التفسير المنير - ج ٧

الدكتور وهبة الزحيلي

والجنود ، ووفرة الأمطار ، وينابيع الأرض ، وجريان الأنهار من تحت دورهم ومساكنهم ، استدراجا وإملاء لهم ، ثم أهلكهم الله بخطيئاتهم وسيّئاتهم التي اقترفوها وبكفرهم الذي لازموه.

ويفهم من ذلك أنّ الذّنوب سبب الانتقام وزوال النّعم ، فليحذر هؤلاء وأمثالهم من الإهلاك والدّمار. والإنذار عامّ لكلّ زمان ومكان ، فهذا إنذار لكفار قريش وكلّ الكفار أنه سينزل بهم من العذاب مثلما نزل بأمم سابقة جزاء استهزائهم بأنبيائهم.

عناد الكفار والرّدّ على طلبهم بإنزال كتاب أو إرسال ملك

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩))

المفردات اللغوية :

(كِتاباً) أي صحيفة مكتوبة ذات غرض واحد. (قِرْطاسٍ) ورق أو رقّ يكتب عليه. (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) أبلغ من (عاينوه) لأنه أنفى للشّك. (سِحْرٌ) أي خداع وتمويه لا حقيقة له ، ويقولون ذلك تعنتا وعنادا.

(لَوْ لا أُنْزِلَ) هلا. (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي لتّم أمر هلاكهم. (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي لا يمهلون لتوبة أن معذرة ، كعادة الله فيمن قبلهم عند وجود مقترحهم إذا لم يؤمنوا.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ) أي المنزل إليهم. (لَجَعَلْناهُ) أي الملك. (رَجُلاً) أي على صورة رجل ، ليتمكّنوا من رؤيته ، إذ لا قوّة للبشر على رؤية الملك. (لَلَبَسْنا) لسترنا وغطّينا ، والمراد : جعلنا أمرهم يلتبس عليهم فلا يعرفونه. (ما يَلْبِسُونَ) على أنفسهم ، بأن يقولوا : ما هذا إلا بشر مثلكم ، فيلتبس الأمر عليهم فلم يدروا أملك هو أم إنس ، فلم يوقنوا أنه ملك ولم يصدّقوا به ، وقالوا : ليس هذا ملكا ، كما التبس على أنفسهم من حقيقة أمرك وصحة برهانك وشاهدك على نبوّتك.

١٤١

سبب النزول :

نزول الآية (٧):

(وَلَوْ نَزَّلْنا ...) قال الكلبي : إن مشركي مكّة قالوا : يا محمد ، والله لا نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنّك رسول الله ، فنزلت هذه الآية.

وقال في رواية أخرى : نزلت في النّضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء ١٧ / ٩٠].

نزول الآية (٨):

(وَقالُوا : لَوْ لا أُنْزِلَ ..) : روى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال : «دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قومه إلى الإسلام وكلّمهم فأبلغ إليهم ، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب ، والنّضر بن الحارث بن كلّدة ، وعبدة بن عبد يغوث ، وأبيّ بن خلف ، والعاصي بن وائل بن هشام : لو جعل معك يا محمد ملك يحدّث عنك الناس ويرى معك ، فأنزل الله في ذلك : (وَقالُوا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ).

وإذا كانت قد أنزلت سور من القرآن تتضمن اقتراح المشركين إنزال ملك أو كتاب أو إنزال القرآن جملة واحدة ، قبل هذه الآية ، فلا مانع يمنع من تأكيد بيان هذا الاقتراح في مناسبة أخرى ، إظهارا لعنادهم وتعنّتهم.

المناسبة :

ذكرت الآيات السابقة بعض المواقف من عناد المشركين ، وتستمر الآيات هنا في بيان شبهات جحودهم وعنادهم ومكابرتهم للحقّ ومنازعتهم فيه ، تلك

١٤٢

الشّبهات الموجّهة إلى الوحي وبعثة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصاروا منكرين أصول الدّين الثلاث : التّوحيد والبعث ونبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

التفسير والبيان :

يبيّن الله تعالى في هذه الآيات أسباب إعراض المشركين عن الإيمان ، وتذرّعهم بشبهات واهية ، ومطالبتهم إنزال صحيفة مكتوبة وإرسال ملك يؤيّد النّبي ويصدّقه ، وهم في الحقيقة معرضون لا تؤثّر فيهم الحجج والبراهين ، ولا يجديهم تنفيذ مقترحاتهم.

