التفسير المنير - ج ٧

الدكتور وهبة الزحيلي

التفسير والبيان :

هذه الآيات تصوّر مناقشة وسؤالا يتضمّن تهديد النّصارى وتوبيخهم وتقريعهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة. والخطاب في ذلك للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

اذكر يا محمد للناس يوم الحشر الذي يوجّه الله فيه السؤال لعيسى قائلا له : أأنت قلت للناس : اتّخذوني مع أمي إلهين من دون الله ، أي متجاوزين بذلك توحيد الله إلى القول بالشرك : وهو اتّخاذ إله أو أكثر مع الله تعالى ، سواء اعتقد المشرك أن الشريك يضرّ وينفع مستقلّا بذلك ، أو بإقدار الله إيّاه وتفويضه الأمر إليه ، أو بالوساطة عند الله بماله من التّأثير والكرامة ، كما قال تعالى حاكيا فعلهم : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ، وَيَقُولُونَ : هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس ١٠ / ١٨] ، وقال : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ، ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزّمر ٣٩ / ٣].

وهذا السؤال ليس استفهاما وإن خرج مخرج الاستفهام ، وإنما هو توبيخ لمن ادّعى ألوهيّة عيسى ، ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ في التّكذيب ، وأشدّ في التوبيخ والتّقريع ، أو لتعريفه أن قومه غيّروا بعده ، وادّعوا عليه ما لم يقله. والآية ترشد إلى أنهم اتّخذوا مريم وابنها إلهين ، لعبادتهم لها ، وتقديسهم إيّاها ، ولقولهم : إنها لم تلد بشرا ، وإنما ولدت إلها ، فلأجل البعضية صارت بمثابة من ولدته ، ويجعلها بعضهم أحد الأقانيم الثلاثة : الأب والابن والرّوح القدس.

فأجاب عيسى بتلقي الحجة من الله : (سُبْحانَكَ) أي أنزهك عما لا يليق بك ، وعن أن يكون معك إله آخر ، فأثبت له التّنزيه عن المشاركة في الذّات والصّفات وعما أضيف إليه ، وأبان أنه خاضع لعزّته ، خائف من سطوته.

ثم برّأ نفسه عن القول الباطل فقال : ليس من شأني ولا مما يصحّ أن يقع منّي أن أقول قولا لا حقّ لي بقوله ، ثم أكّد النّفي القاطع بأن ذلك القول إن كان قد

١٢١

صدر منّي فقد علمته ؛ لأن علمك محيط بكلّ شيء ، فأنت تعلم سرّي وما أخفي في نفسي ، ولا أعلم ما تخفيه من علومك الذّاتية في نفسك ، إنك أنت المحيط بالغيبيات ، ما كان منها وما هو كائن وما سيكون.

هذا جواب عيسى ، لم يقل : بأني قلته أو ما قلته ، وإنّما فوّض ذلك إلى علم الله المحيط بكلّ شيء ، وإن قلته فأنت عالم به ، وهذا مبالغة في الأدب ، وفي إظهار الذّلّ والخضوع لله.

ثم حكى الله قول عيسى : ما قلت لهم في شأن الاعتقاد والعبادة إلا ما أمرتني به بأن يعبدوا الله ربّي وربّكم ، وأني عبد من عبادك مثلهم ، وكنت المراقب على أحوالهم أشهد على ما يفعلون وأمنعهم من القول الباطل وأطالبهم بقول الحق ، فلما توفيتني ، أي قبضتني إليك ، كنت أنت المراقب لأعمالهم وأقوالهم ، الحافظ عليهم ، وأنت الشهيد على كل شيء ، فتشهد لي حين كنت فيهم. وفي هذا تعريف له بأفعال أتباعه وأقوالهم واعتقادهم.

وأغلب المفسرين على أن المراد بقوله : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) وفاة الرّفع إلى السماء ، لقوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) قال الحسن البصري : الوفاة في كتاب الله عزوجل على ثلاثة أوجه :

وفاة الموت ، وذلك قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [المائدة ٥ / ١١٧] يعني وقت انقضاء أجلها.

ووفاة النوم ؛ قال الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) [الأنعام ٦ / ٦٠] يعني الذي ينيمكم.

ووفاة الرّفع ؛ قال الله تعالى : (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) [آل عمران ٣ / ٥٥].

ثم فوض عيسى الأمر كله إلى الله فقال : إن تعذب المسيء عدلت ، وإن تغفر

١٢٢

له مع كفره ، فالملك ملكك ولا اعتراض لأحد عليك ، وأنت القوي القادر على الثواب والعقاب ، الحكيم الذي لا تجازي إلا بحكمة وصواب.

