التفسير المنير - ج ٧

الدكتور وهبة الزحيلي

روح المؤمن فيكون في يسر وسهولة ، كما دلت الأحاديث المتواترة عن أبي هريرة وغيره ؛ لأن روح المؤمن تنشط للخروج للقاء الله ، وروح الكافر تنتزع انتزاعا شديدا ، ويقال : أيتها النفس الخبيثة اخرجي ساخطة مسخوطا عليك إلى عذاب الله وهوانه ، كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد والشيخان والبيهقي عن أبي موسى الأشعري : «من أراد لقاء الله أراد الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه».

ولا تنفع الأملاك والأموال ونعم الدنيا يوم الآخرة ، ثبت في الصحيح أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأبقيت ، وما سوى ذلك فذاهب ، وتاركة للناس». فالأموال التي اكتسبها ، وأفنى عمره في تحصيلها تبقى وراء ظهره ، وما يبقى وراء الظهر لا ينتفع به : (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ).

كذلك لا نفع في الشركاء والأصنام المعبودين من دون الله ، فكلها لا أثر لها في القيامة بين يدي الله والحساب : (وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي ذهب ما تكذبون به في الدنيا. روي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث. وروى مسلم أن عائشة رضي‌الله‌عنها قرأت قول الله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فقالت : يا رسول الله ، ووا سوأتاه! إن الرجال والنساء يحشرون جميعا ، ينظر بعضهم إلى سوءة بعض؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس ٨٠ / ٣٧] لا ينظر الرجال إلى النساء ، ولا النساء إلى الرجال ، شغل بعضهم عن بعض».

٣٠١

قدرة الله الباهرة في الكون

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩))

الإعراب :

(وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً اللَّيْلَ) : مفعول أول ، و (سَكَناً) : مفعول ثان. (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) : عطف على (اللَّيْلَ) ، و (حُسْباناً) ، أي : ذا حساب هو مفعول ثان. وقال السيوطي : هو حال من مقدار أي يجريان بحسبان ، كما في آية الرحمن.

ومن قرأ : وجاعل الليل أضاف اسم الفاعل إلى الليل ، ويكون (سَكَناً) منصوبا بتقدير فعل مقدر ، تقديره : وجعل الليل سكنا. وكذلك يكون : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) منصوبين بتقدير (جَعَلَ).

(فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) : مرفوعان بالابتداء ، وخبرهما محذوف ، وتقديره : فمنكم مستقر ، ومنكم مستودع ، مستقر في الأرحام ، ومستودع في الأصلاب.

٣٠٢

(وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) : أي فاستقر من النخل ، و (مِنْ طَلْعِها) : بدل منه ، أعني من النخل. و (قِنْوانٌ) : مرفوع بقوله : (مِنْ طَلْعِها) على قول من أعمل الثاني في نحو : قاما وقعد الزيدان ، وهو مذهب البصريين. ومرفوع بقوله : (وَمِنَ النَّخْلِ) على قول من أعمل الأول في نحو : قام وقعدا الزيدان ، وهو مذهب الكوفيين.

(وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) بالنصب معطوف على قوله : (نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً) وبالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر ، وتقديره : ولهم جنات. (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ) اسم جنس ، جمع ثمرة ، كشجرة وشجر. ومن قرأه بالضم «ثمره» جعله جمع ثمار ، وثمار جمع ثمرة ، فجعله جمع الجمع.

البلاغة :

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) بينهما طباق (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) فيه رد العجز على الصدر.

(فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) استفهام إنكاري بمعنى النفي أي لا وجه لصرفكم عن الإيمان بعد قيام البرهان (فَأَخْرَجْنا بِهِ) فيه التفات عن الغيبة للاعتناء بشأن المخرج والإشارة إلى عظم النعم (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) عطف خاص على عام لمزيد الشرف.

المفردات اللغوية :

(فالِقُ) شاق ، والفلق والفرق والفتق بمعنى واحد : وهو الشق في الشيء مع الإبانة (الْحَبِ) الحنطة ونحوها مما يكون في السنبل والأكمام (النَّوى) جمع نواة ، وهي بزر التمر والزبيب ونحوهما ، والمعنى : إن الله شاق الحب عن النبات والبزر عن النخل والكرمة (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالإنسان والطائر من النطفة والبيضة (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ) النطفة والبيضة (مِنَ الْحَيِ). (ذلِكُمُ) الفالق المخرج هو (اللهَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فكيف تصرفون عن الإيمان مع قيام البرهان.

(فالِقُ الْإِصْباحِ) أي شاق عمود ضوء الصبح (وهو أول ما يبدو من نور النهار) عن ظلمة الليل. والإصباح : مصدر بمعنى الصبح (سَكَناً) تسكن فيه الخلائق من التعب.