إن علّة تكذيبهم بالحقّ هي إعراضهم عن آيات الله وسدّ كلّ منافذ النّظر والفكر ، وتعطيل كلّ طاقات الوعي والإدراك ، فلو أنزلنا عليك يا محمد كتابا مدوّنا في ورق أو نحوه أو معلّقا بين السّماء والأرض ، فعاينوه ورأوا نزوله ولمسوه بأيديهم ، لقالوا : ما هذا إلا سحر مبين أي خداع وتمويه وتضليل لا حقيقة فيه. وإنما قال : (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) لأن اللمس أقوى الدّلالات الحسيّة وأبعدها عن الخداع ؛ لأن البصر يخدع بالتخيّل. والتّعبير بقوله : (نَزَّلْنا) بالتّشديد ، وقوله : (كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) وهو لا يكون إلا فيه ، وقوله : (فَلَمَسُوهُ) للمبالغة وتأكيد النزول ، ثم يعرضون عنه قائلين : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). وهذا كما قال تعالى في مكابرتهم للمحسوسات : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ ، فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ، لَقالُوا : إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) [أي حبست ومنعت] (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) [الحجر ١٥ / ١٤ ـ ١٥] ، وقوله سبحانه : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً ، يَقُولُوا : سَحابٌ مَرْكُومٌ) [الطّور ٥٢ / ٤٤].

هذا هو الرّدّ على اقتراحهم الأوّل وهو تنزيل كتاب من السّماء ، ثم ردّ الله على اقتراحهم الثاني وهو إنزال ملك من السّماء يرونه ويكون مؤيّدا له ، فقال تعالى : (وَقالُوا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) أي هلا أنزل الله مع الرّسول ملكا

١٤٣

يكون معه نذيرا ومؤيّدا له ونصيرا ، كأنّهم فهموا أن الرّسالة السّماوية تتنافى مع البشرية ، وهم يعلمون أنّ الرّسول بشر ، كما قال تعالى : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ ، وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٣٣] ، وقال : (وَقالُوا : ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ، لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) [الفرقان ٢٥ / ٧] ومضمون ردّ الاقتراح الثّاني من جهتين :

أوّلا ـ (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً ..) أي ولو أنزل الله ملكا كما اقترحوا لقضي الأمر بإهلاكهم ، ثم لا يمهلون ليؤمنوا ، بل لجاءهم من الله العذاب ، كما قال تعالى : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) [الحجر ١٥ / ٨] ، وقال : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ ، لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) [الفرقان ٢٥ / ٢٢].

ثانيا ـ (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ..) أي ولو أنزلنا مع الرّسول البشر ملكا ، لكان متمثلا بصورة الرّجل ، ليمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ منه ، ثم يعود الأمر كما كان ؛ ويقعون في اللّبس والاشتباه نفسه ، الذي يلبسون على أنفسهم ويختلط الأمر عليهم باستنكار جعل الرّسول بشرا ؛ فإن هذا الرّجل سيقول لهم : إنّي رسول الله ، كما يقول محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال ابن عباس في الآية : يقول : لو أتاهم ملك ، ما أتاهم إلا في صورة رجل ؛ لأنهم لا يستطيعون النّظر إلى الملائكة من النّور.

وقال قتادة : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) يقول : ما لبّس قوم على أنفسهم ، إلا لبّس الله عليهم ، واللّبس إنما هو من الناس.

فقه الحياة أو الأحكام :

إنّ إجابة المطالب المادية القائمة على التّعنّت والعناد ، مثل إنزال المائدة على

١٤٤

بني إسرائيل ، وإنزال كتاب مكتوب في قرطاس أي صحيفة ، وإنزال ملك من الملائكة لا تحقق الغرض ، وسيظلّ الكافرون المشركون على موقفهم من الكفر والإعراض.

وهذا ما ردّ الله به على الاقتراح الأوّل للمشركين بإنزال كتاب ، فلو أنزله وعاينوه ومسّوه باليد كما اقترحوا ، لإزالة الرّيب والإشكال عنهم ، لعاندوا فيه وتابعوا كفرهم. وهذه الآية جواب لقولهم : (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء ١٧ / ٩٣] فأعلم الله بما سبق في علمه من أنه لو نزل لكذّبوا به.

ثمّ ردّ الله على اقتراحهم الثاني بإنزال ملك : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) قال ابن عباس : لو رأوا الملك على صورته لماتوا إذ لا يطيقون رؤيته. وقال الحسن البصري وقتادة : لأهلكوا بعذاب الاستئصال ؛ لأن الله أجرى سنّته بأن من طلب آية فأظهرت له فلم يؤمن ، أهلكه الله في الحال.

وتكملة الرّدّ : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) أي لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته إلّا بعد التّجسيم بالأجسام الكثيفة ؛ لأن كلّ جنس يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه ؛ فلو جعل الله تعالى الرّسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقاربته ، ولما أنسوا به ، ولخافوا منه ومن مكالمته ، فلا تتحقق المصلحة ؛ ولو تمثّل بصورة بشر لقالوا : لست ملكا ، وإنما أنت بشر ، فلا نؤمن بك وعادوا إلى مثل حالهم ، وكانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة البشر ، فأتوا إبراهيم ولوطا في صورة الآدميين ، وأتى جبريل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة دحية الكلبي.