وهنا تساؤل : كيف جاز لعيسى عليه‌السلام أن يقول : (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) والله لا يغفر الشرك؟

والجواب : أن المقصود من قوله تفويض الأمور كلها إلى الله ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، لا رادّ لقضائه ، ولا معقّب لحكمه ، وترك التّعرّض والاعتراض بالكليّة.

وأما قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فهو تقرير للواقع الذي دل عليه الدليل السمعي شرعا ، وإن كان يجوز عقلا في رأي أهل السنة المغفرة للمسيء وتعذيب الطائع ، بحسب الإرادة والمشيئة المطلقة. وأما المعتزلة فيقولون : إن العقاب حق الله على المذنب ، وليس في إسقاطه مضرة على الله.

ودل كلام عيسى على أنه لا يتضمن شيئا من الشفاعة لأتباعه ؛ لأن الشفاعة لا ينالها أحد يشرك بالله شيئا.

وختم الله تعالى السورة وهذا النقاش بقوله : (قالَ اللهُ : هذا يَوْمُ) أي إن هذا وهو يوم القيامة هو اليوم الذي ينفع فيه صدق الصادقين في إيمانهم وشهاداتهم وسائر أقوالهم وأفعالهم في الدنيا.

وجزاء الصادقين جنات تجري من تحتها الأنهار أي من تحت غرفها وأشجارها ، خالدين وماكثين فيها أبدا ، ثوابا من عند الله ، وأنه راض عنهم رضا لا يغضب بعده أبدا ، وهم راضون عن الجزاء الذي أثابهم به ، ذلك الظفر هو الظفر العظيم الذي عظم خيره وكثر ، وارتفعت منزلة صاحبه وشرف.

ثم ذكر تعالى ما يناسب دعوى النصارى أن عيسى إله ، فأخبر تعالى أن

١٢٣

ملك السموات والأرض له ، دون عيسى ودون سائر المخلوقات ، وأن كل ما فيهما ملك لله ، وأن الله قادر قدرة مطلقة على كل شيء ، والمملوك المقدور عليه من الله هو عبد لله ، كائن بخلق الله وتكوينه ، سواء عيسى ومريم وغيرهما ، ولا معنى للعبودية إلا ذلك ، فثبت بهذا أنهما عبدان مخلوقان لله ؛ لأن الملك والقدرة لله وحده لا شريك له.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآيات الصادرة بصورة سؤال وجواب تعليم وإرشاد ، وتوبيخ وتقريع للنصارى الذين اتخذوا عيسى إلها ، وادعوا لأمه شيئا من القدسية والألوهية لأنها ولدت عيسى فهو بعض منها. فأول من يتبرأ من هذه الدعوى هو عيسى عليه‌السلام نفسه ؛ فهو لا يدعي لنفسه ما ليس من حقها ، بمعنى أنه مربوب وليس برب ، وعابد بشر وليس بمعبود إله.

ولو ادعى لنفسه وأمه الألوهية ، لكان الله أعلم بذلك : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) المعنى تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك ، أو تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم ، أي تعلم سرّي وما انطوى عليه ضميري الذي خلقته ، ولا أعلم شيئا مما استأثرت به من غيبك وعلمك.

ولم يقل إلا ما أمره الله به من عبادة الله وحده ، والله هو صاحب المشيئة المطلقة والإرادة الكاملة في إثابة من شاء ، وتعذيب من شاء.

وفي يوم القيامة لا ينتفع الناس إلا بصدقهم في الدنيا ، بالعمل المخلص لله ، وتركهم الكذب عليه وعلى رسله ، وإنما ينفعهم الصدق في ذلك اليوم ، وإن كان نافعا في كل الأيام ؛ لوقوع الجزاء فيه.

وثواب الصادقين هو الخلود في جنات النعيم التي تجري من تحت غرفها وأشجارها الأنهار.

١٢٤

وملك السموات والأرض وما فيهن لله دون عيسى ودون سائر المخلوقات ، مما يدل على أن عيسى عبد لله ومملوك لله ومخلوق منه ، ولا معنى للعبودية إلا أن الإنسان كائن بتكوين الله.

١٢٥

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأنعام

مكية وهي مائة وخمس وستون آية ، وهي السورة السادسة من القرآن الكريم.

تسميتها :

تسمى سورة الأنعام ، لورود ذكر الأنعام فيها : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً .. وَقالُوا : هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ ..) [الآيتان : ١٣٨ ، ١٣٩].

نزولها وفضلها :

نزلت جملة واحدة لاشتمالها على أصول الاعتقاد ، قال ابن عباس : «نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة واحدة ، حولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح» وروى ابن عمررضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة ، وشيّعها سبعون ألفا من الملائكة ، لهم زجل بالتسبيح والتحميد» والسبب فيه أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد ، وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين. ولكن لا مانع من أن يكون بعض آياتها مدنيا ، ثم أمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم بوضعه في موضعه من السورة.

