التفسير المنير - ج ٧

الدكتور وهبة الزحيلي

روى أحمد عن عقبة بن عامر عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب ، فإنما هو استدراج». ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ ...) الآية. وفي رواية الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان : «إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب ، وهو مقيم على معاصيه ، فإنما ذلك منه استدراج».

أما المؤمن فلا يغتر بالنعمة ويصبر عند النقمة ، روى مسلم عن صهيب مرفوعا : «عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر ، فكان خيرا له».

فقه الحياة أو الأحكام :

الآية : (قُلْ : أَرَأَيْتَكُمْ ...) حجة دامغة للمشركين ، وهي مثل بارع في محاجّتهم ومجادلتهم ، فهم عند الشدائد يرجعون إلى الله ، وسيرجعون إليه يوم القيامة أيضا ، فلم هذا الإصرار على الشرك في حال الرفاهية؟! مع أنهم في وقت الشدة يتناسون الأصنام ويدعون الله في صرف العذاب ، وهذا دليل على اعترافهم به. ومن رحمة الله تعالى بعباده تذكيره بأحوال الأمم السابقة للعبرة والعظة ، وأنه يؤدب عباده بالبأساء (المصائب في الأموال) والضّراء (المصائب في الأبدان) وبما شاء : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء ٢١ / ٢٣]. من أجل أن يرجعوا عما هم عليه من كفر وعصيان ، ويثوبوا إلى رشدهم.

ولكن العناد يصحب الكفر غالبا ، لذا عاتب الله تعالى الكفار على ترك الدعاء ، وأخبر عنهم أنهم لم يتضرعوا حين نزول العذاب ، وربما تضرعوا بغير إخلاص ، أو حين مباشرة العذاب ، وهو غير نافع لهم حينئذ.

ويفهم من ذلك أن الدعاء مأمور به في حال الرخاء والشدة ، قال الله

٢٠١

تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر ٤٠ / ٦٠] وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) ـ أي دعائي ـ (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر ٤٠ / ٦٠] وهذا وعيد شديد.

وأما وجود العناد من الكفار فدل عليه قوله تعالى : (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أي صلبت وغلظت ، وهي عبارة عن الكفر والإصرار على المعصية. وهم في ذلك متأثرون بالشيطان : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي أغواهم بالمعاصي وحملهم عليها.

والإنعام على عبد ليس دليل الرضا عليه ، وإنما إذا وجدت النعمة مع البقاء على المعصية ، كان ذلك استدراجا من الله تعالى ، كما قال : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [القلم ٦٨ / ٤٥]. قال بعض العلماء : رحم الله عبدا تدبر هذه الآية : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً). وقال محمد بن النضر الحارثي : أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة. وقال الحسن البصري : والله ما أحد من الناس بسط الله له في الدنيا ، فلم يخف أن يكون قد مكر له فيها إلا كان قد نقص عمله ، وعجز رأيه ، وما أمسكها الله عن عبد فلم يظن أنه خير له فيها ، إلا كان قد نقص عمله ، وعجز رأيه».

وإن تدمير الأقوام وإهلاك الأمم مأساة في عرفنا ، ولكن في تقدير الله عبرة وعظة حتى لا يستشري الفساد. وتضمنت آية (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ ...) على وجوب ترك الظلم ؛ لما يؤدي إليه من العذاب الدائم ، وتضمنت أيضا وجوب حمد الله تعالى الذي يعاقب الظلمة ، حتى لا يدوم الفساد ، وينضب عنصر الخير.

٢٠٢

من أدلّة القدرة الإلهية والوحدانيّة ومهام الرّسل المرسلين

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩))

الإعراب :

(مَنْ إِلهٌ مَنْ) : مبتدأ ، و (إِلهٌ) خبره ، و (غَيْرُ) صفة له. (يَأْتِيكُمْ بِهِ) الهاء تعود على معنى الفعل أي ما أخذ منكم.

(فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَمَنْ) : مبتدأ ، وخبره : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) ودخلت الفاء في خبر المبتدأ ؛ لأن (فَمَنْ) اسم موصول بالفعل بمنزلة الذي ، كما تقدّم.

المفردات اللغوية :

(أَرَأَيْتُمْ) أخبروني. (خَتَمَ) طبع. (نُصَرِّفُ) نبين ونكرر على وجوه مختلفة. (الْآياتِ) الدّلالات على وحدانيتنا. (يَصْدِفُونَ) يعرضون عنها فلا يؤمنون. (بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً) ليلا أو نهارا. (الظَّالِمُونَ) الكافرون ، أي ما يهلك إلا هم.

(مُبَشِّرِينَ) من آمن بالجنة. (وَمُنْذِرِينَ) من كفر بالنار. (يَمَسُّهُمُ) المسّ : اللمس باليد ، ويطلق على ما يصيب الإنسان بما يسيء غالبا من ضرّ أو شرّ. (يَفْسُقُونَ) يخرجون عن الطاعة.