أي إن هدفهم لا يتحقق فلو نزل بصورته الحقيقية لما أطاقوا رؤيته ، ولو نزل بصورة رجل ، التبس الأمر عليهم وقالوا : هذا ساحر مثلك.

١٤٥

عاقبة المستهزئين والمكذّبين

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١))

الأعراب :

(فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ما كانُوا) : في موضع رفع ؛ لأنه فاعل (فَحاقَ) وتقديره : حاق بهم عقاب ما كانوا به يستهزئون. و (ما) : مصدرية ، أي عقاب استهزائهم.

(ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ عاقِبَةُ) : اسم كان المرفوع. و (كَيْفَ) : خبر كان المنصوب. وإنما قال : كان ، ولم يقل كانت لوجهين :

أحدهما ـ لأن (عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) في معنى : مصيرهم ، والحمل على المعنى كثير في كلامهم.

والثاني ـ لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي ، فجاز تذكير فعلها ، كقولهم : حسن دارك ، واضطرم نارك.

البلاغة :

(اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ) تنكير (بِرُسُلٍ) للتكثير والتّفخيم.

المفردات اللغوية :

(اسْتُهْزِئَ) الاستهزاء : السّخرية ، والاستهزاء بشخص : احتقاره والتّهكّم عليه ، ويتبعه الضّحك غالبا. (فَحاقَ) نزل وأحاط بهم فلم يكن لهم منه مفرّ. والمراد أحاط العذاب بالساخرين ، فكذا بمن استهزأ بك. (عاقِبَةُ) مصير أو آخر الأمر ، مثل قوله تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر ٣٥ / ٤٣] والحيق : ما ألم بالإنسان من مكر أو سوء يعمله.

المناسبة :

كانت اقتراحات بعض كفار مكّة كإنزال ملك من الملائكة مع الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٤٦

أو إنزال ملك بالرّسالة ، صادرة على سبيل الاستهزاء ، وكان يضيق قلب الرّسول بسماع ذلك ، فأنزل الله هاتين الآيتين للتّخفيف عما يلاقيه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سوء الأدب والهزء والسّخرية ، وإنزال العذاب هو سنّة الله الثابتة في المكذّبين أنبياءهم.

فهذه تسلية للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تكذيب من كذّبه من قومه ، ووعد له وللمؤمنين به بالنصرة والعاقبة الحسنة في الدّنيا والآخرة.

التّفسير والبيان :

لقد استهزأ الأقوام الغابرون ـ وهذا تعبير بصيغة القسم من الله ـ بأنبيائهم الكرام ، كما قال تعالى : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الحجر ١٥ / ١١] وذلك معاداة للإصلاح ودعوات الحقّ والتّوحيد والاستقامة ، فليس كفار قريش منفردين بهذا الموقف ، لكن كان جزاؤهم وجزاء أمثالهم من الساخرين إحاطة العذاب بهم.

وهذا إرشاد للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان سنّة الله في المكذّبين ، وتسلية له حتى لا يضيق قلبه ذرعا ، وتبشير له بالنّصر وحسن العاقبة ، وقد أهلك الله خمسة من رؤساء قريش في يوم واحد ، وهذا ما امتنّ الله به على نبيّه بقوله : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر ١٥ / ٩٥].

وقل يا محمد للمشركين : فكّروا في أنفسكم ، وانظروا ما أحلّ الله بالقرون الماضية الذين كذّبوا رسله وعاندوهم ، من العذاب والنّكال والعقوبة في الدّنيا ، مثل عاد وثمود وطسم وجديس وقوم فرعون وقوم لوط ، انظروا واعتبروا ، كيف كان عاقبة المكذّبين ، مع ما ادّخر لهم من العذاب الأليم في الآخرة ، وكيف نجّى الله رسله وعباده المؤمنين.

١٤٧

فقه الحياة أو الأحكام :

الاستهزاء بالرّسل عادة قديمة معروفة ، وكذلك نزول العذاب والهلاك بأولئك الأقوام المستهزئين بأنبيائهم أمر ثابت ، وحق مقرر ، وجزاء عادل.

والتاريخ أصدق شاهد ، فلينظر كل ساخر ليعرف ما حلّ بالكفرة قبله من العقاب وأليم العذاب. والمكذّبون هنا : من كذّب الحقّ وأهله ، لا من كذّب بالباطل.

ويؤخذ من الآية أن السّفر مندوب إليه إذا كان على سبيل العظة والاعتبار بآثار من خلا من الأمم وأهل الدّيار.