مناسبتها لما قبلها :

تضمنت كل من سورتي المائدة والأنعام محاجة أهل الكتاب في مواقفهم

١٢٦

وعقائدهم ، كما ذكر فيهما أحكام المطعومات المحرّمة والذبائح ، والرد على أهل الجاهلية بتحريم بعض الأنعام تقرّبا إلى الأوثان.

ما اشتملت عليه :

قال العلماء : هذه السورة أصل في محاجّة المشركين ، وغيرهم من المبتدعين ، ومن كذب بالبعث والنّشور ، وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة ؛ لأنها في معنى واحد من الحجّة ، وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة ، وعليها بنى المتكلّمون أصول الدّين ؛ لأن فيها آيات بيّنات تردّ على القدريّة (١).

هذه السّورة شأنها كشأن السّور المكيّة عنيت بأصول العقيدة والإيمان : وهي إثبات الألوهية ، والوحي والرّسالة ، والبعث والجزاء.

وتعتمد في ترسيخ العقيدة بهذه الأصول على أسلوبي التّقرير والتّلقين.

أما أسلوب التّقرير : فهو يعرض أدلة وجود الله وتوحيده في صورة المسلّمات البديهية ، بالاعتماد على التصريح بالخلق لله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ..) أو بضمير الغائب : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ..).

وأما أسلوب التلقين : فهو إيراد الحجج بتعليمها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتلقينها إياه لعرضها على الخصوم ، وذلك بطريق السؤال والجواب ، مثل : (قُلْ : لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، قُلْ : لِلَّهِ ، كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ قُلْ : أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ : اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ (وَقالُوا : لَوْ لا نُزِّلَ

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٦ / ٣٨٣

١٢٧

عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ، قُلْ : إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً ..).

ومجمل ما اشتملت عليه هذه السورة هو ما يأتي :

١ ـ إثبات أصول الاعتقاد عن طريق الإقناع والتأثير والمناظرة والجدل ، والجواب عن سؤال ، كوجود الله وتوحيده وصفاته وآياته في الأنفس والآفاق ، وتأثير العقيدة في العمل.

٢ ـ إثبات النبوة والرسالة والوحي والرد على شبهات المشركين بالأدلة العقلية والعلمية والحسية.

٣ ـ إثبات البعث والحساب والجزاء على الأعمال يوم القيامة ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

٤ ـ تبيان أصول الدين والأخلاق والآداب الاجتماعية أو الوصايا العشر المقررة في كل رسالة إلهية.

٥ ـ الدين من عهد آدم إلى محمد عليهما‌السلام واحد في أصله ووسائله وغاياته ، فتجزئته ، والإيمان ببعضه وترك بعضه ، وتفرقته بالمذاهب والآراء الشخصية مصادم لأصل الدين.

٦ ـ السعادة والشقاوة والجزاء الأخروي على الحسنات والسيئات منوطة بالأعمال البشرية.

٧ ـ الناس ضمن السنن الإلهية والأقدار عاملون بالإرادة والاختيار ، فلا جبر ولا إكراه ، ولا تعارض بين إرادة الله وما يكسبه الإنسان ؛ لأن قدر الله معناه ربط المسببات بالأسباب ، على وفق علمه وحكمته.

٨ ـ العدل الإلهي يقتضي التفاوت بين الأمم والأفراد ، فيهلك الله الظالمين ، وينعم على الطائعين ، ويمكّن للأصلح في إرث الحياة.

١٢٨

٩ ـ الله مصدر التشريع والتحليل والتحريم ، فلا يحق لإنسان الافئتات على حق الله في ذلك.

١٠ ـ على الإنسان الاعتبار والاتعاظ بأحوال الأمم الغابرة التي كذبت الرسل ، وعليه النظر في الكون للاستدلال بآياته الكثيرة على قدرة الله وعلمه وعظمته.

١١ ـ الناس في الحياة في تسابق وتنافس واختبار ، ليعلم المفسد من المصلح ، والجزاء ينتظر الجميع ، والله يمهل ولا يهمل ليتوب الإنسان ويصلح شأنه ، ورحمة الله وسعت كل شيء.

أدلة وجود الله ووحدانيته والبعث

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣))

الإعراب :

(الظُّلُماتِ) مفعول (جَعَلَ) وهو يتعدى إلى مفعول واحد بمعنى خلق. (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ أَجَلٌ) : مبتدأ مرفوع ، و (مُسَمًّى) : صفته. وخبره : (عِنْدَهُ). وجاز أن يكون مبتدأ وإن كان نكرة ؛ لأنه وصفه بمسمى ، والنكرة إذا وصفت قربت من المعرفة ، فجاز أن يكون مبتدأ كالمعرفة.