(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) بالنصب عطفان على محل (اللَّيْلَ). (حُسْباناً) حسابا للأوقات والحسبان والحساب : استعمال العدد في الأشياء والأوقات (ذلِكَ) المذكور (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) في ملكه (الْعَلِيمِ) بخلقه.

٣٠٣

(فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) في الأسفار (قَدْ فَصَّلْنَا) بينا (الْآياتِ) الدلالات على قدرتنا (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يتدبرون.

(أَنْشَأَكُمْ) خلقكم (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هي آدم (فَمُسْتَقَرٌّ) موضع قرار منكم في الرحم أو إقامة في الأرض ، كما قال تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) [البقرة ٢ / ٣٦ ، والأعراف ٧ / ٢٤] (وَمُسْتَوْدَعٌ) موضع الوديعة (لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) الفقه : فهم الشيء مع التعمق في التفكير (فَأَخْرَجْنا بِهِ) بالماء (خَضِراً) أي نباتا أخضر (نُخْرِجُ مِنْهُ) من الخضر (حَبًّا مُتَراكِباً) يركب بعضه بعضا كسنابل الحنطة ونحوها (مِنْ طَلْعِها) الطلع : أول ما يبدوا ويظهر من زهر النخلة قبل أن ينشق عنه غلافه (قِنْوانٌ) عراجين ، جمع قنو ، وهو عذق الثمر ، وهو من النخيل كالعنقود من العنب ، والسنبلة من القمح (دانِيَةٌ) قريب بعضه من بعض ، وقريب التناول (جَنَّاتٍ) بساتين (مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أي متشابها في بعض الصفات كالورق ، وغير متشابه في بعض آخر كالثمر ، أي متشابه الورق والثمر وغير متشابه. (وَيَنْعِهِ) نضجه ، أي حين يينع ويبدو نضجه واكتماله ، والمراد : انظروا أيها المخاطبون نظر اعتبار إلى ثمره إذا أثمر (أول ما يبدو) كيف هو ، وإلى نضجه إذا أدرك كيف يصبح (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ) دلالات على قدرته تعالى على البعث وغيره (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) خصوا بالذكر ؛ لأنهم المنتفعون بها في الإيمان ، بخلاف الكافرين.

المناسبة :

بعد أن أثبت الله تعالى التوحيد ، وقرر أمر النبوة ، وبعض أحوال البعث ، عاد هنا إلى بيان بعض الأدلة الدالة على وجود الصانع ، وهي تتلخص في الخلق والإيجاد ، والإحياء والإماتة ، والتقدير والتدبير لحركة الكواكب والنجوم وتقلب الليل والنهار.

التفسير والبيان :

عدّد الله تعالى في هذه الآيات بعض مظاهر قدرته الباهرة وحكمته البالغة ، فبدأ بالنبات وأخبر أنه فالق الحب والنوى ، أي يشقه بقدرته في التراب ، فينبت منه الزرع على اختلاف أصنافه من الحبوب ، والثمار على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعومها ، من النوى ، لذا فسر قوله : (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) بقوله : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ، وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) أي يخرج النبات الحي

٣٠٤

المتحرك من الحب والنوى الذي هو كالجماد الميت ، عن طريق ربط الأسباب بمسبباتها ، ببذر الحب والنوى في التراب ، وإرواء التراب بالماء. وذلك يدل على كمال قدرته ، وبديع حكمته.

فقوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) معناه يخرج الزرع الأخضر والشجر النامي ، من الميت الجامد ، والمراد بالحياة هنا النمو والتغذية ، والميت : هو ما لا نماء فيه ولا يتغذى ، مثل التراب والحب والنوى وغيرهما من البذور ، والبيضة والنطفة. وإذا قيل في العلم الحديث : إن في النطفة والبيضة حياة فيراد بها الحياة النباتية أو الخلوية (حياة الخلية). وأما المقصود هنا فهي الحياة الظاهرية الحركية. وقيل في التفسير العلمي الحديث : المراد بخروج الحيوان من الميت أي تكونه من الغذاء ، فالحي ينمو بأكل أشياء ميتة ، والغذاء ميت لا ينمو.

وقوله تعالى : (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) معناه مخرج الحب والنوى من النبات ، والبيضة والنطفة من الحيوان. وقيل في التفسير العلمي الحديث : المراد بذلك الإفرازات مثل اللبن : وهو سائل ليس فيه شيء حي ، بخلاف النطفة فإن فيها حيوانات حية ، وهي تخرج من الحيوان الحي ، وهكذا ينمو الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي.

(ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي فاعل هذا هو المتصف بكمال القدرة وبالغ الحكمة ، المحيي والمميت ، وهو الله الخالق وحده لا شريك له ، فكيف تصرفون عن الحق وتعدلون عنه إلى الباطل ، فتعبدون معه غيره ، وتشركون به شريكا آخر لا يقدر على شيء من ذلك؟!

