئة عيسى من مزاعم النصارى

ألوهيته وألوهية أمه

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠))

الإعراب :

(أَنِ اعْبُدُوا أَنِ) : إما مفسرة بمعنى «أي» فلا يكون لها موضع من الإعراب. وإما مصدرية في موضع جرّ على البدل من (ما) في قوله تعالى : (إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ).

(ما دُمْتُ) في موضع نصب على الظرف ، والعامل فيه (شَهِيداً). و (ما) في «ما دام» : مصدرية ظرفية زمانية ، وتقدير الآية : وكنت عليهم شهيدا مدّة دوامي فيهم.

(هذا يَوْمُ يَنْفَعُ يَوْمُ) بالرّفع : خبر المبتدأ الذي هو (هذا). و (هذا) : إشارة إلى يوم القيامة. والجملة من المبتدأ والخبر في موضع نصب بقال ، وتحكى بعده الجملة. ويجوز

١١٩

أن يكون في موضع نصب ، وهذا ضعيف كما قال الأنباري ، لأن الظرف إنما يبنى إذا أضيف إلى مبني كالفعل الماضي ، أو أضيف إلى «إذ» كقوله تعالى : (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) [هود ١١ / ٦٦]. و (يَنْفَعُ) فعل مضارع معرب ، فلا يبنى الظرف لإضافته إليه ، فلهذا كان هذا القول ضعيفا.

(خالِدِينَ فِيها أَبَداً خالِدِينَ) : منصوب على الحال من الضمير المجرور في (لَهُمْ). و (أَبَداً) : منصوب ، لأنه ظرف زمان.

المفردات اللغوية :

(وَإِذْ قالَ اللهُ) اذكر إذ يقول له هذا يوم القيامة توبيخا لقومه. (سُبْحانَكَ) تنزيها لك عما لا يليق بك من شريك وغيره. (ما يَكُونُ لِي) ما ينبغي لي أن أتجاوز حقّي وقدري ومنزلتي ، و (لِي) : للتّبيين. (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) أي تعلم سرّي وما أخفيه ، ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك. (شَهِيداً) رقيبا كالشاهد على المشهود عليه ، أمنعهم من أن يقولوا ذلك ويتدينوا به. (تَوَفَّيْتَنِي) قبضتني ورفعتني إلى السماء. (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) الحفيظ لأعمالهم المراقب لأحوالهم ، تمنعهم من القول به ، بما أقمت لهم من الأدلّة على ألوهيتك.

(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) على الكفر والجحود. (فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) الذين عرفتهم عاصين جاحدين لآياتك ، مكذّبين لأنبيائك ، وأنت مالكهم تتصرّف فيهم كيف شئت لا اعتراض عليك. (وَإِنْ تَغْفِرْ) لمن آمن منهم. (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) القوي القادر على الثواب والعقاب. (الْحَكِيمُ) في صنعه الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب.

(هذا) أي يوم القيامة. (الصَّادِقِينَ) في الدّنيا كعيسى عليه‌السلام. (صِدْقُهُمْ) ينفعهم صدقهم في هذا اليوم ؛ لأنه يوم الجزاء. (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بطاعته. (وَرَضُوا عَنْهُ) بثوابه. (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خزائن المطر والنّبات والرّزق وغيرها. (وَما فِيهِنَ) أتى به للتغليب أي تغليب العاقل على غير العاقل. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الله قادر على كل شيء ، ومنه إثابة الصادق وتعذيب الكاذب.

المناسبة :

بعد أن عدّد الله تعالى النّعم على عيسى عليه‌السلام ، ذكر أنه سيوجه له سؤالا خطيرا يوم القيامة توبيخا لقومه وتقريعا لهم على افترائهم ، وتعريفا لهم بأنه سيتبرّأ من ذلك الإفك العظيم وهو القول بالتّثليث ثمّ التّأليه.

١٢٠