١٢٩

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ هُوَ) : كناية عن الأمر والشأن. و (اللهُ) : مبتدأ ، وخبره : إما (يَعْلَمُ) ، وتقديره : الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض. وإما أن يكون خبره (فِي السَّماواتِ) ويكون المعنى : هو المعبود في السموات.

البلاغة :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) صيغة تفيد القصر ، أي لا يستحق الحمد والثناء إلا الله.

(جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) بينهما طباق.

(ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) فيه استبعاد أن يعدلوا به غيره بعد قيام الأدلة على قدرته. وإظهار كلمة (بِرَبِّهِمْ) بوضعه موضع الضمير لزيادة التشنيع والتقبيح ، كما أن إضافته إليهم لتربية المهابة والتذكير بمصدر النعمة.

(سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) الثناء بالجميل على الفعل الاختياري الحسن ، تعليما لأصول الإيمان والثناء.

والمدح أعم من الحمد ؛ لأنه يحصل للعاقل ولغير العاقل ، والحمد أعم من الشكر ؛ لأن الأول تعظيم الفاعل لأجل الإنعام عليك أو على غيرك ، وأما الشكر فهو لأجل الإنعام الواصل إليك.

والفرق بين الخالق وبين الفاطر والرب : أن الخلق هو التقدير والعلم النافذ في جميع الكليات والجزئيات. والفاطر : الموجد المبدع ، وفيه إشارة إلى صفة القدرة. والرب : مشتمل على الأمرين (١).

(خَلَقَ) الخلق : التقدير ، أي جعل الشيء بمقدار معين بحسب علمه تعالى. (وَجَعَلَ) اي انشأ ، والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق مختص بالإنشاء التكويني ، وفيه معنى التقدير والتسوية ، والجعل عام يشمل الإنشاء مثل قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ويشمل التشريع والتقنين ، كما في قوله تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) [المائدة ٥ / ٩٧] أي شرع ، ويختص الجعل بأن فيه معنى التضمين كإنشاء شيء من شيء أو تصيير شيء شيئا أو نقله من مكان إلى مكان (٢). وخص السموات والأرض بالذكر ؛ لأنهما أعظم المخلوقات للناظرين.

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٢ / ١٤٢.

(٢) مثل قوله تعالى : وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الأعراف ٧ / ١٨٩] وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً [الإسراء ١٧ / ٦] وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام ٦ / ١] لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة ، والنور من النار.

١٣٠

(الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) أي أنشأ كل ظلمة ونور ، وجمع الظلمات وأفرد النور لكثرة أسبابها ، والنور واحد وإن تعددت مصادره. وقدمت الظلمات على النور ، لأنها أسبق في الوجود ، فقد وجدت مادة الكون المظلمة أولا. أما السبب في جمع السموات وإفراد الأرض مع أن الأرضين كثيرة وهي سبع كالسماوات لقوله تعالى : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق ٦٥ / ١٢] فهو أن السماء فاعل مؤثر ، والأرض قابل متأثر ، والمؤثر متعدد يحصل بسببه الفصول الأربعة وسائر الأحوال المختلفة ، فلو كانت السماء واحدة لتشابه الأثر ، واختلت مصالح العالم ، أما الأرض فهي قابلة للأثر ، والقابل الواحد كاف في القبول (١). وهذا الخلق والإبداع ، والإنشاء من دلائل وحدانية الله.

(ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) مع قيام هذا الدليل. (يَعْدِلُونَ) يعدلون به غيره أي يجعلون له عدلا مساويا له في العبادة والدعاء. (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) بخلق أبيكم آدم منه. (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أي حكم به ، وحدّد لكم أمدا تموتون عند انتهائه ، والأجل : المدة المضروبة للشيء.

(ثُمَّ أَنْتُمْ) أيها الكفار. (تَمْتَرُونَ) تشكّون في البعث ، بعد قيام الدلائل والعلم أنه ابتدأ خلقكم ، ومن قدر على الابتداء ، فهو أقدر على الإعادة.

(وَهُوَ اللهُ) مستحق للعبادة. (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) ما تسرون وما تجهرون به بينكم. (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) تعملون من خير وشر.