والله فالق الإصباح وجعل الليل سكنا أي خالق الضياء والظلام كما قال في أول السورة : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) فهو سبحانه يفلق ظلام الليل عن غرة الصباح ، فيضيء الوجود ، ويستنير الأفق ، ويضمحل الظلام ، ويذهب

٣٠٥

الليل بسواده وظلامه ، ويجيء النهار بضيائه وإشراقه ، كقوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) [الأعراف ٧ / ٥٤] فبين تعالى قدرته على خلق الأشياء المتضادة المختلفة الدالة على كمال عظمته وعظيم سلطانه ، فذكر أنه فالق الإصباح ، وقابل ذلك بقوله : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) أي ساجيا هادئا مظلما لتسكن فيه الأشياء ، ويستريح فيه المتعب من عمل النهار ، كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (١) ، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً ، وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) [النبأ ٧٨ / ٩ ـ ١١].

ثم قال تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) أي ونظام الشمس والقمر للحساب وعدد الشهور والسنين ، وكلاهما يجري بحساب دقيق ، كما قال تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) [الرحمن ٥٥ / ٥] أي يجريان بحساب مقنن مقدر ، لا يتغير ولا يضطرب ، بل لكل منهما منازل يسلكها في الصيف والشتاء ، فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولا وقصرا ، كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً ، وَالْقَمَرَ نُوراً ، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [يونس ١٠ / ٥] وقد جمع الله في هذه الآية ثلاث آيات سماوية ، كما جمع في آية (فالِقُ الْإِصْباحِ ...) ثلاث آيات أرضية وهي : فلق الصبح والتذكير به للتأمل في صنع الله بإفاضة النور الذي هو مظهر جمال الوجود ، وجعل الليل ساكنا ، نعمة من الله ليستريح الجسد ، وتسكن النفس ، وتهدأ من التعب العمل بالنهار ، وجعل الشمس والقمر حسبانا ، تحقيقا لحاجة الإنسان إلى معرفة حساب الأوقات من أجل العبادات ، والمعاملات ، والتواريخ.

ومن المعروف فلكيا أن للأرض دورتين : دورة تتم في أربع وعشرين ساعة لحساب الأيام ، ودورة تتم في سنة ضمن فصول أربعة ، لحساب السنة الشمسية.

__________________

(١) أي قطعا لأعمالكم وراحة لأبدانكم.

٣٠٦

(ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي الجميع حاصل بتقدير العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف ، الغالب على أمره ، العليم بكل شيء ، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، والمقدّر له بموجب الحكمة : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر ٥٤ / ٤٩]. ويلاحظ أن الله تعالى يذكر كثيرا خلق الليل والنهار والشمس والقمر ، ثم يختم الكلام بالعزة والعلم.

ثم أوضح تعالى فائدة النجوم ، فقال : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ ..) أي أوجد النجوم وهي ما عدا الشمس والقمر من النّيرات للاهتداء بها في الأسفار ، فيستدل بها الإنسان على الطرق ، ويأمن من الضياع ، وينجو من الخطأ والحيرة. والنجوم كما يذكر الفلكيون تعد بالملايين ، وما اكتشف منها أقل بكثير مما لم يكتشف.

ونظرا لما في عالم السماء من العظمة والدقة في النظام وإبداع الصنع ، ختم الله تعالى الآية بقوله : (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي بينا لكم الآيات القرآنية والآيات التكوينية لأهل العلم والنظر الذين يدركون سر عظمة هذه الآيات ، ويستدلون بها على وجود الله وقدرته ووحدانيته وعلمه ، فإن كان المراد بالآيات آيات التنزيل فالمعنى أن هذه الآيات وأمثالها نوضحها لأهل الفكر والعلم والنظر ، فيزدادون بها بحثا وعلما وإيمانا. وإن كان المراد بها آيات التكوين ، فالمعنى أن هذه الآيات يبينها الله ليستدل بها العلماء على عظمة الله تعالى ، ولا يدرك سر هذه الآيات غير العلماء كما قال تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر ٥٩ / ٢].

وبعد بيان آيات الله في الأرض والسماء ، ذكر تعالى آياته في الأنفس ، فقال : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ ...) أي أن الله تعالى خلقكم في الأصل من نفس واحدة هي آدمعليه‌السلام وهو الإنسان الأول الذي تناسل منه سائر البشر

٣٠٧

بالتوالد والتزاوج ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها ، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) [النساء ٤ / ١].

وإنشاء جميع البشر من نفس واحدة يدل على قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ووحدانيته ، كما يوجب شكر النعمة ، ويرشد إلى وحدة الأصل والنوع الإنساني ، مما يقتضي وجوب التعارف والتعاون بين الناس ؛ لأنهم من أصل واحد وأب واحد ، فهم إخوة ، وما على الإخوة إلا التآلف ، لا التناحر والتقاتل.