٢٠٣

المناسبة :

الآيات متصلة بما قبلها في موضوع واحد ، وهو إثبات القدرة الإلهية ، وإقامة الدليل على وجود الله وتوحيده ، وبيان مهام الرّسل أو وظائفهم ، مما يؤدي إلى إبطال الشرك وعبادة الأصنام.

التفسير والبيان :

قل أيها الرّسول لهؤلاء المشركين المكذبين المعاندين : أخبروني عما أنتم فاعلون إن سلبكم الله نعمة السمع والبصر ، والفؤاد ، فالسمع مفتاح المعرفة والتّفاهم مع الآخرين ، والبصر لرؤية الأشياء والتّحكّم فيها والسّيطرة عليها ، والقلب أو الفؤاد محلّ الحياة والعقل والعلم ، فلو تعطلت هذه القوى اختلّ أمر الإنسان وضاعت مصالحه في الدّنيا والدّين. وإذا كان الله هو المنعم بهذه النّعم ، وجب أن لا يستحق التّعظيم والثّناء والعبوديّة إلا الله تعالى.

والختم على القلب : الطّبع عليه ، بحيث يصبح غير قابل لنفاذ الهداية إليه ، ولا لتعقل الأمور وإدراك النّفع والضّرر ، والحقّ والباطل.

وقوله : (يَأْتِيكُمْ بِهِ) معناه يأتيكم بما أخذ منكم ، أي لا إله غيره يأتيكم بما سلب منكم.

انظر كيف نبيّن الآيات ، ونوضّحها ، ونفسّرها ، ونكررها بألوان مختلفة وأساليب متعدّدة ، من إعذار وإنذار ، وترغيب وترهيب ، ونحو ذلك ، دالّة على أنه لا إله إلا الله ، وأن ما يعبدون من دونه باطل وضلال ، فلو كان ما تعبدونه آلهة تنفع أو تضرّ لردّت عليكم هذا ، وإن كنتم تعلمون أنها لا تقدر على شيء ، فلما ذا تدعونها ، والدّعاء عبادة ، والعبادة لا تكون إلا لله الواحد القهّار.

وانظر كيف يصدفون أي يعرضون ، وقل لهم أيها الرّسول : أخبروني إن

٢٠٤

أتاكم عذاب الله بغتة أي فجأة وأنتم لا تشعرون به ، أو جهرة أي ظاهرا عيانا تعاينونه وتنظرون إليه ، أخبروني ماذا أنتم فاعلون؟ ولا يهلك إلا الظالمون الذين ظلموا أنفسهم بالشّرك بالله ، وأصرّوا على الكفر والعناد ، أي إنما يحيط العذاب بالظالمين أنفسهم بالشّرك بالله ، وينجو الذين كانوا يعبدون الله وحده لا شريك له.

ثم بيّن وظائف الرّسل فقال : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ ..) أي إنّ مهمة الرّسل محصورة ببشارة المؤمنين بالجنة والخيرات ، وإنذار من كفر بالله بالنار والعقوبات ، ثم بيّن مصير الفريقين :

فمن صدّق الرّسل وآمن بقلبه بما جاؤوا به ، وأصلح عمله باتباعه إياهم فلا خوف عليهم في المستقبل من عذاب الدّنيا وعذاب الآخرة ، ولا هم يحزنون يوم لقاء الله ، على ما فاتهم في الماضي ، وتركوه وراء ظهورهم من أمر الدّنيا ؛ لأن الله يحفظهم من كلّ فزع ، كما قال تعالى : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ، وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ، هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء ٢١ / ١٠٣] ، ولا يحزنون في الدّنيا مثل حزن المشركين في شدّته وطول مدّته ، وإنما يصبرون على ما أصابهم ، ويلتمسون الأجر عند الله ، ويتأملون العوض منه ، لأن الله تعالى أرشدهم للشكر عند النعمة والصبر عند النقمة ، وتفويض الأمر للخالق ، كما قال : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ ، وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ، وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) [الحديد ٥٧ / ٢٢ ـ ٢٣].

ومن كذب بآيات الله التي أرسلنا بها الرّسل ، ينالهم العذاب بما كفروا وجحدوا بما جاءت به الرّسل ، وخرجوا عن أوامر الله وطاعته ، وارتكبوا المنهيّات المحظورات ، وكان جزاء كفرهم وفسادهم في الدّنيا بأنواع النّقمة ، وفي

٢٠٥

الآخرة بألوان الغضب والسّخط في جهنم. أما خير الدّنيا الذي ينعم به الكافر فمتاع قليل ، وشيء تافه حقير إذا قورن بخير الآخرة.