التفسير والبيان :

كل أنواع الحمد والثناء والشكر والمدح لله تعالى خالق السموات والأرض ، فهو المستحق للحمد بما أنعم على العباد في خلقه السموات التي تشتمل على المصابيح الليلية من نجوم وكواكب وشمس وقمر ، وعلى الفضاء سواء أكان فيه هواء أم لا ، وعلى الأثير الذي ينقل الصوت ، وعلى الأرض قرار المخلوقات ومصدر الخير والرزق والثروة وبيئة الحياة ، فكل ذلك لخير البشر وما يتبعهم من الكائنات الحية. وحمد الله تعالى نفسه الكريمة تعليما للإيمان والثناء. وعبر بالحمد لله ولم يقل : أحمد الله ، لإفادة الثبوت والدوام ، ولبيان أن ماهية الحمد وحقيقته ثابتة

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٢ / ١٤٨

١٣١

لله تعالى ، سواء استحضر ذلك بقلبه أم لا ، أما إن قال : أحمد الله مع غفلة القلب عن استحضار المعنى كان كاذبا.

والمراد بالسموات : العوالم العلوية التي نراها فوقنا ، والمراد بالأرض : الكوكب الذي نعيش فيه. والأرض هنا : اسم للجنس ، فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها ، وكذلك النور ، ومثله : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر ٤٠ / ٦٧].

وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في الليل والنهار ، وجمع الظلمات وأفرد لفظ النور ، لكثرة أسبابها كالعتمة والشرك والكفر ، أما النور فهو واحد متعدد المصدر ، ولكون النور أشرف ، كقوله تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ). وجعل هنا : بمعنى خلق ، لا يجوز غيره. والمراد بالظلمة كما قال السدي وجمهور المفسرين : ظلمة الليل ، وبالنور : نور النهار ، وفي ذلك ردّ على المجوس (الثّنوية) القائلين بإلهين اثنين : هما النور وهو الخالق للخير ، والظلمة وهو الخالق للشر. وقال الحسن البصري : المراد منهما الكفر والإيمان (١).

وقال قتادة عن سبب التقديم : إنه تعالى خلق السموات قبل الأرض ، والظلمة قبل النور ، والجنة قبل النار. أما الظلمات الحسية فجنسها وجد قبل النور ، فقد وجدت مادة الكون أولا ، وكانت دخانا مظلما أو سديما (نظرية السديم) كما يقول الفلكيون ، ثم تكونت الشموس. وكذلك الظلمات المعنوية كالجهل والكفر والشرك أسبق وجودا من النور ، فإن نور العلم والإيمان والتوحيد يحدث بعدئذ ، كما قال تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل ١٦ / ٧٨].

ثم الذين كفروا وجحدوا نعمة الله الصانع بعد هذا كله يعدلون بالله غيره ، أي يجعلون له عديلا مساويا له في العبادة وهو الشريك ، مع أنه غير خالق

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٦ / ٣٨٦

١٣٢

ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا.

ثم خاطب الله المشركين الذين عدلوا به غيره مذكرا لهم بدلائل التوحيد والبعث فقال : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ ..) أي خلق أباكم آدم الذي هو أصلكم من طين ، ثم تكاثرت ذريته في المشارق والمغارب ، كما خلق سائر أحياء الأرض ، وهي بعد الحياة بحاجة إلى النبات ؛ لأن الدم من الغذاء ، والغذاء من نبات الأرض أو من لحوم الحيوان المتولدة من النبات ، فالمرجع إلى نبات الطين.

ثم حدّد تعالى أجل وجود الإنسان بدءا من الولادة إلى الممات ، وهناك أجل آخر له يبدأ بالإعادة من القبور ، فصار قضاء الله أجلين : الأول : ما بين أن يخلق إلى أن يموت ، والثاني : ما بين الموت والبعث وهو البرزخ ، وهو رأي الحسن.

وفسر ابن عباس ومجاهد وغيرهما قوله : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أجل الموت ، والأجل المسمى هو أجل القيامة.

وكل أجل مسمى عند الله ، أي له بداية ونهاية محدودة لا تزيد ولا تنقص ، ولا يعلمه غيره ، ولو كان نبيا مرسلا أو ملكا مقرّبا ، فالمقصود من الأجلين : أجل الدنيا والإنسان ، وأجل القيامة. قال تعالى عن الأول : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [النحل ١٦ / ٦١].

(ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) أي بالرغم من قيام الدلائل على التوحيد والبعث. تشكّون أيها الكفار في خلقكم مرة ثانية أي في البعث وأمر الساعة ، علما بأنه تعالى ابتدأ خلقكم من طين ، وتكاثرت الذرية ، فجعل أصل الإنسان نطفة من ماء مهين وأودعه في قرار مكين ، وهيأ له فيه ظروف الحياة ، وجعله يتنفس ويتغذى بدم الحيض ، ولو تنفس بالهواء العادي أو أكل غير الدم لمات. ومن قدر على الابتداء ، فهو على الإعادة أقدر.