ثم بيّن الله تعالى كيفية تسلسل البشر والولادة في وقت معين لا يعلمه إلا الله فقال : (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) أي لكم موضع استقرار في الأرحام ، وموضع استيداع في الأصلاب ، أو مستقر في الأرض ، ومستودع تحتها ، أو مستقر في الدنيا ومستودع حيث يموت ، أو فمنكم مستقر ومنكم مستودع.

قد بينا آيات سنن الخلق الدالة على قدرتنا وإرادتنا ، وعلمنا وحكمتنا ، وفضلنا ورحمتنا ، لقوم يفقهون ما يتلى عليهم ، ويعون كلام الله ، ويدركون معناه ودقائقه.

وعبر بالعلم مع ذكر النجوم ، وبالفقه مع ذكر إنشاء بني آدم ، لأن استخلاص الحكمة من خلق البشر من نفس واحدة ، وتصريفهم في أحوال مختلفة يحتاج إلى دقة نظر ، وعمق فهم وفطنة ، وهذا هو معنى الفقه ، فكان ذلك مطابقا للحال. أما العلم بمواقع النجوم والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر ، فلا يتوقف على دقة النظر ، وعمق الفكر ، وإنما يكفي فيها وفي كل الأمور الفلكية شيء من المعرفة والخبرة والمشاهدة الظاهرية المعتمدة على الملاحظة والبصر.

ثم ذكر تعالى آية من آيات التكوين في النبات وهي إنزال الماء من السماء

٣٠٨

وجعله سببا للإنبات ، فقال : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ..) أي أن الله هو الذي أنزل بقدرته وتصريفه وحكمته من السحاب ماء بقدر ، مباركا ، ورزقا للعباد ، وإحياء وإغاثة للخلائق ، رحمة من الله بخلقه ، فأخرجنا بسبب هذا المطر أصناف النبات المختلف في شكله وخواصه وآثاره ، كما قال تعالى : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [الرعد ١٣ / ٤] وقال : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء ٢١ / ٣٠].

وأخرجنا بالمطر زرعا وشجرا أخضر ، ثم بعد ذلك نخلق فيه الحب والثمر ، لهذا قال تعالى : (نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً) أي يركب بعضه بعضا كالسنابل ونحوها. وهذا بيان لنوع من النبات لا ساق له ، ثم عطف عليه ماله ساق من الشجر فقال : (وَمِنَ النَّخْلِ ..)

أي ونخرج من طلع النخل عراجين أو عناقيد قريبة التناول ، ونخرج أيضا من ذلك الخضر جنات من أعناب.

وأخص من نبات كل شيء بعد التمر والعنب غيرهما من الفواكه والثمار ، وهو الزيتون والرمان ، متشابها في الورق والشكل ، قريبا بعضه من بعض ، ومتخالفا في الثمار شكلا وطعما وطبعا ، فمنها الحلو ومنها الحامض ، ومنها المز ، وكل ذلك دليل على قدرة الصانع.

انظروا نظرة اعتبار وإمعان إلى ثمر الشجر والنبات إذا أثمر كيف يكون ، وإلى نضجه واكتماله كيف يصير ، ويتحول من جفاف إلى ممتلئ ماء وخيرا وبركة ، لكل ثمر طعم ، وحجم ، ولون ، وقارنوا بين الثمار ، وفكروا في قدرة الخالق من العدم إلى الوجود ، بعد أن كان حطبا يابسا ، صار غضا طريا رطبا ، وغير ذلك من الألوان والأشكال والطعوم والروائح ، كقوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ ، وَزَرْعٌ ، وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ

٣٠٩

صِنْوانٍ ، يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [الرعد ١٣ / ٤].

إن في ذلكم الذي أمرتم بالنظر إليه لدلالات على كمال قدرة خالق هذه الأشياء وحكمته ورحمته ، يستفيد منها المؤمنون المصدقون بالله والمتبعون رسله.

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات خمسة أنواع من الأدلة على وجود الله الصانع وعلمه وقدرته وحكمته وهي ما يلي :

النوع الأول ـ مأخوذ من دلالة أحوال النبات والحيوان : فالله خالق الحب والنوى ، وشاق الحب والنوى لإنبات الزرع والشجر ، ومخرج النبات الغض الطري الخضر من الحب اليابس ، ويخرج اليابس من النبات الحي النامي ، كما قال : لزجاج ، ويخرج البشر الحي من النطفة ، والنطفة من البشر الحي كما قال المفسرون كالقرطبي ، ويخرج المؤمن من الكافر ، كما في حق إبراهيم عليه‌السلام ، والكافر من المؤمن ، كما في حق ولد نوح ، والعاصي من المطيع ، وبالعكس ، كما قال ابن عباس.