فقه الحياة أو الأحكام :

الله الذي خلق الخلق ، وزوّدهم بمفاتيح المعرفة من السّمع والبصر والعقل ، قادر على أن يسلبهم إيّاها ، وإذا سلبت من يستطيع تعويضهم عنها؟ لا أمل بغير الله. وإذا عذبوا فجأة أو عيانا ظاهرا بسبب كفرهم ومعاصيهم ، فإن عدل الله يقتضي ألا يهلك إلا الظالمين أنفسهم بالشّرك بالله ، وينجي المؤمنين الأتقياء من ذلك العذاب.

ووظائف الرّسل محصورة بالتبشير والإنذار ، أي بالترغيب والترهيب ، قال الحسن البصري : مبشرين بسعة الرّزق في الدّنيا والثواب في الآخرة ؛ يدلّ على ذلك قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف ٧ / ٩٦].

والإنسان وحده هو الذي يسجّل لنفسه ما يستحق من نعمة أو نقمة ، فإذا آمن بالله ربّا وأصلح عمله ، حظي بالأمان والسعادة والسرور ، وإذا كذّب بآيات الله المنزلة على رسله ، مسّه العذاب بكفره وفسقه.

انحصار مصدر علم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوحي ومهمته في الإنذار

وطرد الضعفاء

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى

٢٠٦

رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣))

الإعراب :

جملة (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌ) حال من ضمير (يُحْشَرُوا) بمعنى يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعا لهم. (بِالْغَداةِ) إنما دخلت الألف واللام على «الغداة» لأنها نكرة عند جميع العرب. وأما غدوة فأكثر العرب يجعلها معرفة ويمنعها من الصّرف. ومنهم من يجعلها نكرة ويصرفها.

(ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) من الأولى للتبعيض ، ومن الثانية زائدة. و (شَيْءٍ) : في موضع رفع ؛ لأنه اسم (ما) ومثله : (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ).

(فَتَطْرُدَهُمْ) منصوب ؛ لأنه جواب النفي.

(فَتَكُونَ) جواب النّهي ، وتقديره : ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، فتكون من الظالمين ، وما عليك من حسابهم من شيء فتطردهم.

(أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَهؤُلاءِ) : في موضع نصب بفعل مقدر ، يفسّره: (مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) كما تقول : أزيدا مررت به ، فإن الاختيار فيه النّصب ؛ لأن الاستفهام يقتضي الفعل ويطلبه ، وهو أولى به من الاسم.

البلاغة :

(ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) في الجملتين ما يسمى ردّ الصدر على العجز.

المفردات اللغوية :

(خَزائِنُ) جمع خزانة وخزينة : وهي ما يخزن فيها الشيء الذي يراد حفظه ومنع التصرف

٢٠٧

فيه. و (خَزائِنُ اللهِ) : التي منها يرزق ، والمراد : ليست أرزاق العباد بيدي. (الْغَيْبَ) ما غاب علمه عن جميع الخلق ، واستأثر الله بعلمه. (الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) المراد بهما هنا الكافر والمؤمن أو الضّال والمهتدي. (وَأَنْذِرْ) خوّف. (بِهِ) أي بالقرآن. (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ) غيره. (وَلِيٌ) ناصر ينصرهم. (وَلا شَفِيعٌ) وسيط يتشفع لهم. والمراد بقوله: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ ...) المؤمنون العاصون. (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الله بإقلاعهم عما هم فيه ، وعمل الطاعات.

(تَطْرُدِ) الطرد : الإبعاد. (بِالْغَداةِ) أو الغدوة كالبكرة : ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. (وَالْعَشِيِ) آخر النهار ، أو من المغرب إلى العشاء. والمراد جميع الأوقات. (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي يريدون بعبادتهم وجه الله تعالى أي ذاته ، لا شيئا من أعراض الدّنيا ، وهم الفقراء ، وكان المشركون طعنوا فيهم ، وطلبوا أن يطردهم ليجالسوه ، وأراد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، طمعا في إسلامهم.

(حِسابِهِمْ) أي حساب إيمانهم وأعمالهم الباطلة.

(فَتَنَّا) ابتلينا واختبرنا. (بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي الشريف بالوضيع ، والغني بالفقير ، بأن قدّمناه بالسّبق إلى الإيمان. (لِيَقُولُوا) أي الشّرفاء والأغنياء منكرين معترضين. (مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ) أنعم الله عليهم بنعم كثيرة ، أهمها الهداية ، أي لو كان ما هم عليه هدى ، ما سبقونا إليه.

(مِنْ بَيْنِنا) أي من دوننا.

(أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) له ، فيهديهم؟ بلى.

سبب النزول :

نزول الآية (٥٢):

(وَلا تَطْرُدِ ..) : روى ابن حبان والحاكم عن سعد بن أبي وقاص قال : لقد نزلت هذه الآية في ستة : أنا وعبد الله بن مسعود وأربعة قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اطردهم ، فإنا نستحي أن نكون تبعا لك كهؤلاء ، فوقع في نفس النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما شاء الله ، فأنزل الله : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) إلى قوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) وسأذكر رواية أخرى لمسلم في الموضوع.