١٣٣

وأقام الله تعالى دليلا آخر على وجوده ووحدانيته ، فقال : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ ..) أي أنه المدعو الله ، القائم في السموات والأرض المعبود فيها ، المعروف بالألوهية ، يعبده ويوحده كل من في السموات ومن في الأرض ، ويسمونه الله ، ويدعونه رغبا ورهبا إلا من كفر من الجن والإنس ، أي أنه المتصف بهذه الصفات المعروفة ، المعترف له بها في السموات والأرض ، ونظير هذه الآية : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ ، وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزخرف ٤٣ / ٨٤] أي هو إله من في السماء ، وإله من في الأرض.

(يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) تأكيد وتقرير لما قبله ، يعلم السر والجهر ، ويستوي في علمه الخفاء والعلانية ، فهو خبر بعد خبر وصفة بعد صفة ، أو حال. وقيل : المراد أنه الله الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض من سر وجهر ، فيكون قوله : (يَعْلَمُ) متعلقا بقوله : (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) تقديره : وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض ، ويعلم ما تكسبون. واختار الطبري قولا ثالثا : أن قوله : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ) وقف تام ، ثم استأنف الخبر فقال : (وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ).

(وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) أي يعلم جميع أعمالكم خيرها وشرها ، ويجازيكم عليها.

فقه الحياة أو الأحكام :

المقصود من هذه الآيات إيراد الدلائل على وجود الله ووحدانية الصانع ؛ لأن تقدير السموات والأرض بمقادير مخصوصة ، لا يمكن حصوله إلا بتخصيص الفاعل المختار ، وهو الله.

ويستنبط من الآيات ما يلي :

١٣٤

١ ـ الله تعالى هو المستحق لجميع أنواع المحامد على نعمه الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى.

٢ ـ إثبات الألوهية ؛ لأن الحمد كله لله فلا شريك له.

٣ ـ إقامة الأدلة على قدرة الله تعالى وعلمه وإرادته ، بإخباره عن خلق السموات والأرض ، أي الإيجاد والاختراع والإنشاء والإبداع ، والخلق يكون بمعنى الاختراع ، ويكون بمعنى التقدير ، وكلاهما مراد هنا ، وذلك دليل على حدوثهما ؛ فإنه تعالى رفع السماء بغير عمد ، وجعلها مستوية من غير عوج ، وجعل فيها الشمس والقمر آيتين ، وزينها بالنجوم ، وأودعها السحاب والغيوم علامتين ، وبسط الأرض وأودعها الأرزاق والنبات ، وبثّ فيها من كل دابة ، وجعل فيها الجبال أوتادا ، وسبلا فجاجا ، وأجرى فيها الأنهار وشقّ البحار ، وفجّر فيها العيون والآبار من الأحجار ، كل ذلك دالّ على وحدانيته وعظيم قدرته.

وأتبع خلق الجواهر والذوات بخلق الأعراض والمستلزمات ، وهي جعل الظلمات.

٤ ـ الكفار جاحدون نعمة الله عليهم ، فبالرغم من أن الله وحده خلق هذه الأشياء ، يجعلون لله عدلا وشريكا. والتعبير ب «ثم» دليل على قبح فعل الكافرين ؛ لأن معنى الآية : أن خلقه السموات والأرض قد تقرر ، وآياته قد سطعت ، وإنعامه بذلك قد تبيّن ، ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم.

٥ ـ ابتداء خلق الإنسان من طين ؛ لأن المراد من قوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) آدمعليه‌السلام ، والخلق نسله ، والفرع يضاف إلى أصله.

وفي إيراد خلق الإنسان بعد خلق السموات والأرض : بيان خلق العالم الكبير

١٣٥

بعد خلق العالم الصغير وهو الإنسان ، وجعل فيه ما في العالم الكبير. وعلى هذا يكون كل إنسان مخلوقا من طين وماء مهين ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) [المؤمنون ٢٣ / ١٢ ـ ١٣].

٦ ـ حدّد الله تعالى أجل الدنيا وأجل القيامة ، وأجل الإنسان بالموت والبعث ، فلا يعلم الإنسان متى يموت ، ومتى يبعث. فالمراد من قوله : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أي حكم أجلا وهو أجل الدنيا أو الموت ، وقوله : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) أجل ابتداء القيامة والآخرة.

٧ ـ الله المعظم وهو المعبود في السموات وفي الأرض ، وهو المنفرد بالتدبير فيهما ، وهو الذي يعلم سرّ العباد وجهرهم في السموات وفي الأرض ، فلا يخفى عليه شيء. وكل ذلك مع مراعاة القاعدة : وهي تنزيهه جلّ وعزّ عن الحركة والانتقال وشغل الأمكنة.