ودل هذا على أن الحي أشرف من الميت ، لذا وقع التعبير عن القسم الأول بصيغة الفعل ، وعن القسم الثاني بصيغة الاسم ؛ تنبيها على أن الاعتناء بإيجاد الحي من الميت أكثر وأكمل من الاعتناء بإيجاد الميت من الحي.

والنوع الثاني ـ مأخوذ من الأحوال الفلكية ، وهذا أدل على القدرة الإلهية ؛ لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر ، ولأن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعا من الأحوال الأرضية. وتضمن هذا النوع ثلاث آيات فلكية لها صلة بالأرض وهي فلق نور الصبح ، أي شاقّ الضياء عن الظلام وكاشفه ، وخالق النور والظلمة ، وجاعل الليل سكنا أي محلا للسكون ، وجاعل الشمس والقمر آيتين للحساب

٣١٠

الذي يتعلق به مصالح العباد ، لأنه تعالى قدر حركة الشمس والقمر بحساب معين ، وكل ذلك دليل على كمال قدرة الله تعالى وكونه فضلا من الله ورحمة وإحسانا على الخلق.

والنوع الثالث ـ ظاهرة سماوية وهو أنه تعالى خلق النجوم لمنافع العباد ، بالاهتداء بنورها إلى الطرق والمسالك ، في ظلمات البر والبحر ، حيث لا يرون شمسا ولا قمرا ، وذلك من أدلة كمال القدرة والرحمة والحكمة. ويستدل بالنجوم والكواكب والشمس والقمر أيضا على معرفة القبلة ، كما أن هذه الكواكب زينة للسماء : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) [الصافات ٣٧ / ٦] وهي أيضا رجوم للشياطين : (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك ٦٧ / ٥] وهي كذلك مثار التفكير في عظمة السموات : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً ، سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) [آل عمران ٣ / ١٩١] قال بعض السلف : من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ وكذب على الله سبحانه : أن الله جعلها زينة للسماء ، ورجوما للشياطين ، ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر (١).

والنوع الرابع ـ الاستدلال بأحوال الإنسان ، وخلق البشر من نفس واحدة هي آدمعليه‌السلام ، وإيداع أصول البشرية في الأصلاب والأرحام ، والتفكير في تكوين النفس : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات ٥١ / ٢١] وهذا من دلائل وجود الإله وكمال قدرته وعلمه.

والنوع الخامس ـ مأخوذ من طريقة الإنبات وتنوع النبات واختلاف أصناف الفواكه والثمار : وهو إنزال المطر من السماء (السحاب) وإخراج مختلف أنواع النباتات والزروع بالماء ، وإيجاد الكثرة الهائلة من الثمار والفواكه

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ١٥٩

٣١١

والأزهار المختلفة الأشكال والألوان والطعوم والروائح ، وذلك من أجلّ أنواع النعم والإحسان ، ومن أعظم الدلائل على كمال القدرة الإلهية ، وحقا ما ختمت به الآيات : (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) آمنا بالله ربا ، وعلمنا أنه الحق المبين ، وفقهنا وأدركنا بإمعان عظمة هذا الإله وسعة علمه ، وفضله وإحسانه ورحمته بالمخلوقات جميعا.

ويلاحظ أنه تعالى ذكر في هذا النوع أربعة أنواع من الأشجار : النخل والعنب والزيتون والرمان ، وقدم الزرع على الشجر ؛ لأن الزرع غذاء ، وثمار الأشجار فواكه ، والغذاء مقدم على الفاكهة ، وإنما قدم النخل على سائر الفواكه ، لأن التمر غذاء العرب المهم ، وذكر العنب عقب النخل ؛ لأنه أشرف أنواع الفواكه ، للاستفادة منه بمجرد ظهوره حامضا ثم حصرما ، ثم عنبا ، ثم يدخر زبيبا سنة فأكثر ثم دبسا وخلا.

المزاعم المنسوبة إلى الله (الجن والولد والصاحبة)

وكونه لا تدركه الأبصار

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣))

٣١٢

الإعراب :

(شُرَكاءَ الْجِنَ شُرَكاءَ) : منصوب لأنه مفعول أول. و (الْجِنَ) : مفعول ثان. واللام في (لِلَّهِ) تتعلق بشركاء. ويجوز أن نجعل (الْجِنَ) بدلا من (شُرَكاءَ) ، واللام في (لِلَّهِ) تتعلق ب (جعل). أو قرئ (الْجِنَ) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هم الجن.

المفردات اللغوية :

(وَخَرَقُوا) مثل اختلفوا ، والخرق والاختلاق للكلام : ابتداع الكذب. وأما الخلق: فهو فعل الشيء بتدبير ورفق. وأما الإبداع فهو إنشاء الشيء بلا اقتداء بأحد ، والبديع من أسمائه تعالى : أي مبدع الأشياء ومحدثها على غير مثال سابق ، ومنه البدعة في الدين ؛ لأنه لا نظير لها فيما سلف.