أدلة أخرى لإثبات الوحدانية والبعث

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦))

١٤٨

الإعراب :

(لَيَجْمَعَنَّكُمْ) اللام : لام جواب القسم ، وهي جواب (كَتَبَ) لأنه بمعنى : أوجب ، ففيه معنى القسم.

(الَّذِينَ خَسِرُوا) إما مبتدأ ، وخبره : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ودخلت الفاء في خبر (الَّذِينَ) لأن كل اسم موصول بجملة فعلية إذا وقع مبتدأ ، فإنه يجوز دخول الفاء في خبره ، كقولك : الذي يأتيني فله درهم. وإما منصوب على البدل من الكاف والميم في (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) وهو بدل الاشتمال ، وإليه ذهب الأخفش ، والوجه الأول أوجه.

وقال الزمخشري : إنه منصوب على الذم ، أو مرفوع ، أي أريد الذين خسروا أنفسهم أو أنتم الذين خسروا أنفسهم.

(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ يُصْرَفْ) مبني للمجهول ، ونائب الفاعل مقدر تقديره : من يصرف عنه العذاب يومئذ. وقرئ مبنيا للمعلوم ، وفاعله : الله تعالى ، وحذف المفعول وتقديره : من يصرف الله عنه العذاب يوم القيامة فقد رحمه. والوجه الأول أوجه : لأنه أقل إضمارا ، وكلما كان الإضمار أقل ، كان أولى.

البلاغة :

(السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) من صيغ المبالغة.

المفردات اللغوية :

(كَتَبَ) فرض وأوجب إيجاب تفضل وكرم (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) ليحشرنكم ، والمقصود من الكلام : ليجازينكم بأعمالكم (لا رَيْبَ فِيهِ) لا شك. (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي تركوا ما يقتضيه العقل والعلم والمصلحة الحقيقية ، وعرّضوا أنفسهم للعذاب. (ما سَكَنَ) ثبت. من السكون : ضد الحركة ، وفيه اكتفاء بما ذكر عما يقابله ، أي له ما سكن وما تحرك ، مثل قوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل ١٦ / ٨١] أي والبرد. والمقصود : له تعالى كل شيء ، فهو ربه وخالقه ومالكه. (وَلِيًّا) ناصرا.

(فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي منشئهما ومبدعهما على غير مثال سابق. (يُطْعِمُ) يرزق. (وَلا يُطْعَمُ) لا يرزق أي هو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد. (إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بعبادة غيره. (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) هو يوم القيامة. (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ) أي من يبعد عنه العذاب.

(رَحِمَهُ) أي نجّاه من العذاب والأهوال ، وأراد له الخير. (الْفَوْزُ الْمُبِينُ) النجاة الظاهرة.

١٤٩

المناسبة :

هذه الآيات تأكيد لما سبق في إثبات أصول الدين الثلاثة : إثبات وجود الصانع وتوحيده ، وتقرير البعث والمعاد والجزاء ، وتقرير النبوة ورسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك بإقامة الأدلة عليها بطريق السؤال والجواب ، وهذا نمط آخر في الإثبات ، لترسيخ العقيدة في القلب ، واجتذاب الأنظار واستمالة السامع حتى لا يمل.

وإذا ثبت كون الله هو الخالق والمبدع والمنشئ للسموات والأرض وما فيهما من كل متحرك وساكن ، ثبت كونه قادرا على الإعادة والحشر والنشر ، وثبت أنه تعالى الملك المطاع ، والملك المطاع : من له الأمر والنهي على عبيده ، ولا بد حينئذ من مبلّغ ، والمبلّغ هو النبي ، فكانت بعثة الأنبياء والرسل من الله تعالى إلى الخلق أمرا لازما ، وبذلك كانت الآية وافية بإثبات هذه الأصول الثلاثة.

التفسير والبيان :

قل يا محمد للمشركين من قومك : لمن هذه السموات والأرض ، ولمن هذا الكون والوجود وما فيه؟ والمقصود من السؤال التبكيت والتوبيخ ، لأنهم كانوا يعتقدون بأن الله هو الخالق ، كما حكى تعالى عنهم : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ : مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان ٣١ / ٢٥].

(قُلْ : لِلَّهِ) هذا هو الجواب إما بالنيابة عنهم ، لأنهم مقرّون بذلك ، وإما بطريق الإلجاء لهم إلى الإقرار بأن الكل له سبحانه.