والله يعلم ما يكسبه كل إنسان من خير أو شر ، والكسب : الفعل لاجتلاب نفع أو دفع ضرر ، ولهذا لا يقال لفعل الله : كسب.

سبب كفر الناس بآيات ربّهم وإنذارهم بالعقاب

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦))

١٣٦

الإعراب :

(كَمْ) خبرية اسم للعدد ، منصوب بأهلكنا ، لا بفعل (يَرَوْا) لأن الاستفهام وما يجري مجراه له صدر الكلام ، فلا يعمل فيه ما قبله.

البلاغة :

(مِنْ قَرْنٍ) أي من أهل قرن ، فهو مجاز مرسل من إطلاق المحل وإرادة الحال.

(ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب.

(وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) عبّر عن المطر بالسماء من قبيل المجاز المرسل ، وعلاقته السببية ؛ لأن المطر ينزل من السماء.

المفردات اللغوية :

(وَما تَأْتِيهِمْ) أي أهل مكّة. (مِنْ) صلة زائدة لاستغراق الجنس. (آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) هي الآيات القرآنية المرشدة إلى وجود الله ووحدانيته والمثبتة نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (مُعْرِضِينَ) متولّين عنها ، والإعراض : التولّي عن الشيء. (بِالْحَقِ) القرآن أو دين الله الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشتملا على العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق. والحق في الأصل : الأمر الثابت المتحقّق في نفسه. (أَنْباءُ) أخبار ، والمراد هنا عواقب استهزائهم ، والأنباء : ما تضمّن القرآن من وعد بنصر الله لرسله ، ووعيد لأعدائه بالهزيمة في الدّنيا والعذاب في الآخرة.

(أَلَمْ يَرَوْا) في رحلاتهم وأسفارهم إلى الشام واليمن وغيرهما. (مِنْ قَرْنٍ) أمّة من الأمم الماضية ، والقرن من الناس : القوم الذين يعيشون في زمان واحد ، ومدّته مائة سنة. وجمعه قرون ، وقد جاء في القرآن مفردا وجمعا. (مَكَّنَّاهُمْ) أعطيناهم مكانا بالقوة والسّعة ، ومكّنه في الأرض أو في الشيء : جعله متمكّنا من التّصرّف فيه. ومكّن له : أعطاه أسباب العزّة والتّمكّن في الأرض مثل قوله تعالى : (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) [النور ٢٤ / ٥٥] ، وقوله : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) [القصص ٢٨ / ٥٧] ، (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ) أي المطر النازل من السماء. (مِدْراراً) متتابعا غزيرا. (مِنْ تَحْتِهِمْ) تحت مساكنهم. (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) بتكذيبهم الأنبياء. (قَرْناً آخَرِينَ) أمّة أو جماعة آخرين.

المناسبة :

تكلّم الله تعالى في الآيات السابقة أوّلا عن التّوحيد ، وثانيا في المعاد

١٣٧

والبعث ، وثالثا فيما يثبت الأمرين بالدّلائل الواضحة ، ثمّ ذكر هنا ما يتعلّق بالنّبوة ، فأبان سبب إعراض الكفار عن آيات ربّهم بعد إتيان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ، وهو إشراكهم بالله وتكذيبهم الرّسل ، وأنذرهم عاقبة التّكذيب بالحقّ بدليل ما حلّ بالأمم قبلهم.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن المشركين المعاندين أنهم كلّما أتتهم معجزة وحجّة دامغة من دلائل وحدانية الله وصدق رسله الكرام ، أعرضوا عنها ، ولم ينظروا فيها ، ولم يبالوا بها.

وما تأتي المشركين يا محمد بأي آية من آيات القرآن المنزّلة من ربّهم الذي ربّاهم ، وتعهّدهم في حالتي الضعف والقوّة ، وكفل لهم رزقهم ، وأنعم عليهم بكل شيء في أنفسهم وفي الأرض والسماء ، تلك الآيات الدّالة على بديع صنع الله ، ما تأتيهم من آية إلا أعرضوا عنها استهزاء ، كما قال تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأنبياء ٢١ / ٢].

وفسّر القرطبي الآية بالعلامة كانشقاق القمر ونحوها ، وكذلك فسّر ابن كثير الآية بالمعجزة والحجّة على وحدانية الله.

وسبب ذلك الإعراض عن النّظر في آيات الله : تكذيبهم بالحقّ الذي جاءهم ، وهو دين الإسلام الذي أتى به خاتم الأنبياء.

ثمّ هدّدهم وتوعّدهم على تكذيبهم بالحقّ بقوله : (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ) أي بأنه لا بدّ أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التّكذيب ، وسيجدون عاقبة أمرهم وهزئهم ، كالقتل والسّبي والطّرد من البلاد ، وقد تحقّق ذلك ، فنزل بهم القحط ، وحلّت بهم الهزيمة يوم بدر وفتح مكّة.