وروى أحمد والطبراني وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : «مرّ الملأ من قريش على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده خبّاب بن الأرتّ وصهيب وبلال وعمار ،

٢٠٨

فقالوا : يا محمد ، أرضيت بهؤلاء؟ أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟ لو طردت هؤلاء لاتّبعناك ، فأنزل الله فيهم القرآن : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا) إلى قوله : (سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)».

وأخرج ابن جرير الطبري وابن المنذر عن عكرمة قال : جاء عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، ومطعم بن عدي ، والحارث بن نوفل (١) في أشراف بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب ، فقالوا له : لو أن ابن أخيك يطرد هؤلاء الأعبد ، كان أعظم في صدورنا ، وأطوع له عندنا ، وأدنى لاتّباعنا إيّاه ، فكلّم أبو طالب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلنا ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون؟ فأنزل الله : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ ...) الآية إلى قوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) ـ وكانوا بلالا ، وعمار بن ياسر ، وسالما مولى أبي حذيفة ، وصالحا (٢) مولى أسيد ، وابن مسعود ، والمقداد بن عمرو (٣) ، وواقد بن عبد الله الحنظلي وأشباههم ـ فأقبل عمر ، فاعتذر من مقالته ، فنزل : * وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا الآية.

ويلاحظ أن هذه الرّوايات مختلفة ، فبعضها ذكر نزول الآية إلى نهاية الآية [٥٣] ، وبعضها أدخل الآيتين [٥٤ ـ ٥٥]. والرّواية الأولى ذكرت ابن مسعود مع أئمة قريش ، والرّواية الأخيرة ذكرته مع المطلوب طردهم.

المناسبة :

هذه الآية تتمة لما قبلها : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ومبيّنة لحدود وظائف الرّسل بكونهم مجرّد مبشرين ومنذرين ، فالله يأمر رسوله بأن يقول

__________________

(١) في رواية : والحارث بن عامر ، وقرظة بن عبد عمر بن نوفل.

(٢) وفي رواية : «وصبيحا».

(٣) وفي رواية : والمقدام بن عبد الله ، وعمرو بن عمرو ذو الشمالين ، ومرثد بن أبي مرثد.

٢٠٩

لهؤلاء الأقوام : إنما بعثت مبشرا ومنذرا ، وليس لي أن أتحكّم على الله ، ومأمور أن أنفي عن نفسي أمورا ثلاثة : ليس عندي خزائن الله ، ولا أعلم الغيب ، ولست ملكا من الملائكة. والفائدة من نفي هذه الأحوال : إظهار الرّسول تواضعه لله وعبوديته له ، ردّا على اعتقاد النصارى في عيسى عليه‌السلام ، وإظهار عجزه عن الإتيان بالمعجزات المادية القاهرة القوية ، فهذا من قدرة الله اللائقة به ، ويعني ذلك أنه لا يدعي الألوهية ولا الملكية.

التفسير والبيان :

كان المشركون يطلبون من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معجزات ماديّة قاهرة ، جهلا منهم بمهمّة الرّسول ورسالته ، فأنزل الله : قل أيها الرّسول لهؤلاء : لست أملك خزائن الله ولا أقدر على قسمتها وتوزيعها والتّصرّف فيها ، فهذا لله وحده يعطي منها لعباده ما يشاء على وفق الحكمة وضمن قيد الأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى النتائج والمسببات.

ولا أقول لكم : إني أعلم الغيب ، فذاك لله عزوجل ، ولا أطّلع منه إلا ما أطلعني عليه ، كما قال : (عالِمُ الْغَيْبِ ، فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن ٧٢ / ٢٦ ـ ٢٧].

ولا أدّعي أني ملك من الملائكة ، إنما أنا بشر من البشر ، يوحى إليّ من الله عزوجل ، فلا أستطيع أن آتي بما لا يقدر عليه البشر.

والمعنى في هذه الأمور الثلاثة : أني لست أدّعي الألوهية ، ولا علم الغيب ، ولا الملكيّة ، حتى تطلبوا مني ما ليس في طاقتي وقدرتي ، إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ القرآن وبيانه ، ولست في هذا مبتدعا ، إنما سبقني إلى الرّسالة رسل كثيرون قبلي.

٢١٠

ووظيفة الرّسول : اتّباع الوحي ، وهذا معنى قوله تعالى : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أي لست أخرج عنه قيد شبر ولا أدنى منه.

ثم وبّخهم الله على ضلالهم مبيّنا لهم أنه لا يستوي الضّال والمهتدي فقال : (قُلْ : هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي قل للمشركين المكذبين : هل يستوي من اتّبع الحق وهدي إليه ، ومن ضلّ عنه وحاد عن الحقّ.