(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) أي لا تراه ، والإدراك : اللحاق والوصول إلى الشيء ، والبصر : حاسة الرؤية ، (اللَّطِيفُ) الرفيق بعباده وأوليائه (الْخَبِيرُ) بشؤون خلقه.

المناسبة :

بعد أن ذكر تعالى البراهين الخمسة على ثبوت الألوهية ، وكمال القدرة والرحمة ، ذكر عقب ذلك أن من الناس من أثبت لله شركاء من عالم الجن ، أو من اختراع نسل له من البنين والبنات.

التفسير والبيان :

هذه الآيات رد على مشركي العرب الذين عبدوا مع الله غيره ، وأشركوا به في عبادته أن عبدوا الجن ، فجعلوهم شركاء له في العبادة ، وأما عبادتهم الأصنام فلم تكن إلا بطاعة الجن وأمرهم إياهم بذلك ، كقوله تعالى : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً ، وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً. لَعَنَهُ اللهُ ، وَقالَ : لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً. وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ ، وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ ، وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ

٣١٣

خُسْراناً مُبِيناً ، يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) [النساء ٤ / ١١٧ ـ ١٢٠].

ومعنى الآية : وجعل مشركو العرب شركاء من عالم الجن أطاعوهم فيما يأمرونهم به ، والجن : هم الملائكة فقد عبدوهم ، كما قال قتادة ، أو الشياطين فقد أطاعوهم في الشرك والمعصية ، كما قال الحسن البصري. وقال المجوس : إن للخير إلها وللشر إلها وهو إبليس ، أي أنهم سموه ربا.

جعلوا لله الجن شركاء له حيث أطاعوهم في عبادة الأوثان ، والحال أنه خلقهم أي خلق المشركين وغيرهم ، فهو الخالق وحده لا شريك له ، فكيف يكون المخلوقون شركاءه ، وكيف يعبدون معه غيره؟ كقول إبراهيم : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ، وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات ٣٧ / ٩٥ ـ ٩٦].

وخلاصة المعنى : أنه تعالى هو المستقل بالخلق وحده ، فلهذا يجب أن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له.

واختلقوا لله بجهلهم وحمقهم بنين وبنات ، والمراد بقوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) : أنهم لا يعلمون حقيقة ما يقولون ، ولكن جهلا بالله وبعظمته ، فإن مشركي العرب سموا الملائكة بنات الله ، وقالت اليهود : عزيز ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) أي تقدس وتنزه وتعاظم الله عما يصفه هؤلاء الجهلة الضالون من الأولاد والأنداد والشركاء ؛ لأنه الخالق المدبر لها ، وليس كمثله شيء.

والله مبدع السموات والأرض وخالقهما ومنشئهما ومحدثهما على غير مثال سبق ، وكيف يكون له ولد ، والحال أنه لم تكن له صاحبة؟ والولد إنما يكون متولدا بين شيئين متناسبين ، والله تعالى لا يناسبه ولا يشابهه شيء من خلقه ؛

٣١٤

لأنه خالق كل شيء ، فلا صاحبة له ولا ولد ، وهو مبدع الكائنات في السماء والأرض ، ومتسبب في إيجاد الذرية من طريق التوالد والتناسل.

وقوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي أوجده ولم يلده ولادة ، كما تزعمون ، فما اخترعتم له من الولد ، فهو مخلوق له لا مولود منه ، فكيف يكون له صاحبة من خلقه تناسبه؟ وهو الذي لا نظير له. وهذه الجملة مؤكدة لما سبق من نفي الولد.

والله محيط علمه بكل الأشياء ، وعلمه ذاتي له ، ولا يعلم أحد مثل علمه ، فلو كان له ولد لكان هو أعلم به ، ولأرشد إليه ، لكنه كذب وافتراء بلا دليل عقلي ولا وحي نقلي.

والخلاصة : نفى الله تعالى عن نفسه الولد ؛ لأنه مبدع السموات والأرض ، وهي غير مولودة ، ولأن الولد يأتي من ذكر وأنثى متجانسين ، والله لا يجانسه ولا يماثله شيء ، ولأن كل ما عدا الله لا يكافئه ، فكيف يكون له ولد كفؤ له؟

وإذ ثبت أنه لا ولد له ، فذلكم المتصف بما ذكر أيها المشركون هو الله ربّكم ، الذي لا إله إلا هو ، والذي خلق كل شيء ، ولا ولد له ولا صاحبة ، فما عليكم إلا أن تعبدوه وحده لا شريك له ، وتقروا له بالوحدانية ، وأنه لا إله إلا هو ، وأنه لا ولد له ولا والد ، ولا صاحبة له ولا نظير ، وكل من عداه مخلوق له يجب أن يعبد خالقه.