ومن صفات هذا الخالق التي ترغب في طاعته : صفة الرحمة ، فإنه تعالى أوجب على ذاته الرحمة بخلقه. ومن مقتضيات الرحمة : الحشر يوم القيامة بلا شك للثواب والعقاب ؛ لأنه متى عرف الإنسان ما قد ينتظره أقبل على الخير وكفّ عن الشر ، فكان إيجاد هذا الوازع النفسي طريقا لتهذيب النفوس والرحمة

١٥٠

بالعباد ، ولو لا خوف العذاب يوم القيامة ، لامتلأت الدنيا فسادا وفوضى وإجراما ، ولضجّ العالم ، واختل نظام المجتمع ، فصار التهديد بهذا اليوم من مظاهر الرحمة. ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لما خلق الخلق ، كتب كتابا عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي» أي لما أظهر قضاءه ، وأبرزه لمن شاء ، أظهر كتابا في اللوح المحفوظ أو فيما شاءه ، مقتضاه خبر حق ووعد صدق أن رحمته تسبق غضبه وتزيد عليه.

وأخص الذين خسروا أنفسهم بإفسادها وتعطيلها استخدام العقل والعلم وعدم اهتدائها بالتذكير ، كما أخصهم بالذم والتوبيخ من بين المجموعين إلى يوم القيامة ؛ وسبب الخسارة : أنهم لا يؤمنون ، أي لا يصدقون بالبعث والمعاد ، ولا يخافون شر ذلك اليوم. هذا هو الواقع ، لكن قوله تعالى جعل عدم إيمانهم مسببا عن خسرانهم أنفسهم ، والأمر على العكس.

والجواب كما ذكر الزمخشري : معناه الذين خسروا أنفسهم في علم الله لاختيارهم الكفر ، فهم لا يؤمنون.

وليس ملك السموات والأرض مجرد ملك فراغ ، وإنما هو ملك شامل لكل شيء فيهما من ساكن ومتحرك ، الجميع عباده وخلقه وتحت قهره وتصرفه وتدبيره ، لا إله إلا هو. وخص بالذكر ما سكن بالليل والنهار وإن كان داخلا في عموم ما في السموات والأرض ، للدلالة على تصرفه تعالى بهذه الخفايا.

ثم إن كان ما في السموات والأرض خاضع لرقابة الله وتصرفه ، فهو السميع المحيط سمعه بكل دقيق وكبير ، يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء ، على الصخرة الصماء ، وهو أيضا العليم المحيط علمه بكل ما دقّ وعظم ، والشامل سمعه كل مسموع كأقوال عباده وأصواتهم. والذي وسع علمه كل معلوم كحركات

١٥١

المخلوقات وأسرارهم ، وكا ذلك مؤد إلى الرقابة الإلهية والتصرف التام بكل شيء.

ثم أمر الله نبيه المبلّغ شرعه أمرا بما لزم عما سبق وبما هو نتيجة له ، فقال له : قل يا محمد : لا أتخذ وليا ناصرا ينفعني أو يدفع ضررا عني إلا الله وحده لا شريك له ، فإنه فاطر السموات والأرض ، أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق ، وهذا مثل قوله تعالى : (قُلْ : أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) [الزمر ٣٩ / ٦٤].

وأما خلق السموات والأرض فكانتا أولا كتلة دخانية واحدة ، ثم فصلتا ، وهذا فيه أيضا فطر وشق ، قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) [الأنبياء ٢١ / ٣٠].

وإن الله أيضا هو الذي يطعم ولا يطعم أي وهو الرزاق لخلقه من غير احتياج إليهم ، لأنه تعالى منزّه عن الحاجة إلى كل ما سواه ، كما قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ، إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات ٥١ / ٥٦ ـ ٥٨].

وفي هذه دلالة واضحة ترشد البشر إلى أنه يجب عليهم التماس الرزق من الله تعالى وحده ، مع اتخاذ الأسباب الموصلة إليه من السعي والعمل والتدبير والبحث والتنقيب ، لا من أي مخلوق سواه ، سواء أكان بشرا أم صنما ووثنا ، وسواء أكان البشر حاكما أم غير حاكم ، فأرزاق العباد بيد الله تعالى وحده.

وإذ قامت لك يا محمد ولغيرك الأدلة على من يستحق الألوهية والعبادة واتخاذه وليا ، فقل لهم : إني أمرت من ربي المتصف بهذه الصفات أن أكون أول من أسلم وخضع وذلّ وانقاد لله من هذه الأمة ، ونهيت عن الشرك بالله أيا كان نوع الشرك ، ومنه شرك الجاهلية القائم على اتخاذ الأصنام واسطة ووسيلة تقرب إلى الله زلفى.

١٥٢

ثم أمر الله نبيه ببيان جزاء من خالف الأمر والنهي السابقين فقال له :(قُلْ : إِنِّي أَخافُ ..) أي قل لهم : إني أخشى إن عصيت الله ربي أن يصيبني عذاب يوم عظيم الهول والخطر وهو يوم القيامة الذي يحاسب الله فيه الخلائق حسابا شديدا على أعمالهم ، ويجازيهم على ما يستحقون. يوم لا تملك نفس لنفس شيئا ، والأمر يومئذ لله. وإذا كان هذا الإنذار موجها لنبي الله ، فما بال الناس الآخرين؟!