أفلا تتفكرون فتميّزوا بين ضلال الشّرك وهداية الإسلام ، وتعقلوا ما في القرآن من أدلّة توحيد الله وإيجاب اتّباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا مثل قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى ، إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) [الرعد ١٣ / ١٩].

وخلاصة ما سبق : إثبات قدرة الله المطلقة التي تنفي وجود مثلها لأحد ، مما يدلّ على وجود الله ووحدانيته ، وإثبات كون القرآن والمعجزات المؤيدة لصدق النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : هي من الله وحده ؛ لأنه لا يستطيع الرّسول التّصرف في شيء خارج الحالات المعتادة ، ولا الإتيان بشيء مثل القرآن أو تنزيل الآيات الغريبة ، وإجراء المعجزات الخارقة للعادة.

هذه حقيقة الرّسالة ، ثم أمر الله نبيّه بإنذار المؤمنين سوء الحساب والجزاء فقال : (وَأَنْذِرْ بِهِ ..) أي وأنذر يا محمد بالوحي أو بالقرآن الذين يؤمنون بالله ويخافون من الحشر وأهواله وشدّة الحساب يوم القيامة ، وما يتبع ذلك من الجزاء على الأعمال ، عند لقاء الله ، ويعتقدون بأنه ليس لهم فيه وليّ ولا شفيع ولا حميم ولا نصير : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار ٨٢ / ١٩] ، لعلهم يتقون أي أنذر هذا اليوم الذي لا حاكم فيه إلا الله عزوجل ، قال ابن عبّاس : معناه وأنذرهم لكي يخافوا في الدّنيا ، وينتهوا عن الكفر والمعاصي.

٢١١

فهؤلاء المؤمنون بالله وبالغيب وباليوم الآخر هم الذين ينتفعون بالقرآن. أما المادّيون الذين لا يؤمنون بغير المادّة ، فقد حجبوا عن أنفسهم نور الهداية الإلهية ، فطبع الله على قلوبهم وأصمّهم وأعمى أبصارهم. وهذا مثل قوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ ، وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ، وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) [فاطر ٣٥ / ١٨].

ثم منع الله نبيّه من تقريب كفار قريش وأشرافهم المترفين ، ومن تنحية المؤمنين المستضعفين وطرد الضّعفاء من الناس ، فقال : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ ...) أي لا تبعد عنك هؤلاء المتّصفين بهذه الصفات ، بل اجعلهم جلساءك وخلصاءك ، وصفاتهم أنهم مؤمنون حقّ الإيمان ، موحّدون ربّهم دون شائبة شرك ، يدعون ربّهم بالغداة والعشي أي في الصّباح والمساء وجميع الأوقات ، يخلصون في طاعتهم وعبادتهم ، فلا يقصدون إلا إرضاء الله تعالى ، ولا يريدون من عبادتهم إلا ذات الله وحقيقته ؛ لأنه المستحق للعبادة. ونظير الآية قوله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ، وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ ، تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا ، وَاتَّبَعَ هَواهُ ، وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) [الكهف ١٨ / ٢٨].

وموقف هؤلاء المشركين له شبيه بموقف قوم نوح حين قال أشرافهم له : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) [هود ١١ / ٢٧] ، وقوله لهم : (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا ، إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ، وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) [هود ١١ / ٢٩].

ثم حصر الله تعالى حساب هؤلاء بربّهم ، كما قال تعالى : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) [الشعراء ٢٦ / ١١٣] ، وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم ، فقال تعالى : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) بعد أن شهد الله لهم بالإخلاص

٢١٢

وبإرادة وجه الله في أعمالهم. وإن كان الأمر كما يقولون عند الله ، فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر ، وإن كان لهم باطن غير مرض بأن كانوا غير مخلصين ، فحسابهم عليهم لازم لهم لا يتعدّاهم إليك ، كما أن حسابك عليك ، لا يتعدّاك إليهم (١) ، كما قال تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور ٥٢ / ٢١] ، وقال : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدّثر ٧٤ / ٣٨] ، وقال : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام ٦ / ١٦٤ ، الإسراء ١٧ / ١٥ ، فاطر ٣٥ / ١٨ ، الزمر ٣٩ / ٧].

والجملتان وهما (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ، وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) بمنزلة جملة واحدة ، ومؤدّاهما واحد ، ولا بدّ منهما جميعا ، كأنه قيل : لا تؤاخذ أنت ، ولا هم بحساب صاحبه.

فلما ذا تطردهم؟ لأن الطّرد جزاء ، والجزاء بعد الحساب والمحاكمة ، والحساب على الله ، وما عليك إلا البلاغ : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية ٨٨ / ٢١ ـ ٢٢].

فإن طردتهم والحالة هذه ، فتكون بطردهم من زمرة الظالمين أنفسهم ، لأن الطّرد ـ كما ذكرت ـ لا يكون إلا بذنب ، والحساب على الذّنب إلى الله ، لا إليك.