وهو مع كل هاتيك الصفات حفيظ ورقيب على كل شيء ، يدبر كل ما سواه ، ويرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار.

أي لا حافظ إلا الله ، ولا يقضي الحاجات إلا الله.

والله سبحانه لا تراه الأبصار رؤية إحاطة وشمول تعرف كنهه ، كقوله :

٣١٥

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ، وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) [البقرة ٢ / ٢٥٥]. وقال ابن عباس : لا تدركه الأبصار في الدنيا ويراه المؤمنون في الآخرة ؛ لإخبار الله بها في قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة ٧٥ / ٢٢ ـ ٢٣].

وهو تعالى يرى العيون الباصرة رؤية إدراك وإحاطة وشمول ، فلا تخفى عليه طرفة عين ، ولا يخفى عليه شيء إلا يراه ويعلمه ، وإنما خص (الْأَبْصارُ) لتجنيس الكلام.

وهذه الآية إما مخصوصة بقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة ٧٥ / ٢٢ ـ ٢٣] وبالحديث الآتي الدال على رؤية الله عزوجل.

أو يقال : إنه لا تنافي بين الآيتين ؛ لأن نفي إحاطة العلم لا يستلزم نفي أصل العلم ، وكذلك نفي إدراك البصر للشيء والإحاطة به لا يستلزم نفي رؤيته مطلقا.

وقد ثبت في الصحيحين أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنكم سترون ربكم يوم القيامة ، كما ترون القمر ليلة البدر ، وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب» فالمؤمنون يرون ربهم ، وأما الكافرون فلا يرونه ؛ لقوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين ٨٣ / ١٥]. والله تعالى اللطيف أي الرفيق بعباده ، الخبير بهم المطلع على جميع أحوالهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

نزلت الآية : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) في مشركي العرب ، ومعنى إشراكهم بالجن أنهم أطاعوهم كطاعة الله عزوجل.

والآية توبيخ وتقريع ورد قاطع على المشركين الذين جعلوا الجن شركاء لله ، ونسبوا لله البنين والبنات جهلا منهم بحقيقة الله. والمشركون أصناف :

٣١٦

١ ـ عبدة الأصنام القائلون : الأصنام شركاء لله في العبودية ، ولكن لا قدرة لها على الخلق والإيجاد والتكوين.

٢ ـ عبدة الكواكب وكانوا في عهد إبراهيم عليه‌السلام ، وهم يقولون : إن الله فوض لها تدبير العالم الأسفل.

٣ ـ الثنوية أو المجوس القائلون بأن للعالم إلهين اثنين : أحدهما فاعل الخير ، والثاني فاعل الشر.

والحق أن جميع المخلوقات محدثة مخلوقة ، وكل محدث فله خالق وموجد ، وما ذاك إلا الله سبحانه وتعالى.

والله تعالى مبدع السموات والأرض وخالقهما ، فكيف يكون له ولد ، والحال أنه لا صاحبة ولا زوجة له ، فكيف يأتي الولد؟ وهو خالق كل شيء ، وهو العليم بكل شيء ، فكيف يتخذ الولد والصاحبة؟

والخالق المدبر وهو الله هو المستحق للعبادة ، ولا يستحقها عاجز مخلوق.

ورؤية الله تعالى ثابتة للمؤمنين في عالم الآخرة ، ولكن دون إحاطة ولا شمول ولا حصر ولا كيفية ؛ إذ لو لم يكن جائز الرؤية لما حصل المدح لعظمة الله بقوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) لأن المعدوم لا تصح رؤيته.

والخلاصة : أن الآيات لنفي الشرك والشركاء وإبطال مزاعم المشركين على مختلف طوائفهم ، إذ لا حاجة لله للشريك والولد بأدلة كثيرة هي : كونه مبدع السموات والأرض ، والإبداع تكوين الشيء من غير مثال سبق ، ولا صاحبة له ، وخالق كل شيء ، ومحيط علمه بكل شيء ، ولا تتمكن الأبصار من الإحاطة برؤيته ؛ لأنه سبحانه منزه عن سمات الحدوث ، ومنها الإدراك ؛ بمعنى : الإحاطة والتحديد ، كما تدرك سائر المخلوقات.

٣١٧

ومن اتصف بهذه الصفات فهو المستحق للعبادة ، لذا أمر الله بعبادته وحده لا شريك له.

وأما رؤية النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لربه في ليلة الإسراء في الدنيا فالصحيح أنها لم تحصل بالعين المجردة ، وإنما رآه بقلبه ورأى جبريل على حقيقته. وعن ابن عباس أنه رآه بعينيه ، وحجته قوله تعالى : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) [النجم ٥٣ / ١١].