من يدفع عنه ذلك العذاب يومئذ ، فقد رحمه‌الله ونجا ، وذلك هو الفوز الساحق الظاهر الذي لا فوز أعظم منه ، كما قال تعالى : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) [آل عمران ٣ / ١٨٥]. والفوز : حصول الربح ونفي الخسارة.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآيات تثبت أصول الاعتقاد : وهي التوحيد ، والبعث والجزاء ، والنبوة ، وهي أدلة للاحتجاج على المشركين المنكرين ، وأولها انتزاع الاعتراف بالخالق ، وهم يعترفون بذلك وأن خالق السموات والأرض هو الله. وإذا لم يعترفوا فالحجة قائمة عليهم.

وإذا ثبت أن لله ما في السموات والأرض ، وأنه خالق الكل إما باعترافهم أو بقيام الحجة عليهم ، فالله قادر على أن يعاجلهم بالعقاب ، ويبعثهم بعد الموت.

ولكنه تعالى كتب على نفسه الرحمة ، أي وعد بها فضلا منه وكرما ، فلذلك أمهل الناس حتى يعودوا لرشدهم ، وهذا استعطاف منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال إليه ، وإخبار منه سبحانه بأنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة ، ويقبل منهم الإنابة والتوبة.

١٥٣

ومن رحمته الإمهال إلى يوم القيامة ، والاعلام بالجمع يوم القيامة ، لإثابة الطائعين وتعذيب العاصين ، وهذا الإنذار المسبق رحمة أيضا من الله بعباده ؛ لأنهم إذا علموا بأنه لا إفلات من الحساب ، فكروا في أنفسهم ، وأصلحوا أعمالهم ، وصححوا إيمانهم.

ثم ذم الله تعالى الخاسرين أنفسهم بإهمالهم ما يقتضيه العقل والعلم من الإيمان الصحيح والاستقامة على دين الله وشرعه ، وهؤلاء الخاسرون على الإطلاق لاختيارهم الكفر هم غير المؤمنين.

ومن الاحتجاج على المشركين : أن لله ما سكن وما تحرك في الكون. قال ابن عباس: نزلت الآية : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) لأن كفار مكة أتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : علمنا أنه ما يحملك على ما تفعل إلا الحاجة ، فنحن نجمع لك من أموالنا حتى تصير أغنانا ، وترجع عما أنت عليه ، فنزلت الآية (١) أي قال الله تعالى : أخبرهم أن جميع الأشياء لله ، فهو قادر على أن يغنيني.

وإذ قامت الأدلة على الإله الحق فكل إنسان مأمور بعبادته واتخاذه وليا ناصرا له في تحقيق النفع ودفع الضرر ، وإسلام الوجه له والانقياد لأوامره ، فهو الرزاق المطعم ، يرزق ولا يرزق ، وكذلك كل إنسان منهي عن الشرك واتخاذ الأنداد والوسطاء.

وعلى كل إنسان أن يخاف من عذاب الله يوم القيامة ، فإنه عذاب شديد ، ومن ينجو منه فقد شملته الرحمة والعناية الإلهية ، وذلك أعظم فوز ونجاح للإنسان. اللهم اجعلني وذريتي وأبي وأمي وأهلي ومشايخي من الفائزين.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي ١٢٢

١٥٤

قدرة الله على كشف الضر وشهادة الله للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصدق

ومجادلة المشركين في تعدد الآلهة

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩))

الإعراب :

(أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) أي : استفهام في محل رفع مبتدأ ، و (أَكْبَرُ) خبره ، و (شَهادَةً) تمييز منصوب ، و (فَوْقَ) منصوب على الظرف ، لا في الكاف ، بل في المعنى الذي تضمنه لفظ : (الْقاهِرُ) كما تقول : زيد فوق عمرو في المنزلة ، و (اللهُ شَهِيدٌ) مبتدأ وخبر.

(وَمَنْ بَلَغَ) : في موضع نصب ؛ لأنه معطوف على الكاف والميم في (لِأُنْذِرَكُمْ) أي ولأنذر من بلغه القرآن ، فحذف العائد ، كقوله تعالى : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) [الفرقان ٢٥ / ٤١] أي : بعثه الله.

وقال تعالى : (آلِهَةً أُخْرى) ولم يقل : أخر لأن الآلهة جمع ، والجمع يقع عليه التأنيث ، ومنه قوله : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) [الأعراف ٧ / ١٨٠] وقوله : (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) [طه ٢٠ / ٥١].