والخلاصة : ذكر الله غير المتقين من المسلمين ، وأمر بإنذارهم ليتقوا ، ثم أردفهم ذكر المتقين منهم ، وأمر الله نبيّه بتقريبهم وإكرامهم ، وألا يطيع فيهم من أراد بهم خلاف ذلك.

ثم أوضح الله تعالى أن مقال المشركين في شأن الضعفاء ابتلاء من الله واختبار فقال : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي ابتلينا واختبرنا وامتحنّا بعضهم ببعض ، لتكون العاقبة أن يقول الأقوياء من الكفار في حقّ الضعفاء من المؤمنين : أهؤلاء الصّعاليك من العبيد والموالي والفقراء خصّهم الله بهذه النّعمة

__________________

(١) الكشّاف : ١ / ٥٠٧

٢١٣

العظمى من جملتنا؟ كقوله تعالى : (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) [القمر ٥٤ / ٢٥] ، وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا : لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف ٤٦ / ١١]. والمعنى : أنهم لما اختبروا بهذا ، فآل عاقبته إلى أن قالوا هذا على سبيل الإنكار ، وصار مثل قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص ٢٨ / ٨].

وبعبارة أخرى : إن المشركين كانوا يقولون للمسلمين : أهؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا؟ أي أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحق ، ولما يسعدهم عنده من دوننا ، ونحن المقدّمون والرؤساء ، وهم العبيد والفقراء؟! إنكارا لأن يكون أمثالهم على الحقّ ، ممنوعا عليهم من بينهم بالخير. وافتتانهم هو سبب هذا القول ؛ لأنه لا يقول مثل هذا القول إلا مخذول مفتون.

ثم ردّ الله عليهم قولهم الناشئ عن العتو والاستكبار ، فقال : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)؟ أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر ، فيوفقه للإيمان وبمن يصمم على كفره ، فيخذله ويمنعه التوفيق.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي من الأحكام الاعتقادية المهمة جدّا وهي :

١ ـ إن الرّسول ليس عنده خزائن الله ، ولا يملك التّصرّف في الكون ، فلا يستطيع إنزال ما اقترحوه من الآيات.

٢ ـ إنه لا يعلم الغيب مثل بقية البشر.

٣ ـ إنه ليس بملك يشاهد من أمور الله ما لا يشهده البشر. واستدلّ بهذا القائلون بأن الملائكة أفضل من الأنبياء ، كما استدلوا بقوله تعالى : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء ٢١ / ٢٦ ـ ٢٧].

٢١٤

(لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ ، وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم ٦٦ / ٦].

وأما القائلون بتفضيل بني آدم على الملائكة فاستدلّوا بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) [البيّنة ٩٨ / ٧] بالهمز : من برأ الله الخلق ، وبقوله عليه الصّلاة والسّلام فيما أخرجه أبو داود : «وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم» وبما جاء في أحاديث من أن الله تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة ، ولا يباهي إلا بالأفضل (١).

٤ ـ إنه لا يملك حساب المؤمنين ولا جزاءهم.

٥ ـ لا يعمل إلا بالوحي ، أي لا يقطع أمرا إلا إذا كان فيه وحي. وبهذا تمسّك القائلون بأنه لم يكن للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاجتهاد ، بل جميع أحكامه صادرة عن الوحي ، ويتأكد هذا بقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النّجم ٥٣ / ٣ ـ ٤] ، وقال نفاة القياس : وإذا كان لا يعمل إلا بالوحي ، فوجب ألا يجوز لأحد من أمته أن يعملوا إلا بالوحي النّازل عليه.

والصحيح لدى الأصوليين أن الأنبياء يجوز منهم الاجتهاد ، والقياس على المنصوص ، والقياس أحد أدلّة الشرع. والأدلّة السابقة مخصوصة بالقرآن ، للرّدّ على من زعم أنّ محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم يفتري القرآن من عند نفسه ، ولإثبات كون القرآن منزلا عليه بالوحي الإلهي.

٦ ـ مهمّة الرّسول كغيره من الرّسل الموصوفين بكونهم مبشرين ومنذرين : هي الإنذار لقوله تعالى : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا).

٧ ـ الرّسول بحكم كونه بشرا مال فترة بحسب اجتهاده إلى إبعاد الفقراء والعبيد من مجلسه ، طمعا في إسلام الزعماء والقادة ، وإسلام قومهم ، ورأى أن

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ٢٨٩ ، ٦ / ٤٣٠

٢١٥

ذلك لا يفوّت أصحابه شيئا ، ولا ينقص لهم قدر ، فمال إليه ، فأنزل الله الآية : (وَلا تَطْرُدِ ..) فنهاه عما همّ به من الطّرد ، لا أنه أوقع الطّرد. وقد روينا في سبب النزول قصّتهم ، ويحسن ذكر رواية أخرى هي ما رواه مسلم في صحيحة عن سعد بن أبي وقاص قال : كنّا مع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ستّة نفر ، فقال المشركون للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اطرد هؤلاء عنك ، لا يجترءون علينا ؛ قال : وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسمّيهما ، فوقع في نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما شاء الله أن يقع ، فحدّث نفسه ، فأنزل الله عزوجل : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ).