مبصّرات الوحي وقدرة الله على منع الشرك

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧))

الإعراب :

(وَلِيَقُولُوا : دَرَسْتَ) معطوف على فعل مقدر ، والتقدير : نصرف الآيات ليجحدوا وليقولوا ، أي ليصير عاقبة أمرهم إلى الجحود وإلى أن يقولوا هذا القول. وهذه اللام تسمى لام العاقبة عند البصريين ، ولا الصيرورة عند الكوفيين ، مثل اللام في قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص ٢٨ / ٨] وما التقطوه ليكون لهم عدوا ، وإنما التقطوه ليكون لهم قرة عين ، ولكن صارت عاقبة التقاطهم إياه إلى العداوة والحزن.

البلاغة :

(بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) مجاز مرسل وعلاقته المسببية أي من باب تسمية المسبب باسم السبب ، والمراد بالبصائر : الحجج والبراهين التي تبصرون بها الحقائق.

٣١٨

(أَبْصَرَ ..) و (عَمِيَ) بينهما طباق.

(بَصائِرُ) و (أَبْصَرَ) بينهما جناس الاشتقاق.

المفردات اللغوية :

(بَصائِرُ) أي حجج بيّنات وآيات واضحات ، وتطلق البصيرة على عدة معان : عقيدة القلب ، والمعرفة الثابتة يقينا ، والعبرة ، والقوة التي تدرك بها الحقائق العلمية ، ويقابلها البصر الذي تدرك به الأشياء الحسية (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) أي فمن أدركها فآمن فثواب إبصاره له (بِحَفِيظٍ) رقيب لأعمالكم ، إنما أنا نذير.

(وَكَذلِكَ) كما بينا ما ذكر (نُصَرِّفُ الْآياتِ) نبينها ونأتي بها على وجوه مختلفة بما يناسب المقام ، ليعتبروا (وَلِيَقُولُوا) أي الكفار في عاقبة الأمر ، فإن اللام لام العاقبة أو الصيرورة (دَرَسْتَ) قرأت كثيرا حتى حفظته ، أو درست كتب الماضين وجئت بهذا منها ، وفي الحديث : «كان يدارسه القرآن» يذاكره له حتى يحفظه ، وفي المدارسة معنى التذليل بكثرة القراءة.

(حَفِيظاً) رقيبا فتجازيهم بأعمالهم (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) موكّل مفوض في أمرهم ، فتجبرهم على الإيمان.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى الأدلة على توحيده وكمال قدرته وعلمه ، عاد إلى تقرير أمر الدعوة الإسلامية والرسالة وتبليغ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحي ربه.

التفسير والبيان :

قد جاءكم أيها الناس البصائر : وهي البينات والحجج التي اشتمل عليها القرآن وما جاء به الرسول من البراهين العقلية والنقلية التي تثبت لكم العقيدة الحقة ، وتبين منهاج الحياة الأقوم ، ودستور النظام العام للجماعة ، وأصول الأخلاق والآداب.

فمن أبصر الحق فآمن فلنفسه ، ومن عمي عن الحق وضل وأعرض عن سبيله ، فعلى نفسه جنى ، كقوله تعالى : (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ ضَلَ

٣١٩

فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) [يونس ١٠ / ١٠٨] وقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت ٤١ / ٤٦].

ومعنى قوله : (وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) أي إنما يعود وبالله عليه ، كقوله تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج ٢٢ / ٤٦].

(وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي لست عليكم بحافظ ولا رقيب ، بل إنما أنا مبلّغ ومنذر ، والله يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء.

(وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي وكما فصلنا الآيات في هذه السورة من بيان لتوحيد وأنه لا إله إلا هو ، هكذا نوضح الآيات ونفسرها ونبينها في كل موطن ، لجهالة الجاهلين ، وليؤول الأمر بأن يقول المشركون والكافرون المكذبون : درست هذا وقرأته على غيرك ، أو دارست يا محمد من قبلك من أهل الكتاب ، وتعلمت منهم ، وليس وحيا من عند الله.

أي إن تصريف الآيات وتقليبها على وجوه مختلفة بحسب المقامات يستهدف :

١ ـ أن يهتدي بها المستعدون للإيمان.

٢ ـ وأن يقول الجاحدون المعاندون : إنما درست هذا وقرأته على غيرك ، وليس هذا بوحي كما تزعم ، وزعموا أنه تعلم من غلام رومي حداد أعجمي وليس بعربي ، كان يصنع السيوف بمكة ، اسمه «قيس» كما حكى تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ، لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ، وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل ١٦ / ١٠٣].

٣ ـ (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي ولنوضحه لقوم يعلمون الحق ، فيتبعونه ، والباطل فيجتنبونه ، فالبيان إنما يفيد أهل العلم المدركين الذين يستخدمون بصائرهم في مدلولات القرآن ، فهم الذين يتبين لهم بالتأمل حقيقة القرآن ودلائله. أما الجاهلون الذين لم يفهموا آيات القرآن ، فلا ينتفعون به.

٣٢٠