المفردات اللغوية :

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ) يصيبك ، والمس أعم من اللمس ، فيقال مسّه السوء أي أصابه. (بِضُرٍّ) الضر : كل ما يسوء الإنسان في نفسه أو بدنه أو عرضه أو ماله ، كالمرض والفقر. والضر يعقب الألم والحزن عادة. (بِخَيْرٍ) الخير : كل ما فيه نفع حقيقي طاهر في الحاضر أو المستقبل ، كالعقل والعلم ، والعدل ، والمساواة والحرية ، والصحة والغنى. والشر ضده : وهو ما لا نفع فيه أصلا أو ما كان ضرره أكبر من نفعه.

(الْقاهِرُ) القادر الغالب الذي لا يعجزه شيء مع الاستعلاء. (الْحَكِيمُ) في خلقه.

١٥٥

سبب النزول :

نزول مطلع الآية (١٩):

(قُلْ : أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) : أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس قال : جاء النحام بن زيد ، وقروم بن كعب ، وبحري بن عمر ، فقالوا : يا محمد ، ما نعلم مع الله إلها غيره ، فقال : لا إله إلا الله ، بذلك بعثت ، وإلى ذلك أدعو ، فأنزل الله في قولهم : (قُلْ : أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ : اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) الآية.

وقال الكلبي : إن رؤساء مكة قالوا : يا محمد ، ما نرى أحدا يصدقك بما تقول من أمر الرسالة ، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة ، فأرنا من يشهد لك أنك رسول ، كما تزعم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال الحسن البصري وغيره : إن المشركين قالوا للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من يشهد لك بأنك رسول الله؟ فنزلت الآية.

المناسبة :

بيّن الله تعالى في الآيات السابقة أن من مقتضى رحمته إمهال الناس للحساب يوم القيامة ، وصرف العذاب والفوز بنعيم الآخرة ، ثم أردف ذلك ببيان مقتضى الرحمة في الدنيا من جلب الخير والنفع ، ودفع الشر والضرر ، وأنه لا يملك أحد التصرف في الدنيا سوى الله وحده.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى أنه مالك الضر والنفع ، وأنه المتصرف في خلقه بما يشاء ، لا معقّب لحكمه ، ولا رادّ لقضائه.

١٥٦

فيقول بما معناه : وإن يصبك أيها الإنسان ضرر أو شدة من ألم أو فقر أو مرض أو حزن أو ذل ونحوه ، فلا صارف له عنك ولا مزيل له إلا الله تعالى ؛ لأنه القادر على كل شيء ، وكذلك إن يحصل كل خير من صحة أو غنى أو عز ونحوه ، فهو أيضا من الله ، لكمال قدرته على كل شيء ، ولأنّه القاهر الغالب صاحب العزة والسلطان والكبرياء ، وهو الذي خضعت له الرقاب ، وذلت له الجبابرة ، وعنت له الوجوه ، ودانت له الخلائق ، وقهر كل شيء ، وهو الحكيم في جميع أفعاله ، الخبير بمواضع الأشياء ، فلا يعطي إلا من يستحق ، ولا يمنع إلا من يستحق. ونظير هذه الآية قوله تعالى : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها ، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) [فاطر ٣٥ / ٢]. وفي الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» أي الغني.

ثم أيّد الله نبيه بشهادة هي أعظم الشهادات وأجلها ، وأصحها وأصدقها : وهي شهادة الله بين نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين المشركين ، شهادة تدل على صدق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتكشف حال أعدائه ، فهو تعالى العالم بما جاء به هذا الرسول وما هم قائلون له. وتقدير الكلام : أي شهيد أكبر شهادة؟ فوضع (شيئا) مقام (شهيد) ليبالغ في التعميم. والجواب : الله أكبر شهادة ، وهو شهيد بيني وبينكم ، أو الله شهيد بيني وبينكم ، وإذا كان هو الشهيد بينه وبينهم ، فأكبر شيء شهادة شهيد له.

والآية تتضمن ردا قاطعا على المشركين الذين كانوا يقولون للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من يشهد لك بأنك رسول الله؟

ثم أوضع الله مهمة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي تلقي الوحي وتبليغه للناس جميعا ، فقال : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ ..) أي أنزل الله على هذا القرآن لأنذركم به يا أهل مكة من عذاب الله إذا كفرتم أو عصيتم ، وأبشركم بالجنة إذا آمنتم وأطعتم ، وكذا لأنذر

١٥٧

وأبشر كل من بلغة القرآن من العرب والعجم ، فهو نذير لكل من بلغه ، كقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود ١١ / ١٧].

أخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس مرفوعا قال : من بلغه القرآن فكأنما شافهته به ، ثم قرأ : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ)».

وروى ابن جرير عن محمد بن كعب قال : «من بلغة القرآن فقد أبلغه محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم».