وهذا دليل آخر على كون القرآن من عند الله تعالى ، إذا يستحيل عقلا أن يهمّ النّبيّ بشيء ، ثم ينهى نفسه عنه ، لو لم يكن النّهي عن الفعل من عند ربّه.

٨ ـ في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) إشارة إلى تبدل ميزان القوى ومراكز الناس ؛ فإن حالات التّفوّق والنّعم لن تدوم للكفار ، وأحوال الضعف التي مرّ بها المؤمنون وصبروا عليها لا بدّ أن تتبدّل ، وسيصبح الأقوياء أذلّة ، والضّعفاء أعزّة بالإسلام ، ويعلو الحقّ ، وتتأيّد دولة الله في الأرض ، ويصبح أتباعها هم الأئمة الوارثين ، قال تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ ، إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم ١٤ / ٧] ، وقال : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) [القصص ٢٨ / ٥].

٩ ـ وفي الآية : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا) أيضا إيماء إلى أنّ ترك المشركين للإيمان لم يكن إلا عنادا وجحودا ناشئا عن الاستعلاء والاستكبار ، لا عن حجّة وبرهان. وفيها كذلك أن كلّا من فريقي المؤمنين والكافرين مبتلى بصاحبه ، فالكفار الرؤساء الأغنياء كانوا يحسدون فقراء الصحابة على سبقهم في الإسلام

٢١٦

والظفر بالخير والنّعمة ، وفقراء الصحابة كانوا يرون الكفار في سعة ورفاه ، فيقولون : كيف حال هؤلاء الكفار ، مع أنّا في هذه الشّدة والضيق؟!

بعض أحوال رحمة الله تعالى

(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥))

الإعراب :

(أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بالفتح فيهما ، تكون الأولى بدلا من (الرَّحْمَةَ) وهو بدل الشيء من الشيء ، وهو هو ، و (الرَّحْمَةَ) : في موضع نصب بكتب. وتكون الثانية خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره : فأمره أنه غفور رحيم. ويجوز أن يجعل مبتدأ ، ويقدّر لها خبر ، تقديره : فله أنه غفور رحيم ، أي : فله غفران ربّه.

ومن قرأ بالكسر فيهما فمن وجهين : أحدهما ـ أن (كَتَبَ) تؤول إلى قال ، وتقديره : قال : إنه من عمل. والثاني ـ على الاستئناف. والكسر بعد الفاء أقيس ؛ لأن ما بعد الفاء يجوز أن يقع فيه الاسم والفعل.

(وَلِتَسْتَبِينَ) الواو : عطف على فعل مقدر ، وتقديره : ليفهموا ولتستبين سبيل المجرمين وسبيل المؤمنين ، إلا أن الثاني حذف ؛ لأن فيما أبقى دليلا على ما ألقى ، كقوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أي والبرد.

(سَبِيلُ) بالرفع فاعل. (لِتَسْتَبِينَ) ولا ضمير فيه ، والتاء في الفعل لتأنيث السبيل ؛ لأنها مؤنثة ، كما قال تعالى : (قُلْ : هذِهِ سَبِيلِي). ومن قرأ بالياء جعل السبيل مذكّرا ، كما قال تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ..). ومن نصب سبيل كانت التاء للخطاب ، وهو مفعول به.

٢١٧

المفردات اللغوية :

(سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي سلامة وبراءة من العيوب والآفات. والسّلام : من أسماء الله تعالى الدّالة على تنزيهه عما لا يليق به من النّقص والعجز والفناء. واستعمل السلام في التّحية ، أي السلامة من كل ما يسوء وتأمينه من كلّ أذى ، وهو شعار الإسلام ، ودليل الودّ والصّفاء ، وتحية الله تعالى وملائكته لأهل الجنة ، وتحيتهم فيما بينهم.

(كَتَبَ) فرض وأوجب وقضى. (أَنَّهُ) ضمير الشأن. (بِجَهالَةٍ) سفه وخفة تقابل الحكمة والروية والتعقل. (وَلِتَسْتَبِينَ) تتضّح وتظهر. (سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) طريق المجرمين الذين أجرموا في حقّ أنفسهم وارتكبوا الجرائم التي هي المخالفات الشرعية.

سبب النّزول :

قال عكرمة : نزلت في الذين نهى الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طردهم ، فكان إذا رآهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدأهم بالسّلام ، وقال : «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام».