١٣٨

قال الرّازي : رتّب تعالى أحوال هؤلاء الكفار على مراتب ثلاث : إعراض عن التّأمّل في الدّلائل والتّفكّر في البيّنات ، وكونهم مكذّبين بها ، ثم كونهم مستهزئين بها ، وكلّ مرتبة أشدّ مما قبلها ؛ لأن المعرض عن الشيء قد لا يكون مكذّبا به ، بل يكون غافلا عنه ، والمكذّب بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه به إلى حدّ الاستهزاء (١).

ثمّ بيّن الله تعالى أن الوعيد بالعذاب سنّة الله في المكذّبين ، فقال : (أَلَمْ يَرَوْا ..) أي ألم يعلم هؤلاء المكذّبون بالحقّ أنّا أهلكنا كثيرا من الأمم السابقة قبلهم ، مثل قوم عاد وثمود وقوم فرعون وإخوان لوط ، الذين كذّبوا رسلهم ، بالرّغم من إعطائهم من أسباب القوة والسّعة في الرّزق والاستقلال والملك ، ما لم نعطهم مثله. والقرن : الأمّة من الناس ، الذين يعيشون في عصر واحد مائة سنة. والرؤية في قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا) رؤية القلب.

امتازوا بالغنى عن كفار قريش ، فكانت الأمطار تنزل عليهم بكثرة وغزارة وتتابع ، وكانت الأنهار تجري من تحت مساكنهم.

فلما كفروا بأنعم الله أهلكناهم بسبب ذنوبهم وتكذيبهم رسلهم ، وأوجدنا من بعدهم قوما آخرين ، وجيلا جديدا يعمرون البلاد ، ويكونون أجدر بشكر النّعمة.

أي إن ذنوبهم التي أدّت إلى الهلاك نوعان : تكذيب الرّسل ، وكفران النّعم ، كما قال تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها ، فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً ، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ. وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها) [عاصمتها] (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا ، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) [القصص ٢٨ / ٥٨ ـ ٥٩].

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٢ / ١٥٧

١٣٩

والغرض من هذا وعظ أهل مكّة وتحذيرهم أن يصيبهم من العذاب والنّكال الدّنيوي ما حلّ بأشباههم ونظرائهم من القرون السّالفة ، الذين كانوا أشدّ منهم قوّة وأكثر جمعا ، وأكثر أموالا وأولادا ، واستعلاء في الأرض وعمارة لها.

فقه الحياة أو الأحكام :

موقف الكفار من دعوات الأنبياء للإصلاح يتميّز بالإعراض والعناد ، ويهمل العقل والفكر ، ويقوم على التّهكّم والاستهزاء ، وهذا ليس من سمات الرّجال العقلاء الذين يعتمدون على تقليد الأسلاف بدون رويّة ولا تفكّر.

من مظاهر هذا الموقف : تركهم النظر في الآيات التي يجب أن يستدلّوا بها على توحيد الله جلّ وعزّ من خلق السّموات والأرض وما بينهما ، سواء أكانت الآية قرآنية ، أم معجزة من معجزات النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي أيّده الله بها ، ليستدلّ بها على صدقه في جميع ما أتى به ، كانشقاق القمر ونحوه ، أم حجّة وبرهانا من الكون يرشد إلى ضرورة الاعتراف والإيمان بوجود إله واحد قديم حيّ غني عن جميع الأشياء ، قادر لا يعجزه شيء ، عالم لا يخفى عليه شيء من أحوال الأنبياء ومواقف أقوامهم منهم وغير ذلك.

ومن مظاهر موقفهم أيضا : تكذيبهم مشركي مكّة بالحقّ الثّابت من عند الله وهو القرآن وإرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولكن الله تعالى توعّدهم بالعقاب وأنذرهم بالعذاب ، فأمر نبيّه بالصّبر ، وسوف يأتيهم أخبار استهزائهم وهو العذاب الذي سينزل بهم في الدّنيا كيوم بدر ، والعذاب المنتظر لهم يوم القيامة.

وذكّرهم الحقّ تعالى بأحوال من قبلهم ، فقال : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا ...) أي ألا يعتبرون بمن أهلك الله من الأمم قبلهم لتكذيبهم أنبياءهم ، والمعنى : ألم يعرفوا ذلك ، فالله تعالى أمرهم بكلّ أسباب القوّة والسّعة والتّمكّن في الأرض أكثر مما مكّن لأهل مكّة من الأموال والأولاد والأعمار والجاه العريض والسّعة

١٤٠