وروى عبد الرزاق عن قتادة في قوله تعالى : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بلغوا عن الله فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله».

وروى ابن المنذر وابن جرير وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن محمد بن كعب القرظي قال : «من بلغه القرآن فكأنما رأى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم». وهذه الكلمة مروية أيضا عن سعيد بن جبير. ثم أعلن الله براءته من المشركين القائلين بتعدد الآلهة ، مبينا أن الواجب إعلان الشهادة بالوحدانية لله عزوجل فقال : (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ ..) وهذا استفهام إنكاري واستبعاد وتوبيخ وتقريع ، فإنكم أيها المشركون تقرون بوجود آلهة أخرى مع الله ، وإني لا أشهد شهادتكم ، كما قال تعالى : (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) [الأنعام ٦ / ١٥٠].

وأصرح بأن الإله هو إله واحد ، وهو الله عزوجل ، وإني أتبرأ مما تشركون به من الأصنام والأوثان وغيرها.

فقه الحياة أو الأحكام :

كل من يملك شيئا فله حق التصرف المطلق فيه ، وكل من أوجد شيئا فهو القادر على جلب ما ينفعه ودفع ما يضره ، والله مالك السموات والأرض ومن فيهن

١٥٨

وهو الخالق لكل شيء ، فهو وحده القادر على جلب النفع لخلقه ودفع الضرر عن مخلوقاته ، وأنت يا محمد وكل إنسان في الوجود إن تنزل بك شدة من فقر أو مرض فلا رافع ولا صارف له إلا هو ؛ وإن يصبك بعافية ورخاء ونعمة ، فهو الكامل القدرة على كل شيء من الخير والضر.

والله أيضا هو القاهر الغالب المهيمن على عباده ، ولكنه قهر بحكمة في أمره ، وخبرة تامة دقيقة بأعمال عباده.

والله أكبر وأعظم وأصدق شيء يشهد ، فهو شاهد حق بانفراده بالربوبية ، وقد أقام الأدلة والبراهين في النفس والكون على توحيده ، فقيام البراهين على توحيده أكبر شهادة وأعظم ، وأودع في الفطرة الإنسانية ما يرشد إلى الإيمان بإله واحد متصف بصفات الكمال ، وشهد العدول والعقلاء بوحدانيته ، كما قال تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، وَالْمَلائِكَةُ ، وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران ٣ / ١٨].

وشهد الله بصدق رسالة الرسول : بإخباره في قرآنه : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) [الفتح ٤٨ / ٢٩] (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) [البقرة ٢ / ١١٩].

وشهد الله أيضا بتأييده بالمعجزات التي من أهمها القرآن الكريم معجزة الإسلام الكبرى الدائمة إلى يوم القيامة. وشهدت الكتب السابقة له ، وبشرت الرسل المتقدمون به ، وذلك ما يزال قائما في كتب اليهود والنصارى.

كل هذه الشهادات المؤيدات تدل على أن الله شهيد بين نبيه محمد وبين المشركين على أنه بلغهم الرسالة ، وأدى الأمانة ، وصدق القول ، ونصح للأمة ، وعلى أن الله شهيد في إثبات الوحدانية والبراءة عن الشركاء والأنداد.

والنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور بتبليغ القرآن والسنة ؛ لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ

١٥٩

بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [المائدة ٥ / ٦٧]. وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بلّغوا عني ولو آية» وقال مقاتل : «من بلغه القرآن من الجن والإنس ، فهو نذير له».

ومما أوحي إلى النبي الذي ينذر به : أن القول بالتوحيد هو الحق الواجب ، وأن القول بالشرك باطل مردود.

وقد اشتدت حملة القرآن على الشرك والمشركين ، فوبخهم وقرعهم وأنكر عليهم في هذه الآية وغيرها اتخاذ آلهة أخرى مع الله ، وإن فرض أنهم طالبوا النبي بالشهادة على شركهم ، فإنه لا يشهد شهادتهم ، أو لا يشهد معهم. وإذ ثبت إبطال الشرك ، فالقول بالوحدانية هو الأمر المتعين ، والقول بتوحيد الله والبراءة عن الشرك هو ما يقوله النبي والمؤمنون.

وقد دل الكلام : (قُلْ : لا أَشْهَدُ ..) الآية على إيجاب التوحيد والبراءة عن الشرك من ثلاثة أوجه :

أولها ـ قوله : (قُلْ : لا أَشْهَدُ) أي لا أشهد بما تذكرونه من إثبات الشركاء.

وثانيها ـ قوله : (قُلْ : إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) وكلمة (إِنَّما) تفيد الحصر ، والواحد صريح في التوحيد ونفي الشركاء.

وثالثها ـ قوله : (إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) فيه تصريح بالبراءة عن إثبات الشركاء(١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٢ / ١٧٩.

١٦٠