وقال ماهان الحنفي : أتى قوم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إنّا أصبنا ذنوبا عظاما ، فما إخاله ردّ عليهم بشيء ، فلما ذهبوا وتولوا ، نزلت هذه الآية : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا)(١).

المناسبة :

بعد أن نهى الله تعالى رسوله عن طرد المستضعفين ، طمعا في إسلام الكبراء من قومه ، أمره بأن يكرم جميع المسلمين بهذا النوع من الإكرام ، وهو التّحية والسّلام والقبول بأمان وإعزاز.

التفسير والبيان :

وإذا جاءك أيها الرّسول الذين يؤمنون بالله ورسله ويصدقون بكتبه ،

__________________

(١) أسباب النّزول للنّيسابوري ١٢٥ ، تفسير القرطبي : ٦ / ٤٣٥

٢١٨

تصديقا في القلب والعمل ، سائلين عن ذنوبهم ، هل لهم منها توبة ، فقل لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي أمان من الله لكم من ذنوبكم أن يعاقبكم عليها بعد التوبة ، وأكرمهم بتبليغ سلام الله إليهم ، أو ابدأهم بالسّلام إكراما لهم وتطييبا لقلوبهم ، وبشّرهم برحمة الله الواسعة الشاملة لهم.

ولهذا ذكر الله علّة ما سبق ، فقال : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي أوجبها على نفسه الكريمة ، تفضّلا منه وإحسانا وامتنانا.

وقد جمعت في تفسير الآية : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) بين السّببين اللذين ذكرا في سبب نزولها كما تقدّم ، قال بعضهم : نزلت في قوم أقدموا على ذنوب ، ثم جاءوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مظهرين للندامة والأسف ، فنزلت هذه الآية فيهم.

وقال بعضهم : نزلت في أهل الصّفّة الذين سأل المشركون الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم طردهم وإبعادهم ، فأكرمهم الله بهذا الإكرام.

قال الرّازي : والأقرب من هذه الأقاويل أن تحمل هذه الآية على عمومها ، فكلّ من آمن بالله ، دخل تحت هذا التّشريف (١).

ثم أبان الله تعالى طريق قبول التوبة فقال : (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً) أي إنه من ارتكب منكم ذنبا أو خطيئة بجهالة كغضب شديد أو شهوة جامحة أو سفه وخفة غير مقدر سوء العاقبة أو من غير قصد ، ثم تاب مخلصا لله في توبته ، ورجع عن ذلك الذّنب وندم ، وأصرّ على عدم العودة إليه في المستقبل ، وأصلح عمله ، وأتبع السّيئة بالحسنة لمحو أثرها ، فشأنه تعالى في معاملته أنه يغفر له ذنبه ، لأنه واسع المغفرة والرّحمة. ونظير الآية قوله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ، ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) [النساء ٤ / ١٧]. قال بعض

__________________

(١) تفسير الرّازي : ١٣ / ٢

٢١٩

السّلف : كلّ من عصى الله فهو جاهل. وقال الحكم بن أبان بن عكرمة : الدّنيا كلّها جهالة.

وخلاصة شروط التوبة الصادقة أربعة : النّدم الحقيقي على الذّنب ، والعزم على عدم العود إليه مستقبلا ، وردّ المظالم إلى أهلها ، وإتباعها بالعمل الصالح.

ثم أبدى الله سبحانه وتعالى تفضّلا منه طريقه في البيان وهو تفصيل آيات القرآن لمعرفة مناهج الطاعة والبعد عن مسلك أهل الاجرام فقال : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ).

والمعنى : ومثل ذلك التّفصيل البيّن البديع لدلائل التّوحيد والنّبوة والقضاء والقدر ، نفصّل آيات القرآن وحقائق الشريعة ، وتقرير كلّ حقّ ينكره أهل الباطل ، ليتّضح للمؤمنين طريق المجرمين ، وإذا اتّضح سبيلهم كان كلّ ما عداه وما خالفه هو سبيل المؤمنين ، وذكر أحد القسمين يدلّ على الثاني ، كقوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل ١٦ / ٨١] ولم يذكر البرد ، ولأن بيان خاصية أحد الضّدين يدلّ ضمنا على خاصية القسم الآخر ، فمتى استبانت طريقة المجرمين فقد استبانت طريقة أهل الحقّ والإيمان أيضا لا محالة.

فقه الحياة أو الأحكام :

تدلّ الآيتان على ما يلي :

١ ـ إكرام الله للمستضعفين الذين نهى الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طردهم ، فكان إذا رآهم بدأهم بالسّلام.

ويستفاد منه احترام الصّالحين واجتناب ما يغضبهم أو يؤذيهم ، فإن في ذلك غضب الله ، أي حلول عقابه بمن آذى أحدا من أوليائه.

٢ ـ إمكان قبول التوبة من الله على عباده الذين وقعوا في الذّنوب ، ثمّ تابوا

٢٢٠